فصل: تفسير الآية رقم (101):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (101):

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)}
{بَدِيعُ السموات والأرض} أي مبدعهما «وموجدهما بغير آلة ولا مادة ولا زمان ولا مكان» قاله الراغب، وهو كما يطلق على المبدع يطلق على المبدع اسم مفعول، ومنه قيل: ركي بديع وكذلك البدع بكسر الباء يقال لهما. وقيل: هو من إضافة الصفة المشبهة إلى الفاعل للتخفيف بعد نصبه تشبيهًا لها باسم الفاعل كما هو المشهور أي بديع سمواته وأرضه من بدع إذا كان على نمط عجيب وشكل فائق وحسن رائق أو إلى الظرف كما في قولهم فلان ثَبْتُ الغَدَرِ أي ثبت في الغدر وهو بغين معجمة ودال وراء مهملتين المكان ذو الحجارة والشقوق ويقولون ذلك إذا كان الرجل ثبتًا في قتال أو كلام. والمراد من بديع في السموات والأرض أنه سبحانه عديم النظير فيهما. ومعنى ذلك على ما قال بعض المحققين أن إبداعه لهما لا نظير له لأنهما أعظم المخلوقات الظاهرة فلا يرد أنه لا يلزم من نفي النظير فيهما نفيه مطلقًا، ولا حاجة إلى تكلف أنه خارج مخرج الرد على المشركين بحسب زعمهم أنه لا موجود خارج عنهما. واختار غير واحد التفسير الأول، والمعنى عليه أنه تعالى مبدع لقطري العالم العلوي والسفلي بلا مادة فاعل على الإطلاق منزه عن الإنفعال بالكلية، والوالد عنصر الولد منفعل بانتقال مادته عنه فكيف يمكن أن يكون له ولد؟. وقرئ {بَدِيعُ} بالنصب على المدح والجر على أنه بدل من الاسم الجليل أو من الضمير المجرور في {سبحانه} [الأنعام: 100] على رأي من يجوزه، وارتفاعه على القراءة المشهورة على ثلاثة أوجه كما قال أبو البقاء، الأول: أنه خبر مبتدأ محذوف، والثاني: أنه فاعل {تَعَالَى} [الأنعام: 100] وإظهاره في موضع الإضمار لتعليل الحكم، وتوسيط الظرف بينه وبين الفعل للاهتمام ببيانه.
والثالث: أنه مبتدأ خبره قوله سبحانه: {أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} وهو على الأولين جملة مستقلة مسوقة كما قبلها لبيان استحالة ما نسبوه إليه تعالى وتقرير تنزيهه عنه جل شأنه. وقوله تعالى: {وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة} حال مؤكدة للاستحالة المذكورة ضرورة أن الولد لا يكون بلا والدة أصلًا وإن أمكن وجوده بلا والد أي من أين أو كيف يكون له ولد والحال أنه ليس له صاحبة يكون الولد منها. وقرأ إبراهيم النخعي {لَمْ يَكُنِ} بتذكير الفعل؛ وجاز ذلك مع أن المرفوع مؤنث للفصل كما في قوله:
لقد ولد الأخيطل أم سوء ** على قمع استها صلب وشام

قال ابن جنى: تؤنث الأفعال لتأنيث فاعلها لأنهما يجريان مجرى كلمة واحدة لعدم استغناء كل عن صاحبه فإذا فصل جاز تذكيره وهو في باب كان أسهل لأنك لو حذفتها استقل ما بعدها.
وقيل: إن اسم {يَكُنِ} ضميره تعالى والخبر هو الظرف و{صاحبة} مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ والظرف خبره مقدم و{صاحبة} مبتدأ والجملة خبر {يَكُونَ} وعلى هذا يجوز أن يكون الاسم ضمير الشأن لصلاحية الجملة حينئذ لأن تكون مفسرة للضمير لا على الأول لأنه كما بين في موضعه لا يفسر إلا بجملة صريحة، والاعتراض بأنه إذا كان العمدة في المفسرة مؤنثًا فالمقدر ضمير القصة لا الشأن فيعود السؤال ليس بوارد كعدم اللزوم وإن توهمه بعضهم.
وقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْء} استئناف لتحقيق ما ذكر من الاستحالة أو حال أخرى مقررة لها أي أنَّى يكون له ولد والحال أنه خلق كل شيء من الموجودات التي من جملتها ما سموه ولدًا فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولدًا لخالقه. ويفهم من «التفسير الكبير» أن من زعم أن لله تعالى شأنه ولدًا إن أراد أنه سبحانه أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدم نطفة مثلًا رد بأن خلقه للسموات والأرض كذلك فيلزم كونهما ولدًا له تعالى وهو باطل بالاتفاق، وإن أراد ما هو المعروف من الولادة في الحيوانات رد أولًا بأنه لا صاحبة له وهي أمر لازم في المعروف. وثانيًا بأن تحصيل الولد بذلك الطريق إنما يصح في حق من لا يكون قادرًا على الخلق والإيجاد والتكوين دفعة واحدة أما من كان خالقًا لكل الممكنات وكان قادرًا على كل المحدثات فإذا أراد شيئًا قال له كن فيكون فيمتنع منه إحداث شخص بطريق الولادة. وإن أراد مفهومًا ثالثًا فهو غير متصور.
{وَهُوَ بِكُلّ شَيْء} من شأنه أن يعلم كائنًا ما كان مخلوقًا أو غير مخلوق كما ينبئ عنه ترك الإضمار إلى الإظهار {عَلِيمٌ} مبالغ في العلم أزلا وأبدًا حسا يعرب عنه العدول إلى الجملة الإسمية، وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون الولد قديمًا أو محدثًا لا جائز أن يكون قديمًا لأن القديم يجب كونه واجب الوجود لذاته وما كان كذلك كان غنيًا عن غيره فامتنع كونه ولدًا للغير فتعين كونه حادثًا، ولا شك أنه تعالى عالم بكل شيء فإما أن يعلم أن له في تحصيل الولد كمالًا أو نفعًا أو يعلم أنه ليس كذلك، فإن كان الأول فلا وقت يفرض إلا والداعي إلى إيجاد هذا الولد كان حاصلًا قبله وهو يوجب كونه أزليًا وهو محال وإن كان الثاني وجب أن لا يحدث ألبتة في وقت من الأوقات. وقرر الإمام عليه الرحمة الرد بهذه الجملة بوجه آخر أيضًا، وبعضهم جعل هذه الجملة مع ما قبلها متضمنة لوجه واحد من أوجه الرد، والجملة إما حالية أو مستأنفة، واقتصر بعضهم على الثاني فقال: إنها استئناف مقرر لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة ببطلان مقالتهم الشنعاء التي اجترءوا عليها بغير علم. والظاهر من هذا أن ما في الآية أدلة قطعية على بطلان ما زعمه المختلقون، وكلام الإمام حيث قال بعد تقرير الوجوه. «لو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يذكروا في هذه المسألة كلامًا يساويه أي ما دلت عليه الآية في القوة والكمال لعجزوا عنه». وادعى الشهاب أن ما يفهم من ذلك أدلة اقناعية، ولعل الأولى القول بأن البعض قطعي والبعض الآخر إقناعي فتدبر.

.تفسير الآية رقم (102):

{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)}
{ذلكم} إشارة إلى المنعوت بما ذكر من جلائل النعوت، وما فيه من معنى البعد لما مر مرارًا. والخطاب للمشركين المعهودين بطريق الإلتفات. وذهب الطبرسي أنه لجميع الناس، وهو مبتدأ وقوله سبحانه: {الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خالق كُلّ شَيْء} أخبار أربعة مترادفة أي ذلك الموصوف بتلك الصفات العظيمة الشأن هو الله المستحق للعبادة خاصة مالك أمركم لا شريك له أصلًا خالق كل شيء مما كان وسيكون، والمعتبر في عنوان الموضوع حسا اقتضته الإشارة إنما هو خالقيته سبحانه لما كان فقط كما ينبئ عنه صيغة الماضي، وجوز أن يكون الاسم الجليل بدلًا من اسم الإشارة و{رَبُّكُمْ} صفته وما بعده خبر، وأن يكون الاسم الجليل هو الخبر وما بعده إبدال منه، وأن يكون بدلًا والبواقي أخبار، وأن يقدر لكل خبر من الأخبار الثلاثة مبتدأ، وأن يجعل الكل نزلة اسم واحد، وأن يكون {خالق كُلّ شَيْء} بدلًا من الضمير، وجوز غير ذلك.
