فصل: تفسير الآية رقم (55):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (55):

{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)}
{وَكَذَلِكَ نفَصّلُ} أي دائمًا {الايات} أي القرآنية في صفة أهل الطاعة وأهل الإجرام المصرين منهم والأوابين. والتشبيه هنا مثله فيما تقدم آنفًا {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين} بتأنيث الفعل بناء على تأنيث الفاعل وهي قراءة ابن كثير وابن عامر وأبي عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم، وهو عطف على علة محذوفة للفعل المذكور لم يقصد تعليله بها بخصوصها، وإنما قصد الإشعار بأن له فوائد جمة من جملتها ما ذكر أو علة لفعل مقدر وهو عبارة عن المذكور كما يشير إليه أبو البقاء فيكون مستأنفًا أي ولتتبين سبيلهم نفعل ما نفعل من التفصيل. وقرأ نافع بالتاء ونصب السبيل على أن الفعل متعد أي ولتستوضح أنت يا محمد سبيل المجرمين فتعاملهم بما يليق بهم. وقرأ الباقون بالياء التحتية ورفع السبيل على أن الفعل مسند للمذكر. وتأنيث السبيل وتذكيره لغتان مشهورتان.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ والموتى يَبْعَثُهُمُ الله ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 63] قال ابن عطاء: أخبر سبحانه بهذه الآية أن أهل السماع هم الأحياء وهم أهل الخطاب والجواب. وأخبر أن الآخرين هم الأموات. وقال غيره: المعنى أنه لا يستجيب إلا من فتح الله سبحانه سمع قلبه بالهداية الأصلية ووهب له الحياة الحقيقية بصفاء الاستعداد ونور الفطرة لا موتى الجهل الذين ماتت غرائزهم بالجهل المركب أو بالحجب الجبلية أو لم يكن لهم استعداد بحسب الفطرة فإنهم قد صموا عن السماع ولا يمكنهم ذلك بل يبعثهم الله تعالى إليه بالنشأة الثانية ثم يرجعون إليه سبحانه في عين الجمع المطلق للجزاء والمكافاة مع احتجابهم، وقيل: الآية إشارة إلى أهل الصحو وأهل المحو {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم} حيث فطروا على التوحيد وجبلوا على المعرفة ولهم مشارب من بحر خطاب الله تعالى وأفنان من أشجار رياض كلماته سبحانه وحنين إليه عز وجل وتغريد باسمه عز اسمه. قيل: إن سمنون المحب كان إذا تكلم في المحبة يسقط الطير من الهواء. وروي في بعض الآثار أن الضب بعد أن تكلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد برسالته أنشأ يقول:
ألا يا رسول الله إنك صادق ** فبوركت مهديًا وبوركت هاديًا

وبوركت في الآزال حيًا وميتا ** وبوركت مولودًا وبوركت ناشيًا

وإن فيهم أيضًا المحتجبين ومرتكبي الرذائل وغير ذلك. وقد تقدم الكلام في هذا المبحث مفصلًا {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب} أي كتاب أعمالهم {مِن شَيْء ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] في عين الجمع {والذين كَذَّبُواْ} لاحتجابهم بغواشي صفات نفوسهم {بئاياتنا} وهي تجليات الصفات {صُمٌّ} فلا يسمعون بآذان القلوب {وَبُكْمٌ} فلا ينطقون بألسنة العقول: {فِى الظلمات} وهي ظلمات الطبيعة وغياهب الجهل {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ} بإسبال حجب جلاله {وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مُّسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39] بإشراق سبحات جماله {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أتاكم عَذَابُ الله} من المرض وسائر أنواع الشدائد {أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة} الصغرى أو الكبرى {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} لكشف ما ينالكم {إِن كُنتُمْ صادقين} [الأنعام؛ 40] {بَلْ إياه تَدْعُونَ} [الأنعام: 41] لكشف ذلك. قال بعض العارفين مرجع