فصل: تفسير الآية رقم (55):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (55):

{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)}
ثم إنه تعالى بعد أن بين التوحيد وأخبر أنه المتفرد بالخلق والأمر أمر عبادة أن يدعوه مخلصين متذللين فقال عز من قائل: {ادعوا رَبَّكُمْ} الذي عرفتم شؤونه الجليلة، والمراد من الدعاء كما قال غير واحد السؤال والطلب وهو مخ العبادة لأن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى ذلك المطلوب وأنه عاجز عن تحصيله وعرف أن ربه تبارك وتعالى يسمع الدعاء ويعلم الحاجة وهو قادر على إيصالها إليه. ولا شك أن معرفة العبد نفسه بالعجز والنقص ومعرفته ربه بالقدرة والكمال من أعظم العبادات. وقيل: المراد منه هنا العبادة لأنه عطف عليه {وادعوه خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56] والمعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه وفيه نظر، أما أولًا فلأن المغايرة تكفي باعتبار المتعلقات كما تقول ضربت زيدًا وضربت عمرًا. وأما ثانيًا فلأنها لا تستدعي حمل الدعاء هنا على العبادة بل حمله على ذلك إما هناك أو هنا، وأما ثالثًا فلأنه خلاف التفسير المأثور كما ستعلمه إن شاء الله تعالى: {تَضَرُّعًا} أي ذوي تضرع أو متضرعين فنصبه على الحال من الفاعل بتقدير أو تأويل، وجوز نصبه على المصدرية وكذا الكلام فيما بعد. وهو من الضراعة وهي الذل والاستكانة يقال ضرع فلان لفلان إذا ذل له واستكان، وقال الزجاج التضرع التملق وهو قريب مما قالوا أي ادعوه تذللا، وقيل: التضرع مقابل الخفية واختاره أبو مسلم أي ادعوه علانية.
{وَخُفْيَةً} أي سرًا. أخرج ابن المبارك وابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن قال: لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم وذلك أنه تعالى يقول: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وأنه سبحانه ذكر عبدًا صالحًا فرضي له فعله فقال تعالى: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا} [مريم: 3] وفي رواية عنه أنه قال: «بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفًا». وجاء من حديث أبي موسى الأشعري أنه صلى الله عليه وسلم قال لقوم يجهرون: «أيها الناس إربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا إنكم تدعون سميعًا بصيرًا وهو معكم وهو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» والمعنى ارفقوا بأنفسكم واقصروا من الصياح في الدعاء. ومن هنا قال جمع بكراهة رفع الصوت به. وفي الانتصاف حسبك في تعين الإسرار فيه اقترانه في الآية بالتضرع فالإخلال به كالإخلال بالضراعة إلى الله تعالى في الدعاء وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع لقليل الجدوى فكذلك دعاء لا خفية فيه ولا وقار يصحبه، وترى كثيرًا من أهل زمانك يعتمدون الصراخ في الدعاء خصوصًا في الجوامع حتى يعظم اللغط ويشتد وتستك المسامع وتستد ولا يدرون أنهم جمعوا بين بدعتين رفع الصوت في الدعاء وكون ذلك في المسجد.
وروى ابن جرير عن ابن جريج أن رفع الصوت بالدعاء من الاعتداء المشار إليه بقوله سبحانه: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين} وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن زيد بن أسلم. وذهب بعضهم إلى أنه مما لا بأس به، ودعاء المعتدين الذي لا يحبه الله تعالى هو طلب ما لا يليق بالداعي كرتبة الأنبياء عليهم السلام والصعود إلى السماء. وإن منه ما ذهب جمع إلى أنه كفر كطلب دخول إبليس وأبي جهل وأضرابهما الجنة وطلب نزول الوحي والتنبي ونحو ذلك من المستحيلات لما فيه من طلب إكذاب الله تعالى نفسه. وأخرج أحمد في مسنده وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسالك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين}» وفصل آخرون فقالوا: الإخفاء أفضل عند خوف الرياء والإظهار أفضل عند عدم خوفه، وأولى منه القول بتقديم الإخفاء على الجهر فيما إذا خيف الرياء أو كان في الجهر تشويش على نحو مصل أو نائم أو قارئ أو مشتغل بعلم شرعي، وبتقديم الجهر على الإخفاء فيما إذا خلا عن ذلك وكان فيه قصد تعليم جاهل أو نحو إزالة وحشة عن مستوحش أو طرد نحو نعاس أو كسل عن الداعي نفسه أو إدخال سرور على قلب مؤمن أو تنفير مبتدع عن بدعة أو نحو ذلك، ومنه الجهر بالترضي عن الصحابة والدعاء لإمام المسلمين في الخطبة. وقد سن الشافعية الجهر بآمين بعد الفاتحة وهو دعاء ويجهر بها الإمام والمأموم عندهم.
وفرق بعضهم بين رفع الصوت جدًا كما يفعله المؤذنون في الدعاء بالفرج على المآذن وبين رفعه بحيث يسمعه من عنده فقال: لا بأس في الثاني غالبًا ولا كذلك الأول. والظاهر أن المراد بالمعتدين المجاوزون ما أمروا به في كل شيء ويدخل فيهم المعتدون في الدعاء دخولًا أوليًا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المعنى في الآية أدعوا ربكم في كل حاجاتكم من أمر الدنيا والآخرة ولا تعتدوا فتدعوا على مؤمن ومؤمنة بشر كالخزي واللعن. وقد اختلف العلماء في كفر من دعا على آخر بسلب الإيمان أو الموت كافرًا وهو من أعظم أنواع الإعتداء والمفتى به عدم الكفر.
وذكروا للدعاء آدابًا كثيرة، منها الكون على طهارة واستقبال القبلة وتخلية القلب من الشواغل وافتتاحه واختتامه بالتصلية على النبي صلى الله عليه وسلم ورفع اليدين نحو السماء وإشراك المؤمنين فيه وتحري ساعات الإجابة، ومنها يوم الجمعة عند كثير ساعة الخطبة ويدعو فيها بقلبه كما نص عليه أفضل متأخرى مصره الفاضل الطحطاوي في «حواشيه على الدر المختار» فيما نقله عنه أفقه المعاصرين ابن عابدين الدمشقي ووقت نزول الغيث والإفطار وثلث الليل الأخير وبعد ختم القرآن وغير ذلك مما هو مبسوط في محله.

