فصل: تفسير الآية رقم (16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (16):

{قَالَ فَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)}
{قَالَ} استئناف كنظائره {فَا أَغْوَيْتَنِى} الفاء لترتيب مضمون الجملة التي بعد على الإنظار، والباء إما للقسم أو للسببية، وما على التقديرين مصدرية، والجار والمجرور متعلق بأقسم؛ وقيل: إنه على تقدير السببية متعلق بما بعد اللام، وفيه أن لها الصدر على الصحيح فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وجوز بعضهم كون ما استفهامية لم يحذف ألفها وأن الجار متعلق بأغويتني ولا يخفى ضعفه. والإغواء خلق الغي وأصل الغي الفساد ومنه غوى الفصيل وغوى إذا بشم وفسدت معدته، وجاء عنى الجهل من اعتقاد فاسد كما في قوله سبحانه: {مَا ضَلَّ صاحبكم وَمَا غوى} [النجم: 2] وعنى الخيبة كما في قوله:
فمن يلق خيرًا يحمد الناس أمره ** ومن يغو لا يعدم على الغي لائمًا

ومنه قوله تعالى: {وعصى ءادَمَ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] واستعمل عنى العذاب مجازًا بعلاقة السببية ومنه قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا} [مريم: 59].
ولا مانع عند أهل السنة أن يراد بالإغواء هنا خلق الغي عنى الضلال أي بما أضللتني وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ونسبة الإغواء بهذا المعنى إلى الله عز وجل مما يقتضيه عموم قوله سبحانه: {خالق كُلّ شَيْء} [الأنعام: 102] والمعتزلة يأبون نسبة مثل ذلك إليه سبحانه وقالوا في هذا تارة: إنه قول الشيطان فليس بحجة، وأولوه أخرى بأن الإغواء النسبة إلى الغي كأكفره إذا نسبه إلى الكفر أو إنه عنى إحداث سبب الغي وإيقاعه وهو الأمر بالسجود. وقال بعضهم: إن الغي هنا عنى الخيبة أي بما خيبته من رحمتك أو الهلاك أي بما أهلكته بلعنك إياه وطردك له، والذي دعاهم إلى هذا كله عدم قولهم بأن الله تعالى خالق كل شيء وأنه سبحان لا خالق غيره ولم يكفهم ذلك حتى طعنوا بأهل السنة القائلين بذلك. وما الظن بطائفة ترضى لنفسها من خفايا الشرك بما لم يسبق به إبليس عليه اللعنة نعوذ بالله سبحانه وتعالى من التعرض لسخطه. نعم الإغواء عنى الترغيب بما فيه الغواية والأمر به كما هو مراد اللعين من قوله: {لاَغْوِيَنَّهُمْ} [ص: 82] مما لا يجوز من الله تعالى شأنه كما لا يخفى، ثم إن كانت الباء للقسم يكون المقسم به صفة من صفات الأفعال وهو مما يقسم به في العرف وإن لم تجر الفقهاء به أحكام اليمين. ولعل القسم وقع من اللعين بهما جميعًا فحكى تارة قسمه بأحدهما وأخرى بالآخر، وإن كانت سببية فالقسم بالعزة أي فبسبب إغوائك إياي لأجلهم أقسم بعزتك.
{لاقْعُدَنَّ لَهُمْ} أي لآدم عليه السلام وذريته ترصدًا بهم كما يقعد القطاع للسابلة {صراطك المستقيم} الموصل إلى الجنة وهو الحق الذي فيه رضاك.
أخرج أحمد والنسائي وابن حبان والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن سبرة بن الفاكه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الشيطان قعد لابن آدم في طرقه فقعد له بطريق الإسلام فقال أتسلم وتذر دينك ودين آبائك؟ فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسمائك وإنما مثل المهاجر كالفرس في طوله؟ فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: هو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصاه فجاهد» ثم قال صلى الله عليه وسلم: «فمن فعل ذلك منهم فمات أو وقصته دابته فمات كان حقًا على الله تعالى أن يدخله الجنة» ولعل الاقتصار منه صلى الله عليه وسلم على هذه المذكورات للاعتناء بشأنها والتنبيه على عظم قدرها لما أن المقام قد اقتضى ذلك لا للحصر. ونظير ذلك ما روي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما وغيرهما من تفسير الصراط المستقيم بطريق مكة والكلام من باب الكناية أو التمثيل، ونصب {الصراط} إما على أنه مفعول به بتضمين {أقعدن} معنى ألزمن أو على نزع الخافض أي على صراطك كقولك ضرب زيد الظهر والبطن أو على الظرفين وجاء نصب ظرف المكان المختص عليها قليلًا، ومن ذلك في المشهور قوله:
لدن بهز الكف يعسل متنه ** فيه كما عسل الطريق الثعلب

