فصل: تفسير الآية رقم (154):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (154):

{ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)}
{ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب} كلام مسوق من جهته تعالى تقريرًا للوصية وتحقيقًا لها وتمهيدًا لما تعقبه من ذكر إنزال القرآن المجيد كما ينبئ عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى التكلم معطوف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام كأنه قيل بعد قوله سبحانه: {ذلكم وصاكم بِهِ} [الأنعام: 152] بطريق الاستئناف تصديقًا له وتقريرًا لمضمونه فعلنا ذلك {ثُمَّ ءاتَيْنَا} إلخ. وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام قدس سره، وقيل: عطف على {ذلكم وصاكم بِهِ}. وعن الزجاج أنه عطف على معنى التلاوة كأنه قيل: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ثم اتل عليهم ما آتاه الله تعالى موسى عليه السلام، وقيل: عطف على {قُلْ} [الأنعام: 151] وفيه حذف أي قل تعالوا ثم قل آتينا موسى الكتاب. وعن أبي مسلم واستحسنه المغربي أنه متصل بقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ} [الأنعام: 84] وذلك أنه سبحانه عد نعمته عليه بما جعل في ذريته من الأنبياء عليهم السلام ثم عطف عليه بذكر ما أنعم عليه بما آتى موسى عليه السلام من الكتاب والنبوة وهو أيضًا من ذريته، والكل كما ترى وإن اختلف مراتبه في الوهن.
وثم كما قال الفراء للترتيب الإخباري كما في نحو بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت اليوم أعجب. وتعقبه ابن عصفور بأنه ليس بشيء لأن ثم تقتضي تأخر الثاني عن الأول هلة ولا مهلة في الإخبارين فلابد من الرجوع إلى أنها انسلخ عنها معنى الترتيب أو أنه ترتيب رتبي كما يشير إليه قوله: أعجب في المثال وهو هنا ظاهر لأن إيتاء التوراة المشتملة على الأحكام والمنافع الجمة أعظم من هذه الوصية المشهورة على الألسنة، وبعضهم وجه الترتيب الإخباري المستدعي لتأخر الثاني عن الأول بأن الألفاظ المنقضية تنزل منزلة البعيد. وقيل: إنه باعتبار توسط جملة {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] بين المتعاطفين. وقال بعضهم: إن {ثُمَّ} هنا عنى الواو، وقد جاء ذلك كثيرًا في الكتاب.
{تَمَامًا} للكرامة والنعمة وهو في موقع المفعول له، وجاز حذف اللام لكونه في معنى إتمامًا، وجوز أبو البقاء أن يكون مصدرًا لقوله: {ءاتَيْنَا} من معناه لأن إيتاء الكتاب إتمام للنعمة كأنه قيل: أتممنا النعمة إتمامًا فهو كنباتًا في قوله تعالى: {والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتًا} [نوح: 17] وأن يكون حالًا من الكتاب أي تامًا {عَلَى الذي أَحْسَنَ} أي على من أحسن القيام به كائنًا من كان فالذي للجنس. ويؤيده قراءة عبد الله {عَلَى الذين أَحْسَنُواْ} وقراءة الحسن {عَلَى المحسنين}. وعن الفراء أن الذي هنا مثلها في قوله:
إن الذي حانت بفلج دماؤهم ** هم القوم كل القوم يا أم خالد

وكلام مجاهد محتمل للوجهين أو على الذي أحسن تبليغه وهو موسى عليه السلام أو تمامًا على ما أحسنه موسى عليه السلام أي أجاده من العلم والشرائع أي زيادة على عمله على وجه التتميم، وعن ابن زيد أن المراد تمامًا على إحسان الله تعالى على أنبيائه عليهم السلام، وظاهره أن {الذى} موصول حرفي، وقد قيل به في قوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ} [التوبة: 69] وضمير {أَحْسَنُ} حينئذٍ لله تعالى، ومثله في ذلك ما نقل عن الجبائي من أن المراد على الذي أحسن الله تعالى به على موسى عليه السلام من النبوة وغيرها، وكلاهما خلاف الظاهر. وعن أبي مسلم أن المراد بالموصول إبراهيم عليه السلام، وهو مبني على ما زعمه من اتصال الآية بقصة إبراهيم عليه السلام. وقرأ يحيى بن يعمر {أَحْسَنُ} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف و{الذى} وصف للدين أو للوجه يكون عليه الكتب أي تمامًا على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه أو آتينا موسى الكتاب تامًا كاملًا على الوجه الذي هو أحسن ما يكون عليه الكتب، والأحسنية بالنسبة إلى غير دين الإسلام وغير ما عليه القرآن.
