فصل: تفسير الآية رقم (92):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (92):

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)}
{وهذا كتاب أنزلناه} تحقيق لإنزال القرآن الكريم بعد تقرير إنزال ما بشر به من التوراة وتكذيب لكلمتهم الشنعاء إثر تكذيب، وتنكير {كِتَابٌ} للتفخيم، وجملة {أنزلناه} في موضع الرفع صفة له وقوله سبحانه: {مُّبَارَكٌ} أي كثير الفائدة والنفع لاشتماله على منافع الدارين وعلوم الأولين والآخرين صفة بعد صفة. قال الإمام: «جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عن هذا الكتاب المتمسك به يحصل به عز الدنيا وسعادة الآخرة» ولقد شاهدنا والحمد لله عز وجل ثمرة خدمتنا له في الدنيا فنسأله أن لا يحرمنا سعادة الآخرة إنه البر الرحيم. وقوله جل وعلا: {مُّصَدّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} صفة أخرى، والإضافة على ما نص عليه أبو البقاء غير محضة، والمراد بالموصول إما التوراة لأنها أعظم كتاب نزل قبل ولأن الخطاب مع اليهود، وأما ما يعمها وغيرها من الكتب السماوية وروي ذلك عن الحسن، وتذكير الموصول باعتبار الكتاب أو المنزل أو نحو ذلك، ومعنى كونها بين يديه أنها متقدمة عليه فإن كل ما كان بين اليدين كذلك وتصديقه للكل في إثبات التوحيد والأمر به ونفي الشرك والنهي عنه وفي سائر أصول الشرائع التي لا تنسخ.
{وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى} قيل: عطف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قيل: أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه والإنذار. واختار العلامة الثاني كونه عطفًا على صريح الوصف أي كتاب مبارك وكائن للإنذار، وادعى أنه لاحاجة مع هذا إلى ذلك التكلف فإن عطف الظرف على المفرد في باب الخبر والصفة كثير، ودعوى أن الداعي إليه عرو تلك الصفات السابقة عن حرف العطف واقتران هذا به تستدعي القول بأن الصفات إذا تعددت ولم يعطف أولها يمتنع العطف أو يقبح والواقع خلافه، والأولى ما يقال: إن الداعي أن اللفظ والمعنى يقتضيانه، أما المعنى فلأن الإنذار علة لإنزاله كما يدل عليه {وأوحى الي هذا القرآن لأنذركم به} [الأنعام: 19] ولو عطف لكان على أول الصفات على الراجح في العطف عند التعدد، ولا يحسن عطف التعليل على المعلل به ولا الجار والمجرور على الجملة الفعلية. فإنه نظير هذا رجل قام عندي وليخدمني وهو كما ترى. ومنه يعلم الداعي اللفظي وجوز أن يكون علة لمحذوف يقدر مؤخرًا أو مقدمًا أي ولتنذر أنزلناه أو وأنزلناه لتنذر، وتقديم الجار للاهتمام أو للحصر الإضافي، وأن يكون عطفًا على مقدر أي لتبشر ولتنذر، وأيًا ما كان ففي الكلام مضاف محذوف أي أهل أم القرى، والمراد بها مكة المكرمة، وسميت بذلك لأنها قبلة أهل القرى وحجهم وهم يتجمعون عندها تجمع الأولاد عند الأم المشفقة ويعظمونها أيضًا تعظيم الأم، ونقل ذلك عن الزجاج والجبائي، ولأنها أعظم القرى شأنًا فغيرها تبع لها كما يتبع الفرع الأصل.
وقيل لأن الأرض دحيت من تحتها فكأنها خرجت من تحتها كما تخرج الأولاد من تحت الأم أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس. ونقل ذلك عن السدي وقرأ أبو بكر عن عاصم {لّيُنذِرَ} بالياء التحتية على الإسناد المجازي للكتاب لأنه منذر به.
