فصل: تفسير الآية رقم (151):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (151):

{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)}
{قُلْ تَعَالَوْاْ} أمر له صلى الله عليه وسلم بعد ما ظهر بطلان ما ادعوا أن يبين لهم من المحرمات ما يقتضي الحال بيانه على الأسلوب الحكيم إيذانًا بأن حقهم الاجتناب عن هذه المحرمات، وأما الأطعمة المحرمة فقد بينت فيما تقدم، وتعال أمر من التعالي والأصل فيه أن يقوله من هو في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم اتسع فيه بالتعميم واستعمل استعمال المقيد في المطلق مجازًا، ويحتمل هنا كما قيل أن يكون على الأصل تعريضًا لهم بأنهم في حضيض الجهل ولو سمعوا ما يقال لهم ترقوا إلى ذروة العلم وقنة العز.
وقوله سبحانه: {اتل} جواب الأمر أي أن تأتوني أتل، وما في قوله تعالى: {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} إما موصولة والعائد محذوف أي أقرأ الذي حرمه ربكم أي الآيات المشتملة عليه أو مصدرية أي تحريمه، والمراد الآية الدالة عليه، وهي في الاحتمالين في موضع نصب على المفعولية لأتل، وجوز أن تكون استفهامية فهي في موضع نصب على المفعولية لحرم، والجملة مفعول {اتل} لأن التلاوة ومن باب القول فيصح أن تعمل في الجملة بناءً على المذهب الكوفي من أنه تحكي الجملة بكل ما تضمن معنى القول وغيرهم يقدر في ذلك قائلًا ونحوه. والمعنى هنا على الاستفهام تعالوا أقل لكم وأبين جواب أي شيء حرم ربكم، وقوله تعالى: {عَلَيْكُمْ} متعلق على كل حال بحرم، وجوز أن يتعلق بأتل ورجح الأول بأنه أنسب قام الاعتناء بإيجاب الانتهاء عن المحرمات المذكورة، وهو السر في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم، ولا يضر في ذلك كون المتلو محرمًا على الكل كما لا يخفى.
{أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} أي من الإشراك أو شيئًا من الأشياء فشيئًا يحتمل المصدرية والمفعولية؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في إعراب أن لا. وبدأ سبحانه بأمر الشرك لأنه أعظم المحرمات وأكبر الكبائر {وبالوالدين} أي أحسنوا بهما {إحسانا} كاملًا لا إساءة معه. وعن ابن عباس يريد البر بهما مع اللطف ولين الجانب فلا يغلظ لهما في الجواب ولا يحد النظر إليهما ولا يرفع صوته عليهما بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي سيده تذللًا لهما، وثنى الله تعالى بهذا التكليف لأن نعمة الوالدين أعظم النعم على العبد بعد نعمة الله تعالى لأن المؤثر الحقيقي في وجود الإنسان هو الله عز وجل والمؤثر في الظاهر هو الأبوان.
وعقب سبحانه التكليف المتعلق بالوالدين بالتكليف المتعلق بالأولاد لكمال المناسبة فقال سبحانه: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ} بالوأد {خشية إملاق} [الإسراء: 31] من أجل فقر أو من خشيته كما في قوله سبحانه: {خَشْيَةَ إملاق} وقيل: الخطاب في كل آية لصنف وليس خطابًا واحدًا فالمخاطب بقوله سبحانه: {مّنْ إملاق} من ابتلي بالفقر وبقوله تعالى: {خَشْيَةَ إملاق} من لا فقر له ولكن يخشى وقوعه في المستقبل، ولهذا قدم رزقهم هاهنا في قوله عز وجل: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وقدم رزق أولادهم في مقام الخشية فقيل: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء: 31] وهو كلام حسن. وأيًا ما كان فجملة {نَحْنُ} إلخ استئناف مسوق لتعليل النهي وإبطال سببية ما اتخذوه سببًا لمباشرة المنهي عنه وضمان منه تعالى لإرزاقهم أي نحن نرزق الفريقين لا أنتم فلا تقدموا على ما نهيتم عنه لذلك.
{وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش} أي الزنا، والجمع إما للمبالغة أو باعتبار تعدد من يصدر عنه أو للقصد إلى النهي عن الأنواع ولذا أبدل منها قوله سبحانه: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} أي ما يفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأب أراذلهم وما يفعل سرًا باتخاذ الأخدان كما هو عادة أشرافهم، وروي ذلك عن ابن عباس والضحاك والسدي، وقيل: المراد بها المعاصي كلها. وفي المراد بما ظهر منها وما بطن على هذا أقوال تقدمت الإشارة إليها واختار ذلك الإمام وجماعة، ورجح بعض المحققين الأول بأنه الأوفق بنظم المتعاطفات، ووجه توسيط هذا النهي عن النهي بين قتل الأولاد والنهي عن القتل مطلقًا عليه باعتبار أن الفواحش بهذا المعنى مع كونها في نفسها جناية عظيمة في حكم قتل الأولاد فإن أولاد الزنا في حكم الأموات. وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في حق العزل: «ذاك وأد خفي» وعلى القول الآخر لا يظهر وجه توسيط هذا العام بين أفراده ويكون توسيطه بين النهيين من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه، وتعليق النهي بقربانها إما للمبالغة في الزجر عنها لقوة الدواعي إليها وإما لأن قربانها داع إلى مباشرتها.
{وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله} أي حرم قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد فيخرج الحربي ويدخل الذمّي، فما روي عن ابن جبير من كون المراد بالنفس المذكورة النفس المؤمنة ليس في محله {إِلاَّ بالحق} استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تقتلوها في حال من الأحوال إلا حال ملابستكم بالحق الذي هو أمر الشرع بقتلها، وذلك كما ورد في الخبر «بالكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصان وقتل النفس المعصومة» أو من أعم الأسباب أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق وهو ما في الخبر أو من أعم المصادر أي لا تقتلوها قتلًا إلا قتلًا كائنًا بالحق وهو القتل بأحد المذكورات.
{ذلكم} أي ما ذكر من التكاليف الخمسة الجليلة الشأن من بين التكاليف الشرعية {وصاكم بِهِ} أي طلبه منكم طلبًا مؤكدًا. والجملة الاسمية استئناف جيء به تجديدًا للعهد وتأكيدًا لإيجاب المحافظة على ما كلفوه. وقال الإمام: «جيء بها لتقريب القبول إلى القلب لما فيها من اللطف والرحمة» {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي تستعملون عقولكم التي تعقل نفوسكم وتحبسها عن مباشرة القبائح المحرمة.

.تفسير الآية رقم (152):

{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)}
{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} أي لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه {إِلاَّ بالتى هي أَحْسَنُ} أي بالفعلة التي هي أحسن ما يفعل اله كحفظه وتثميره، وقيل: المراد لا تقربوا ماله إلا وأنتم متصفون بالخصلة التي هي أحسن الخصال في مصلحته فمن لم يجد نفسه على أحسن الخصال ينبغي أن لا يقربه وفيه بعد؛ والخطاب للأولياء والأوصياء لقوله تعالى: {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} فإنه غاية لما يفهم من الاستثناء لا للنهي كأنه قيل: احفظوه حتى يبلغ فإذا بلغ فسلموه إليه كما في قوله سبحانه: {فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا اليهم بأموالهم} [النساء: 6] والأشد على ما قال الفراء جمع لا واحد له. وقال بعض البصريين: هو مفرد كآنك ولم يأت في المفردات على هذا الوزن غيرهما. وقيل: هو جمع شدة كنعمة وأنعم، وقدر فيه زيادة الهاء لكثرة جمع فعل على أفعل كقدح وأقدح. وقال ابن الأنباري: إنه جمع شد بضم الشين كود واود. وقيل: جمع شد بفتحها. وأيًا ما كان فهو من الشدة أي القوة أو الارتفاع من شد النهار إذا ارتفع. ومنه قول عنترة:
عهدي به شد النهار كأنما ** خضب البنان ورأسه بالعظلم

والمراد ببلوغ الأشد عند الشعبي وجماعة: بلوغ الحلم. وقيل: أن يبلغ ثماني عشرة سنة، وقال السدي: أن يبلغ ثلاثين إلا أن الآية منسوخة بقوله تعالى: {حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ} [النساء: 6] وقيل: غير ذلك. وقد تقدم الخلاف في زمن دفع مال اليتيم إليه وأشبعنا الكلام في تحقيق الحق في ذلك فتذكر.
{وَأَوْفُوا} أي أتموا {الكيل} أي المكيل فهو مصدر عنى اسم المفعول {والميزان} كذلك كما قال أبو البقاء وجوز أن يكون هناك مضاف محذوف أي مكيل الكيل وموزون الميزان {بالقسط} أي بالعدل وهو في موضع الحال من ضمير {أَوْفُواْ} أي مقسطين. وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون حالًا من المفعول أي تامًا. ولعل الإتيان بهذه الحال للتأكيد. وفي «التفسير الكبير» «فإن قيل: إيفاء الكيل والميزان هو عين القسط فما الفائدة من التكرير؟ قلنا: أمر الله تعالى المعطي بإيفاء ذي الحق حقه من غير نقصان وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة» فتدبر.
{لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} إلا ما يسعها ولا يعسر عليها. والجملة مستأنفة جيء بها عقيب الأمر بإيفاء الكيل والميزان بالعدل للترخيص فيما خرج عن الطاقة لما أن في مراعاة ذلك كما هو حرجًا مع كثرة وقوعه فكأنه قيل: عليكم بما في وسعكم في هذا الأمر وما وراءه معفو عنكم. وجوز أن يكون جيء بها لتهوين أمر ما تقدم من التكليفات ليقبلوا عليها كأنه قيل: جميع ما كلفناكم به ممكن غير شاق ونحن لا نكلف ما لا يطاق.
{وَإِذَا قُلْتُمْ} قولًا في حكومة أو شهادة أو نحوهما {فاعدلوا} فيه وقولوا الحق {وَلَوْ كَانَ} المقول له أو عليه {ذَا قربى} أي صاحب قرابة منكم {وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ} أي ما عهد إليكم من الأمور المعدودة أو أي عهد كان فيدخل فيه ما ذكر دخولًا أوليًا أو ما عاهدتم الله تعالى عليه من أيمانكم ونذوركم. والجار والمجرور متعلق بما بعده، وتقديمه للاعتناء بشأنه {ذلكم} أي ما فصل من التكاليف الجليلة {وصاكم بِهِ} أمركم به أمرا مؤكدا {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ما في تضاعيفه وتعملون قتضاه. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {تَذَكَّرُونَ} بتخفيف الذال والباقون بالتشديد في كل القرآن وهما عنى واحد.
وختمت الآية الأولى بقوله سبحانه: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151] وهذه بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك وقتل الأولاد وقربان الزنا وقتل النفس المحرمة بغير حق غير مستنكفين ولا عاقلين قبحها فنهاهم سبحانه لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها. وأما حفظ أموال اليتامى عليهم وإيفاء الكيل والعدل في القول والوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان؛ قاله القطب الرازي، ثم قال فإن قلت إحسان الوالدين من قبيل الثاني أيضًا فكيف ذكر من الأول؟ قلت: أعظم النعم على الإنسان نعمة الله تعالى ويتلوها نعمة الوالدين لأنهما المؤثران في الظاهر ومنهما نعمة التربية والحفظ عن الهلاك في وقت الصغر فلما نهى عن الكفر بالله تعالى نهى بعده عن الكفران في نعمة الأبوين تنبيهًا على أن القوم لما لم يرتكبوا الكفران فبطريق الأولى أن لا يرتكبوا الكفر.
وقال الإمام: السبب في ختم كل آية بما ختمت أن التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الأولى أمور ظاهرة جلية فوجب تعقلها وتفهمها والتكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية أمور خفية غامضة لابد فيها من الاجتهاد والفكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال وهو التذكر انتهى. ويمكن أن يقال: إن أكثر التكليفات الأول أُدِّي بصيغة النهي وهو في معنى المنع والمرء حريص على ما منع فناسب أن يعلل الإيصاء بذلك بما فيه إيماء إلى معنى المنع والحبس وهذا بخلاف التكليفات الأُخر فإن أكثرها قد أُدِّي بصيغة الأمر وليس المنع فيه ظاهرًا كما في النهي فيكون تأكيد الطلب والمبالغة فيه ليستمر عليه ويتذكر إذا نسي فليتدبر.

