فصل: تفسير الآية رقم (142):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (142):

{وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)}
{وَمِنَ الانعام حَمُولَةً وَفَرْشًا} شروع في تفصيل حال الأنعام وإبطال ما تقوَّلوا على الله تعالى في شأنها بالتحريم والتحليل، وهو عطف على {جنات} [الأنعام: 141] والجهة الجامعة إباحة الانتفاع بهما. والجار والمجرور متعلق بأنشأ. والحمولة ما يحمل عليه لا واحد له كالركوبة. والمراد به ما يحمل الأثقال من الأنعام وبالفرش ما يفرش للذبح أو ما يفرش المنسوج من صوفه وشعره ووبره، وإلى الأول ذهب أبو مسلم وروي عن الربيع بن أنس. وإلى الثاني ذهب الجبائي، وقيل: الحمولة الكبار الصالحة للحمل والفرش الصغار الدانية من الأرض مثل الفرش المفروش عليها، وروي ذلك عن ابن مسعود لكنه رضي الله تعالى عنه خص ذلك بكبار الإبل وصغارها وهو إحدى روايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفي رواية أخرى الحمولة الإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه والفرش الغنم.
{كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} أي كلوا بعض ما رزقكم الله تعالى وهو الحلال فمن تبعيضية. والرزق شامل للحلال والحرام، والمعتزلة خصوه بالحلال كما تقدم أوائل الكتاب وادعوا أن هذه الآية أحد أدلتهم على ذلك وركبوا شكلًا منطقيًا أجزاؤه سهلة الحصول تقديره الحرام ليس أكول شرعًا وهو ظاهر والرزق ما يؤكل شرعًا لقوله تعالى: {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} [الأنعام: 142] فالحرام ليس برزق. وأنت تعلم أن هذا إنما يفيد لو صدق كل رزق مأكول شرعًا، والآية لا تدل عليه، أما إذا كانت تبعيضية فظاهر، وأما إن كانت ابتدائية فلأنه ليس فيها ما يدل على تناول الجميع، وقيل: معنى الآية استحلوا الأكل مما أعطاكم الله تعالى.
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ} في أمر التحليل والتحريم بتقليد أسلافكم المجازفين في ذلك من تلقاء أنفسهم المفترين على الله سبحانه: {خطوات الشيطان} أي طرقه فإن ذلك منهم بإغوائه واستتباعه إياهم {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي ظاهر العداوة فقد أخرج آدم عليه السلام من الجنة وقال: {لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلًا} [الإسراء: 62] أعاذنا الله تعالى والمسلمين من شره إنه الرحمن الرحيم.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} في عين الجمع المطلق قائلًا {كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} أي القوى النفسانية: {قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس} أي من الحواس والأعضاء الظاهرة أو من الصور الإنسانية بأن جعلتموهم أتباعكم بإغوائكم إياهم وتزيين اللذائذ الجسمانية لهم {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإنس رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} وانتفع كل منا في صورة الجمعية الإنسانية بالآخر {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا} بالموت أو المعاد على أقبح الهيآت وأسوأ الأحوال {قَالَ النار} أي نار الحرمان ووجدان الآلام {مَثْوَاكُمْ خالدين فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء الله} ولا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم سبحانه الشيء إلا على ما هو عليه في نفسه{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} [الأنعام: 128] لا يعذبكم إلا بهيئات نفوسكم على ما تقتضيه الحكمة عليهم بهاتيك الهيئات فيعذب على حسبها {وكذلك نُوَلّى بَعْضَ الظالمين بَعْضًا} أي نجعل بعضهم ولي بعض أو إليه وقرينه في العذاب {ا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأنعام؛ 129] من المعاصي حسب استعدادهم. {يَكْسِبُونَ يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ} [الأنعام: 130] وهي عند كثير من أرباب الإشارة العقول وهي رسل خاصة ذاتية إلى ذويها مصححة لإرسال الرسل الآخر وهي رسل خارجية. وبعض المعتزلة حمل الرسول في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] على العقل أيضًا. وهذه الأسئلة عند بعض المؤولين والأجوبة والشهادات كلها بلسان الحال وإظهار الأوصاف {ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى} أي الأبدان أو القلوب {بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غافلون} [الأنعام: 131] بل ينبهم بالعقل وإرشاده إقامة للحجة ولله تعالى الحجة البالغة {وَلِكُلّ درجات} [الأنعام: 