{وَمَنْ حَوْلَهَا} من أهل المدر والوبر في المشارق والمغارب لعموم بعثه صلى الله عليه وسلم الصادع بها القرآن في غير آية، واللفظ لا يأبى هذا الحمل فلا متمسك بالآية لطائفة من اليهود زعموا أنه صلى الله عليه وسلم مرسل للعرب خاصة، على أنه يمكن أن يقال: خص أولئك بالذكر لأنهم أحق بإنذاره عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين} [الشعراء: 214] ولذا أنزل كتاب كل رسول بلسان قومه {والذين يُؤْمِنُونَ بالاخرة} وا فيها من الثواب والعقاب، ومن اقتصر على الثاني في البيان لاحظ سبق الإنذار {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي بالكتاب، قيل: أو حمد صلى الله عليه وسلم لأنهم يرهبون من العذاب ويرغبون في الثواب ولا يزال ذلك يحملهم على النظر والتأمل حتى يؤمنوا به {وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} يحتمل أن يراد بالصلاة مطلق الطاعة مجازًا أو اكتفى ببعضها الذي هو عماد الدين وعلم الإيمان ولذا أطلق على ذلك الإيمان مجازًا كقوله تعالى: {مَّا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم} [البقرة: 143].

.تفسير الآية رقم (93):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)}
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} كالذين قالوا {مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شَيْء} [الأنعام: 91] {أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ} من جهته تعالى: {وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ} أي والحال أنه لم يوح إليه {شَيْء} كمسيلمة. والأسود العنسي {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ الله} أي أنا قادر على مثل ذلك النظم كالذين قالوا: {لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} [الأنفال: 31] وتفسير الأول: بما ذكرناه لم نقف عليه لغيرنا، وتفسير الثاني: ذهب إليه الزمخشري وغيره وتفسير الثالث: ذهب إليه الزجاج ومن وافقه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن جريج أن قوله سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْء} نزلت في مسيلمة الكذاب والأخير نزل في عبد الله بن سعد بن أبي سرح وجعل بعضهم على هذا عطف {أَوْ قَالَ} الأول على {افترى} إلخ من عطف التفسير.
وتعقب بأنه لا يكون بأو، واستحسن أنه من عطف المغاير باعتبار العنوان وأو للتنويع يعني أنه تارة ادعى أن الله تعالى بعثه نبيًا وأخرى أن الله تعالى أوحى إليه وإن كان يلزم النبوة في نفس الأمر الإيحاء ويلزم الإيحاء النبوة، ويفهم من صنيع بعضهم أن أو عنى الواو، وأما ابن أبي سرح فلم يدع صريحًا القدرة ولكن قد يقتضيها كلامه على ما يفهم من بعض الروايات، وفسر بعضهم الثاني بعبد الله ودعواه ذلك على سبيل الترديد، فقد روي أن عبد الله بن سعد كان قد تكلم بالإسلام فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فكتب له شيئًا فلما نزلت الآية في المؤمنين {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] أملاها عليه فلما انتهى إلى قوله سبحانه: {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال: {تَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] فقال رسول الله: هكذا أنزلت عليَّ فشك حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقًا لقد أوحيَّ إليَّ ولئن كان كاذبًا لقد قلت كما قال، وجعل الشق الثاني في معنى دعوى القدرة على المثل فيصح تفسير الثاني والثالث به لا يصح إلا إذا اعتبر عنوان الصلة في الأخير من باب المماشاة مثلًا كما لا يخفى. واعتبر الإمام عموم افتراء الكذب على الله تعالى وجعل المعطوف عليه نوعًا من الأشياء التي وصفت بكونها افتراء ثم قال: والفرق بين هذا القول وما قبله أن في الأول: كان يدعي أنه أوحي إليه فيما يكذب به ولم ينكر نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وفي الثاني: أثبت الوحي لنفسه ونفاه عنه عليه الصلاة والسلام فكان جمعًا بين أمرين عظيمين من الكذب إثبات ما ليس وجود ونفي ما هو موجود انتهى.
