فصل: تفسير الآية رقم (122):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (122):

{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)}
{أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه} تمثيل مسوق لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين إثر تحذيرهم عنها بالإشارة إلى أنهم مستضيئون بأنوار الوحي الإلهي والمشركون غارقون في ظلمات الكفر والطغيان فكيف يعقل طاعتهم له، فالآية كما قال الطيبي متصلة بقوله سبحانه، {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} [الأنعام: 121] والهمزة للإنكار. والواو كما قال غير واحد لعطف الجملة الاسمية على مثلها الذي يدل عليه الكلام أي أأنتم مثلهم ومن كان ميتًا فاعطيناه الحياة {وَجَعَلْنَا لَهُ} مع ذلك من الخارج {نُورًا} عظيمًا {يَمْشِي بِهِ} أي بسببه {فِى الناس} أي فيما بينهما آمنا من جهتهم، والجملة إما استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل: فماذا يصنع بذلك النور؟ فقيل: يمشي إلخ أو صفة له. ومن اسم موصول مبتدأ وما بعده صلته والخبر متعلق الجار والمجرور في قوله تعالى: {كَمَن مَّثَلُهُ} أي صفته العجيبة. ومن فيه اسم موصول أيضًا و{مّثْلِهِ} مبتدأ.
وقوله سبحانه: {فِى الظلمات} خبر هو محذوف. وقوله سبحانه: {لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا} في موضع الحال من المستكن في الظرف، وهذه الجملة خبر المبتدأ أعني مثله على سبيل الحكاية عنى إذا وصف يقال له ذلك، وجملة {مّثْلِهِ} مع خبره صلة الموصول. وإن شئت جعلت من في الموضعين نكرة موصوفة ولم يجوز أن يكون {فِى الظلمات} خبرًا عن {مّثْلِهِ} لأن الظلمات ليس ظرفًا للمثل. وظاهر كلام بعضهم كأبي البقاء أن {فِى الظلمات} هو الخبر وليس هناك هو مقدرًا، ولا يلزم كما نص عليه بعض المحققين حديث الظرفية لأن المراد أن مثله هو كونه في الظلمات والمقصود الحكاية؛ نعم ما ذكر أولًا أولى لأن خبر {مّثْلِهِ} لا يكون إلا جملة تامة والظرف بغير فاعل ظاهر لا يؤدي مؤدى ذلك. وجوز كون جملة {لَيْسَ بِخَارِجٍ} حالًا من الهاء في {مّثْلِهِ} ومنعه أبو البقاء للفصل، قيل: ولضعف مجيء الحال من المضاف إليه وقرأ نافع ويعقوب {مَيْتًا} بالتشديد وهو أصل للمخفف والمحذوف من اليائين الثانية المنقلبة عن الواو أعلت بالحذف كما أعلت بالقلب ولا فرق بينهما عند الجمهور.
«ثم إن هذا الأخير كما قال شيخ الإسلام مثل أريد به من بقي في الضلالة بحيث لا يفارقها أصلًا كما أن الأول مثل أريد به من خلقه الله تعالى على فطرة الإسلام وهداه بالآيات البينات إلى طريق الحق يسلكه كيف شاء لكن لا على أن يدل على كل واحد من هذه المعاني بما يليق به من الألفاظ الواردة في المثلين بواسطة تشبيهه بما يناسبه من معانيها فإن ألفاظ المثل باقية على معانيها الأصلية بل على أنه قد انتزعت من الأمور المتعددة المعتبرة في كل واحد من جانب المثلين هيئة على حدة ومن الأمور المتعددة المذكورة في كل واحد من جانب المثلين هيئة على حدة فشبهت بهما الأولتان ونزلتا منزلتهما فاستعمل فيهما ما يدل على الأخيرتين بضرب من التجوز» إلى آخر ما قال، ونص القطب الرازي على أنهما تمثيلان لا استعارتان، ورد كما قال الشهاب بأن الظاهر بأن من كان ميتًا ومن مثله في الظلمات من قبيل الاستعارة التمثيلية إذ لا ذكر للمشبه صريحًا ولا دلالة بحيث ينافي الاستعارة والاستعارة الأولى بجملتها مشبهة والثانية مشبه به وهذا كما تقول في الاستعارة الإفرادية أيكون الأسد كالثعلب؟ أي الشجاع كالجبان وهو من بديع المعاني الذي ينبغي أن يتنبه له ويحفظ.
والتفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالميت الكافر الضال وبالإحياء الهداية وبالنور القرآن وبالظلمات الكفر والضلالة، والآية على ما أخرج أبو الشيخ عنه نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو المراد بمن أحياه الله تعالى وهداه، وأبي جهل بن هشام لعنه الله تعالى وهو المراد بمن مثله في الظلمات ليس بخارج، وروي عن زيد بن أسلم مثل ذلك.
وفي رواية عن ابن عباس أنها في حمزة وأبي جهل، وعن عكرمة أنها في عمار بن ياسر، وأبي جهل. وأيما كان فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيدخل في ذلك كل من إنقاد لأمر الله تعالى ومن بقى على ضلاله وعتوه {كذلك} إشارة إلى التزيين المذكور على طرز ما قرر في أمثاله أو إشارة إلى إحياء الشياطين إلى أوليائهم أو إلى تزيين الايمان للمؤمنين {زُيّنَ} من جهته تعالى خلقا أو من جهة الشياطين وسوسة {للكافرين} كأبي جهل وأضرابه {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي مااستمروا على عمله من فنون الكفر والمعاصي التي من جملتها ما حكى عنهم من القبائح.

.تفسير الآية رقم (123):

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)}
{وكذلك} قيل أي كما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها {جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ} من سائر القرى {أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} أو كما جعلنا أعمال أهل مكة مزينة لهم جعلنا في كل قرية ألخ، وإلى الاحتمالين ذهب الامام الرازي. وجعل غير واحد جعل عنى صير المتعدية لمفعولين. واختلف في تعيينهما فقيل: {أكابر} مفعول أول و{مُجْرِمِيهَا} بدل منه، وقيل: {أكابر} مفعول ثان و{مُجْرِمِيهَا} مفعول أول لأنها معرفة فيتعين أنه المبتدأ بحسب الأصل، والتقدير جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر فيتعلق الجار والمجرور بالفعل.
واعترض أبو حيان كون {مُجْرِمِيهَا} بدلا من {أكابر} أو مفعول لا بأنه خطأ وذهول عن قاعدة نحوية وهي أن أفعل التفضيل يلزم أفراده وتذكيره إذا كان بمن الظاهر أو مقدره أو مضافا إلى نكرة سواء كان لمفرد مذكر أو لغيره فإن طابق ما هو له تأنيثا وجمعا وتثنيه لزمه أحد الأمرين إما الألف واللام أو الاضافه إلى معرفة و{أكابر} في التخريجين باق على الجمعية وهو غير معرف بأل ولا مضاف لمعرفة وذلك لا يجوز. وتعقبه الشهاب فقال: إنه غير وارد لأن أكابر وأصاغر أجرى مجرى الأسماء لكونه عنى الرؤساء كما نص عليه راغب وما ذكره إنما هو إذا بقى على معناه الأصلي. ويؤيده قول ابن عطية: انه يقال أكابر كما يقال أحمر وأحامرة كما قال:
ان الأحامرة الثلاث تعولت

وإن رده أبو حيان بأنه لم يعلم أن أحدًا من أهل اللغة والنحو أجاز في جمع أفضل أفاضلة وفيه نظر. وأما الجواب بأنه على حذف المضاف المعرفة للعلم به أي أكابر الناس أو أكابر أهل القرية فلا يخفى ضعفه اه. وظاهر كلام الزمخشري أن الظرف لغو و{أكابر} المفعولين مضاف لمجرميها و{لِيَمْكُرُواْ} المفعول الثاني.
