فصل: تفسير الآية رقم (79):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (79):

{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)}
{إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ} أي أوجد وأنشأ {السموات} التي هذه الأجرام من أجزائها {والأرض} التي تلك الأصنام من أجزائها {حَنِيفًا} أي مائلًا عن الأديان الباطلة والعقائد الزائغة كلها {وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين} أصلًا في شيء من الأقوال والأفعال، والمراد من توجيه الوجه للذي فطر إلخ قصده سبحانه بالعبادة. وقال الإمام: المراد وجهت عبادتي وطاعتي، وسبب جواز هذا المجاز أن من كان مطيعًا لغيره منقادًا لأمره فإنه يتوجه بوجهه إليه فجعل توجه الوجه إليه كناية عن الطاعة والظاهر أن اللام صلة وجه. وفي الصحاح وجهت وجهي لله وتوجهت نحوك وإليك، ظاهره التفرقة بين وجه وتوجه باستعمال الأول باللام والثاني بإلى، وعليه وجه اللام هنا دون إلى ظاهر، وليس في القاموس تعرض لهذا الفرق. وادعى الإمام أنه حيث كان المعنى توجيه وجه القلب إلى خدمته تعالى وطاعته لأجل عبوديته لا توجه القلب إليه جل شأنه لأنه متعالٍ عن الحيز والجهة تركت إلى واكتفى باللام فتركها. والاكتفاء باللام هاهنا دليل ظاهر على كون المعبود متعاليًا عن الحيز والجهة وفي القلب من ذلك شيء.
فإن قيل: إن قصارى ما يدل عليه الدليل أن الكوكب والشمس والقمر لا يصلح شيء منها للربوبية والألوهية ولا يلزم من هذا القدر نفي الشرك مطلقًا وإثبات التوحيد فلم جزم عليه السلام بإثبات التوحيد ونفي الشرك بعد إقامة ذلك الدليل؟ فالجواب بأن القوم كانوا مساعدين على نفي سائر الشركاء وإنما نازعوا في هذه الصورة المعينة فلما ثبت بالدليل على أن هذه الأشياء ليست أربابًا ولا آلهة وثبت بالاتفاق نفي غيرها لا جرم حصل الجزم بنفي الشركاء على الإطلاق. ثم إن المشهور أن هذا الاستدلال من أول ضروب الشكل الثاني. والشخصية عندهم في حكم الكلية كأنه قيل: هذا أو القمر أو هذه أفل أو أفلت ولا شيء من الإله بآفل أو ربي ليس بآفل ينتج هذا أو القمر أو هذه ليس بإله أو ليس بربى. أما الصغرى فهي كالمصرح بها في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَفَلَ} [الأنعام: 76، 77] في الموضعين، وقوله سبحانه: {فَلَمَّا أَفَلَتْ} [الأنعام: 78] في الأخير، وأما الكبرى فمأخوذة من قوله تعالى: {لا أُحِبُّ الافلين} [الأنعام: 76] لأنه يشير إلى قياس وهو كل آفل لا يستحق العبودية. وكل من لا يستحق العبودية فليس بإله ينتج من الأول كل آفل ليس بإله، ويستلزم لا شيء من الآفل بإله لاستلزام الموجبة المعدولة السالبة المحصلة. ويصح جعل الكبرى ابتداء سالبة فينتج ما ذكر وينعكس إلى لا شيء من الإله بآفل، وهي إحدى الكبريين. ويعلم من هذا بأدنى التفات كيفية أخذ الكبرى الثانية.
وقال الملوي: الأحسن أن يقال إن قوله تعالى: {لا أُحِبُّ الافلين} يتضمن قضية وهي لا شيء من الآفل يستحق العبودية فتجعل كبرى لصغرى ضرورية وهي الإله المستحق للعبودية ينتج لا شيء من الإله بآفل وإذا ضمت هذه النتيجة إلى القضية السابقة وهي هذا آفل ونحوه أنتج من الثاني هذا ليس بإله أو لا شيء من القمر بإله، وإن ضممت عكسها المستوي إليها أنتج من الأول المطلوب بعينه فلا يتعين الثاني في الآية بل الأول مأخوذ منها أيضًا اه. فتأمل فيه ولا تغفل.