{وَتَفْصِيلًا لّكُلّ شَيْء} أي بيانًا مفصلًا لكل ما يحتاج إليه في الدين، ولا دلالة فيه على أنه لا اجتهاد في شريعة موسى عليه السلام خلافًا لمن زعم ذلك، فقد ورد مثله في صفة القرآن كقوله تعالى في سورة يوسف (111) عليه السلام: {وَتَفْصِيلَ كُلّ شَيْء} ولو صح ما ذكر لم يكن في شريعتنا اجتهاد أيضًا {وهدى} أي دلالة إلى الحق {وَرَحْمَةً} بالمكلفين. والكلام في هذه المعطوفات كالكلام في المعطوف عليه من احتمال العلية والمصدرية والحالية، والظاهر اشتمال الكتاب على التفصيل حسا أخبر الله تعالى إلى أن حرفه أهله. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لما ألقى موسى عليه السلام الألواح بقي الهدى والرحمة وذهب التفصيل.
{لَعَلَّهُمْ} أي بني إسرائيل المدلول عليهم بذكر موسى عليه السلام وإيتاء الكتاب، ولا يجوز عود الضمير على {الذى} بناء على الجنسية أو على ما قال الفراء لأنه لا يناسب قوله سبحانه: {بِلِقَاء رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ} بل كان المناسب حينئذٍ أن يقال: لعلهم يرحمون مثلًا، والجار والمجرور متعلق بما بعده قدم لرعاية الفواصل، والمراد من اللقاء قيل الجزاء، وقيل: الرجوع إلى ملك الرب سبحانه وسلطانه يوم لا يملك أحد سواه شيئًا. وعن ابن عباس المعنى كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب.

.تفسير الآية رقم (155):

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)}
{وهذا} الذي تليت عليكم أوامره ونواهيه أي القرآن {كِتَابٌ} عظيم الشأن لا يقادر قدره {أنزلناه} بواسطة الروح الأمين مشتملًا على فوائد الفنون الدينية والدنيوية التي فصلت عليكم طائفة منها، والجملة صفة {كِتَابٌ} وقوله سبحانه: {مُّبَارَكٌ} أي كثير الخير دينًا ودنيا صفة أخرى، وإنما قدمت الأولى عليها مع أنها غير صريحة لأن الكلام مع منكري الإنزال، وجوز أن يكون هذا وما قبله خبرين عن اسم الإشارة أيضًا؛ والفاء في قوله تعالى: {فاتبعوه} لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن عظم شأن الكتاب في نفسه وصفته موجب لاتباعه أي فاعملوا بما فيه أو امتثلوا أوامره {واتقوا} مخالفته أو نواهيه {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي لترحموا جزاء ذلك، وقيل: المراد اتقوا على رجاء الرحمة أو اتقوا ليكون الغرض بالتقوى رحمة الله تعالى.

.تفسير الآية رقم (156):

{أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)}
{أَن تَقُولُواْ} علة لمقدر دل عليه {أنزلناه} [الأنعام: 155] المذكور وهو العامل فيه لا المذكور خلافًا للكسائي لئلا يلزم الفصل بين العامل ومعموله بأجنبي وهو بتقدير لا عند الكوفيين أي لأن لا تقولوا وعلى حذف المضاف عند البصريين أي كراهة أن تقولوا. وقيل: يحتمل أن يكون مفعول {اتقوا} [الأنعام: 155] وعليه الفراء، وأن تجعل اللام المقدرة للعاقبة أي ترتب على إنزالنا أحد القولين ترتب الغاية على الفعل فيكون توبيخًا لهم على بعدهم عن السعادة، والمتبادر ما ذكر أولًا أي أن تقولوا يوم القيامة لو لم ننزله.
{إِنَّمَا أُنزِلَ الكتاب} الناطق بالأحكام القاطع للحجة {على طَائِفَتَيْنِ} جماعتين كائنتين {مِن قَبْلِنَا} وهما كما قال ابن عباس وغيره اليهود والنصارى، وتخصيص الإنزال بكتابيهما لأنهما اللذان اشتهرا فيما بين الكتب السماوية بالاشتمال على الأحكام.
{وَإِن كُنَّا} إن هي المخففة من إن واللام الآتية فارقة بينها وبين النافية وهي مهملة لما حققه النحاة من أن أن المخففة إذا لزمت اللام في أحد جزأيها ووليها الناسخ فهي مهملة لا تعمل في ظاهر ولا مضمر، لا ثابت ولا محذوف أي وإنه كنا.
{عَن دِرَاسَتِهِمْ} أي قراءتهم {لغافلين} غير ملتفتين لا ندري ما هي لأنها ليست بلغتنا فلم يمكنا أن نتلقى منها في ما فيه نجاتنا ولعلهم عنوا بذلك التوحيد، وقيل: تلك الأحكام المذكورة في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ} [الأنعام: 151] إلخ لأنها عامة لجميع بني آدم لا تختلف في عصر من الأعصار. وعلى هذا حمل الآية شيخ الإسلام ثم قال: وبهذا تبين أن معذرتهم هذه مع أنهم غير مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورة المتناولة لكافة الأمم كما أن قطع تلك المعذرة بإنزال القرآن لاشتماله أيضًا عليها لا على سائر الشرائع والأحكام فقط.

