فصل: تفسير الآية رقم (109):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (109):

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)}
{وَأَقْسَمُواْ} أي المشركون {بالله جَهْدَ أيمانهم} أي جاهدين فيها. فجهد مصدر في موضع الحال. وجوز أن يكون منصوبًا بنزع الخافض أي أقسموا بجهد أيمانهم أي أوكدها. وهو بفتح الجيم وضمها في الأصل عنى الطاقة والمشقة، وقيل: بالفتح المشقة وبالضم الوسع، وقيل: ما يجهد الإنسان، والمعنى هنا على ما قال الراغب أنهم حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم.
{لَئِن جَاءتْهُمْ ءايَةٌ} من مقترحاتهم أو من جنس الآيات. ورجحه بعض المحققين بأنه الأنسب بحالهم في المكابرة والعناد وترامي أمرهم في العتو والفساد حيث كانوا لا يعدون ما يشاهدونه من المعجزات الباهرة من جنس الآيات فاقترحوا غيرها {لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} وما كان مرمى غرضهم إلا التحكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب المعجزة وعدم الاعتداد بما شاهدوا منه عليه الصلاة والسلام من البينات. والباء صلة الإيمان، والمراد من الإيمان بها التصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم. وجعلها للسببية على معنى ليؤمنن بك بسببها خلاف الظاهر.
{قُلْ إِنَّمَا الايات} أي كلها فيدخل ما اقترحوه فيها دخولًا أوليًا {عَندَ الله} أي أمرها في حكمه وقضائه خاصة يتصرف فيها حسب مشيئته المبنية على الحكم البالغة لا تتعلق بها قدرة أحد ولا مشيئته استقلالًا ولا اشتراكًا بوجه من الوجوه حتى يمكنني أن أتصدى لإنزالها بالاستدعاء؛ وهذا كما ترى سد لباب الاقتراح. وقيل: إن المعنى إنما الآيات عند الله لا عندي فكيف أجيبكم إليها أو ءاتيكم بها أو المعنى هو القادر عليها لا أنا حتى ءاتيكم بها. واعترض ذلك شيخ الإسلام بعد أن اختار ما قدمناه بأنه لا مناسبة له بالمقام كيف لا وليس مقترحهم مجيئها بغير قدرة الله تعالى فتدبر. روي أن قريشًا اقترحوا بعض ءايات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني فقالوا: نعم وأقسموا لئن فعلته لنؤمنن جميعًا فسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها طمعًا في إيمانهم فَهَمَّ عليه الصلاة والسلام بالدعاء فنزلت. وأخرج ابن جرير عن محمد القرظي قال: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى عليه السلام كان معه عصًا يضرب بها الحجر وأن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى وأن ثمود كانت لهم ناقة فأتنا ببعض تلك الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا: تحول لنا الصفا ذهبًا قال: فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين فقام رسول الله عليه الصلاة والسلام يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال إن شئت أصبح الصفا ذهبًا فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم فقال صلى الله عليه وسلم أتركهم حتى يتوب تائبهم فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى{يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111].
{وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} كلام مستأنف غير داخل تحت الأمر مسوق من جهته تعالى لبيان الحكمة فيما أشعر به الجواب السابق من عدم مجيء الآيات خوطب به المؤمنون كما قال الفراء وغيرهم إما خاصة بطريق التلوين لما كانوا راغبين في نزولها طمعًا في إسلامهم، وإما معه عليه الصلاة والسلام بطريق التعميم لما روي مما يدل على رغبته عليه الصلاة والسلام في ذلك أيضًا كالهم بالدعاء، وفيه بيان لأن أيمانهم فاجرة وإيمانهم في زوايا العدم وأن أجيبوا إلى ما سألوه. وجوز بعضهم دخوله تحت الأمر ولا وجه له إلا أن يقدر قل للكافرين: إنما الآيات عند الله وللمؤمنين وما يشعركم إلخ وهو تكلف لا داعي إليه. وعن مجاهد أن الخطاب للمشركين وهو داخل تحت الأمر وفيه التفات و{أَنَّهَا} إلخ عنده إخبار ابتدائي كما يدل عليه ما رواه عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ. وما استفهامية إنكارية على ما قاله غير واحد لا نافية لما يلزم عليه من بقاء الفعل بلا فاعل، وجعله ضمير الله تعالى تكلف أو غير مستقيم إلا على بعد، واستشكل بأن المشركين لما اقترحوا ءاية وكان المؤمنون يتمنون نزولها طمعًا في إسلامهم كان في ظنهم إيمانهم على تقدير النزول، فإذا أريد الإنكار عليهم فالمناسب إنكار الإيمان لا عدمه كأنهم قالوا: ربنا أنزل للمشركين ءاية فإنه لو نزلت يؤمنون، وحينئذ يقال في الإنكار: ما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون. ويتضح هذا ثال، وذلك أنه إذا قال لك القائل: أكرم فلانًا فإنه يكافئك وكنت تعلم منه عدم المكافاة فإنك إذا أنكرت على المشير بإكرامه قلت: وما يدريك أني إذا أكرمته يكافئني فأنكرت عليه إثبات المكافاة وأنت تعلم نفيها فإن قال لك: لا تكرمه فإنه لا يكافئك وأنت تعلم منه المكافاة وأردت الإنكار على المشير بحرمانه قلت: وما يدريك أنه لا يكافئني فأنكرت عليه عدم المكافاة وأنت تعلم ثبوتها.
والآية كما لا يخفى من قبيل المثال الأول فكان الظاهر حيث ظنوا أيمانهم ورغبوا فيه وعلم الله تعالى عدم وقوعه منهم ولو نزل عليهم الملائكة وكلمهم الموتى أن يقال: وما يشعركم أنهم إذا جاءت يؤمنون. وأجاب عنه بعضهم بأن هذا الاستفهام في معنى النفي وهو إخبار عنهم بعدم العلم لا إنكار عليهم، والمعنى أن الآيات عند الله تعالى ينزلها بحسب المصلحة، وقد علم سبحانه أنهم لا يؤمنون ولا تنجع فيهم الآيات وأنتم لا تدرون ما في الواقع وفي علم الله تعالى وهو أنهم لا يؤمنون فلذلك تتوقعون إيمانهم، والحاصل أن الاستفهام للإنكار وله معنيان لم ولا فإن كان عنى لم يقال ما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون بدون لا على معنى لم قلتم أنها إذا جاءت يؤمنون وتوقعتم ذلك؟ وإن كان عنى لا يقال ما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بإثبات لا على معنى لا تعلمون أنهم لا يؤمنون فلذا توقعتم إيمانهم ورغبتم في نزول آية لهم؛ وهذا الثاني هو المراد ويرجع إلى إقامة عذر المؤمنين في طلبهم ذلك ورغبتهم فيه.
وأجاب آخرون بأن {لا} زائدة كما في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدُواْ} [الأعراف: 12] و{حَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهلكناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95] فإنه أريد تسجد ويرجعون بدون لا. وعن الخليل أن أن عنى لعل كما في قولهم: ائت السوق أنك تشتري لحمًا؛ وقول امرئ القيس:
عرجوا على الطلل المحيل لأننا ** نبكي الديار كما بكى ابن خذام