وقوله تعالى: {فاعبدوه} مسبب عن مضمون الجملة فإن من جمع هذه الصفات كان هو المستحق للعبادة خاصة، وادعى بعضهم أن العبادة المأمور بها هي نهاية الخضوع وهي لا تتأتى مع التشريك فلذا استغنى عن أن يقال: فلا تعبدوا إلا إياه، ويفهم منه أن مجرد مفهوم العبادة يفيد الاختصاص، ولا يأباه دعوى إفادة تقديم المفعول في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] إياه لأن إفادة الحصر بوجهين لا مانع منها كما في {فَلِلَّهِ الحمد} [الجاثية: 36] ونحوه، وإنما قال سبحانه هنا: {ذَلِكُمُ الله لا إله إِلاَّ هُوَ خالق كُلّ شَيْء فاعبدوه} وفي سورة المؤمن (26): {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خالق كُلّ شَيْء لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فأنى تُؤْفَكُونَ} فقدم سبحانه هنا {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} على {خالق كُلّ شَيْء} وعكس هناك. قال بعض المحققين: لأن هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: {جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء} [الأنعام: 100] إلخ فلما قال جل شأنه: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ} أتى بعده بما يدفع الشركة فقال: عز قائلًا {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} {ثُمَّ خالق كُلّ شَيْء} وتلك جاءت بعد قوله سبحانه: {لَخَلْقُ السموات والأرض *أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر: 57] فكان الكلام على تثبيت خلق الناس وتقريره لا على نفي الشريك عنه جل شأنه كما كان في الآية الأولى فكان تقديم {خالق كُلّ شَيْء} هناك أولى والله تعالى أعلم بأسرار كلامه.
{وَهُوَ على كُلّ شَيْء وَكِيلٌ} عطف على الجملة السابقة أي وهو مع تلك الصفات الجليلة الشأن متولي جميع الأمور الدنيوية والأخروية، ويلزم من ذلك أن لا يوكل أمر إلى غيره ممن لا يتولى.
وجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال وقيدا للعبادة ويؤول المعنى إلى أنه سبحانه مع ما تقدم متولي أموركم فكلوها إليه وتوسلوا بعبادته إلى إنجاح مأربكم، وفسر بعضهم الوكيل بالرقيب أي أنه تعالى رقيب على أعمالكم فيجازيكم عليها. واستدل أصحابنا بعموم {خالق كُلّ شَيْء} على أنه تعالى هو الخالق لأعمال العباد والمعتزلة قالوا: عندنا هنا أشياء تخرج أعمال العباد من البين. أحدها: تعقيب ذلك العموم بقوله سبحانه: {فاعبدوه} فإنه لو دخلت أعمال العباد هناك لصار تقدير الآية إنا خلقنا أعمالكم فافعلوها بأعيانها مرة أخرى وفساده ظاهر. وثانيها: أن {خالق كُلّ شَيْء} ذكر في معرض المدح والثناء ولا تمدح بخلق الزنا واللواطة والسرقة والكفر مثلا. ثالثها: أنه تعالى قال بعد. {قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام: 104] وهو تصريح بكون العبد مستقلًا بالفعل والترك وأنه لا مانع له. رابعها: أن هذه الآية أتى بها بعد {وَجَعَلُواْ الله شُرَكَاء الجن} [الأنعام: 100] والمراد منه على ما روي عن الحبر الرد على المجوس في إثبات الهين فيجب أن يكون {خالق كُلّ شَيْء} محمولًا على إبطال ذلك وهو إنما يكون إذا قلنا: إنه تعالى هو الخالق لما في هذا العالم من السباع والآلام ونحوها وإذا حمل على ذلك لم تدخل أعمال العباد ولا يخفى ما في ذلك من النظر ومثله استدلالهم بالآية على نفي الصفات وكون القرآن مخلوقًا فتدبر.