.تفسير الآية رقم (153):

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)}
{وَأَنَّ هذا صراطي} إشارة إلى شرعه عليه الصلاة والسلام على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويلائمه النهي الآتي، وعن مقاتل أنه إشارة إلى ما في الآيتين من الأمر والنهي، وقيل: إلى ما ذكر في السورة فإن أكثرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة. وقرأ حمزة والكسائي {ءانٍ} بالكسر وابن عامر ويعقوب بالفتح والتخفيف، والباقون به مشددة. وقرأ ابن عامر {صراطي} بفتح الياء، وقرئ {وهذا صراطي}. {وهذا صراط رَبُّكُمْ}. {وهذا صراط رَبّكَ} وإضافة الصراط إلى الرب سبحانه من حيث الوضع وإليه عليه الصلاة والسلام من حيث السلوك والدعوة أي هذا الصراط الذي أسلكه وأدعو إليه {مُّسْتَقِيمًا} لا اعوجاج فيه، ونصبه على الحال {فاتبعوه} أي اقتفوا أثره واعملوا به {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل} أي الضلالات كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وفي رواية عنه أنها الأديان المختلفة كاليهودية والنصرانية، وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد وغيرهما عن مجاهد أنها البدع والشبهات {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ} نصب في جواب النهي والأصل تتفرق فحذفت إحدى التاءين والباء للتعدية أي فتفرقكم حسب تفرقها أيادي سبأ فهو كما ترى أبلغ من تفرقكم كما قيل من أن ذهب به لما فيه من الدلالة على الاستصحاب أبلغ من أذهبه {عَن سَبِيلِهِ} أي سبيل الله تعالى الذي لا اعوجاج فيه ولا حرج لما هو دين الإسلام، وقيل: هو اتباع الوحي واقتفاء البرهان، وفيه تنبيه على أن صراطه عليه السلام عين سبيل الله تعالى، وقد أخرج أحمد وجماعة عن ابن مسعود قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا بيده ثم قال: «هذا سبيل الله تعالى مستقيمًا» ثم خط خطوطًا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: «وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه» ثم قرأ {وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه} إلخ، وإنما أضيف إليه صلى الله عليه وسلم أولًا لأن ذلك أدعى للاتباع إذ به يتضح كونه صراط الله عز وجل.
{ذلكم} إشارة إلى اتباع السبيل وترك اتباع السبل {وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} عقاب الله تعالى بالمثابرة على فعل ما أمر به والاستمرار على الكف عما نهى عنه. قال أبو حيان: ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف وأمر سبحانه باتباعه ونهى عن اتباع غيره من الطرق ختم ذلك بالتقوى التي هي اتقاء النار إذ من اتبع صراطه نجاه النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية. وكرر سبحانه الوصية لمزيد التأكيد ويا لها من وصية ما أعظم شأنها، وأوضح برهانها.
وأخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر والبيهقي في الشعب وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: من سره أن ينظر إلى وصية محمد عليه الصلاة والسلام بخاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات {قُلْ تَعَالَوْاْ} إلى {تَتَّقُونَ} [الأنعام: 151- 153] وأخرج ابن حميد وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث» ثم تلاهن إلى آخرهن ثم قال: «فمن وفى بهن فأجره على الله تعالى ومن انتقص منهن شيئًا فأدركه الله تعالى في الدنيا كانت عقوبته ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله تعالى إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه» وأخرج أبو الشيخ عن عبيد الله بن عبد الله بن عدي قال: سمع كعب رجلًا يقرأ {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ} إلخ فقال: والذي نفس كعب بيده إنها لأول آية في التوراة بسم الله الرحمن الرحيم {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم.. إلى آخر الآيات، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذه آيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب وهن محرمات على بني آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار.
هذا وأن في قوله سبحانه: {أن لا تشركوا} يحتمل أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية. قال العلامة الثاني: وفي الاحتمالين إشكال فإنها إن جعلت مصدرية كانت بيانًا للمحرم بدلًا من ما أو عائده المحذوف. وظاهر أن المحرم هو الإشراك لا نفيه وأن الأوامر بعد معطوفة على {لا تشركوا} وفيه عطف الطلبي على الخبري وجعل الواجب المأمور به محرمًا فاحتيج إلى تكلف كجعل لا مزيدة وعطف الأوامر على المحرمات باعتبار حرمة أضدادها وتضمين الخبر معنى الطلب، وأما جعل لا ناهية واقعة موقع الصلة لأن المصدرية كما جوزه سيبويه إذ عمل الجازم في الفعل والناصب في لا معه فمما لا سبيل إليه هنا لأن زيادة لا الناهية مما لم يقل به أحد ولم يرد في كلام؛ وإن جعلت أن مفسرة ولا ناهية والنواهي بيان لتلاوة المحرمات توجه إشكالان، أحدهما: عطف {إِنَّ هَذَا صراطي مُسْتَقِيمًا} على {أن لا تشركوا} مع أنه لا معنى لعطفه على أن المفسرة مع الفعل. وثانيهما: عطف الأوامر المذكورة فإنها لا تصلح بيانًا لتلاوة المحرمات بل الواجبات، واختار الزمخشري كونها مفسرة وعطف الأوامر لأنها معنى نواه، ولا سبيل حينئذٍ لجعلها مصدرية موصولة بالنهي لما علمت.
