فصل: تفسير الآية رقم (97):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (97):

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)}
{وَهُوَ الذي جَعَلَ} أي أنشأ أو صير {لَكُمْ} أي لأجلكم {النجوم} قيل: المراد بها ما عدا النيرين لأنها التي بها الإهتداء الآتي ولأن النجم يخص في العرف بما عداهما. وجوز أن يدخلا فيها فيكون هذا بيانًا لفائدتهما العامة إثر بيان فائدتهما الخاصة، والمنجمون يقسمون النجوم إلى ثوابت وسيارات والسيارات سبع باجماع المتقدمين وثمان بزيادة هرشل عند المنجمين اليوم. والثوابت لايعلم عدتها إلا الله تعالى. والمرصود كما قال عبد الرحمن الصوفي: ألف وخمسة وعشرون بإدخال الضفيرة. ومن أخرجها قال: هي ألف واثنان وعشرون، ورتبوا الثوابت على ست أقدار وسموها أقدارًا متزائدة سدسًا سدسًا، وجعلوا كل قدر على ثلاث مراتب: أعظم وأوسط وأصغر؛ ولهم تقسيمات لها باعتبارات أخر بنوا عليها ما بنوا ولا يكاد يسلم لهم إلا ما لم يلزم منه محذور في الدين.
{لِتَهْتَدُواْ بِهَا} بدل من ضمير {لَكُمْ} بإعادة العامل بدل اشتمال كأنه قيل: جعل النجوم لاهتدائكم {فِى ظلمات البر والبحر} أي في ظلمات الليل في البر والبحر، وإضافتها إليهما للملابسة أو في مشتبهات الطرق وسماها ظلمات على الاستعارة، وهذا إفراد لبعض منافعها بالذكر حسا يقتضيه المقام وإلا فهي أجدى من تفاريق العصا، وهي في جميع ما يترتب عليها كسائر الأسباب العادية لا تأثير لها بأنفسها ولا بأس في تعلم علم النجوم ومعرفة البروج والمنازل والأوضاع ونحو ذلك مما يتوصل به إلى مصلحة دينية.
قال العلامة ابن حجر عليه الرحمة: والمنهي عنه من علم النجوم ما يدعيه أهلها من معرفة الحوادث الآتية في مستقبل الزمان كمجيء المطر ووقوع الثلج وهبوب الريح وتغير الأسعار ونحو ذلك يزعمون أنهم يدركون ذلك بسير الكواكب لاقترانها وافتراقها، وهذا علم استأثر الله تعالى به لا يعلمه أحد غيره فمن ادعى علمه بذلك فهو فاسق بل را يؤدي به إلى الكفر، فأما من يقول: إن الاقتران أو الافتراق الذي هو كذا جعله الله تعالى علامة قتضى ما اطردت به عادته الإلهية على وقوع كذا وقد يتخلف فلا إثم عليه بذلك، وكذا الإخبار عما يدرك بطريق المشاهدة من علم النجوم الذي يعلم به الزوال وجهة القبلة وكم مضى وكم بقي من الوقت فإنه لا إثم فيه بل هو فرض كفاية، وأما ما في حديث الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في أثر ماء أي مطر كان من الليل فلما انصرف أقبل علينا فقال: أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم قال: أصبح من عبادي مؤمن وكافر فأما من قال: مطرنا بفضل الله تعالى فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب ومن قال: مطرنا بنوء كذا فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب».
فقد قال العلماء: إنه محمول على ما إذا قال ذلك مريدًا أن النوء هو المحدث أما لو قال ذلك على معنى أن النوء علامة على نزول المطر ومنزله هو الله تعالى وحده فلا يكفر لكن يكره له قول ذلك لأنه من ألفاظ الكفر انتهى.
وأقول: قد كثرت الأخبار في النهي عن علم النجوم والنظر فيها، فقد أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اقتبس علمًا من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد» وأخرج الخطيب عن ميمون بن مهران قال: قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما أوصني قال أوصيك بتقوى الله تعالى وإياك وعلم النجوم فإنه يدعو إلى الكهانة. وأخرج عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النظر في النجوم وعن أبي هريرة وعائشة رضي الله تعالى عنهما نحوه. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن متعلم حروف أبي جادوراء في النجوم ليس له عند الله تعالى خلاق يوم القيامة». وأخرج هو والخطيب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا» إلى غير ذلك من الأخبار، ولعل ما تفيده من النهي عن التعلم من باب سد الذرائع لأن ذلك العلم را يجر إلى محظور شرعًا كما يشير إليه خبر ابن مهران. وكذا النهي عن النظر فيها محمول على النظر الذي كان تفعله الكهنة الزاعمون تأثير الكواكب بأنفسها والحاكمون بقطعية ما تدل عليه بتثليثها وتربيعها واقترانها ومقابلتها مثلًا من الأحكام بحيث لا تتخلف قطعًا على أن الوقوف على جميع ما أودع الله تعالى في كل كوكب مما يمتنع لغير علام الغيوب. والوقوف على البعض أو الكل في البعض لا يجدي نفعًا ولا يفيد إلا ظنًا المتمسك به كالمتمسك بحبال القمر والقابض عليه كالقابض على شعاع الشمس. نعم إن بعض الحوادث في عالم الكون والفساد قد جرت عادة الله تعالى بإحداثه في الغالب عند طلوع كوكب أو غروبه أو مقارنته لكوكب آخر وفيما يشاهد عند غيبوبة الثريا وطلوعها وطلوع سهيل شاهد لما ذكرنا. ولا يبعد أن يكون ذلك من الأسباب العادية وهي قد تتخلف مسبباتها عنها سواء قلنا: إن التأثير عندها كما هو المشهور عن الأشاعرة أم قلنا: إنها المؤثرة بإذن الله تعالى كما هو المنصور عند السلف، ويشير إليه كلام حجة الإسلام الغزالي في العلة.
فمتى أخبر المجرب عن شيء من ذلك على هذا الوجه لم يكن عليه بأس.
وما أخرجه الخطيب عن عكرمة أنه سأل رجلًا عن حساب النجوم وجعل الرجل يتحرج أن يخبره فقال عكرمة: سمعت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: علم عجز الناس عنه وددت أني علمته. وما أخرجه الزبير بن بكار عن عبد الله بن حفص قال: خصت العرب بخصال بالكهانة والقيافة والعيافة والنجوم والحساب فهدم الإسلام الكهانة وثبت الباقي بعد ذلك، وقول الحسن بن صالح: سمعت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في النجوم: ذلك علم ضيعه الناس فلعل ذلك إن صح محمول على نحو ما قلنا. وبعد هذا كله أقول: هو علم لا ينفع والجهل به لا يضر فما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن.
{قَدْ فَصَّلْنَا الآيات} أي بينا الآيات المتلوة المذكرة لنعمه سبحانه التي هذه النعمة من جملتها أو الآيات التكوينية الدالة على شؤونه تعالى فصلًا فصلًا {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} معاني الآيات المذكورة فيعملون وجبها أو يتفكرون في الآيات التكوينية فيعلمون حقيقة الحال، وتخصيص التفصيل بهم مع عمومه للكل لأنهم المنتفعون به.