وقول الآخر هل أنتم عائجون بنا لأنا ** نرى العرصات أو أثر الخيام

ويؤيده أن يشعركم ويدريكم عنى. وكثيرًا ما تأتي لعل بعد فعل الدراية نحو {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} [عبس: 3] وأن في مصحف أبي رضي الله تعالى عنه {وَمَا أَدْرَاكَ} والكلام على هذا قد تم قبل {يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا} والمفعول الثاني ليشعركم محذوف والجملة استئناف لتعليل الإنكار وتقديره أي شيء يعلمكم حالهم وما سيكون عند مجيء ذلك لعلها إذا جاءت لا يؤمنون فما لكم تتمنون مجيئها فإن تمنيه إنما يليق بما إذا كان إيمانهم بها متحقق الوقوع عند مجيئها لا مرجو العدم. ومن الناس من زعم أن {أَنَّهَا} إلخ جواب قسم محذوف بناء على أن أن في جواب القسم يجوز فتحها ولا يخفي بعده.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب {أَنَّهَا} بالكسر على الإستئناف حسا سيق مع زيادة تحقيق لعدم إيمانهم. قال في الكشف: وهو على جواب سؤال مقدر على ما ذكره الشيخ ابن الحاجب كأنه قيل لم وبخوا؟ فقيل لأنها إذا جاءت لا يؤمنون. ولك أن تبنيه على قوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} أي بما يكون منهم فإنه إبراز في معرض المحتمل كأنه قد سئل عنه سؤال شاك ثم علل بأنها إذا جاءت جزمًا بالطرف المحالف وبيانًا لكون الاستفهام غير جار على الحقيقة. وفيه إنكار لتصديق المؤمنين على وجه يتضمن إنكار صدق المشركين في المقسم عليه. وهذا نوع من السحر البياني لطيف المسلك انتهى.
وقرأ ابن عامر وحمزة {لاَ تُؤْمِنُونَ} بالفوقانية والخطاب حينئذ في الآية للمشركين بلا خلاف. وقرئ {وَمَا ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فمرجع الإنكار إقدام المشركين على الحلف المذكور مع جهلهم بحال قلوبهم عند مجيء ذلك وبكونها حينئذ كما هي الآن. وقرئ {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} بسكون خالص واختلاس. وضمير {بِهَا} على سائر القراءات راجع للآية لا للآيات لأن عدم إيمانهم عند مجيء ما اقترحوه أبلغ في الذم كما أن استعمال إذا مع الماضي دون أن مع المستقبل لزيادة التشنيع عليهم. وزعم بعضهم أن عدوه للآيات أولى لقربه مع ما فيه من زيادة المبالغة في بعدهم عن الإيمان وبلوغهم في العناد غاية الإمكان.

.تفسير الآية رقم (110):

{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)}
{وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم} عطف على {لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109] داخل معه في حكم {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} [الأنعام: 109] مقيد بما قيد به أي وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا يدركونه وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه. وهذا على ما قال الإمام تقرير لما في الآية الأولى من أنهم لا يؤمنون. وذكر شيخ الإسلام أن هذا التقليب ليس مع توجه الأفئدة والأبصار إلى الحق واستعدادها له بل لكما نبوها عنه وإعراضها بالكلية ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم إشعارًا بأصالتهم في الكفر وحسمًا لتوهم أن عدم إيمانهم ناشيء من تقليبه تعالى مشاعرهم بطريق الإجبار. وتحقيقه على ما ذكره شيخ مشايخنا الكوراني أنه سبحانه حيث علم في الأزل سوء استعدادهم المخبوء في ماهياتهم أفاض عليهم ما يقتضيه وفعل بهم ما سألوه بلسان الاستعداد بعد أن رغبهم ورهبهم وأقام الحجة وأوضح المحجة ولله تعالى الحجة البالغة وما ظلمهم الله سبحانه ولكن كانوا هم الظالمين.
{كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ} أي بما جاء من الآيات بالله تعالى. وقيل: بالقرآن. وقيل: حمد صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر لذلك ذكر. وقيل: بالتقليب وهو كما ترى. {أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي عند ورود الآيات السابقة. والكاف في موضع النعت لمصدر محذوف منصوب بـِ {لا يؤمنون} [الأنعام: 109]. وما مصدرية أي لا يؤمنون بل يكفرون كفرًا كائنًا ككفرهم أول مرة. وتوسيط تقليب الأفئدة والأبصار لأنه من متممات عدم إيمانهم. وقال أبو البقاء: أن الكاف نعت لمصدر محذوف أي تقليبًا ككفرهم أي عقوبة مساوية لمعصيتهم أول مرة ولا يخفى ما فيه. والآية ظاهرة في أن الإيمان والكفر بقضاء الله تعالى وقدره.
وأجاب الكعبي عنها بأن المراد من {يُؤْمِنُونَ وَنُقَلّبُ} إلخ أنا لا نفعل بهم ما نفعله بالمؤمنين من الفوائد والألطاف من حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحد بسبب كفرهم. والقاضي بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الآيات التي ظهرت فلا نجدهم يؤمنون بها آخرًا كما لم يؤمنوا بها أولًا. والجبائي بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في جهنم على لهب النار وجمرها لنعذبهم كما لم يؤمنوا به أول مرة في الدنيا. والكل كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وهكذا غالب كلام المعتزلة.
{وَنَذَرُهُمْ} أي ندعهم {فِي طغيانهم} أي تجاوزهم الحد في العصيان {يَعْمَهُونَ} أي يترددون متحيرين وهذا عطف على {لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109] قيد بما قيد به أيضًا مبين لما هو المراد بتقليب الأفئدة والأبصار معرب عن حقيقته بأنه ليس على ظاهره. والجار متعلق بما عنده. وجملة {يَعْمَهُونَ} في موضع الحال من الضمير المنصوب في {نذرهم}. وقرئ {يقلب...ويذر} على الغيبة والضمير لله عز وجل.
وقرأ الأعمش {وتقلب} على البناء للمفعول وإسناده إلى أفئدتهم.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87] قال الجنيد قدس سره: أي أخلصانهم وآويناهم لحضرتنا ودللناهم للاكتفاء بنا عما سوانا {ذلك هُدَى الله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} وهم أهل السابقة الذين سألوه سبحانه الهداية بلسان الاستعداد الأزلي {وَلَوْ أَشْرَكُواْ} بالميل إلى السوى وهو شرك الكاملين كما أشار إليه سيدي عمر بن الفارض قدس سره بقوله:
ولو خطرت لي في سواك إرادة ** على خاطري سهوًا حكمت بردتي

{لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88] لعظم ما أتوا به {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء} وهو المحجوبون {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين} [الأنعام: 89] وهم العارفون بالله عز وجل الذين هم خزائن حقائق الإيمان. وفي الخبر «لا يزال طائفة من أمتي قائمين بأمر الله تعالى لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله سبحانه وهم على ذلك» {أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ} وهو آداب الشريعة والطريقة والحقيقة {اقتده} [الأنعام: 90] أمر له صلى الله عليه وسلم أن يتصف بجميع ما تفرق فيهم من ذلك الهدى وكان ذلك على ما قيل في منازل الوسائط، ولما كحل عيون أسراره بكحل الربوبية جعله مستقلًا بذاته مستقيمًا بحاله وأخرجه من حد الإرادة إلى حد المعرفة والاستقامة ولذا أمره عليه الصلاة والسلام بإسقاط الوسائط كما يشير إليه قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَىَّ مِن رَّبّى} [الأعراف: 203] مع قوله صلى الله عليه وسلم: «لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي». وقال بعض العارفين: ليس في هذا توسيط الوسائط لأنه أمر بالاقتداء بهداهم لا بهم. ونظيره {أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم} [النحل: 123] حيث لم يقل سبحانه أن أتبع إبراهيم {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عرفوه حق معرفته {إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شَيْء} [الأنعام: 91] أي لم يظهر من علمه وكلامه سبحانه على أحد شيئًا وذلك لزعمهم البعد من عباده جل شأنه وعدم إمكان ظهور بعض صفاته على مظهر بشري ولو عرفوا لما أنكروا ولا اعتقدوا أنه لا مظهر لكمال علمه وحكمته إلا الإنسان الكامل بل لو ارتفع الحول عن العين لما رأوا الواحد إثنين {وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ} لما فيه من أسرار القرب والوصال والتشويق إلى الحسن والجمال بل منه تجلى الحق لخلقه لو يعلمون. {مُّصَدّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} من التوراة والإنجيل لجمعه الظاهر والباطن على أتم وجه {وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى} وهي القلب {وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام: 92] من القوى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} كمن ادعى الكمال والوصول إلى التوحيد والخلاص عن كثرة صفات النفس وزعم أنه بالله عز وجل وأنه من أهل الإرشاد وهو ليس كذلك {أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْء} كمن سمى مفتريات وهمه وخياله ومخترعات عقله وفكره وحيا فيضًا من الروح القدسي فتنبأ لذلك {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ الله} كمن تفرعن وادعى الألوهية {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون} وهم هؤلاء الأصناف الثلاثة {فِى غَمَرَاتِ الموت} الطبيعي {والملئكة بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} بقبض أرواحهم كالمتقاضي الملظ يقولون {أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ} تغليظًا وتعنيفًا عليهم {اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون} [الأنعام: 93] والصغار لوجود صفات نفوسكم وهيآتها المظلمة وتكاثف حجاب أنانيتكم وتفرعنكم {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى} أي منفردين مجردين عن كل شيء بالاستغراق في عين جميع الذات {كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94] عند أخذ الميثاق.
{إِنَّ الله فَالِقُ الحب} أي حبة القلب بنور الروح عن العلوم والمعارف {والنوى} أي نوى النفس بنور القلب عن الأخلاق والمكارم أو فالق حبة المحبة الأزلية في قلوب المحبين والصديقين ونوى شجر أنوار الأزل في فؤاد العارفين فتثمر بالأعمال الزكية والمقامات الشريفة والحالات الرفيعة {يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت} أي العالم به من الجاهل {مُخْرَجَ الميت مِنَ الحى} [الأنعام: 95] أي الجاهل به من العالم أو يخرج حي القلب عن ميت النفس تارة باستيلاء نور الروح عليها ومخرج ميت النفس عن حي القلب أخرى بإقباله عليها واستيلاء الهوى وصفات النفس عليه {فَالِقُ الإصباح} أي مظهر أنوار صفاته على صفحات آفاق مخلوقاته أو شاق ظلمة الإصباح بنور الإصباح وذلك لأن بحر العدم كان مملوءًا من الظلمة فشقه بأن أجرى فيه جدولًا من نوره حتى بلغ السيل الزبى وقال الإمام «فالق ظلمة العدم بصباح التكوين والإيجاد وفالق ظلمة الجمادية بصباح العقل والحياة والعقل والرشاد وفالق ظلمة الجهالة بصباح الإدراك وفالق ظلمة العالم الجسماني بتخليص النفس القدسية إلى صبحة عالم الأفلاك وفالق ظلمة الإشتغال بعالم الممكنات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبر المحدثات والمبدعات»، وقال بعض العارفين المعنى فالق ظلمة صفات النفس عن القلب بإصباح نور شمس الروح وإشراقه عليها {وَجَعَلَ اليل} أي ليل الحيرة في الذات البحت {سَكَنًا} تسكن إليه أرواح العاشقين كما قال قائلهم:
زدني بفرط الحب فيك تحيرا ** وارحم حشا بلظى هواك تسعرا