.تفسير الآية رقم (157):

{أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بما كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)}
{أَوْ تَقُولُواْ} عطف على {تَقُولُواْ} [الأنعام: 156]. وقرئ كلاهما بالياء على الالتفات من خطاب {فاتبعوه واتقوا} [الأنعام: 155] ويكون الخطاب الآتي بعد التفاتًا أيضًا ولا يخفى موقعه. قال القطب: إنه تعالى خاطبهم أولًا بما خاطبهم ثم لما وصل إلى حكاية أقوالهم الرديئة أعرض عنهم وجرى على الغيبة كأنهم غائبون ثم لما أراد سبحانه توبيخهم بعد خاطبهم فهو التفات في غاية الحسن.
{لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب} كما أنزل عليهم {لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ} أي الحق الذي هو المقصد الأقصى أو إلى ما فيه من الأحكام والشرائع لأنا أجود أذهانًا وأثقب فهمًا {فَقَدْ جَاءكُمُ} متعلق حذوف ينبئ عنه الفاء الفصيحة إما معلل به أو شرط له أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم إلخ، أو إن صدقتم فيما كنتم تعدون من أنفسكم على تقدير نزول الكتاب عليكم فقد حصل ما فرضتم وجاءكم {بَيّنَةً} حجة جليلة الشأن واضحة تعرفونها لظهورها وكونها بلسانكم كائنة {مّن رَّبّكُمْ} على أن الجار متعلق حذوف وقع صفة {بَيّنَةً} ويصح تعلقه بجاءكم. وأيًا ما كان ففيه دلالة على فضلها الإضافي مع الإشارة إلى شرفها الذاتي، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم ما لا يخفى من مزيد التأكيد لإيجاب الاتباع.
{وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} عطف على {بَيّنَةً} وتنوينهما كتنوينهما للتفخيم، والمراد بجميع ذلك القرآن، وعبر عنه بالبينة أولًا إذانًا بكمال تمكنهم من دراسته وبالهدى والرحمة ثانيًا تنبيهًا على أنه مشتمل على ما اشتمل عليه التوراة من هداية الناس ورحمتهم بل هو عين الهداية والرحمة. وفي «التفسير الكبير» «فإن قيل البينة والهدى واحد فما الفائدة في التكرير؟ قلنا: القرآن بينة فيمايعلم سمعًا وهو هدى فيما يعلم سمعًا وعقلًا فلما اختلفت الفائدة صح هذا العطف» ولا يخفى ما فيه.
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بآيات الله} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن مجيء القرآن الموصوف بما تقدم موجب لغاية أظلمية من يكذبه، والمراد من الموصول أولئك المخاطبون، ووضع موضع ضميرهم بطريق الالتفات تنصيصًا على اتصافهم بما في حيز الصلة وإشعارًا بعلة الحكم وإسقاطًا لهم عن رتبة الخطاب، وعبر عما جاءهم بآيات الله تعالى تهويلًا للأمر. وقرئ {كَذَّبَ} بالتخفيف، والجار الأول: متعلق بما عنده، والثاني: يحتمل ذلك وهو الظاهر. ويحتمل أن يكون متعلقًا حذوف وقع حالًا، والمعنى كذب ومعه آيات الله تعالى: {وَصَدَفَ عَنْهَا} أي أعرض غير مفكر فيها كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما أو صرف الناس عنها فجمع بين الضلال والإضلال، والفعل على الأول: لازم وعلى الثاني: متعد وهو الأكثر استعمالًا.
{سَنَجْزِى الذين يَصْدِفُونَ عَنْ ءاياتنا} وعيد لهم ببيان جزاء إعراضهم أو صدهم بحيث يفهم منه جزاء تكذيبهم، ووضع الموصول موضع الضمير لتحقيق مناط الجزاء {سُوء العذاب} أي العذاب السيء الشديد النكاية {ا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} أي بسبب ما كانوا يفعلون الصدف والصرف على التجدد والاستمرار، وهذا تصريح بما أشعر به إجراء الحكم على الموصول من علية ما في حيز الصلة له.

.تفسير الآية رقم (158):

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)}
{هَلْ يَنظُرُونَ} استئناف مسوق لبيان أنه لا يتأتى منهم الإيمان بإنزال ما ذكر من البينات والهدى والإيذان بأن من الآيات ما لا فائدة للإيمان عنده مبالغة في التبليغ والإندار وإزاحة العلل والأعذار، و{هَلُ} للاستفهام الإنكاري، وأنكر الرضي مجيئها لذلك وقال: إنها للتقرير في الإثبات، والجمهور على الأول، والضمير لكفار أهل مكة. وزعم الجبائي أنه للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أي ما ينتظورن.
{إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة} لقبض أرواحهم {أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ} يوم القيامة في ظلل من الغمام حسا أخبر وبالمعنى الذي أراد. وإلى هذا التفسير ذهب ابن مسعود وقتادة ومقاتل، وقيل: إتيان الملائكة لإنزال العذاب والخسف بهم. وعن الحسن إتيان الرب على معنى إتيان أمره بالعذاب. وعن ابن عباس المراد يأتي أمر ربك فيهم بالقتل، وقيل: المراد يأتي كل آياته يعني آيات القيامة والهلاك الكلي لقوله سبحانه: {أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُ ءايات رَبّكَ} وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف عدم تأويل مثل ذلك بتقدير مضاف ونحوه بل تفويض المراد منه إلى اللطيف الخبير مع الجزم بعدم إرادة الظاهر. ومنهم من يبقيه على الظاهر إلا أنه يدعي أن الإتيان الذي ينسب إليه تعالى ليس الإتيان الذي يتصف به الحادث، وحاصل ذلك أنه يقول بالظواهر وينفي اللوازم ويدعي أنها لوازم في الشاهد، وأين التراب من رب الأرباب. وجوز بعض المحققين حمل الكلام على الظاهر المتعارف عند الناس، والمقصود منه حكاية مذهب الكفار واعتقادهم، وعلى ذلك اعتمد الإمام وهو بعيد أو باطل.
والمراد بالآيات عند بعض أشراط الساعة، وهي على ما يستفاد من الأخبار كثيرة، وصح من طرق حذيفة بن أسيد قال: «أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من علية ونحن نتذاكر فقال: ما تذاكرون؟ قلنا: نتذاكر الساعة قال: إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان والدجال وعيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج والدابة وطلوع الشمس من مغربها، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب. وخسف بجزيرة العرب. وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن أو اليمن تطرد الناس إلى المحشر تنزل معهم إذا نزلوا وتقيل معهم إذا قالوا» وببعضها على ما قيل: الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها وهو المراد بالبعض أيضًا في قوله سبحانه: {يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايات رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ} وروى مسلم وأحمد والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة مرفوعًا ما هو صريح في ذلك. واستشكل ذلك بأن خروج عيسى عليه السلام بعد الدجال عليهم اللعنة وهو عليه السلام يدعو الناس إلا الإيمان ويقبله منهم وفي زمنه خير كثير دنيوي وأخروي، وأجيب عنه بما لا يخلو عن نظر.
والحق أن المراد بهذا البعض الذي لا ينفع الإيمان عند طلوع الشمس من مغربها. فقد روى الشيخان «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس ءامنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها ثم قرأ الآية» بل قد روي هذا التعيين عنه صلى الله عليه وسلم في غير ما خبر صحيح، وإلى ذلك ذهب جلة المفسرين. وما يروى من الأخبار التي ظاهرها المنافاة لذلك غير مناف له عند التحقيق كما لايخفى على المتأمل، وسبب عدم نفع الإيمان عند ذلك أنه إذا شوهد تغير العالم العلوي يحصل العلم الضروري ويرتفع الإيمان بالغيب وهو المكلف به فيكون الإيمان حينئذ كالإيمان عند الغرغرة، ومقتضى الأخبار في هذا المطلب أنه لا يقبل الإيمان بعد ذلك أبدًا لكن الظاهر على ما في «الزواجر» قبول ما وقع بعد ذلك من غير تقصير كمن جن وأفاق بعد أو أسلم بتبعية أبويه.
وعن البلقيني أنه إذا تراخى الحال بعد طلوع الشمس من المغرب وطال العهد حتى نسي قبل الإيمان لزوال الآية الملجئة وله وجه وجيه. وقول العراقي: إن الظاهر أنه لا يطول العهد حتى ينسى غير متجه لما رواه القرطبي في «تذكرته» عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ونقله الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن الناس يبقون بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة، والكلام في كيفية طلوعها من المغرب مفصل في كتب الحديث، وفي «سوق العروس» لابن الجوزي أن الشمس تطلع من مغربها ثلاثة أيام بلياليها ثم يقال لها: ارجعي من مطلعك، والمشهور أنها تطلع يومًا واحدًا من المغرب فتسير إلى خط نصف النهار ثم ترجع إلى المغرب وتطلع بعد ذلك من المشرق كعاتها قبل. وخبر عبد الله بن أبي أوفى صريح في ذلك والكل أمر ممكن والله سبحانه على كل شيء قدير. وروى البخاري في تاريخه وأبو الشيخ وابن عساكر في كيفية ذلك عن كعب رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا أراد الله تعالى أن يطلع الشمس من مغربها أدارها بالقطب فجعل مشرقها مغربها ومغربها مشرقها.