.تفسير الآية رقم (17):

{ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)}
{المستقيم ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ} أي من الجهات الأربع التي يعتاد هجوم العدو منها، والمراد لأسولن لهم ولأضلنهم بقدر الإمكان إلا أنه شبه حال تسويله ووسوسته لهم كذلك بحال إتيان العدو لمن يعاديه من أي جهة أمكنته ولذا لم يذكر الفوق والتحت إذ لا إتيان منهما فالكلام من باب الاستعارة التمثيلية و{لاقْعُدَنَّ لَهُمْ} [الأعراف: 16] على ما قيل ترشيح لها، وبعضهم لم يخرج الكلام على التمثيل واعتذر عن ترك جهة الفوق بأن الرحمة تنزل منها وعن ترك جهة التحت بأن الإتيان منها يوحش، والاعتذار عن الأول بما ذكر أخرجه غير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروي أيضًا عن عكرمة والشعبي والاعتذار عن الثاني نسبه الطبرسي إلى الحبر أيضًا، ولا يبعد على ذلك أن يكون الكلام تمثيلًا أيضًا ويكون الفرق بين التوجيهين بأن ترك هاتين الجهتين على الأول لعدمهما في الممثل به وعلى الثاني لعدمهما في الممثل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} من قبل الآخرة لأنها مستقبلة آتية وما هو كذلك كأنه بين الأيدي {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من قبل الدنيا لأنها ماضية بالنسبة إلى الآخرة ولأنها فانية متروكة مخلفة {وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ} من جهة حسناتهم وسيآتهم، وتفسير الأيمان بالحسنات والشمائل بالسيآت لأنهم يجعلون المحبوب في جهة اليمين وغيره في جهة الشمال كما قال:
بثين أفي يمنى يديك جعلتني ** فأفرح أم صيرتني في شمالك

وقال الأصمعي: يقال هو عندنا باليمين أي نزلة حسنة وبالشمال على عكس ذلك، والكلام على هذا يجوز أن يكون فيه مجازات أو استعارات أو كنايات. ونظير هذا ما قيل: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} من حيث يعلمون ويقدرون على التحرز عنه {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من حيث لا يعلمون و{عَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ} من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم تيقظهم واحتياطهم ومن حيث لا يتيسر لهم ذلك، وقال بعض حكماء الإسلام: إن في البدن قوى أربعا: القوة الخالية التي تجتمع فيها مثل المحسوسات وموضعها البطن المقدم من الدماغ وإليها الإشارة بقوله: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} والقوة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات ومحلها البطن المؤخر من الدماغ وإليها الإشارة بقوله: {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} والقوة الشهوانية ومحلها الكبد وهو عن يمين الإنسان وإليها الإشارة بقوله: {وَعَنْ أيمانهم} والقوة الغضبية ومحلها القلب الذي هو في الشق الأيسر وإليها الإشارة بقوله: {وَعَن شَمَائِلِهِمْ} والشيطان ما لم يستعن بشيء من هذه القوى لا يقدر على إلقاء الوسوسة، وهذا عندي نوع من الإشارة كما لا يخفى، وقيل: غير ذلك، وإنما عدى الفعل إلى الأولين بحرف الابتداء لأنه منهما متوجه إليهم وإلى الآخرين بحرف المجاوزة فإن الآتي منهما كالمنحرف عنهم المار على عرضهم، ونظيره قولهم: جلست عن يمينه، وذكر القطب في بيان وجه ذلك ما بناه على ما قاله بعض حكماء الإسلام وهو أن من للاتصال وعن للانفصال، وأثر الشيطان في قوتي الدماغ حصول العقائد الباطلة كالشرك والتشبيه والتعطيل، وهي مرتسمة في النفس الإنسانية متصلة بها، وفي الشهوة والغضب حصول الأعمال السيئة الشهوانية والغضبية وهي تنفصل عن النفس وتنعدم فلهذا أورد في الجهتين الأوليين {مِنْ} الاتصالية وفي الأخريين {عَنْ} الانفصالية، وقيل: خص اليمين والشمال بعن لأن ثمة ملكين يقتضيان التجاوز عن ذلك وفيه نظر لا يخفى، وادعى بعضهم أن الآية كالدليل على أن اللعين لا يمكنه أن يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه إذ لو أمكنه ذلك لذكره في باب المبالغة؛ وحديث:«إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» من باب التمثيل. وقد يجاب بأن التمثيل اقتضى عدم الذكر فتدبر.
{وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين} أي مطيعين، وإنما قال ذلك ظنًا كما روي عن الحسن. وأبي مسلم لقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 2] لما رأى أن للنفس تسع عشرة قوة الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب والقوى السبع النباتية الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة وإنها بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم وأن ليس هناك ما يدعو إلى عالم الأرواح إلا قوة واحدة وهي العقل وما يصنع واحد مع متعدد:
أرى ألف بأن لا يقوم بهادم ** فكيف ببان خلفه ألف هادم