.تفسير الآية رقم (98):

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)}
{وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مّن نَّفْسٍ واحدة} أي آدم عليه السلام وهو تذكير لنعمة أخرى فإن رجوع الكثرة إلى أصل واحد أقرب إلى التواد والتعاطف. وفيه أيضًا دلالة على عظيم قدرته سبحانه وتعالى: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} أي فلكم استقرار في الأصلاب أو فوق الأرض واستيداع في الأرحام أو في القبر أو موضع استقرار واستيداع فيما ذكر، وجعل الصلب مقر النطفة والرحم مستودعها لأنها تحصل في الصلب لا من قبل شخص آخر وفي الرحم من قبل الأب فأشبهت الوديعة كأن الرجل أودعها ما كان عنده، وجعل وجه الأرض مستقرًا وبطنها مستودعًا لتوطنهم في الأول واتخاذهم المنازل والبيوت فيه وعدم شيء من ذلك في الثاني، وقيل: التعبير عن كونهم في الأصلاب أو فوق الأرض بالاستقرار لأنهما مقرهم الطبيعي كما أن التعبير عن كونهم في الأرحام أو في القبر بالاستيداع لما أن كلًا منهما ليس قرهم الطبيعي. وأخرج جماعة منهم الحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المستقر الرحم والمستودع الأصلاب، وجاء في رواية أن حبرتيما كتب إليه يسأله رضي الله تعالى عنه عن ذلك فأجابه بما ذكر.
ويؤيد تفسير المستقر بالرحم قوله تعالى: {وَنُقِرُّ فِي الارحام مَا نَشَاء} [الحج: 5] وأما تفسير المستودع بالأصلاب فقال شيخ الإسلام: إنه ليس بواضح وليس كما قال، فقد ذكر الإمام بعد أن فرق بين المستقر والمستودع «بأن المستقر أقرب إلى الثبات من المستودع، ومما يدل على قوة هذا القول يعني المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زمانًا طويلًا والجنين يبقى زمانًا طويلًا، ولما كان المكث في الرحم أكثر مما في صلب الأب كان حمل الاستقرار على المكث في الرحم أولى». ويلزم ذلك أن حمل الاستيداع على المكث في الصلب أولى. وأنا أقول: لعل حمل المستودع على الصلب باعتبار أن الله تعالى بعد أن أخرج من بني آدم عليه السلام من ظهورهم ذريتهم يوم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم وكان ما كان ردهم إلى ما أخرجهم منه فكأنهم وديعة هناك تخرج حين يشاء الله تعالى ذلك، وقد أطلق ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اسم الوديعة على ما في الصلب صريحًا. فقد أخرج عبد الرزاق عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أتزوجت؟ قلت: لا وما ذلك في نفسي اليوم قال: إن كان في صلبك وديعة فستخرج. وروي تفسير المستودع بالدنيا والمستقر بالقبر عن الحسن وكان يقول: يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك ويوشك أن تلحق بصاحبك وينشد قول لبيد:
وما المال والأهلون إلا وديعة ** ولابد يومًا أن ترد الودائع