أو جاعل ظلمة النفس سكن القلب يسكن إليها أحيانًا للارتفاق والاسترواح أو سكنا تسكن فيه القوى البدنية وتستقر عن الاضطراب كما قيل {والشمس} أي شمس تجلي الصفات {والقمر} أي قمر تجلي الأفعال {حُسْبَانًا} [الأنعام: 96] أي علمي حساب الأحوال حيث يعتبر بهما أو شمس الروح وقمر القلب محسوبين في عداد الموجودات الباقية الشريفة معتدًا بهما. أو علمي حساب الأوقات والأحوال {وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم} أي المرشدين أو نجوم الحواس {لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظلمات البر} وهو علم الآداب {والبحر} [الأنعام: 97] وهو علم الحقائق أو المعنى لتهتدوا بها في ظلمات بر الأجساد إلى مصالح المعاش وبحر العلوم باكتسابها بها {وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم} أي أظهركم {مّن نَّفْسٍ واحدة} وهي النفس الكلية {فَمُسْتَقَرٌّ} في أرض البدن حال الظهور {وَمُسْتَوْدَعٌ} [الأنعام: 98] في عين جمع الذات {وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} أي من سماء الروح ماء العلم {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَيْء} أي كل صنف من الأخلاق والفضائل {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ} أي النبات {خُضْرًا} زينة النفس وبهجة لها {نُّخْرِجُ مِنْهُ} أي الخضر {حَبًّا مُّتَرَاكِبًا} أي أعمالا مترتبة شريفة ونيات صادقة يتقوى القلب بها {وَمِنَ النخل} أي نخل العقل {مِن طَلْعِهَا} أي من ظهور تعلقها {قنوان} معارف وحقائق {دَانِيَةٌ} قريبة التناول لظهورها بنور الروح كأنها بديهية {وجنات مّنْ أعناب} وهي أعناب الأحوال والأذواق ومنها تعتصر سلافة المحبة.
وفي سكرة منها ولو عمر ساعة ** ترى الدهر عبدًا طائعًا ولك الحكم