132] مراتب في القرب والبعد {وَرَبُّكَ الغنى} لذاته عن كل ما سواه {ذُو الرحمة} العامة الشاملة فخلق العباد ليربحوا عليه لا ليربح عليهم، والغني عند الكثير مشير إلى نعت الجلال وذو الرحمة إلى صفة الجمال {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} لغناه الذاتي عنكم {وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء} [الأنعام: 133] من أهل طاعته برحمته {قُلْ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} أي جهتكم من الاستعداد {إِنّى عامل} [الأنعام: 135] على مكانتي من ذلك {وَهُوَ الذي أَنشَأَ} في قلوب عباده {جنات معروشات} ككرم العشق والمحبة {وَغَيْرَ معروشات} وهي الصفات الروحانية التي جبلت القلوب عليها كالسخاء والوفاء والعفة والحلم. والشجاعة {والنخل} أي نخل الإيمان {والزرع} أي زرع إرادات الأعمال الصالحة {والزيتون} أي زيتون الإخلاص {والرمان} أي رمان شجر الإلهام، وقيل في كل غير ذلك وباب التأويل واسع {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} وهو المشاهدات والمكاشفات {وَهُوَ الذي أَنشَأَ} المريدين {حَقَّهُ} وهو الإرشاد والموعظة الحسنة {يَوْمَ حَصَادِهِ} أوان وصولكم فيه إلى مقام التمكين والاستقامة {وَلاَ تُسْرِفُواْ} بالكتمان عن المستحقين أو بالشروع في الكلام في غير وقته والدعوة قبل أوانها {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} [الأنعام: 141] لا يرتضي فعلهم {وَمِنَ الانعام} أي قوى الإنسان {حَمُولَةً} ما هو مستعد لحمل الأمانة وتكاليف الشرع {وَفَرْشًا} ما هو مستعد لإصلاح القالب وقيام البشرية {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} وهو مختلف فرزق القلب هو التحقيق من حيث البرهان ورزق الروح هو المحبة بصدق التحرز عن الأكوان. ورزق السر هو شهود العرفان بلحظ العيان {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان} بالميل إلى الشهوات الفانية والاحتجاب بالسوي {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [الأنعام: 142] يريد أن يحجبكم عن مولاكم والله تعالى الموفق لسلوك الرشاد.

.تفسير الآية رقم (143):

{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)}
{ثمانية أزواج} الزوج يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة ويطلق على مجموعهما، والمراد به هنا الأول وإلا كانت أربعة. وإيرادها بهذا العنوان وهذا العدد أوفق لما سيق له الكلام. و{ثمانية} على ما قاله الفراء واختاره غير واحد من المحققين بدل من {حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام: 142] منصوب بما نصبهما وهو ظاهر على تفسير الحمولة والفرش بما يشمل الأزواج الثمانية أما لو خص ذلك بالإبل ففيه خفاء. وجوز أن يكون التقدير وأنشأ ثمانية وأنه معطوف على {جنات} [الأنعام: 141] وحذف الفعل وحرف العطف، وضعفه أبو البقاء ووجهه لا يخفى. وأن يكون مفعولًا لكلوا الذي قبله والتقدير كلوا لحم ثمانية أزواج {وَلاَ تَتَّبِعُواْ} [الأنعام: 142] جملة معترضة. وأن يكون حالًا من ما مرادًا بها الأنعام ويؤول بنحو مختلفة أو متعددة ليكون بيانًا للهيئة، وهو عند من يشترط في الحال أن يكون مشتقًا أو مؤولًا به ظاهر. وتعقب ذلك شيخ الإسلام «بأنه يأباه جزالة النظم الكريم لظهور أنه مسوق لتوضيح حال الأنعام بتفصيلها أولًا إلى حمولة وفرش ثم تفصيلها إلى ثمانية أزواج حاصلة من تفصيل الأول إلى الإبل والبقر وتفصيل الثاني إلى الضأن والمعز ثم تفصيل كل من الأقسام الأربعة إلى الذكر والأنثى كل ذلك لتحرير المواد التي تقولوا فيها عليه سبحانه بالتحليل والتحريم ثم تبكيتهم بإظهار كذبهم وافترائهم في كل مادة مادة من تلك المواد بتوجيه الإنكار إليها مفصلة» انتهى. وفيه منع ظاهر.
وقوله سبحانه: {مّنَ الضأن اثنين} على معنى زوجين اثنين الكبش والنعجة. ونصب {اثنين} قيل: على أنه بدل من {ثمانية أزواج} بدل بعض من كل أو كل من كل إن لوحظ العطف عليه منصوب بناصبه والجار متعلق به. وقال العلامة الثاني: الظاهر أن {مّنَ الضأن} بدل من {الانعام} [الأنعام: 142] و{اثنين} من {حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام: 142] أو من {ثمانية أزواج} إن جوزنا أن يكون للبدل بدل، وجوز أن يكون البدل {اثنين} ومن الضأن حال من النكرة قدمت عليها. وقرئ {اثنان} على أنه مبتدأ خبره الجار والمجرور، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب، والضأن اسم جنس كالإبل جمع ضئين كأمير وكعبيد أو جمع ضائن كتاجر وتجر، وقرئ بفتح الهمزة وهو لغة فيه.