وأجاب عن الإشكال الأول بأن قوله سبحانه: {وَأَنَّ هذا صراطي} ليس عطفًا على {أن لا تشركوا} بل هو تعليل للاتباع متعلق باتبعوه على حذف اللام، وجاز عود ضمير {اتبعوه} إلى الصراط لتقدمه في اللفظ.
فإن قيل: فعلى هذا يكون {اتبعوه} عطفًا على {لا تشركوا} ويكون التقدير فاتبعوا صراطي لأنه مستقيم، وفيه جمع بين حرفي عطف الواو والفاء وليس ستقيم، وإن جعلت الواو استئنافية اعتراضية قلنا: ورود الواو مع الفاء عند تقديم المعمول فصلًا بينهما شائع في الكلام مثل {وَرَبَّكَ فَكَبّرْ} {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَدًا} [الجنّ: 18] فإن أبيت الجمع ألبتة ومنعت زيادة الفاء فاجعل المعمول متعلقًا حذوف والمذكور بالفاء عطفًا عليه مثل عظم فكبر وادعوا الله فلا تدعوا مع الله وآثروه فاتبعوه.
وعن الإشكال الثاني بأن عطف الأوامر على النواهي الواقعة بعد أن المفسرة لتلاوة المحرمات مع القطع بأن المأمور به لا يكون محرمًا دل على أن التحريم راجع إلى أضدادها عنى أن الأوامر كأنها ذكرت وقصد لوازمها التي هي النهي عن الأضداد حتى كأنه قيل: أتلو ما حرم أن لا تسيؤوا إلى الوالدين ولا تبخسوا الكيل والميزان ولا تتركوا العدل ولا تنكثوا العهد، ومثل هذا وإن لم يجز بحسب الأصل لكن را يجوز بطريق العطف، وأما جعل الوقف على قوله تعالى: {رَبُّكُمْ} وانتصاب {أن لا تشركوا} بعليكم يعني ألزموا ترك فيأباه عطف الأوامر إلا أن تجعل لا ناهية وأن المصدرية موصولة بالأوامر والنواهي.
وقال أبو حيان: لا يتعين أن يكون جميع الأوامر معطوفة على جميع ما دخل عليه لا فإنه لا يصح عطف {وبالوالدين إحسانا} على {تَعَالَوْاْ} [الأنعام: 151] ويكون ما بعده عطف عليه. واعترض على القول بأن التحريم راجع إلى أضداد الأوامر بأنه بعيد جدًا وإلغاز في المعاني ولا ضرورة تدعو إلى ذلك، ثم قال: وأما عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين، أحدهما: أنها معطوفة لا على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حيز أن التفسيرية بل هي معطوفة على قوله سبحانه: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ} [الأنعام: 151] أمرهم أولًا بأمر ترتب عليه ذكر مناه، ثم أمرهم ثانيًا بأوامر وهذا معنى واضح، والثاني: أن تكون الأوامر معطوفة على المناهي داخلة تحت حكم أن التفسيرية، ويصح ذلك على تقدير محذوف تكون أن مفسرة له وللمنطوق قبله الذي دل على حذفه، والتقدير وما أمركم به فحذف وما أمركم به لدلالة ما حرم عليه لأن معنى {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} ما نهاكم ربكم عنه، فالمعنى قل تعالوا أتل ما نهاكم عنه ربكم وما أمركم به، وإذا كان التقدير هكذا صح أن تكون أن تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم وفعل الأمر المحذوف ألا ترى أنه يجوز أن تقول: أمرتك أن لا تكرم جاهلًا وأكرم عالمًا، ويجوز عطف الأمر على النهي والنهي على الأمر لقول امرئ القيس:
لا تهلك أسى وتجمل

ولا نعلم في هذا خلافًا بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإنشاء فإن في جواز العطف فيها خلافًا مشهورًا. اه. وأنت تعلم أن العطف على {تَعَالَوْاْ} في غاية البعد ولا ينبغي الالتفات إليه، وما ذكره من الحذف وجعل التفسير للمحذوف والمنطوق لا يخلو عن حسن، ونقل الطبرسي جواز كون {أن لا تشركوا} بتقدير اللام على معنى أبين لكم الحرام لأن لا تشركوا لأنهم إذا حرموا ما أحل الله فقد جعلوا غير الله تعالى في القبول منه نزلة الله سبحانه وصاروا بذلك مشركين، ولا ينبغي تخريج كلام الله تعالى على مثل ذلك كما لا يخفى.