.تفسير الآية رقم (56):

{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)}
{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض} نهى عن سائر أنواع الافساد كإفساد النفوس والأموال والأنساب والعقول والأديان {بَعْدَ إصلاحها} أي إصلاح الله تعالى لها وخلقها على الوجه الملائم لمنافع الخلق ومصالح المكلفين وبعث فيها الأنبياء بما شرعه من الأحكام {وادعوه خَوْفًا وَطَمَعًا} أي ذوي خوف من الرد لقصوركم عن أهلية الإجابة وطمع في إجابته تفضلًا منه، وقيل خوفًا من عقابه وطمعًا في جزيل ثوابه. وقال ابن جريج: المعنى خوف العدل وطمع الفضل. وعن عطاء خوفًا من الميزان وطمعًا في الجنان. وأصل الخوف انزعاج القلب لعدم أمن الضرر، وقيل: توقع مكروه يحصل فيما بعد، والطمع توقع محبوب يحصل له، ونصبهما على الحالية كما أشير إليه. وجوز أن يكون على المفعولية لأجله. قيل: ولما كان الدعاء من الله تعالى كان كرره وقيده أولًا بالأوصاف الظاهرة وآخرًا بالأوصاف الباطنة، وقيل: الأمر السابق من قبيل بيان شرط الدعاء والثاني من قبيل بيان فائدته، وقيل: لا تكرار، فما تقدم أمر بالدعاء عنى السؤال وهذا أمر بالدعاء عنى العبادة، والمعنى اعبدوه جامعين في أنفسكم الخوف والرجاء في عبادتكم القلبية والقالبية وهو كما ترى، ومن الناس من أبقى الدعاء على المعنى الظاهر وعمم في متعلق الخوف والطمع، والمعنى عنده ادعوه وأنتم جامعون في أنفسكم الخوف والرجاء في أعمالكم كلها، وليس بشيء والمختار عند جلة المفسرين ما تقدم.
{إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مّنَ المحسنين} أعمالهم، ومن الإحسان في الدعاء أن يكون مقرونًا بالخوف والطمع. وقد كثر الكلام في توجيه تذكير {قَرِيبٌ} مع أنه صفة مخبر بها عن المؤنث، وقد نقل ابن هشام في ذلك وجوهًا ذاكرًا ما لها وما عليها. الأول: أن الرحمة في تقدير الزيادة والعرب قد تزيد المضاف قال سبحانه وتعالى: {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الاعلى} [الأعلى: 1] أي سبح ربك ألا ترى أنه يقال في التسبيح سبحان ربي ولا يقال سبحان اسم ربي والتقدير إن الله تعالى قريب فالخبر في الحقيقة عن الاسم الأعظم، وتعقبه بأن هذا لا يصح عند علماء البصرة لأن الأسماء لا تزاد في رأيهم وإنما تزاد الحروف، ومعنى الآية عندهم نزه أسماء ربك عما لا يليق بها فلا تجر عليه سبحانه اسمًا لا يليق بكماله أو اسما غير مأذون فيه فلا زيادة، الثاني: إن ذلك على حذف مضاف أي إن مكان رحمة الله تعالى قريب فالإخبار إنما هو عن المكان وهو مذكر، ونظير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم مشيرًا إلى الذهب والفضة «إن هذين حرام» فإن الإخبار بالمفرد لأن التقديران استعمال هذين، وقول حسان:
يسقون من ورد البريص عليهم ** بردى يصفق بالرحيق السلسل