.تفسير الآية رقم (103):

{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)}
{لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار} جمع بصر يطلق كما قال الراغب على الجارحة الناظرة «وعلى القوة التي فيها وعلى البصيرة. وهي قوة القلب المدركة» وإدراك الشيء عبارة عن الوصول إلى غايته والإحاطة به، وأكثر المتكلمين على حمل البصر هنا على الجارحة من حيث إنها محل القوة. وقيل: هو إشارة إلى ذلك وإلى الأوهام والأفهام كما قال أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه. التوحيد أن لا تتوهمه وقال أيضًا كل ما أدركته فهو غيره. ونقل الراغب عن بعضهم أنه حمل ذلك على البصيرة، وذكر أنه قد نبه به على ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قوله: يا من غاية معرفته القصور عن معرفته إذا كان معرفته تعالى أن تعرف الأشياء فتعلم أنه ليس ثل لشيء منها بل هو موجد كل ما أدركته.
واستدل المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يرى. وتقرير ذلك على ما في «المواقف وشرحها» أن الإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية ولا فرق بين أدركته ببصري ورأيته إلا في اللفظ أو هما متلازمان لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر فلا يجوز رأيته وما أدركته ببصري ولا عكسه، فالآية نفت أن تراه الأبصار وذلك يتناول جميع الأبصار بواسطة اللام الجنسية في مقام المبالغة في جميع الأوقات، لأن قولك: فلان تدركه الأبصار لا يفيد عموم الأوقات فلابد أن يفيده ما يقابله فلا يراه شيء من الأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة لما ذكر ولأنه تعالى تمدح بكونه لا يرى حيث ذكره في أثناء المدائح وما كان من الصفات عدمه مدحًا كان وجوده نقصًا يجب تنزيه الله تعالى عنه فظهر أنه يمتنع رؤيته سبحانه، وإنما قيل: من الصفات احترازًا عن الأفعال كالعفو والانتقام فإن الأول تفضل والثاني عدل وكلاهما كمال انتهى. وحاصله أن المراد بالإدراك الرؤية المطلقة لا الرؤية على وجه الإحاطة، وأن {لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار} سالبة كلية دائمة وهذا أقوى أدلتهم النقلية في هذا المطلب كما ذكره شيخ مشايخنا الكوراني قدس سره. والجواب عنه من وجوه.
الأول أن الإدراك ليس هو الرؤية المطلقة وإن اختاره على ما نقله الآمدي أبو الحسن الأشعري وإنما هو الرؤية على نعت الإحاطة بجوانب المرئي كما فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بها في أحد تفسيريه، ففي الدر المنثور وأخرج ابن جرير عن ابن عباس {لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار} لا يحيط بصر أحد بالله تعالى. انتهى. وإليه ذكب الكثير من أئمة اللغة وغيرهم. والرؤية المكيفة بكيفية الإحاطة أخص مطلقًا من الرؤية المطلقة ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فظهر صحة أن يقال: رأيته وما أدركه بصري أي ما أحاط به من جوانبه وإن لم يصح عكسه.
الثاني أن {لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار} كما يحتمل أن يلاحظ فيه أولًا دخول النفي ثم ورود اللام فتكون سالبة كلية على طرز قوله تعالى: {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْمًا لّلْعِبَادِ} [غافر: 31] فيكون لعموم السلب كذلك يحتمل أن يعتبر فيه العموم أولًا ثم ورود النفي عليه فتكون سالبة جزئية نحو ما قام العبيد كلهم ولم آخذ الدراهم كلها فتكون لسلب العموم وكلما احتمل سلب العموم لم يكن نصًا في عموم السلب وإن كان عموم السلب في مثل هذا هو الأكثر وكلما كان كذلك لم يبق فيه حجة على امتناع الرؤية مطلقًا وهو ظاهر، هذا إذا كان أل في «الأبصار» للاستغراق فإن كان للجنس كان {لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار} سالبة مهملة وهي في قوة الجزئية فيكون المعنى لا تدركه بعض الأبصار وهو متفق عليه.