وأهل الهيئة ومن وافقهم يزعمون أن طلوع الشمس من المغرب محال ويقولون: إن الشمس وغيرها من الفلكيات بسيطة لا تختلف مقتضياتها جهة وحركة وغير ذلك ولا يتطرق إليها تغيير عما هي عليه، وقد بنوا ذلك على مثل شفا جرف هار. وقال الكرماني: إنه على تقدير تسليم قواعدهم لا امتناع ذلك أيضًا لقولهم بجواز انطباق منطقة فلك البروج المسمى بفلك الثوابت على المعدل وهي منطقة الفلك الأعظم المسمى بفلك الأطلس بحيث يصير المشرق مغربًا والمغرب مشرقًا انتهى.
وفيه نظر يعلم بعد بيان كيفية الانطباق وما يتبعه ويلزم منه على ما في كتب محققيهم فأقول:
قال في «التذكرة وشرحها» للسيد السند: الميل الكلي وهو غاية التباعد بين منطقتي المعدل وفلك البروج الموجود بالأرصاد القديمة والحديثة ليس شيئًا واحدًا بل كان ما وجده القدماء أكثر مما وجده المحدثون، وقد يظن أن ما وجده من هو أحدث زمانًا كان أقل مما وجده من هو أقدم زمانًا مع أن أكثر ما وجدوه لم يبلغ أربعة وعشرين جزءًا وأقله لم ينقص عن ثلاثة وعشرين جزءًا ونصف جزء. ثم الظاهر أن هذا الاختلاف إنما هو بسبب اختلال الآلات في استدارتها أو قسمتها أو نصبها في حقيقة نصف النهار لا بسبب تحرك إحدى المنطقتين إلى الأخرى وإلا لوجب أن يكون الاختلاف على نظام واحد ولم يوجد كذلك كما بين في محله لكنه يجوز أن يكون أصل الاختلاف بسبب التحرك وعدم الانتظام بسبب الاختلال ولما امتنع أن يكون هذا التقارب بحركة المعدل نحو منطقة البروج إذ يلزم منه أن تختلف عروض البلدان عما هي عليه وأن يكون خط الاستواء في كل زمان مكانًا آخر ذهب بعضهم إلى أن منطقة البروج تتحرك في العرض فتقرب من معدل النهار فإن كان هذا حقًا يجب أن يثبت فلكًا آخر يحرك فلك البروج هذه الحركة ثم إن المنطقة إن تحركت في العرض أمكن أن تتم الدورة وأمكن أن لا تتمها بل تتحرك إلى غاية ما ثم تعود وتلك الغاية يمكن أن تكون بعد انطباقها على منطقة المعدل مرتين أو حال انطباقها الثاني أو فيما بين الانطباقين وذلك إما بعد قطع نصف دورتها أو حال قطع النصف أو قبله، وإن لم تصل إلى ما بين الانطباقين فإما أن تعود حال انطباقها الأول أو قيل ذلك ثمانية احتمالات عقلية لا مزيد عليها، وعلى التقديرات الخمس الأول: يتبادل نصفا سطح فلك البروج الشمالي والجنوبي فيصير نصف سطح فلك البروج الذي هو شمالي عن المعدل جنوبيًا عنه وبالعكس مع ما يتبع النصفين من الأحكام فتثبت أحكام النصف الشمالي للنصف الجنوبي بعد صيرورته شماليًا وأحكام الجنوبي للشمالي بعد صيرورته جنوبيًا وفي الثلاثة الأولى منها ينطبق كل واحد من نصفي منطقة البروج على كل واحد من نصفي منطقة المعدل، وعلى التقديرات الباقية بعد الخمسة الأولى لا يتبادل غير البعض من السطح المذكور، وعلى التقديرات السبعة الأولى ينطبق النصف من منطقة فلك البروج على النصف المجاور له من منطقة المعدل وعند كل انطباق يتساوى الليل والنهار في جميع البقاع لأن مدار الشمس هو المعدل المنصف بالآفاق القاطعة له وتبطل فصول السنة لأن بعد الشمس عن سمت الرأس يكون شيئًا واحدًا هو مقدار عرض البلد ويستمر الحال على هذا إلى أن تفترق المنطقتان قدار يحس به ولا يكون ذلك إلا في مدة طويلة، وعلى التقدير الثاني: لا يكون شيء من الانطباق وتساوي الملوين وبطلان الفصول إلا أن الارتفاعات ومقادير الأيام والليالي لأجزاء بعينها من فلك البروج تزيد وتنقص في بقعة بعينها انتهى ملخصًا.