{وَمِنَ المعز} زوجين {اثنين} التيس والعنز. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن عامر بفتح العين وهو جمع ماعز كصاحب وصحب وحارس وحرس. وقرأ أبي {وَمِنْ} وهو اسم جمع معز، وهذه الأزواج الأربعة على ما اختاره شيخ الإسلام تفصيل للفرش قال: ولعل تقديمها في التفصيل مع تأخر أصلها في الإجمال لكون هذين النوعين عرضة للأكل الذي هو معظم ما يتعلق به الحل والحرمة وهو السر في الاقتصار على الأمر به في قوله تعالى: {وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} [الأنعام: 142] من غير تعرض للانتفاع بالحمل والركوب وغير ذلك مما حرموه في السائبة وأخواتها. ومن الناس من علل التقديم بأشرفية الغنم ولهذا رعاها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو لا يناسب المقام كما لا يخفى.
{قُلْ} تبكيتًا لهم وإظهارًا لعجزهم عن الجواب {ءآلذَّكَرَيْنِ} ذكر الضأن وذكر المعز {حَرَّمَ} الله تعالى: {أَمِ الانثيين} أي أنثى ذينك الصنفين، ونصب الذكرين والأنثيين بحرم {أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثيين} أي أم الذي حملته إناث النوعين ذكرًا كان أو أنثى. {نَبّئُونِي بِعِلْمٍ} أي أخبروني بأمر معلوم من جهته تعالى جاءت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يدل على أنه تعالى حرم شيئًا مما ذكر أو نبئوني تنبئة متلبسة بعلم صادرة عنه {إِن كُنتُمْ صادقين} في دعوى التحريم عليه سبحانه وتعالى، والأمر تأكيد للتبكيت وإظهار الإنقطاع.

.تفسير الآية رقم (144):

{وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)}
{وَمِنَ الإبل} زوجين {اثنين} الجمل والناقة، وهذا عطف على قوله سبحانه: {وَمِنْ الضأن اثنين} [الأنعام: 143] «والإبل كما قال الراغب يقع على البُعْران الكثيرة ولا واحد له من لفظه» ويجمع كما في القاموس على آبال والتصغير أُبَيْلة. {وَمِنَ البقر اثنين} هما الثور وأنثاه {قُلْ} إفحامًا لهم في أمر هذين النوعين أيضًا {ءآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} الله تعالى منهما {أَمِ الانثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثيين} من ذينك النوعين، والمعنى كما قال كثير من أجلة العلماء إنكار أن الله تعالى حرم عليهم شيئًا من هذه الأنواع الأربعة وإظهار كذبهم في ذلك وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد افترائهم فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة وأولادها كيفما كانت تارة أخرى مسندين ذلك كله لله سبحانه، وإنما لم يل المنكر وهو التحريم الهمزة والجاري في الاستعمال أن ما نكر وليها لأن ما في النظم الكريم أبلغ. وبيانه على ما قال السكاكي أن إثبات التحريم يستلزم إثبات محله لا محالة فإذا انتفى محله وهو الموارد الثلاثة لزم انتفاء التحريم على وجه برهاني كأنه وضع الكلام موضع من سلم أن ذلك قد كان ثم طالبه ببيان محل كي يتبين كذبه ويفتضح عند المحاقة، وإنما لم يورد سبحانه الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة بأن يقال: قل آلذكور حرم أم الإناث أما اشتملت عليه أرحام الإناث لما في (التثنية و) التكرير من المبالغة أيضًا في الإلزام والتبكيت.
ونقل الإمام عن المفسرين أنهم قالوا: إن المشركين من أهل الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام فاحتج الله سبحانه على إبطال ذلك بأن للضأن والمعز والإبل والبقر ذكرًا وأنثى فإن كان قد حرم سبحانه منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حرامًا، وإن كان حرم جل شأنه الأنثى وجب أن يكون كل إناثها حرامًا. وإن كان حرم الله تعالى شأنه ما اشتملت عليه أرحام الإناث وجب تحريم الأولاد كلها لأن الأرحام تشتمل على الذكور والإناث. وتعقبه بأنه بعيد جدًا لأن لقائل أن يقول: هب أن هذه الأجناس الأربعة محصورة في الذكور والإناث إلا أنه لا يجب أن تكون علة تحريم ما حكموا بتحريمه محصورة في الذكورة والأنوثة بل علة تحريمها كونها بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو غير ذلك من الاعتبارات كما إذا قلنا: إنه تعالى حرم ذبح بعض الحيوانات لأجل الأكل فإذا قيل: إن ذلك الحيوان إن كان قد حرم لكونه ذكرًا وجب أن يحرم كل حيوان ذكر، وإن كان قد حرم لكونه أنثى وجب أن يحرم كل حيوان أنثى.