الخواص إلى الحق جل شأنه من أول البداية ومرجع العوام إليه سبحانه بعد اليأس من الخلق وكان هذا في وقت هذا العارف. وأما في وقتنا فنرى العامة إذا ضاق بهم الخناق تركوا دعاء الملك الخلاق ودعوا سكان الثرى ومن لا يسمع ولا يرى. {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فأخذناهم بالبأساء والضراء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42] أي ليطيعوا ويبرزوا من الحجاب وينقادوا متضرعين عند تجلي صفة القهر {ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام: 43] أي ما تضرعوا لقساوة قلوبهم بكثافة الحجاب وغلبة غشي الهوى وحب الدنيا وأصل كل ذلك سوء الاستعداد {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ} فلم تسمعوا خطابه {وأبصاركم} فلم تشاهدوا عجائب قدرته وأسرار صنعته {وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ} فلم يدخلها شيء من معرفته سبحانه: {مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ} [الأنعام: 46] أي هل يقدر أحد سواه جلت قدرته على فتح باب من هذه الأبواب كلا بل هو القادر الفعال لما يريد {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى} أي من حيث أنا {خَزَائِنُ الله} أي مقدوراته {وَلا أَعْلَمُ} أي من حيث أنا أيضًا {الغيب وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ} أي روح مجرد لا أحتاج إلى طعام ولا شراب {إِنْ أَتَّبِعُ} أي من تلك الحيثية {إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ} من الله تعالى. وله صلى الله عليه وسلم مقام {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 17]. و{إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] وليس لطير العقل طيران في ذلك الجو {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاعمى} عن نور الله تعالى وإحاطته بكل ذرة من العرش إلى الثرى وظهوره بما شاء حسب الحكمة وعدم تقييده سبحانه بشيء من المظاهر {والبصير} [الأنعام: 50] بذلك فيتكلم في كل مقام قال: {وَلاَ تَطْرُدِ} أي لأجل التربية والتهذيب والامتحان {الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الذي أوصلهم حيث أوصلهم من معارج الكمال {بالغداة} أي وقت تجلي الجمال {والعشى} أي وقت تجلي العظمة والجلال {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي يريدونه سبحانه بذاته وصفاته ويطلبون تجليه عز وجل لقلوبهم {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم} أي حساب أعمالهم القلبية من شيء لأن الله تعالى قد تولى حفظ قلوبهم وأمطر عليها سحائب عنايته فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَيْء} عطف على سابقه أتى به للمبالغة على ما مر في العبارة.
ويحتمل أن يراد لا تطرد السالكين لأجل المحجوبين فما عليك من حساب السالكين أو المحجوبين شيء ومعنى ذلك يعرف بأدنى التفات {فَتَطْرُدَهُمْ} عن الجلوس معك {فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} [الأنعام: 52] لهم بنقص حقوقهم وعدم القيام برعاية شأنهم. ومن المؤولين من قال: إن الآية في أهل الوحدة أي لا تزجر الواصلين الكاملين ولا تنذرهم فإن الإنذار كما لا ينجع في الذين قست قلوبهم لا ينجع في الذين طاشوا وتلاشوا في الله تعالى وهم الذين يخصونه سبحانه بالعبادة دائمًا بحضور القلب وعدم مشاهدة شيء سواه حتى ذواتهم {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم} فيما يعملون {مِن شَيْء} إذ لا واسطة بينهم وبين ربهم {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَيْء} أي لا يخوضون في أمور دعوتك بنصر وإعانة لاشتغالهم به سبحانه عمن سواه ودوام حضورهم معه {فَتَطْرُدَهُمْ} عما هم عليه من دوام الحضور