ولا يخفى أنه من لوازم ما ذكروه من التبادل الناشيء عن الانطباق مرتين انطباق قطب البروج الجنوبي على قطب العالم الشمالي وعكسه وصيرورة بروج الخريف بروج الربيع وعكسه وبروج الصيف بروج الشتاء وعكسه وانعكاس توالي البروج إلى خلافه فيطلع الحوت ثم الدلو ثم الجدي وهكذا إلى الحمل وتوافق حركة ما حركته من المغرب إلى المشرق لحركة الفلك الأعظم إلى غير ذلك، وليس صيرورة المشرق مغربًا والمغرب مشرقًا من لوازم الانطباق المذكور بل لا يتصور أصلًا، نعم لو كان المدعي انطباق منطقة المعدل على منطقة فلك البروج بحيث تكون الحركة للمعدل نحو المنطقة لتصور ما ذكر لكنه ممتنع على ما صرح به السيد السند فيما مر وقد فرض عدم الامتناع فتدبر.
والانتظار في الآية محمول على التمثيل المبني على تشبيه حال هؤلاء الكفار في الإصرار على الكفر والتمادي على العناد إلى أن تأتيهم تلك الأمور الهائلة التي لابد لهم من الإيمان عند مشاهدتها ألبتة بحال المنتظرين لها وهذا هو الذي يقتضيه التفسير المأثور ولا ينبغي العدول عن ذلك التفسير بعد أن صحت نسبة بعضه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والبعض الآخر إلى أصحابه رضي الله تعالى عنهم وليس في النظم الكريم ما يأباه ولا أن المقام إنما يساعد على ما سواه، وقيل: المراد بإتيان الملائكة وإتيان الرب سبحانه ما اقترحوه بقولهم: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة أَوْ نرى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] وبقولهم {أَوْ تَأْتِىَ بالله والملئكة قَبِيلًا} [الإسرار: 92] وبإتيان بعض الآيات غير ما ذكر كما اقترحوا بقولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} [الإسرار: 92] ونحو ذلك من عظائم الآيات التي علقوا بها إيمانهم.
وجوز حمل بعض الآيات في قوله سبحانه: {يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايات رَبّكَ} على ما يعم مقترحاتهم وغيرهما من الدواهي العظام السالبة للاختيار الذي يدور عليه فلك التكليف وهو كلام في نفسه ليس بالدون ولكن إذا صح الحديث فهو مذهبي، والتعبير بالبعض للتهويل والتفخيم كما أن إضافة الآيات إلى اسم الرب المنبئ عن المالكية الكلية لذلك، وإضافته إلى ضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف. وتنكير {نَفْسًا} للتعميم. وجملة {لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ} في موضع النصب صفة لنفسًا فصل بينهما بالفاعل لاشتمالها على ضمير الموصوف ولا ضير فيه لأنه غير أجنبي منه لاشتراكهما في العامل. وجوز كونها استئنافية و{يَوْمٍ} منصوب بلا ينفع. وامتناع عمل ما بعد لا فيما قبلها إنماهو عند وقوعها جواب القسم.
وقرأ حمزة والكسائي {يَأْتِيهِمُ} بالياء لأن تأنيث الملائكة غير حقيقي. وقرئ {يَوْمٍ} بالرفع على الابتداء. والخبر هو الجملة والعائد محذوف أي لا ينفع فيه. وقرأ أبو العالية وابن سيرين {لاَّ تَنفَعُ} بالتاء الفوقانية. وخرجها ابن جني على أنها من باب قطعت بعض أصابعه فالمضاف فيه قد اكتسب التأنيث من المضاف إليه كونه شبيهًا بما يستغني عنه، وقال أبو حيان: إن التأنيث لتأويل الإيمان بالعقيدة والمعرفة مثل جاءته كتابي فاحتقرها على معنى الصحيفة.
وقوله سبحانه: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمانها خَيْرًا} عطف على {ءامَنتُ} والكلام محمول على نفي الترديد المستلزم للعموم المفيد نطوقه لاشتراط عدم النفع بعدم الأمرين معًا الإيمان المقدم والخير المكسوب فيه وفهومه لاشتراط النفع بتحقق أحدهما بطريق منع الخلو دون الانفصال الحقيقي. والمعنى أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسًا لم يصدر عنها من قبل أما الإيمان المجرد أو الخير المكسوب فيه فيتحقق الخير بأيهما كان حسا تنطق به النصوص الكريمة من الآيات والأحاديث الصحيحة. والمعتزلة يقولون: إن الترديد بين النفيين، والمراد نفي العموم لا عموم النفي. والمعنى أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسًا غير مقدمة إيمانها أو مقدمة إيمانها غير كاسبة فيه خيرًا. وهذا صريح فيما ذهبوا إليه من أن الإيمان المجرد عن العمل لا يعتبر ولا ينفع صاحبه. ولم يحملوا ذلك على عموم النفي كما قرروه في قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] لأن ذلك حيث لم تقم قرينة حالية أو مقالية على خلافه وهنا قد قامت قرينة على خلافه فإنه لو اعتبر عموم النفي لغى ذكر اشتراط عدم النفع بالخلو عن كسب الخير في الإيمان ضرورة أنه إذا انتفى الإيمان قبل ذلك اليوم انتفى كسب الخير فيه قطعًا على أن الموجب للخلود في النار هو عدم الإيمان من غير أن يكون لعدم كسب الخير دخل ما في ذلك أصلًا فيكون ذكره بصدد بيان ما يوجب الخلو لغلوًا من الكلام أيضًا.