الثالث أنا لو سلمنا أن الإدراك هو الرؤية المطلقة وأن أل للاستغراق وأن الكلام لعموم السلب لكن لا نسلم عمومه في الأحوال والأوقات أي لا نسلم أنها دائمة لجواز أن يكون المراد نفي الرؤية في الدنيا كما يروى تقييده بذلك عن الحسن وغيره. ويدل عليه ما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] فقال: قال الله تعالى: يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده ولا رطب إلا تفرق وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسادهم» قولهم: بل هي دائمة لأن قولك: فلان تدركه الأبصار لا يفيد عموم الأوقات فلابد أن يفيده ما يقابله، قلنا: هذا لا يتم إلا إذا وجب أن يكون التقابل من الله تعالى تدركه الأبصار ولا تدركه الأبصار تقابل تناقض ولا موجب لذلك لا عقليًا ولا لغويًا ولا شرعيًا: أما الأول فلأنا إذا وجدنا قضية موجبة مطلقة جاز أن يقابلها سالبة دائمة مطلقة وأن يقابلها سالبة دائمة ولا تتعين الدائمة الصادقة إلا إذا كانت المطلقة كاذبة قطعًا لكن كذب المطلقة هاهنا أول البحث وعين المتنازع فيه فلا يجوز أن يبنى كون {لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار} دائمة على كذب هذه المطلقة أعني الله تعالى يدركه الأبصار مرادًا بها أبصار المؤمنين في الجنة والموقف لأنه مصادرة على المطلوب المستلزم للدور، وأما الثاني فلأن الجملة ثبوتية كانت أو منفية تستعمل بحسب المقامات تارة في الإطلاق وتارة في الدوام وليس يجب في اللغة أنا إذا وجدنا جملة مثبتة استعملت في مقام ما في معنى الإطلاق أن تكون الجملة المقابلة لها مستعملة في معنى الدوام ألبتة بل يخلتف باختلاف المقامات وقصد المستعملين لها وهو ظاهر جدًا، وأما الثالث فلأن المطلقة المذكورة بالمعنى السابق عين المتنازع فيه بيننا وبين المعتزلة شرعًا فنحن نقول إنها صادقة شرعًا ونحتج عليها بالعقل والنقل من الكتاب والسنة، وكلما كان كذلك لزم أن لا يكون {لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار} دائمة دفعا للتناقض فتكون إما مطلقة عامة أو وقتية مطلقة، وعلى التقديرين لا تناقض لانتفاء اتحاد الزمان فيصدق الله تعالى تدركه الأبصار أي أبصار المؤمنين يوم القيامة مثلًا أو وقت تجليه في نوره الذي لا يذهب بالأبصار الله تعالى لا تدركه الأبصار أي في الدنيا بالقيد الذي أشير إليه سابقًا أو وقت تجليه بنوره الذي يذهب بالأبصار وهو النور الشعشعاني المشار إليه في الحديث الوارد في صحيح مسلم وغيره:«لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره». وإلى هذا التقييد يشير ثاني تفسيري ابن عباس المتقدم أولهما. فقد روي أنه قال: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه فقال له عكرمة: أليس الله تعالى يقول: {لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار} فقال: لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء الحديث. وبإثبات هذين النورين يجمع بين جوابيه عليه الصلاة والسلام لأبي ذر حيث سأله هل رأيت ربك؟ فقال في أحد جوابيه. «نور أنى أراه». وفي الجواب الآخر «رأيت نورًا» فيقال: النور الذي نفى رؤيته في الاستفهام الإنكاري المدلول عليه بأنى هو نوره أعني النور الذي يذهب بالأبصار ولا يقوم له بصر، والنور الذي أثبت رؤيته هو النور الذي لا يذهب بالأبصار. وكذا يمكن حمل قول عائشة رضي الله عنهما: «من زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه فقد أعظم على الله عز وجل الفرية» واستشهادها لذلك بهذه الآية على هذا بأن يقال: أرادت من زعم أن محمدًا عليه الصلاة والسلام رأى ربه سبحانه في نوره الذي هو نوره الذي يذهب بالأبصار فقد أعظم على الله عز وجل الفرية؛ ويكون الاستشهاد بالآية على ما روي عن ابن عباس من ثاني تفسيريه، وحينئذ لا يتم للمعتزلة دعوى كون {لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار} دائمة إلا إذا كانت هذه المطلقة كاذبة شرعًا وهو عين المتنازع فيه كما عرفت فلم يبق لهم على دعوى الدوام دليل أصلًا. وقد يقال أيضًا: المراد نفي الرؤية وقت عدم إذن الله تعالى للأبصار بالإدراك، والدليل على صحة إرادة هذا القيد هو أن إرادة الأبصار فعل من أفعال العبيد وكسب من كسبهم وقد ثبت بغير ما دليل أن العباد لا يقدرون على شيء ما من المقدورات إلا بإذن الله تعالى ومشيئته وتمكينه فلا تدركه الأبصار إلا بإذنه وهو المطلوب.
ويؤيد هذا البيان ويشيد أركانه أن {لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار} وقع بعد قوله سبحانه: {وَهُوَ على كُلّ شَيْء وَكِيلٌ} [الأنعام: 102]. ووجه التأييد أن الله تعالى أخبر بأنه على كل شيء وكيل أي متول لأموره، ومعلوم أن الأبصار من الأشياء وأن إدراكها من أمورها فهو سبحانه وتعالى متوليها ومتصرف فيها على حسب مشيئته فيفيض عليها الإدراك ويأذن لها إذا شاء كيف شاء وعلى الحد الذي شاء ويقبض عنها الإدراك قبضًا كليًا أو جزئيًا في أي وقت شاء كيف شاء، ولا يخفى على هذا أنه غاية التمدح بالعزة والقهر والغلبة فإن من هو على كل شيء وكيل إذا لم تدركه الأبصار إلا بإذنه مع كونه يدرك الأبصار ولا تخفى عليه خافية كان ذلك غاية في عزته وقهره وكونه غالبًا على أمره. وذهب بعض المحققين أن الآية لم تسق للتمدح وإنما سيقت للتخويف بأنه سبحانه رقيب من حيث لا يرى فليحذر، وهو ظاهر على التفسير الثاني للوكيل.

الرابع من الوجوه يجوز أن يكون المراد لا تدركه الأبصار على الوجه المعتاد في رؤية المحسوسات المشروطة بالشروط التسعة العادية على ما يشير إليه آخر الآية، ومعلوم أن نفي الخاص لا يستلزم نفي العام فلا يلزم على هذا من الآية نفي الرؤية مطلقًا.
الخامس ما قيل: إنا لو سلمنا للخصم ما أراد نقول: إن الآية إنما تدل على أن الأبصار لا تدركه ونحن نقول به وندعي أن ذوي الأبصار يدركونه، والاعتراض بأنه كما أن الأبصار لا تدركه فكذلك لا يدركه غيرها فلا فائدة للتخصيص مدفوع بأنه إنما يلزم انتفاء الفائدة أن لو انحصرت في نفي حكم المنطوق على المسكوت وهو غير مسلم ولعله كان بخصوص سؤال سائل عنه دون غيره أو لمعنى آخر.