بدعوتك لهم لشغل ديني {فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} لتشويشك عليهم أوقاتهم، والله تعالى أعلم بحقيقة كلامه {وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ} أي الناس وهم المحجوبون {بِبَعْضِ} وهم العارفون {لّيَقُولواْ} أي المحجوبون مشيرين إلى العارفين مستحقرين لهم حيث لم يروا منهم سوى حالهم في الظاهر وفقرهم ولم يروا قدرهم ومرتبتهم وحسن حالهم في الباطن وغرهم ما هم فيه من المال والجاه والتنعم وخفض العيش {أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم} بالهداية والمعرفة {مّن بَيْنِنَا} أرادوا أنه سبحانه لم يمن عليهم {أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين} [الأنعام: 53] أي الذين يشكرونه حق شكره فيمن عليهم بعظيم جوده {وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا} أي بواسطتها {فَقُلْ} لهم أنت أيها الوسيلة: {سلام عَلَيْكُمُ} وهذا لأنهم في مقام الوسائط ولو بلغوا إلى درجة أهل المشاهدة لمنحهم سبحانه بسلامه كما قال عز شأنه {سَلاَمٌ قَوْلًا مّن رَّبّ رَّحِيمٍ} [ياس: 58] وباقي الآية ظاهر. وقال الإمام الرازي: إن قوله سبحانه: {وَإِذَا جَاءكَ} إلخ مشتمل على أسرار عالية وذلك لأن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله تعالى وآيات صفات جلاله وإكرامه وكبريائه وآيات وحدانيته وما سواه سبحانه لا نهاية له وما لا نهاية له فلا سبيل للعقل إلى الوقوف عليه على التفصيل التام إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ويتوسل عرفتها إلى معرفة الله تعالى ثم يؤمن بالبقية على سبيل الإجمال ثم إنه يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار وكالسائح في تلك القفار. ولما كان لا نهاية لها فكذلك لا نهاية لترقي العبد في معارج تلك الآيات، وهذا شرح إجمالي لا نهاية لتفاصيله. ثم إن العبد إذا صار موصوفًا بهذه الصفة فعند هذا أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: {سلام عَلَيْكُمُ} فيكون هذا التسليم بشارة بحصول السلامة.
وقوله سبحانه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} بشارة بحصول الكرامة عقيب تلك السلامة. أما السلامة فبالنجاة من بحر عالم الظلمات ومركز الجسمانية ومعدن الآفات والمخافات وموضع التغيرات والتبدلات، وأما الكرامة فبالوصول إلى الباقيات الصالحات والمجردات القدسيات والوصول إلى فسحة عالم الأنوار والترقي إلى معارج سرادقات الجلال. انتهى. وقال آخر: الإشارة إلى نوع من السالكين أي إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا حو صفاتهم في صفاتنا {فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ} لتنزهكم عن عيوب صفاتكم وتجردكم عن ملابسها {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} أي ألزم ذاته المقدسة رحمة إبدال صفاتكم بصفاته لكم لأن في الله سبحانه خلفًا عن كل ما فات {إِنَّهُ مِنَ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ} أي ظهر عليه في تلوينه صفة من صفاته بغيبة أو غفلة {ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ} أي بعد ظهور تلك الصفة بأن رجع عن تلوينه وفاء إلى الحضور {وَأَصْلَحَ} أي ما ظهر منه بالخضوع والتضرع بين يديه سبحانه والرياضة فأنه عز شأنه {غَفُورٌ} يسترها عنه {رَّحِيمٌ} [الأنعام: 54] يرحمه بهبة التميكن ونعمة الاستقامة {وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الايات} أي مثل ذلك التبيين الذي بيناه لهؤلاء المؤمنين نبين لك صفاتنا {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين} [الأنعام: 55] وهم المحجوبون بصفاتهم الذين يفعلون لذلك ما يفعلون. والله تعالى الموفق للصواب.