{والزيتون} أي زيتون التفكر {والرمان} أي رمان الهمم الشريفة والعزائم النفيسة {مُشْتَبِهًا} كما في أفراد نوع واحد {وَغَيْرَ متشابه} كنوعين وفردين منهما مثلًا {انظروا إلى ثَمَرَةٍ إِذَا أَثْمَرَ} أي راعوه بالمراقبة عند السلوك وبدأ الحال {وَيَنْعِهِ} [الأنعام: 99] وهو كماله عند الوصول بالحضور {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الجن} أي جن الوهم والخيال حيث أطاعوهم وانقادوا لهم {وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ} افتروا {لَهُ بَنِينَ} من العقول: {وَبَنَاتُ} من النفوس يعتقدون أنها لتجردها مؤثرة مثله {بِغَيْرِ عِلْمٍ} منهم أنها أسماؤه وصفاته لا تؤثر إلا به جل شأنه {سبحانه وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100] من تقيده بما قيدوه به جل شأنه {لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار} قال الشيخ الأكبر قدس سره في الباب الحادي والعشرين وأربعمائة: يعني من كل عين من أعين الوجوه وأعين القلوب فإن القلوب ما ترى إلا بالبصر وأعين الوجوه لا ترى إلا بالبصر فالبصر حيث كان به يقع الإدراك فيسمى البصر في العقل عين البصيرة ويسمى في الظاهر بصر العين والعين في الظاهر محل للبصر والبصيرة في الباطن محل للعين الذي هو بصر في عين الوجه فاختلف الاسم عليه وما اختلف هو في نفسه فكما لا تدركه العيون بأبصارها لا تدركه البصائر بأعينها، وورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم» فاشتركنا في الطلب مع الملأ الأعلى واختلفنا في الكيفية فمنا من يطلبه بفكره والملأ الأعلى له العقل وما له الفكر، ومنا من يطلبه به وليس في الملأ الأعلى من يطلبه به لأن الكامل منا هو على الصورة الإلهية التي خلقه الله تعالى عليها فلهذا يصح ممن هذه صفته أنه يطلب الله تعالى به ومن طلبه به وصل إليه فإنه لم يصل إليه غيره وأن الكامل منا له نافلة تزيد على فرائضه إذا تقرب العبد بها إلى ربه أحبه فإذا أحبه كان سمعه وبصره فإذا كان الحق بصر مثل هذا العبد رآه وأدركه ببصره لأن بصره الحق فما أدركه إلا به لا بنفسه وما ثم ملك يتقرب إلى الله تعالى بنافلة بل هم في الفرائض وفرائضهم قد استغرقت أنفاسهم فلا نفل عندهم فليس لهم مقام ينتج أن يكون الحق بصرهم حتى يدركوه به فهم عبيد اضطرار ونحن عبيد اضطرار من فرائضنا وعبيد اختيار من نوافلنا إلى آخر ما قال، وهو صريح في أن بعض الأبصار تدركه لكن من حيثية رفع الغيرية.
وقال في الباب الرابع عشر وأربعمائة بعد أن أنشد:
من رأى الحق كفاحًا علنا ** إنما أبصره خلف حجاب

وهو لا يعرفه وهو به ** إن هذا لهو الأمر العجاب

كل راء لا يرى غير الذي ** هو فيه من نعيم وعذاب

صورة الرائي تجلت عنده ** وهو عين الراء بل عين الحجاب

فإذا رآه سبحانه الرائي كفاحًا فما يراه إلا حتى يكون الحق جل جلاله بصره فيكون هو الرائي نفسه ببصره في صورة عبده فأعطته الصورة المكافحة إذا كانت الحاملة للبصر ولجيمع القوى إلخ. وقال في الباب الحادي وأربعمائة بعد أن أنشد:
قد استوى الميت والحي ** في كونهم ما عندهم شي