وجوز بعضهم كون جعل متعديًا لواحد على أن المراد بالجعل التمكين عنى الإقرار في المكان والإسكان فيه ومفعوله {أكابر مُجْرِمِيهَا} بالإضافة، ويفهم من كلام البعض أن احتمال الإضافة لا يجري إلا على تفسير جعلناهم كناهم ولا يخلو ذلك عن دغدغة. وقال العلامة الثاني بعد سرد عدة من الأقوال: والذي يقتضيه النظر الصائب أن {فِي كُلّ قَرْيَةٍ} لغو و{أكابر مُجْرِمِيهَا} مفعول أول و{لِيَمْكُرُواْ} هو الثاني؛ ولا يخفى حسنه بيد أنه مبني على جعل الإشارة لأحد الأمرين اللذين أشير فيما سبق إليهما. وناقش في ذلك شيخ الإسلام وادعى أن الأقرب جعل المشار إليه الكفرة المعهودين باعتبار اتصافهم بصفاتهم والإفراد باعتبار الفريق أو المذكور، ومحل الكاف النصب على أنه المفعول الثاني لجعلنا قدم عليه لإفادة التخصيص كما في قوله سبحانه: {كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ} [النساء: 94] والأول: {أكابر مُجْرِمِيهَا}، والظرف لغو أي ومثل أولئك الكفرة الذين هم صناديد مكة ومجرموها جعلنا في كل قرية أكابرها المجرمين أي جعلناهم متصفين بصفات المذكورين مزينًا لهم أعمالهم مصرين على الباطل مجادلين به الحق ليمكروا فيها أي ليفعلوا المكر فيها اه. ولا يخفى بعده. وتخصيص الأكابر لأنهم أقوى على استتباع الناس والمكر بهم. وقرئ {أكابر مُجْرِمِيهَا} وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله سبحانه: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ} اعتراض على سبيل الوعد له عليه الصلاة والسلام والوعيد للكفرة الماكرين أي وما يحيق غائلة مكرهم إلا بهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} حال من ضمير {يَمْكُرُونَ} أي إنما يمكرون بأنفسهم والحال أنهم ما يشعرون بذلك أصلًا بل يزعمون أنهم يمكرون بغيرهم.

.تفسير الآية رقم (124):

{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بما كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)}
{وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ} رجوع إلى بيان حال مجرمي أهل مكة بعدما بين بطريق التسلية حال غيرهم فإن العظيمة المنقولة إنما صدرت عنهم لا عن سائر المجرمين أي وإذا جاءتهم آية بواسطة الرسول عليه الصلاة والسلام. {قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ الله} قال شيخ الإسلام: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل عليه السلام فيخبرنا أن محمدًا عليه الصلاة والسلام صادق كما قالوا {أَوْ تَأْتِىَ بالله والملئكة قَبِيلًا} [الإسراء: 92]. وعن الحسن البصري مثله، وهذا كما ترى صريح في أن ما علق بإيتاء ما أوتي الرسل عليهم السلام هو إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وا أنزل إليه إيمانًا حقيقيًا كما هو المتبادر منه عند الإطلاق خلا أنه يستدعي أن يحمل ما أوتي رسل الله على مطلق الوحي ومخاطبة جبريل عليه السلام في الجملة وأن يصرف الرسالة في قوله سبحانه: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} عن ظاهرها وتحمل على رسالة جبريل عليه السلام بالوجه المذكور، ويراد بجعلها تبليغها إلى المرسل إليه لا وضعها في موضعها الذي هو الرسول ليتأتى كونه جوابًا عن اقتراحهم وردًا له بأن كون معنى الاقتراح لن نؤمن بكون تلك الآية نازلة من عند الله تعالى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يأتينا جبريل بالذات عيانًا كما يأتي الرسل فيخبرنا بذلك، ومعنى الرد الله أعلم بمن يليق بإرسال جبريل عليه السلام إليه لأمر من الأمور إيذانًا بأنهم عزل من استحقاق ذلك التشريف، وفيه من التمحل ما لا يخفى.