.تفسير الآية رقم (80):

{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)}
{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} أي خاصموه كما قال الربيع أو شرعوا في مغالبته في أمر التوحيد تارة بإيراد أدلة فاسدة واقعة في حضيض التقليد وأخرى بالتخويف والتهديد {قَالَ} منكرًا عليهم محاجتهم له عليه السلام مع قصورهم عن تلك المرتبة وعزة المطلب وقوة الخصم ووضوح الحق {أَتُحَاجُّونّى فِي الله} أي في شأنه تعالى ووحدانيته سبحانه. وقرأ نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان بتخفيف النون ففيه حذف إحدى النونين. واختلف في أيهما المحذوفة فقيل: نون الرفع وهو مذهب سيبويه ورجح بأن الحاجة دعت إلى نون مكسورة من أجل الياء ونون الرفع لا تكسر. وبأنه جاء حذفها كما في قوله:
كل له نية في بغض صاحبه ** بنعمة الله نقليكم وتقولنا

أراذ تقلوننا والنون الثانية هنا ليست وقاية بل هي من الضمير وحذف بعض الضمير لا يجوز وبأنها نائبة عن الضمة وهي قد تحذف تخفيفًا كما في قراءة أبي عمرو {ينصركم} و{يشعركم} {ويأمركم}. وقيل نون الوقاية وهو مذهب الأخفش، ورجح بأنها الزائدة التي حصل بها الثقل.
وقوله تعالى: {وَقَدْ هَدَانَا} في موضع الحال من ضمير المتكلم مؤكدة للإنكار فإن كونه عليه الصلاة والسلام مهديًا من جهة الله تعالى ومؤيدًا من عنده سبحانه مما يوجب الكف عن محاجته صلى الله عليه وسلم وعدم المبالاة بها والالتفات إليها إذا وقعت. قيل: والمراد وقد هدان إلى إقامة الدليل عليكم بوحدانيته عز شأنه، وقيل: هدان إلى الحق بعد ما سلكت طريقتكم بالفرض والتقدير وتبين بطلانها تبيينًا تامًا كما شاهدتموه، وعلى القولين لا يقتضي سبق ضلال له عليه الصلاة والسلام وجهل عرفة ربه جل وعلا و{هدان} يرسم كما قال الأجهوري بلا ياء.
{هَدَانِى وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} جواب كما روى عن ابن جريج عما خوفوه عليه السلام من إصابة مكروه من جهة معبودهم الباطل كما قال لهود عليه السلام قومه {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء} [هود: 54] وهذا التخويف قيل: كان على ترك عبادة ما يعبدونه، وقيل: بل على الاستخفاف به واحتقاره بنحو الكسر والتنقيص. قيل: ولعل ذلك حين فعل بآلهتهم ما فعل مما قص الله تعالى علينا، وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما شب وكبر جعل آزر يصنع الأصنام فيعطيها له ليبيعها فيذهب وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه فلا يشتريها أحد فإذا بارت ذهب بها إلى نهر وضرب فيه رؤوسها وقال لها اشربي استهزاء بقومه حتى فشا فيهم استهزاؤه فجادلوه حينئذ وخوفوه. وما موصولة إسمية حذف عائدها، والضمير المجرور لله تعالى أي لا أخاف الذي تشركونه به سبحانه، وجوز أن يكون عائدًا إلى الموصول والباء سببية أي: الذي تشركون بسببه، وأن تكون نكرة موصوفة وأن تكون مصدرية.
وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى شَيْئًا} بتقدير الوقت عند غير واحد مستثنى من أعم الأوقات استثناء مفرغًا. وقال بعضهم: إن المصدر منصوب على الظرفية من غير تقدير وقت، ومنع ذلك ابن الأنباري مفرقًا بين المصدر الصريح فيجوز نصبه على الظرفية وغير الصريح فلا يجوز فيه ذلك. وابن جني لا يفرق بين الصريح وغيره ويجوز ذلك فيهما على السواء، والاستثناء متصل في رأي. و{شَيْئًا} مفعول به أو مفعول مطلق أي لا أخاف ما تشركون به في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئته تعالى شيئًا من إصابة مكروه لي من جهتها أو شيئًا من مشيئته تعالى إصابة مكروه لي من جهتها وذلك إنما هو من جهته تعالى من غير دخل لآلهتكم في إيجاده وإحداثه. وجوز بعضهم أن يكون الاستثناء منقطعًا على معنى ولكن أخاف أن يشاء ربي خوفي ما أشركتم به، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام إشارة إلى أن مشيئته تلك إن وقعت غير خالية عن مصلحة تعود إليه بالتربية أو إظهار منه عليه الصلاة والسلام لانقياده لحكمه سبحانه وتعالى واستسلام لأمره واعتراف بكونه تحت ملكوته وربوبيته تعالى.
{وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَيْء عِلْمًا} كأنه تعليل للاستثناء أي أحاط بكل شيء علمًا فلا يبعد أن يكون في علمه سبحانه إنزال المكروه بي من جهتها بسبب من الأسباب، ونصب {عِلْمًا} على التمييز المحول عن الفاعل، وجوز أن يكون نصبًا على المصدرية لوسع من غير لفظه، وفي الإظهار في موضع الإضمار تأكيد للمعنى المذكور واستلذاذ بذكره تعالى.
{أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} أي أتعرضون بعدما أوضحته لكم عن التأمل في أن آلهتكم عزل عن القدرة على شيء ما من النفع أو الضر فلا تتذكرون أنها غير قادرة على إضراري. وفي إيراد التذكر دون التفكر ونحوه إشارة إلى أن أمر آلهتكم مركوز في العقول لا يتوقف إلا على التذكير.

.تفسير الآية رقم (81):

{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)}
{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} استئناف كما قال شيخ الإسلام مسوق لنفي الخوف عنه عليه السلام بحسب زعم الكفرة بالطريق الإلزامي بعد نفيه عنه بحسب الواقع ونفس الأمر؛ والاستفهام لإنكار الوقوع ونفيه بالكلية؛ وفي توجه الانكار إلى كيفية الخوف من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقال: أأخاف لما أن كل موجود لا يخلو عن كيفية فإذا انتفى جميع كيفياته فقد انتفى وجوده من جميع الجهات بالطريق البرهاني، و{كَيْفَ} حال والعوامل فيها {أَخَافُ} وما موصولة أو نكرة موصوفة والعائد محذوف، وجوز أن تكون مصدرية.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله} في موضع الحال من ضمير {أَخَافُ} بتقدير مبتدأ لمكان الواو. وقيل: لا حاجة إلى التقدير لأن المضارع المنفي قد يقرن بالفاء، ولا حاجة هنا إلى ضمير عائد إلى ذي الحال لأن الواو كافية في الربط وهو مقرر لإنكار الخوف ونفيه عنه عليه السلام ومفيد لاعترافهم بذلك فإنهم حيث لم يخافوا في محل الخوف فلأن لا يخاف عليه السلام في محل الأمن أولى وأحرى أي كيف أخاف أنا ما ليس في حيز الخوف أصلًا وأنتم لا تخافون غائلة ما هو أعظم المخوفات وأهولها وهو إشراككم بالله تعالى الذي {فطر السموات والأرض} ما هو من جملة مخلوقاته، وعبر عنه بقوله سبحانه: {مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سلطانا} أي حجة على طريق التهكم قيل مع الإيذان بأن الأمور الدينية لا يعول فيها إلا على الحجة المنزلة من عند الله تعالى. وضمير {بِهِ} عائد على الموصول والكلام على حذف مضاف أي بإشراكه. وجوز أن يكون راجعًا إلى الإشراك المقيد بتعلقه بالموصول ولا حاجة إلى العائد، وهو على ما قيل مبني على مذهب الأخفش في الاكتفاء في الربط برجوع العائد إلى ما يتلبس بصاحبه. وذكر متعلق الإشراك وهو الاسم الجليل في الجملة الحالية دون الجملة الأولى قيل لأن المراد في الجملة الحالية تهويل الأمر وذكر المشرك به أدخل في ذلك.