وقال سليمان بن زيد العدوي في هذا المعنى:
فجع الأحبة بالأحبة قبلنا ** فالناس مفجوع به ومفجع

مستودع أو مستقر مدخلا ** فالمستقر يزوره المستودع

وعن أبي مسلم الأصفهاني أن المستقر الذكر لأن النطفة إنما تتولد في صلبه والمستودع الأنثى لأن رحمها شبيه بالمستودع لتلك النطفة فكأنه قيل: وهو الذي خلقكم من نفس واحدة فمنكم ذكر ومنكم أنثى. وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو {فمستقر} بكسر القاف وهو حينئذ اسم فاعل عنى قار ومستودع اسم مفعول والمراد فمنكم مستقر ومنكم مستودع. ووجه كون الأول: معلومًا والثاني: مجهولًا أن الاستقرار هنا بخلاف الاستيداع والمتعاطفان على القراءة الأولى مصدران أو اسما مكان ولا يجوز أن يكون الأول اسم مفعول لأن استقر لا يتعدى وكذا الثاني ليكون كالأول.
{قَدْ فَصَّلْنَا الآيات} المبينة لتفاصيل خلق البشر ومن جملتها هذه الآية {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} معاني ذلك، قيل: ذكر مع ذكر النجوم {يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 97] ومع ذكر إنشاء بني آدم {يَفْقَهُونَ} لأن الإنشاء من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوالهم المختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرًا فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقًا له، وهو مبني على أن الفقه أبلغ من العلم، وقيل: هما عنى إلا أنه لما أريد فصل كل آية بفاصلة تنبيهًا على استقلال كل منهما بالمقصود من الحجة وكره الفصل بفاصلتين متساويتين لفظًا للتكرار عدل إلى فاصلة مخالفة تحسينًا للنظم وافتنانًا في البلاغة. وذكر ابن المنير وجهًا آخر في تخصيص الأولى بالعلم والثانية بالفقه وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله تعالى ولا يعتبر خلوقاته وكانت الآيات المذكورة أولًا خارجة عن أنفس النظار ومنافية لها إذ النجوم والنظر فيها وعلم الحكمة الإلهية في تدبيره لها أمر خارج عن نفس الناظر ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس واحدة وتقليبهم في أطوار مختلفة وأحوال متغايرة فإنه نظر لا يعدو نفس الناظر ولا يتجاوزها فإذا تمهد هذا فجهل الإنسان بنفسه وأحواله وعدم النظر والتفكر فيها أبشع من جهله بالأمور الخارجة عنه كالنجوم والأفلاك ومقادير سيرها وتقلبها، فلما كان الفقه أدنى درجات العلم إذ هو عبارة عن الفهم نفى بطريق التعريض عن أبشع القبيلتين جهلًا وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم ونفي الأدنى أبشع من نفي الأعلى فخص به أسوأ الفريقين حالًا و{يَفْقَهُونَ} هاهنا مضارع فقه الشيء بكسر القاف إذا فهمه ولو أدنى فهم، وليس من فقه بالضم لأن تلك درجة عالية ومعناه صار فقيهًا. ثم ذكر أنه إذا قيل: فلان لا يفقه شيئًا كان أذم في العرف من قولك: فلان لا يعلم شيئًا وكأن معنى قولك: لا يفقه شيئًا ليست له أهلية الفهم وإن فهم، وأما قولك: لا يعلم شيئًا فغايته عدم حصول العلم له وقد يكون له أهلية الفهم والعلم لو تعلم. واستدل على أن التارك للتفكر في نفسه أجهل وأسوأ حالًا من التارك للفكرة في غيره بقوله سبحانه: {وَفِى الأرض ءايات لّلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20، 21] فخص التبصر في النفس بعد اندراجها فيما في الأرض من الآيات وأنكر على من لا يتبصر في نفسه إنكارًا مستأنفًا. والله تعالى أعلم بأسرار كلامه.