وفيه عدول عن الظاهر حيث جعل ضمير {إِلَيْهِ} راجعًا للنبي صلى الله عليه وسلم والواو في {وَلَمْ يُوحَ} للعطف والمتعاطفان مقول القول والمنساق للذهن جعل الضمير لمن والواو للحال وما بعدها من كلامه سبحانه وتعالى، ورا يقال لو قطع النظر عن سبب النزول: إن المراد بمن افترى على الله كذبًا من أشرك بالله تعالى أحدًا يحمل افتراء الكذب على أعظم أفراده، وهو الشك وكثير من الآيات يصدح بهذا المعنى ون قال: {أُوحِىَ إِلَيْكَ} والحال لم يوح إليه مدعي النبوة كاذبًا ون قال: {سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ الله} الطاعن في نبوة النبي عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل: من أظلم ممن أشرك بالله عز وجل أو ادعى النبوة كاذبًا أو طعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم الكلام على مثل هذه الجملة الاستفهامية فتذكر وتدبر.
{وَلَوْ تَرَى} أي تبصر، ومفعوله محذوف لدلالة الظرف في قوله تعالى: {إِذِ الظالمون} عليه ثم لما حذف أقيم الظرف مقامه والأصل لو ترى الظالمين إذ هم، و{إِذْ} ظرف لترى و{الظالمون} مبتدأ، وقوله تعالى: {فِى غَمَرَاتِ الموت} خبره و{إذ} ظرف لترى، وتقييد الرؤية بهذا الوقت ليفيد أنه ليس المراد مجرد رؤيتهم بل رؤيتهم على حال فظيعة عند كل ناظر، وقيل: المفعول {إِذْ} والمقصود تهويل هذا الوقت لفظاعة ما فيه، وجواب الشرط محذوف أي لرأيت أمرًا فظيعًا هائلًا، والمراد بالظالمين ما يشمل الأنواع الثلاثة من الإفتراء والقولين الأخيرين، والغمرة كما قال الشهاب في الأصل: المرة من غمر الماء ثم استعير للشدة وشاع فيها حتى صار كالحقيقة. ومنه قول المتنبي:
وتسعدني في غمرة بعد غمرة ** سبوح لها منها عليها شواهد

والمراد هنا سكرات الموت كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
{والملئكة} الذين يقبضون أرواحهم وهم أعوان ملك الموت {بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} أي بالعذاب، وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم يضربون وجوههم وأدبارهم قائلين لهم {أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ} أي خلصوها مما أنتم فيه من العذاب، والأمر للتوبيخ والتعجيز، وذهب بعضهم أن هذا تمثيل لفعل الملائكة في قبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له: أخرج ما لي عليك الساعة ولا أريم مكاني حتى أنزعه من أحداقك، وفي الكشف إنه كناية عن العنف في السياق والإلحاح والتشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال ولا بسط ولا قول حقيقة هناك، واستظهر ابن المنير أنهم يفعلون معهم هذه الأمور حقيقة على الصور المحكية، وإذا أمكن البقاء على الحقيقة فلا معدل عنها.
{اليوم} المراد به مطلق الزمان لا المتعارف، وهو إما حين الموت أو ما يشمله وما بعده {تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون} أي المشتمل على الهوان والشدة والإضافة كما في رجل سوء تفيد أنه متمكن في ذلك لأن الإختصاص الذي تفيده الإضافة أقوى من اختصاص التوصيف، وجوز أن تكون الإضافة على ظاهرها لأن العذاب قد يكون للتأديب لا للهوان والخزي. ومن الناس من فسر غمرات الموت بشدائد العذاب في النار فإنها وإن كانت أشد من سكرات الموت في الحقيقة إلا أنها استعملت فيها تقريبًا للإفهام، وبسط الملائكة أيديهم بضربهم للظالمين في النار قامع من حديد والإخراج بالإخراج من النار وعذابها واليوم باليوم المعلوم.