وأجاب شيخ الإسلام عن ذلك بأنه مبني على توهم أن المقصود بوصف النفس بالعدمين المذكورين مجرد بيان إيجابهما للخلود فيها وعدم نفع الإيمان الحادث في إنجائها عنه وليس كذلك وإلا لكفى في البيان أن يقال: لا ينفع نفسًا إيمانها الحادث بل المقصود الأصلي من وصفها بذينك العدمين في أثناء بيان عدم نفع الإيمان الحادث تحقيق أن موجب النفع إحدى ملكيتهما أعني الإيمان السابق والخير المكسوب فيه لما ذكر من الطريقة والترغيب في تحصيلهما في ضمن التحذير من تركهما؛ ولا سبيل إلى أن يقال: كما أن عدم الأول مستقل في إيجاب الخلود في النار فيلغو ذكر عدم الثاني كذلك وجود مستقل في إيجاب الخلاص عنها فيكون ذكر الثاني لغوًا لما أنه قياس مع الفارق كيف لا والخلود فيها أمر لا يتصور فيه تعدد العلل.
وأما الخلاص منها مع دخول الجنة فله مراتب بعضها مترتب على نفس الإيمان وبعضها على فروعه المتفاوتة كمًا وكيفًا. ولم يقتصر على إتيان ما يوجب أصل النفع وهو الإيمان السابق مع أنه المقابل بما لا يوجبه أصلًا وهو الإيمان الحادث بل قرن به ما يوجب النفع الزائد أيضًا إرشادًا إلى تحري الأعلى وتنبيهًا على كفاية الأدنى وإقناطًا للكفرة عما علقوا به أطماعهم الفارغة من أعمال البر التي عملوها في الكفر مما هو من باب المكارم وأن الإيمان الحادث كما لا ينفعهم وحده لا ينفعهم بانضمام أعمالهم السابقة واللاحقة. ثم قال: ولك أن تقول: المقصود بوصف النفس بما ذكر من العدمين التعريض بحال الكفرة في تمردهم وتفريطهم في كل واحد من الأمرين الواجبين عليهم وإن كان وجوب أحدهما منوطًا بالآخر كما في قوله سبحانه: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى ولكن كَذَّبَ وتولى} [القيامة: 31، 32] تسجيلًا عليهم بكمال طغيانهم وإيذانًا بتضاعف عقابهم لما تقرر من أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة كما ينبئ عنه قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة} [فصّلت: 6، 7] انتهى.
وقيل في دفع اللغوية غير ذلك، وأجاب بعضهم عن متمسك المعتزلة بأن الآية مشتملة على ما سمي في علم البلاغة باللف التقديري كأنه قيل: لا ينفع نفسًا إيمانها ولا كسبها في إيمانها خيرًا لم تكن آمنت من قبل أو لم تكن كسبت خيرًا فاقتصر للعلم به وفيه خفاء لا يخفى، ومثله ما تفطن له بعض المحققين وإن تم الكلام به من غير لف ولا اعتبار اقتصار وهو أن معنى الآية أنه لا ينفع الإيمان باعتبار ذاته إذا لم يحصل قبل ولا باعتبار العمل إذا لم يعمل قبل، ونفع الإيمان باعتبار العمل أن يصير سببًا لقبول العمل فإن العبارة لا تحتمله ولا يفهم منها من غير اعتبار تقدير في نظم الكلام، وقال مولانا ابن الكمال: إن المراد بالإيمان في الآية المعرفة كما يرشد إليه قراءة {لا تنفع} بالتاء وبكسب الخير الإذعان؛ ونحن معاشر أهل السنة والجماعة نقول بما هو موجب النص من أن الإيمان النافع مجموع الأمرين ولا حجة فيه للمخالف لأن مبناها حمل الايمان على المعنى الإصطلاحي المخترع بعد نزول القرآن وتخصيص الخير بما يكون بالجوارح وكل منهما خلاف الأصل والظاهر، ولو سلم فنقول: الإيمان النافع لابد فيه من أمرين الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان وقد عبر عن الأول بقوله سبحانه: {ءامَنتُ} وعن الثاني بقوله تعالى: {أَوْ كَسَبَتْ} فالكسب يكون بالآلات البدنية ومنها اللسان فمنطوق الآية على مذهبنا انتهى.