ولما لم يكن هذا الكلام لازمًا علينا فكذا هذا الوجه الذي ذكره المفسرون، ثم ذكر في الآية وجهين من عنده وفيما ذكرنا غني عن نقلهما. ومن الناس من زعم أن المراد من الإثنين في الضأن والمعز والبقر الأهلي والوحشي وفي الإبل العربي والبُخْتي وهو مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وما روي عن ليث بن سليم لا يدل عليه، وقول الطبرسي: إنه المروى عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه. كذب لا أصل له وهو شنشنة أعرفها من أخزم.
وقوله سبحانه: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء} تكرير للإفحام والتبكيت، وأم منقطعة، والمراد بل أكنتم حاضرين مشاهدين {إِذْ وصاكم الله} أي أمركم وألزمكم {بهذا} التحريم إذ العلم بذلك إما بأن يبعث سبحانه رسولًا يخبركم به وإما بأن تشاهدوا الله تعالى وتسمعوا كلامه جل شأنه فيه. والأول مناف لما أنتم عليه لأنكم لا تؤمنون برسول فيتعين المشاهدة والسماع بالنسبة إليكم وذلك محال ففي هذا ما لا يخفى من التهكم بهم.
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} فنسب إليه سبحانه تحريم ما لم يحرم، والمراد به على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عمرو بن لحي بن قمعة الذي بحر البحائر وسيب السوائب وتعمد الكذب على الله تعالى، وقيل: كبراؤهم المقررون لذلك، وقيل: الكل لاشتراكهم في الافتراء عليه سبحانه وتعالى، والمراد فأي فريق أظلم ممن إلخ، واعترض بأن قيد التعمد معتبر في معنى الافتراء. ومن تابع عمرًا من الكبراء يحتمل أنه أخطأ في تقليده فلا يكون متعمدًا للكذب فلا ينبغي تفسير الموصول به، والفاء لترتيب ما بعدها على ما سبق من تبكيتهم وإظهار كذبهم وافترائهم، ونصب {كَذِبًا} قيل على المفعولية، وقيل: على المصدرية من غير لفظ الفعل، وجعله حالًا أي كاذبًا جوزه بعض كمل المتأخرين وهو بعيد لا خطأ خلافًا لمن زعمه.
{لِيُضِلَّ الناس} متعلق بالافتراء {بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلق حذوف وقع حالًا من ضمير افترى أي افترى عليه سبحانه جاهلًا بصدور التحريم عنه جل شأنه، وإنما وصف بعدم العلم مع أن المفتري عالم بعدم الصدور إيذانًا بخروجه في الظلم عن الحدود والنهايات فإن من افترى عليه سبحانه بغير علم بصدور ذلك عنه جل جلاله مع احتمال صدوره إذا كان في تلك الغاية من الظلم فما الظن بمن افترى وهو يعلم عدم الصدور. وجوز كونه حالًا من فاعل {يضل} على معنى متلبسًا بغير علم بما يؤدي به إليه من العذاب العظيم. وقيل: معنى الآية عليه أنه عمل عمل القاصد إضلال الناس من أجل دعائهم إلى ما فيه الضلال وإن لم يقصد الإضلال وكان جاهلًا بذلك غير عالم به، وهو ظاهر في أن اللام للعاقبة وله وجه.
وجوز أن يكون الجار متعلقًا حذوف وقع حالًا من {الناس} وما تقدم أظهر وأبلغ في الذم. واستدل القاضي بالآية على أن الإضلال عن الدين مذموم لا يليق بالله تعالى لأنه سبحانه إذا ذم الإضلال الذي ليس فيه إلا تحريم المباح فالذي هو أعظم منه أولى بالذم، وفيه أنه ليس كل ما كان مذمومًا من الخلق كان مذمومًا من الخالق.
{إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} إلى طريق الحق، وقيل: إلى دار الثواب لاستحقاقهم العقاب واختاره الطبرسي، وإلى نحوه ذهب القاضي بناء على مذهبه وليس بالبعيد على أصولنا أيضًا. وقيل: إلى ما فيه صلاحهم عاجلًا وآجلًا وهو أتم فائدة وأنسب بحذف المعمول، ونفي الهداية عن الظالم يستدعي نفيها عن الأظلم من باب أولى.