السادس أنا سلمنا أن المراد لا يدركه المبصرون بأبصارهم لكنه لا يفيد المطلوب أيضًا لجواز حصول إدراك الله تعالى بحاسة سادسة مغايرة لهذه الحواس كما يدعيه ضرار بن عمرو الكوفي، فقد نقل عنه أنه كان يقول: إن الله تعالى لا يرى بالعين وإنما يرى بحاسة سادسة يخلقها سبحانه له يوم القيامة، واحتج عليه بهذه الآية فقال: إنها دلت على تخصيص نفي إدراك الله تعالى بالبصر وتخصيص الحكم بالشيء يدل على أن الحال في غيره بخلافه فوجب أن يكون إدراك الله تعالى بغير البصر جائزًا في الجملة، ولما ثبت أن سائر الحواس الموجودة الآن لا يصلح لذلك ثبت أنه تعالى يخلق يوم القيامة حاسة سادسة بها تحصل رؤية الله تعالى وإدراكه اه.
ومن الناس من استدل بالآية على أن الإطلاع على كنه ذات الله تعالى ممتنع بناء على أن الأبصار جمع بصر عنى البصيرة وقرره كما قرر المعتزلة استدلالهم على امتناع الرؤية وفيه ما فيه.
نعم احتمال حمل البصر على البصيرة مما يوهن استدلال المعتزلة كما لا يخفى، ولهم في هذا المطلب أدلة أخرى نقلية سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على بعضها، وعقلية قد عقلها القوم في معاطن البطلان. ولعل النوبة تفضي إلى تسريح يعملات الأقلام في رياض تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى الملك العلام فمنه التوفيق لإدراك أبصار الأفهام مخفيات الأسرار وفلق صباح الحق بسواطع الأنوار.
{وَهُوَ يُدْرِكُ الابصار} أي يراها على وجه الإحاطة أو يحيط بها علمًا أو علما ورؤية كما قيل، وذكر الآمدي أن البصريين من المعتزلة ذهبوا إلى أن إدراك الله تعالى عنى الرؤية وأن البغداديين منهم ذهبوا إلى أنها عنى العلم لا عنى الرؤية، والمراد بالأبصار هنا على ما قرره بعض المحققين النور الذي تدرك به المبصرات فإنه لا يدركه مدرك بخلاف جرم العين فإنه يرى. ولعل هذا هو السر في الإظهار في مقام الإضمار، وجوز أن يقال المراد أن كل عين لا ترى نفسها: {وَهُوَ اللطيف الخبير} فيدرك سبحانه ما لا يدركه الأبصار، فالجملة سيقت لوصفه تعالى بما يتضمن تعليل قوله سبحانه: «وهو» إلخ. وجوز غير واحد أن يكون ما ذكر من باب اللف فإن اللطيف يناسب كونه غير مدرك بالفتح والخبير يناسب كونه تعالى مدركًا بالكسر، واللطيف مستعار من مقابل الكثيف لما لا يدرك بالحاسة من الشيء الخفي. ويفهم من ظاهر كلام البهائي كما قال الشهاب أنه لا استعارة في ذلك حيث قال في «شرح أسماء الله تعالى الحسنى»: اللطيف الذي يعامل عباده باللطف وألطافه جل شأنه لا تتناهى ظواهرها وبواطنها في الأولى والأخرى {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [النحل: 81] وقيل: اللطيف العليم بالغوامض والدقائق من المعاني والحقائق ولذا يقال للحاذق في صنعته لطيف. ويحتمل أن يكون من اللطافة المقابلة للكثافة وهو وإن كان في ظاهر الاستعمال من أوصاف الجسم لكن اللطافة المطلقة لا توجد في الجسم لأن الجسمية يلزمها الكثافة وإنما لطافتها بالإضافة، فاللطافة المطلقة لا يبعد أن يوصف بها النور المطلق الذي يجل عن إدراك البصائر فضلًا عن الأبصار ويعز عن شعور الأسرار فضلًا عن الأفكار ويتعالى عن مشابهة الصور والأمثال وينزه عن حلول الألوان والأشكال، فإن كمال اللطافة إنما يكون لمن هذا شأنه ووصف الغير بها لا يكون على الإطلاق بل بالقياس إلى ما هو دونه في اللطافة ويوصف إليه بالكثافة انتهى. والمرجح أن إطلاق اللطيف عنى مقابل الكثيف على ما ينساق إلى الذهن على الله تعالى ليس بحقيقة أصلا كما لا يخفى.