مني فلا نور ولا ظلمة ** فيهم ولا ظل ولا في

رؤيتهم لي معدومة ** فنشرهم في كونهم صلى

وفهمهم إن كان معناهم ** عنه إذا حققته غي

إن كل مرئي لا يرى الرائي إذا رآه منه إلا قدر منزلته ورتبته فما رآه وما رأى إلا نفسه ولولا ذلك ما تفاضلت الرؤية في الرائين إذ لو كان هو المرئي ما اختلفوا لكن لما كان هو سبحانه مجلي رؤيتهم أنفسهم لذلك وصفوه بأنه جل شأنه يتجلى ولكن شغل الرائي برؤية نفسه في مجلى الحق حجبه عن رؤية الحق فلو لم تبد للرائي صورته أو صورة كون من الأكوان را كان يراه فما حجبنا عنه إلا رؤية نفوسنا فيه فلو زلنا عنا ما رأيناه لأنه ما كان يبقى بزوالنا من يراه وإن نحن لم نزل فما نرى إلا نفوسنا فيه وصورنا وقدرنا ومنزلتنا فعلى كل حال ما رأيناه وقد نتوسع فنقول: قد رأيناه ونصدق كما أنه لو قلنا رأينا الإنسان صدقنا في أن نقول رأينا من مضى من الناس ومن بقي ومن في زماننا من كونهم إنسانًا لا من حيث شخصية كل إنسان ولما كان العالم أجمعه وآحاده على صورة حق ورأينا الحق فقد رأيناه وصدقنا وإذا نظرنا في عين التمييز في عين عين لم نصدق إلى آخر ما قال.
وفي ذلك تحقيق نفيس لهذا المطلب، ومنه يعلم ما في قول بعضهم {لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار} لغاية ظهوره سبحانه: {وَهُوَ اللطيف} إذ لا ألطف كما قال الشيخ الأكبر قدس سره من هوية تكون عين بصر العبد {الخبير} [الأنعام: 103] أي العليم خبرة أنه بصر العبد {والله مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ} [البروج: 20] و{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السميع البصير} [الشورى: 11] وعن الجنيد قدس سره اللطيف من نور قلبك بالهدى وربى جسمك بالغذاء وجعل لك الولاية بالبلوى. ويحرسك وأنت في لظى. ويدخلك جنة المأوى. وقال غيره: اللطيف إن دعوته لباك وإن قصدته آواك، وإن أحببته أدناك وإن أطعته كافك. وان أغضبته عافاك وإن أعرضت عنه دعاك. وإن أقبلت إليه هداك وإن عصيته راعاك. وهو كلام ما ألطفه {قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ} وهي صور تجليات صفاته. وقال بعض العارفين: إنها كلماته التي تجلى منها لذوي الحقائق وبرزت من تحت سرادقاتها أنوار نعوته الأزلية {فَمَنْ أَبْصَرَ} واهتدى {فَلِنَفْسِهِ} ذلك الإبصار أي أن ثمرته تعود إليه {وَمَنْ عَمِىَ} واحتجب عن الهدى {فَعَلَيْهَا} عماه واحتجابه {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104] بل الله تعالى حفيظ عليكم لأنكم وسائر شؤونكم به موجودون {وكذلك نُصَرّفُ الايات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 105] قال ابن عطاء أي حقيقة البيان وهو الوقوف معه حيث ما وقف والجرى معه حيث ما جرى لا يتقدم بغلبته ولا يتخلف عنه لعجزه، وقال آخر: المعنى لقوم يعرفون قدري ويفهمون خطابي لا من لا يعرف مكان خطابي ومرادي من كلامي {اتبع مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} قيل: هو إشارة إلى وحي خاص به صلى الله عليه وسلم لا يتحمله غيره أو إشارة إلى الوحي بالتوحيد ولذا وصف سبحانه نفسه بقوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} ثم قال جل شأنه: {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} [الأنعام: 106] المحجوبين بالكثرة عن الوحدة {وَلَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكُواْ} [الأنعام: 107] بل شاء سبحانه إشراكهم لأنه المعلوم له جل شأنه أزلا دون إيمانهم ولا يشاء إلا ما يعلمه دون ما لا يعلمه من النفي الصرف {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله} بل أرشدوهم إلى الحق بالتي هي أحسن {فَيَسُبُّواْ الله عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} بأن يسبوكم وأنتم أعظم مظاهره {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108] إذ هو الذي طلبوه منا بألسنة استعدادهم الأزلي ومن شأننا أن لا نرد طالبًا {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لَئِن جَاءتْهُمْ ءايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} أي أنهم طلبوا خوارق العادات وأعرضوا عن الحجج البينات لاحتجابهم بالحس والمحسوس {قُلْ إِنَّمَا الايات عِندَ الله قُلْ إِنَّمَا الايات عِندَ الله وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109] لسبق الشقاء عليهم {وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم} لاقتضاء استعدادهم ذلك {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} حين أعرضوا عن الحجج البينات أو في الأزل {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} الذي هو لهم قتضى استعدادهم {يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110] يترددون متحيرين لا يدرون وجه الرشاد {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر: 33].