وأنت تعلم أنه لا تمحل في حمل ما أوتي رسل الله على مطلق الوحي بل في العدول عن قول لن نؤمن حتى نجعل رسلًا إلى ما في النظم الكريم نوع تأييد لهذا الحمل، نعم صرف الرسالة عن ظاهرها وحمل الجعل على التبليغ لا يخلو عن بعد، ولعل الأمر فيه سهل. ويفهم من كلام البعض أن مطلق الوحي ومخاطبة جبريل عليه السلام في الجملة وإن لم يستدع تلك الرسالة إلا أنه قريب من منصبها فيصلح ما ذكر جوابًا بدون حاجة إلى الصرف والحمل المذكورين، وفيه ما فيه. وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل حين قال: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدًا حتى يأتينا وحي كما يأتيه. وقال الضحاك: سأل كل واحد من القوم أن يخص بالرسالة والوحي كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله سبحانه: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أَن يُؤْتِى *صُحُفًا مُّنَشَّرَةً}
[المدثر: 52] قال الشيخ: «ولا يخفى أن كل واحد من هذين القولين وإن كان مناسبًا للرد المذكور لكنه يقتضي أن يراد بالإيمان المعلق بإيتاء مثل ما أوتي الرسل مجرد تصديقهم برسالته صلى الله عليه وسلم في الجملة من غير شمول لكافة الناس، وأن يكون كلمة حتى في قول اللعين. حتى يأتينا وحي كما يأتيه إلخ غاية لعدم الرضى لا لعدم الاتباع فإنه مقرر على تقديري إتيان الوحي وعدمه، فالمعنى لن نؤمن برسالته أصلًا حتى نوتى نحن من الوحي والنبوة مثل ما أوتي رسل الله أو إيتاء مثل إيتاء رسل الله»، ولا يخفى أنه يجوز أن تكون حتى في كلام اللعين غاية للاتباع أيضًا على أن المراد به مجرد الموافقة وفعل مثل ما يفعله صلى الله عليه وسلم من توحيد الله تعالى وترك عبادة الأصنام لا قفو الأثر بالإئتمار، على أن اللعين إنما طلب إتيان وحي كما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك نصًا في طلب الاستقلال المنافي للاتباع.
ولعل مراده عليه اللعنة المشاركة في الشرف بحيث لا ينحط عنه عليه الصلاة والسلام بالكلية؛ ويمكن أن يدعي أيضًا أن هؤلاء الكفرة لكون كل منهم أبا جهل بما يقتضيه منصب الرسالة لا يأبون كون الرسولين يجوز أن يبعث أحدهما إلى الآخر ويلزم أحدهما امتثال أمر الآخر واتباعه وإن كان مشاركًا له في أصل الرسالة فليفهم، وقيل: إن الوليد بن المغيرة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كانت النبوة حقًا لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنًا وأكثر مالًا وولدًا فنزلت هذه الآية. وتعقبه الشيخ قدس سره «أنه لا تعلق له بكلامهم المردود إلا أن يراد بالإيمان المعلق بما ذكر مجرد الإيمان بكونه الآية النازلة وحيًا صادقًا لا الإيمان بكونها نازلة إليه عليه الصلاة والسلام فيكون المعنى وإذا جاءتهم آية نازلة إلى الرسول قالوا: لن نؤمن بنزولها من عند الله حتى يكون نزولها إلينا لا إليه لأنا نحن المستحقون دونه فإن ملخص معنى قوله: لو كانت النبوة حقًا إلخ لو كان ما تدعيه من النبوة حقًا لكنت أنا النبي لا أنت وإذا لم يكن الأمر كذلك فليست بحق، ومآله تعليق الايمان بحقية النبوة بكون نفسه نبيًا». وأنت تعلم أن إطلاق النبوة وقولهم {رُسُلُ الله} ليس بينهما كمال الملاءمة بحسب الظاهر كما لا يخفى، فالحق سقوط هذا القول عن درجة الإعتبار وإن روي مثله عن ان جريج لما في تطبيقه على ما في الآية من مزيد العناية. و{مِثْلَ مَا أُوتِىَ} نصب على أنه نعت لمصدر محذوف وما مصدرية أي حتى نؤتاها إيتاء مثل إيتاء رسل الله، وإضافة الإيتاء إليهم لأنهم منكرون لإيتائه عليه الصلاة والسلام، و{حَيْثُ} مفعول لفعل مقدر أي يعلم وقد خرجت عن الظرفية بناء على القول بتصرفها ولا عبرة بمن أنكره، والجملة بعدها كما نص عليه أبو علي في كتاب الشعر صفة لها، وإضافتها إلى ما بعدها حيث استعملت ظرفًا.