ولا يخفى عليك أن الألفاط المستعملة في كلام الشارع حقائق شرعية يتبادر منها ما علم بلا قرية، والإيمان وإن صح أنه لم ينقل عن معناه اللغوي الذي هو تصديق القلب مطلقًا وإن استعمل في التصديق الخاص إلا أن المتبادر منه هذا التصديق وحينئذ فكلام هذا العلامة لا يخلو عن نظر، وأجاب القاضي البيضاوي بيض الله تعالى غرة أحواله بأن لمن اعتبر الإيمان المجرد عن العمل وقال بأنه ينفع صاحبه حيث يخلصه عن الخلود في النار تخصيص هذا الحكم بذلك أي أن هذا الحكم أعني عدم نفع الإيمان المجرد صاحبه مخصوص بذلك اليوم عنى أنه لا ينفعه فيه ولا يلزم منه أنه لا ينفعه في الآخرة في شيء من الأوقات، وليس المراد أن المحكوم عليه بعدم النفع هو ما حدث في ذلك اليوم من الإيمان والعمل، ولا يلزم من عدم نفع ماحدث فيه عدم نفع الإيمان السابق عليه وإن كان مجردًا عن العمل كما قيل لأن هذا ليس من تخصيص الحكم في شيء بل هو تخصيص للمحكوم عليه قد يرجع حاصله إلى اشتمال الآية على اللف التقديري كما أشرنا إليه.
ويرد عليه أنه يلزم منه تخصيص الحكم بعدم نفع الإيمان الحادث في ذلك اليوم به أيضًا ولا قائل به إذ هو لا ينفع صاحبه في شيء من الأوقات بالإتفاق. ويمكن دفعه بأن التخصيص في حكم عدم النفع إنما يلاحظ بالنظر إلى الإيمان المجرد وباعتباره فقط على أن يكون معنى الآية يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع الإيمان الغير السابق إليه صاحبه فيه ولا الإيمان الغير المكتسب فيه الخير وإن نفع هو بالآخرة إلا أن في هذا تخصيصًا في الحكم والمحكوم به فتأمل، وبأن له أيضًا صرف قوله سبحانه: {كَسَبَتْ} عن أن يكون معطوفًا على {ءامَنتُ} إلى عطفه إلى {لَمْ تَكُنْ} لكن بعد جعل أو عنى الواو وحمل الإيمان في {لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} على الإيمان الحادث في ذلك اليوم وإذا لم ينفع ذلك مع كسب الخير فيه يفهم منه عدم نفعه بدونه بالطريق الأولى، وأنت تعلم أن مثل هذا الاحتمال يضر بالاستدلال ونحن بصدد الطعن باستدلالهم فلا يضرنا أن فيه نوع بعد، ومن عجيب ما وقفت عليه لبعض فضلاء الروم في الجواب أن أو عنى إلا وبعدها مضارع مقدر مثلها في قول الحريري في «المقامة التاسعة»: فوالله ما تمضمضت مقلتي بنومها ولا تمخضت ليلتي عن يومها أو ألفيت أبا زيد السروجي والأصل أو يكون كسبت أي إلا أن يكون، والمراد من هذا الاستثناء المبالغة في نفي النفي بتعليقه بالمحال كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] و{ءانٍ تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 32] في رأي. وقول الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب

وحاصل المعنى فيما نحن فيه إذا جاء ذلك إليهم لا ينفع الإيمان نفسًا لم تكن آمنت من قبل ذلك اليوم إلا أن تكون تلك النفس التي لم تكن آمنت من قبل كسبت في الإيمان خيرًا قبل ذلك اليوم وكسب الخير في الإيمان قبل ذلك اليوم للنفس التي لم تكن آمنت قبل ممتنع فالنفع المطلوب أولى بأن يكون ممتنعًا، وقد أجيب عن الاستدلال بوجوه أخر، وحاصل جميع ذلك أن الآية لما فيها من الاحتمالات لا تكون معارضة للنصوص القطعية المتون القوية التي لا يشوبها مثل ذلك الصادحة بكفاية الإيمان المجرد عن العمل في الإنجاء من العذاب الخالد ولو بعد اللتيا والتي، وبعد ذلك كله يرد على المعتزلة أن الخير نكرة في سياق النفي فيعم ويلزم أن يكون نفع الإيمان جرد الخير ولو واحدًا وليس ذلك مذهبهم فإن جميع الأعمال الصالحة داخلة في الخير عندهم.
{قُلْ} لهم بعد بيان حقيقة الحال على وجه التهديد {انتظروا} ما تنتظرونه من إتيان أحد هذه الأمور {إِنَّا مُنتَظِرُونَ} لذلك وحينئذ نفوز وتهلكون، قيل: في هذا تأييد لكون المراد بما ينتظرونه إتيان ملائكة العذاب أو إتيان أمره تعالى به وعدة ضمنية لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عاينتهم بما يحيق بالكفرة من العقاب، ولعل ذلك هو الذي شاهدوه يوم بدر.