وعن الجبائي أنه سمع ذلك من الملائكة فقاله على سبيل القطع، وقيل: إنه رآه قبل في اللوح المحفوظ. ووجد إما عنى صادف فينصب مفعولًا واحدًا وهو {أَكْثَرُهُمْ} وشاكرين حال، وإما عنى علم فينصب مفعولين ثانيهما {شاكرين} والجملة إما معطوفة على المقسم عليه وإما مستأنفة، وإنما لم يفرعها على ما تقدم لأن مضمونها قتضى الجبلة أيضًا لا جرد إغوائه، ووجه التعبير بالأكثر ظاهر.

.تفسير الآية رقم (18):

{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)}
{قَالَ} استئناف كما مر غير مرة. {أَخْرَجَ مِنْهَا} أي من الجنة أو من زمرة الملائكة أو من السماء الخلاف السابق {مَذْءومًا} أي مذمومًا كما روي عن ابن زيد أو مهانًا لعينا كما روي عن ابن عباس وقتادة، وفعله ذأم. وقرأ الزهري {مذومًا} بذال مضمومة وواو ساكنة وفيه احتمالان الأول أن يكون مخففًا من المهموز بنقل حركة الهمزة إلى الساكن ثم حذفها، والثاني أن يكون من ذام بالألف كباع وكان قياسه على هذا مذيم كمبيع إلا أنه أبدلت الواو من الياء على حد قولهم؛ مكول في مكيل مع أنه من الكيل، ونصبه على الحال وكذا قوله تعالى: {مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} وهو من الدحر عنى الطرد والإبعاد، وجوز في هذا أن يكون صفة.
واللام في قوله سبحانه: {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} على ما في الدر المصون موطئة للقسم ومن شرطية في محل رفع مبتدأ. وقوله عز اسمه {لأَمْلأَنَّ مَنْكُمْ أَجْمَعينَ} جواب القسم وهو ساد مسد جواب الشرط، والخلاف في خبر المبتدأ في مثل ذلك مشهور، وجوز أن تكون اللام لام الابتداء ومن موصولة مبتدأ صلتها {تَبِعَكَ} والجملة القسمية خبر. وقرأ عصمة عن عاصم {لِمَنْ} بكسر اللام فقيل. إنها متعلقة بلأملان. ورد بأن لام القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وقيل: إنها متعلقة بالذأم والدحر على التنازع وأعمال الثاني أي أخرج بهاتين الصفتين لأجل اتباعك وقيل: إن الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف يقدر مؤخرًا أي لمن اتبعك هذا الوعيد. ودل على قوله سبحانه: {لاَمْلاَنَّ} إلخ، ولعل ذلك مراد الزمخشري بقوله: أن {لاَمْلاَنَّ} في محل المبتدأ و{لَّمَن تَبِعَكَ} خبره كما يرشد إليه بيان المعنى. و{مّنكُمْ} عنى منك ومنهم فغلب فيه المخاطب كما في قوله سبحانه: {أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النحل: 55] ثم إن الظاهر أن هذه المخاطبات لأبليس عليه اللعنة كانت منه عز وجل من غير واسطة وليس المقصود منها الإكرام والتشريف بل التعذيب والتعنيف، وذهب الجبائي إلى أنها كانت بواسطة بعض الملائكة لأن الله تعالى لا يكلم الكافر وفيه نظر.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {المص} [الأعراف: 1] الألف إشارة إلى الذات الأحدية واللام إلى الذات مع صفة العلم والميم إلى معنى محمد وهي حقيقته والصاد إلى صورته عليه الصلاة والسلام. وقد يقال: الألف إشارة إلى التوحيد والميم إلى الملك واللام بينهما واسطة لتكون بينهما رابطة والصاد لكونه حرفًا كري الشكل قابلًا لجميع الأشكال كما قال الشيخ الأكبر قدس سره: فيه إشارة إلى أن الأمر وإن ظهر بالأشكال المختلفة والصور المتعددة أوله وآخره سواء، ولا يخفى لطف افتتاح هذه السورة بهذه الأحرف بناء على ما ذكره الشيخ قدس سره في «فتوحاته» من أن لكل منها ما عدا الألف الأعراف وأما الألف فقد ذكر نفعنا الله تعالى ببركات علومه أنه ليس من الحروف عند من شم رائحة من الحقائق لكن قد سمته العامة حرفًا فإذا قال المحقق ذلك فإنما هو على سبيل التجوز في العبادة والله تعالى أعلم بحقيقة الحال {كتاب أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ} أي ضيق من حمله فلا تسعه لعظمه فتتلاشى بالفناء والوحدة والاستغراق في عين الجمع.