{ا كُنتُمْ تَقُولُونَ} مفترين {عَلَى الله غَيْرَ الحق} من نفي إنزاله على بشر شيئًا وادعاء الوحي أو من نسبة الشرك إليه ودعوى النبوة كذبًا ونفيها عمن اتصف بها حقيقة أو نحو ذلك. وفي التعبير {بِغَيْرِ الحق} عن الباطل ما لا يخفى وهو مفعول {تَقُولُونَ}، وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي قولًا غير الحق {وَكُنتُمْ عَنْ ءاياته تَسْتَكْبِرُونَ} أي تعرضون فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون.

.تفسير الآية رقم (94):

{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)}
{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا} للحساب {فرادى} أي منفردين عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم أو عن الأموال والأولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا. أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن عكرمة قال: النضر بن الحرث سوف تشفع لي اللات والعزى فنزلت، والجملة على ما ذهب إليه بعض المحققين مستأنفة من كلامه تعالى ولا ينافي قوله تعالى: {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ} [البقرة: 174] لأن المراد نفي تكليمهم بما ينفعهم أو لأنه كناية عن الغضب، وقيل: معطوفة على قول: {الملائكة أَخْرِجُواْ} [الأنعام: 93] إلخ وهي من جملة كلامهم وفيه بعد وإن ظنه الإمام أولى وأقوى. ونصب {فرادى} على الحال من ضمير الفاعل وهو جمع فرد على خلاف القياس كأنه جمع فردان كسكران على ما في الصحاح، والألف للتأنيث ككسالى، والراء في فرده مفتوحة عند صاحب الدر المصون وحكى بصيغة التمريض سكونها، ونقل عن الراغب «أنه جمع فريد كأسير وأسارى»، وفي القاموس «يقال: جاءوا فُرَادًا وفِرَادًا وفُرَادَى وفُرَادَ وفَرَادَ وفَرْدَى كسَكْرَى أي واحدًا بعد واحد والوَاحِدُ فَرْدٌ وفَرِدٌ وفَرِيد وفَرْدَان ولا يجوز فَرْدٌ في هذا المعنى»، ولعل هذا بعيد الإرادة في الآية. وقرئ {فرادًا} كرخال المضموم الراء وفراد كآحاد ورباع في كونه صفة معدولة، ولا يرد أن مجيء هذا الوزن المعدول مخصوص بالعدد بل ببعض كلماته لما نص عليه الفراء وغيره من عدم الاختصاص، نعم هو شائع فيما ذكر. وفردى كسكرى تأنيث فردان والتأنيث لجمع ذي الحال.
{جِئْتُمُونَا كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ} بدل من {فرادى} بدل كل لأن المراد المشابهة في الانفراد المذكور، والكاف اسم عنى مثل أي مثل الهيئة، التي ولدتم عليها في الانفراد ويجوز أن يكون حالًا ثانية على رأي من يجوز تعدّد الحال من غير عطف وهو الصحيح أو حالًا من الضمير في {فرادى} فهي حال مترادفة أو متداخلة والتشبيه أيضًا في الانفراد، ويحتمل أن يكون باعتبار ابتداء الخلقة أي مشبهين ابتداء خلقكم عنى شبيهة حالكم حال ابتداء خلقكم حفاة عراة غرلًا بهما، وجوز أن يكون صفة مصدر {جِئْتُمُونَا} أي مجيئًا كخلقنا لكم.
أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قرأت هذه الآية فقالت: «يا رسول الله واسوأتاه إن النساء والرجال سيحشرون جميعًا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس: 37] لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض».
{وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم} أي ما أعطيناكم في الدنيا من المال والخدم وهو متضمن للتوبيخ أي فشغلتم به عن الآخرة {وَرَاء ظُهُورِكُمْ} ما قدمتم منه شيئًا لأنفكسم.
أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الحسن قال: يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذخ فيقول له تبارك وتعالى: أين ما جمعت؟ فيقول: يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان فيقول: أين ما قدمت لنفسك؟ فلا يراه قدم شيئًا وتلا هذه الآية، والجملة قيل مستأنفة أو حال بتقدير قد.