.تفسير الآية رقم (56):

{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)}
{قُلْ إِنّى نُهِيتُ} أمر له صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى خطاب المصرين على الشرك إثر ما أمر عاملة من عداهم بما يليق بحالهم أي قل لهم قطعًا لأطماعهم الفارغة عن ركونك إليهم وبيانًا لكون ما هم عليه هوى محضًا وضلالًا صرفًا إني صرفت ومنعت بالأدلة الحقانية والآيات القرآنية {أَنْ أَعْبُدَ الذين} أي عن عبادة الآلهة الذين {تَدْعُونَ} أي تعبدونهم أو تسمونهم آلهة {مِن دُونِ الله} سواء كانوا ذوي عقول أم لا. وقد يقال: إن المراد بهم الأصنام إلا أنه عبر بصيغة العقلاء جريًا على زعمهم {قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ} تكرير الأمر مع قرب العهد اعتناء بشأن المأمور به وإيذانًا باختلاف القولين من حيث إن الأول: حكاية لما مر من جهته تعالى من النهي والثاني: حكاية لما من جهته عليه الصلاة والسلام من الانتهاء عن عبادة ما يعبدون. وفي هذا القول استجهال لهم وتنصيص على أنهم فيما هم فيه من عبادة غير الله تعالى تابعون لأهواء باطلة وليسوا على شيء مما ينطلق عليه الدين أصلًا وإشعار بما يوجب النهي والانتهاء. وفيه كما قيل إشارة إلى عدم كفاية التقليد الصرف في مثل هذه المطالب، وقيل وهو في غاية البعد إن المراد لا أتبع أهواءكم في طرد المؤمنين.

{قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} أي إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت. وهو استئناف مؤكد لانتهائه عليه الصلاة والسلام عما نهي عنه مقرر لكونه في غاية الضلال. وقرأ يحيى بن وثاب {ضَلَلْتُ} بكسر اللام وهو لغة فيه، والفتح كما قال أبو عبيدة هو الغالب.
{وَمَا أَنَاْ مِنَ المهتدين} عطف على ما قبله، والعدول إلى الإسمية للدلالة على الدوام والاستمرار أي دوام النفي واستمراره لا نفي الدوام والاستمرار، والمراد كما قيل، وما أنا إذًا في شيء من الهدى حتى أعد في عدادهم، وفيه تعريض بأن المقول لهم كذلك.

.تفسير الآية رقم (57):

{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)}
{قُلْ إِنّى على بَيّنَةٍ} تبيين للحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان لاتباعه إياه إثر إبطال الباطل الذي فيه الكفرة وبيان عدم اتباعه عليه الصلاة والسلام له في وقت من الأوقات. والبينة كما قال الراغب الدلالة الواضحة من بان يبين إذا ظهر أو الحجة الفاصلة بين الحق والباطل على أنها من البينونة أي الانفصال، وأيًا ما كان فالمراد بها القرآن كما قال الجبائي وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد إني على يقين. وعن الحسن أن المراد بها النبوة وهو غير ظاهر كتفسيرها بالحجج العقلية أو ما يعمها، والتنوين للتفخيم أي بينة جليلة الشأن.
{مّن رَّبّى} أي كائنة من جهته سبحانه. ووصفها بذلك لتأكيد ما أفاده التنوين. وجوز أن تكون {مِنْ} اتصالية، وفي الكلام مضاف أي بينة متصلة عرفة ربي، وقيل: هي أجلية متعلقة بما تعلق به الخبر ويقدر المضاف أيضًا أي كائن على بينة لأجل معرفة ربي والأول أظهر، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من التشريف ورفع المنزلة ما لا يخفى.
وقوله سبحانه: {وَكَذَّبْتُم بِهِ} كما قال أبو البقاء جملة إما مستأنفة أو حالية بتقدير قد في المشهور جيء بها لاستقباح مضمونها واستبعاد وقوعه مع تحقق ما يقتضي عدمه أو للتفرقة بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم، والضمير للبينة، والتذكير باعتبار المعنى المراد، وقال الزجاج: لأنها عنى البيان، وجوز أن يكون الضمير لربي على معنى إن صدقت به ووحدته وأنتم كذبتم به وأشركتم.