{لِتُنذِرَ بِهِ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 2] أي ليمكنك الإنذار والتذكير إذ بالاستغراق لا ترى إلا الحق فلا يتأتى منك ذلك {وَكَم مّن قَرْيَةٍ} من قرى القلوب {أهلكناها} أفسدنا استعدادها {فَجَاءهَا بَأْسُنَا بياتا} أي بائتين على فراش الغفلة في ليل الشباب {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4] تحت ظلال الأمل في نهار المشيب {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق} [الأعراف: 8] هو عند كثير من الصوفية اعتبار الأعمال. وذكروا أن لسان ميزان الحق هو صفة العدل وإحدى كفتيه هو عالم الحس والكفة الأخرى هو عالم العقل فمن كانت مكاسبه من المعقولات الباقية والأخلاق الفاضلة والأعمال الخيرية المقرونة بالنية الصادقة ثقلت أي كانت ذا قدر وأفلح هو أي فاز بالنعيم الدائم ومن كانت مقتنياته من المحسوسات الفانية واللذات الزائلة والشهوات الفاسدة والأخلاق الرديئة خفت ولم يعتن بها وخسر هو نفسه لحرمانه النعيم هلاكه {وَلَقَدْ مكناكم فِي الأرض} إذ جعلناكم خلفاء فيها {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش} متعددة دون غبركم فإن له معيشة واحدة، وذلك لأن الإنسان فيه ملكية وحيوانية وشيطانية فمعيشة روحه معيشة الملك ومعيشة بدنه معيشة الحيوان ومعيشة نفسه الأمارة معيشة الشيطان. وله معايش غير ذلك وهي معيشة القلب بالشهود ومعيشة السر بالكشوف ومعيشة سر السر بالوصال «قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ» [الأعراف: 10] ولو شكرتم ما رضيتم بالدون. {وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم} أي ابتدأنا ذلك بخلق آدم عليه السلام وتصويره {ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ} فإنه المظهر الأعظم، وفي الخبر «خلق الله آدم على صورته» وفي رواية «على صورة الرحمن» {فَسَجَدُواْ} وانقادوا للحق {إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مّنَ الساجدين} [الأعراف: 11] لنقصان بصيرته {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12] أراد اللعين أنه من الحضرة الروحانية وأن آدم عليه السلام ليس كذلك {قَالَ فاهبط مِنْهَا} أي من تلك الحضرة {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} لأن الكبر ينافيها {فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين}
[الأعراف: 13] الأذلاء بالميل إلى مقتضيات النفس {قَالَ فَا أَغْوَيْتَنِى} قسم بما هو من صفات الأفعال ولم يكن محجوبًا عنها بل كان محجوبًا عن الذات الأحدية {لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم} [الأعراف: 16] وهو طريق التوحيد {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ} أي لأجتهدن في إضلالهم، وقد تقدم ما قاله بعض حكماء الإسلام في ذلك، وفي «تأويلات النيسابوري» كلام كثير فيه وما قاله البعض أحسنه في هذا الباب، وذكر بعضهم لعدم التعرض لجهتي الفوق والتحت وجها وهو أن الإتيان من الجهة الأولى غير ممكن له لأن الجهة العلوية هي التي تلي الروح ويرد منها الإلهامات الحقة والالقاءات الملكية ونحو ذلك، والجهة السفلية يحصل منها الأحكام الحسية والتدابير الجزئية في باب المصالح الدنيوية وذلك غير موجب للضلالة بل قد ينتفع به في العلوم الطبيعية والرياضية وفيه نظر. {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين} [الأعراف: 17] مستعملين ما خلق لهم لما خلق له. {قَالَ اخرج مِنْهَا} حقيرًا {مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} مطرودًا {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} بالأنانية ورؤية غير الله تعالى وارتكاب المعاصي {لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18] فتبقون محبوسين في سجين الطبيعة معذبين بنار الحرمان عن المراد وهو أشد العذاب وكل شيء دون فراق المحبوب سهل وهو سبحانه حسبنا ونعم الوكيل.