{وَمَا نرى} أي نبصر وهو على ما نص عليه أبو البقاء حكاية حال وبه يتعلق قوله تعالى: {مَّعَكُمْ} وليس حالًا من مفعول {نُرِى} أعني قوله سبحانه: {شُفَعَاءكُمُ} ولا مفعولًا ثانيًا، والرؤية علمية. وإضافة الشفعاء إلى ضمير المخاطبين باعتبار الزعم كما يفصح عنه وصفهم بقوله عز وجل: {الذين زَعَمْتُمْ} في الدنيا {أَنَّهُمْ فِيكُمْ} أي شركاء لله تعالى في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم، والزعم هنا نص في الباطل وجاء استعماله في الحق كما تقدمت الإشارة إليه، ومن ذلك قوله:
تقول هلكنا إن هلكت وإنما ** على الله أرزاق العباد كما زعم

{شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} بنصب بين وهي قراءة عاصم والكسائي وحفص عن عاصم، واختلف في تخريج ذلك فقيل: الكلام على إضمار الفاعل لدلالة ما قبل عليه أي تقطع الأمر أو الوصل بينكم، وقيل: إن الفاعل ضمير المصدر، وتعقبه أبو حيان بأنه غير صحيح لأن شرط إفادة الإسناد مفقودة فيه وهو تغاير الحكم والمحكوم عليه ولذلك لا يجوز قام ولا جلس وأنت تريد قام هو أي القيام وجلس هو أي الجلوس. ورد بأنه سمع بدا بداء، وقد قدروا في قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35] بدا البداء. وقال السفاقسي: إن من جعل الفاعل ضمير المصدر قال: المراد وقع التقطع والتغاير حاصل بهذا الاعتبار ولو سلم فالتقطع المعتبر مرجعًا معرف بلام الجنس و{تُقَطَّعَ} منكر فكيف يقال اتحد الحكم والمحكوم عليه. ولا يخفى أن القول بالتأويل متعين على هذا التقدير لأنه إذا تقطع التقطع حصل الوصل وهو ضد المقصود وقيل: إن بين هو الفاعل وبقي على حاله منصوبًا حملًا له على أغلب أحواله وهو مذهب الأخفش، وقيل: إنه بني لإضافته إلى مبنى، وقيل غير ذلك. واختار أبو حيان أن الكلام من باب التنازع سلط على ما كنتم تزعمون تقطع وضل عنكم فأعمل الثاني وهو {ضَلَّ} وأضمر في {تُقَطَّعَ} ضميره. والمراد بذلك الأصنام، والمعنى لقد تقطع بينكم ما كنتم تزعمون وضلوا عنكم كما قال تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاسباب} [البقرة: 166] أي لم يبق اتصال بينكم وبين ما كنتم تزعمون أنهم شركاء فعبدتموهم.
وقرأ باقي السبعة {بَيْنِكُمْ} بالرفع على الفاعلية وهو من الأضداد كالقرء يستعمل في الوصل والفصل، والمراد به هنا الوصل أي تقطع وصلكم وتفرق جمعكم، وطعن ابن عطية في هذا بأنه لم يسمع من العرب أن البين عنى الوصل وإنما انتزع من هذه الآية.
وأجيب بأنه معنى مجازي ولا يتوقف على السماع لأن بين يستعمل بين الشيئين المتلابسين نحو بيني وبينك رحم وصداقة وشركة فصار لذلك عنى الوصلة. على أنه لو قيل بأنه حقيقة في ذلك لم يبعد، فإن أبا عمر. وأبا عبيدة وابن جني والزجاج وغيرهم من أئمة اللغة نقلوه وكفى بهم سندًا فيه، فكونه منتزعًا من هذه الآية غير مسلم، وعليه فيكون مصدرًا لا ظرفًا. وقيل: إن بين هنا ظرف لكنه أسند إليه الفعل على سبيل الاتساع. وقرأ عبد الله {لَقَد تَّقَطَّعَ مَا بَيْنِكُمْ} وما فيه موصوفة أو موصولة {وَضَلَّ عَنكُم} ضاع وبطل {مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أنها شفعاؤكم أو أنها شركاء لله تعالى فيكم أو أن لا بعث ولا جزاء.