وقوله تعالى: {مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} استئناف مبين لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لتكذيبهم بالقرآن وهو عدم مجيء ما وعد فيه من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بقولهم بطريق الاستهزاء أو الإلزام بزعمهم {متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين} [يونس: 48] وقال الإمام: إنه عليه الصلاة والسلام كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك، والقوم لإصرارهم على الكفر كانوا يستعجلون نزول ذلك {العذاب} فقال لهم: {مَا عِندِى} إلخ وكأن الكلام مبين أيضًا لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لعدم الالتفات إلى نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عنه والإخبار بنزول العذاب بسببه أي ليس عندي ما يستعجلونه من العذاب الموعود به وتجعلون تأخره ذريعة إلى تكذيب القرآن أو عدم الالتفات إلى النهي عنه والوعيد عليه في حكمي وقدرتي حتى أجيء به أي ليس أمره مفوضًا إليّ.
{إِنِ الحكم} أي ما الحكم في تأخير ذلك {أَلاَ لِلَّهِ} وحده من غير أن يكون لغيره سبحانه دخل ما فيه بوجه من الوجوه.
واختار بعضهم التعميم في متعلق الحكم أي ما الحكم في ذلك تأخيرًا أو تعجيلًا أو ما الحكم في جميع الأشياء فيدخل فيه ما ذكر دخولًا أوليًا؛ ورجح الأول بأن المقصود من قوله سبحانه: {إِنِ الحكم} إلخ التأسف على وقوع خلاف المطلوب كما يشهد به موارد استعماله وهو على التأخير فقط.
{يَقُصُّ} أي يتبع {الحق} والحكمة فيما يحكم به ويقدره كائنًا ما كان أو يبينه بيانًا شافيًا من قص الأثر أو الخبر وهو من قبيل التكميل للخاص على ما اخترناه بإردافه بأمر عام كقوله تعالى: {بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} [الملك: 1]. وقرأ الكسائي وغيره «يقضي» من القضاء وحذفت الياء في الخط تبعًا لحذفها في اللفظ لالتقاء الساكنين، وأصله أن يتعدى بالباء لا بنفسه فنصب {الحق} إما على المصدرية لأنه صفة مصدر محذوف قامت مقامه أي يقضي القضاء الحق أو على أنه مفعول به ويقضي متضمن معنى ينفذ أو هو متعد من قضى الدرع إذا صنعها أي يصنع الحق ويدبره كقول الهذلي: مسرودتان قضاهما داود. وفي الكلام على هذا استعارة تبعية.
واحتج مجاهد للقراءة الأولى بعدم الباء المحتاج إليها في الثانية وقد علمت فساده. واحتج أبو عمرو للثانية بقوله سبحانه: {وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين} فإن الفصل إنما يكون في القضاء لا في القصص ولو كان ذلك في الآية لقيل خير القاصين. وأجاب أبو علي الفارسي بأن القصص هاهنا عنى القول وقد جاء الفصل فيه قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: 13] {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءاياته ثُمَّ فُصّلَتْ} [هود: 1] {وَنُفَصّلُ الايات} [التوبة: 11] على أنك تعلم بأدنى التفات إلى أن القص هنا قد يؤول بلا تكلف وبعد إلى معنى القضاء. وفي إرشاد العقل السليم أن أصل القضاء الفصل بتمام الأمر وأصل الحكم المنع فكأنه يمنع الباطل عن معارضة الحق أو الخصم عن التعدي إلى صاحبه، وجملة {وَهُوَ خَيْرُ} إلخ تذييل مقرر لمضمون ما قبله مشير إلى أن قص الحق هاهنا بطريق خاص هو الفصل بين الحق والباطل فافهم.
واحتج بعض أهل السنة بقوله سبحانه: {إِنِ الحكم} إلخ لإفادته الحصر على أنه لا يقدر العبد على شيء من الأشياء إلا إذا قضى الله تعالى به فيمتنع منه فعل الكفر إلا إذا قضى الله تعالى به وحكم، وكذلك في جميع الأفعال. وقالت المعتزلة: إن قوله سبحانه: {يَقْضِى الحق} معناه أن كل ما يقضي به فهو الحق، وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر والمعصية من العاصي لأن ذلك ليس بحق. ولا يخفى ما فيه.