وقال الرضي: الأولى: أن حيث مضافة ولا مانع من إضافتها وهي اسم إلى الجملة، وبحث فيه، ولا يجوز فيها هنا عند الكثير أن تكون مجرورة بالإضافة لأن أفعل بعض ما يضاف إليه، ولا منصوبة بأفعل نصب الظرف لأن علمه تعالى غير مقيد بالظرف وممن نص على ذلك ابن الصائغ، وجوز بعضهم الثاني ورد ما علل به المنع منه بأن يجوز جعل تقييد علمه تعالى بالظرف مجازيًا باعتبار ما تعلق به بل ذلك أولى من إخراج حيث عن الظرفية فإنه إما نادر أو ممتنع.
وجملة {الله أَعْلَمُ} إلخ استئناف بياني، والمعنى أن منصب الرسالة ليس مما ينال بما يزعمونه من كثرة المال والولد وتعاضد الأسباب والعدد وإنما ينال بفضائل نفسانية ونفس قدسية أفاضها الله تعالى حض الكرم والجود على من كمل استعداده، ونص بعضهم على أنه تابع للاستعداد الذاتي وهو لا يستلزم الايجاب الذي يقوله الفلاسفة لأنه سبحانه إن شاء أعطى ذلك وإن شاء أمسك وإن استعد المحل، وما في «المواقف» من أنه لا يشترط في الإرسال الاستعداد الذاتي بل الله تعالى يختص برحمته من يشاء محمول على الاستعداد الذاتي الموجب، فقد جرت عادة الله تعالى أن يبعث من كل قوم أشرفهم وأطهرهم جبلة، وتمام البحث في موضعه. وقرأ أكثر السبعة {رسالاته} بالجمع، وعن بعضهم أنه يسن الوقف على {أُوتِىَ رُسُلُ الله} وأنه يستجاب الدعاء بين الآيتين ولم أر في ذلك ما يعول عليه.
{سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ} استئناف آخر ناع عليهم ما سيلقونه من فنون الشر بعدما نعى عليهم حرمانهم مما أملوه، والسين للتأكيد، ووضع الموصول موضع الضمير لمزيد التشنيع، وقيل: إشعارًا بعلية مضمون الصلة أي يصيبهم ألبتة مكان ما تمنوه وعلقوا به أطماعهم الفارغة من عز النبوة وشرف الرسالة {صَغَارٌ} أي ذل عظيم هوان بعد كبرهم {عَندَ الله} يوم القيامة. وقيل: من عند الله وعليه أكثر المفسرين كما قال الفراء، واعترضه بأنه لا يجوز في العربية أن تقول جئت عند زيد وأنت تريد من عند زيد، وقيل: المراد أن ذلك في ضمانه سبحانه أو ذخيرة لهم عنده وهو جار مجرى التهكم كما لا يخفى {وَعَذَابٌ شَدِيدٌ} في الآخرة أو في الدنيا {ا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} أي بسبب مكرهم المستمر أو قابلته، وحيث كان هذا من أعظم مواد إجرامهم صرح بسببه.