وقال بعض المحققين: الظاهر أن يقال في وجه الذكر في الثانية والترك في الأولى أنه لما قيل قبيل هذا {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} [الأنعام: 80] كان ما هنا كالتكرار له فناسب الاختصار وأنه عليه السلام حذفه إشارة إلى بعد وحدانيته تعالى عن الشرك فلا ينبغي عنده نسبته إلى الله تعالى ولا ذكر معه. ولما ذكر حال المشركين الذين لا ينزهونه سبحانه عن ذلك صرح به، وقيل: إن ذكر الاسم الجليل في الجملة الثانية ليعود إليه الضمير في {مَا لَمْ يُنَزّلْ} وليس بشيء لأنه يكفي سبق ذكره في الجملة، وقيل: لأن المقصود إنكاره عليه السلام عدم خوفهم من إشراكهم بالله تعالى لأنه المنكر المستبعد عند العقل السليم لا مطلق الإنكار ولا كذلك في الجملة الأولى فإن المقصود فيها إنكار أن يخاف عليه السلام غير الله تعالى سواء كان مما يشركه الكفار أو لا؛ وليس بشيء أيضًا لأن الجملة الثانية ليست داخلة مع الأولى في حكم الإنكار إلا عند مدعي العطف وهو مما لا سبيل إليه أصلًا لإفضائه إلى فساد المعنى قطعًا لما تقدم أن الإنكار عنى النفي بالكلية فيؤول المعنى إلى نفي الخوف عنه عليه السلام ونفي نفيه عنهم وإنه بين الفساد، وأيضًا إن {مَا أَشْرَكْتُمْ} كيف يدل على ما سوى الله تعالى غير الشريك؟ إن هذا إلا شيء عجاب ثم إن الآية نص في أن الشرك مما لم ينزل به سلطان.
وهل يمتنع عقلًا حصول السلطان في ذلك أم لا؟ ظاهر كلام بعضهم. وفي أصول الفقه ما يؤيده في الجملة الثاني والذي اختاره الأول، وقول الإمام: إنه لا يمتنع عقلًا أن يؤمر باتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للدعاء ليس من محل الخلاف كما لا يخفى على الناظر فانظر.
{فَأَىُّ الفريقين أَحَقُّ بالامن} كلام مرتب على إنكار خوفه عليه السلام في محل الأمن مع تحقق عدم خوفهم في محل الخوف مسوق لإلجائهم إلى الاعتراف باستحقاقه عليه السلام لما هو عليه من الأمن وبعدم استحقاقهم لما هم عليه، وبهذا يعلم ما في دعوى أن الانكار في الجملة الأولى لنفي الوقوع وفي الثانية لاستبعاد الواقع، وإنما جيء بصيغة التفضيل المشعرة باستحقاقهم له في الجملة لاستنزالهم عن رتبة المكابرة والاعتساف بسوق الكلام على سنن الانصاف، والمراد بالفريقين الفريق الآمن في محل الأمن والآمن في محل الخوف، فإيثار ما في النظم الكريم كما قيل على أن يقال: فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم؟ لتأكيد الإلجاء إلى الجواب الحق بالتنبيه على علة الحكم والتفادي عن التصريح بتخطئتهم التي ربا تدعو إلى اللجاج والعناد مع الإشارة افي النظم إلى أن أحقية الأمن لا تخصه عليه السلام بل تشمل كل موحد ترغيبًا لهم في التوحيد.
{إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي من هو أحق بذلك أو شيء من الأشياء أو إن كنتم من أولي العلم فأخبروني بذلك. وقرئ {سلطانا} بضم اللام، وهي لغة اتبع فيها الضم الضم.