فإنه بتقدير ماء بردى فلذا قال: يصفق بالتذكير مع أن بردى مؤنث. وتعقب بأن هذا المضاف بعيد جدًا لا قريب والأصل عدم الحذف والمعنى مع تركه أحسن منه مع وجوده. الثالث: أنه على حذف الموصوف أي شيء قريب كما قال الشاعر:
قامت تبكيه على قبره ** من لي من بعدك يا عامر

تركتني في الدار ذا غربة ** قد ذل من ليس له ناصر

أي شخصًا ذا غربة. وعلى ذلك يخرج قول سيبويه قولهم: امرأة حائض أي شخص ذو حيض.
وقول الشاعر أيضًا:
فلو أنك في يوم الرخاء سألتني ** طلاقك لم أبخل وأنت صديق

وتعقب بأنه أشد ضعفًا من سابقه لأن تذكير صفة المؤنث باعتبار إجرائها على موصوف مذكر محذوف شاذ ينزه كلام الله تعالى عنه، على أنه لا فصاحة في قولك: رحمة الله شيء قريب ولا لطافة بل هو عند ذي الذوق كلام مستهجن، ونحو حائض من الصفات المختصة لا يحتاج إلى العلامة لأنها لدفع اللبس ولا لبس مع الاختصاص. وسيبويه وإن كان جوادًا في مثل هذا المضمار إلا أن الجواد قد يكبو، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، ألا تراه كيف جوز في باب الصفة المشبهة مررت برجل حسن وجهه بإضافة حسن إلى الوجه وإضافة الوجه إلى ضمير الرجل وخالفه في ذلك جميع البصريين والكوفيين لأنه قد أضاف الشيء إلى نفسه. وقد علمت أيضًا أن الأصل عدم الحذف. الرابع: أن العرب تعطي المضاف حكم المضاف إليه في التذكير والتأنيث إذا صح الاستغناء عنه وهو أمر مشهور فالرحمة لإضافتها إلى الاسم الجليل قد اكتسبت ما صحح الإخبار عنها بالمذكر. وتعقبه أبو علي الفارسي في تعاليقه على الكتاب بأن هذا التقدير والتأويل في القرآن بعيد فاسد وإنما يجوز هذا في ضرورة الشعر. وقال الروذراوري: إن اكتساب التأنيث في المؤنث قد صح بكلام من يوثق به، وأما العكس فيحتاج إلى الشواهد ومن ادعى الجواز فعليه البيان. الخامس: أن فعيلا عنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث كرجل جريح وامرأة جريح. وتعقب بأنه خطأ فاحش لأن فعيلًا هنا عنى فاعل. واعترض أيضًا بأن هذا لا ينقاس خصوصًا من غير الثاني. السادس: أن فعيلا عنى فاعل قد يشبه بفعيل عنى مفعول فيمنع من التاء في المؤنث كما قد يشبهون فعيلا عنى مفعول بفعيل عنى فاعل فيلحقونه التاء. فالأول كقوله تعالى: {مَن يُحىِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ} [يس: 78] ومنه الآية الكريمة. والثاني كقولهم: خصلة ذميمة وصفة حميدة حملا على قولهم: قبيحة وجميلة ولم يتعقب هذا بشيء. وتعقبه الروذراوري بأنه مجرد دعوى لا دليل عليه وإن قاله النحويون. ويرد عليه أن أحد الفعلين مشتق من لازم والآخر من متعد فلو أجري على أحدهما حكم الآخر لبطل الفرق بين المتعدي واللازم إن كان على وجه العموم وإن كان على وجه الخصوص فأين الدليل عليه وفيه نظر.
السابع: أن العرب قد تخبر عن المضاف إليه وتترك المضاف كقوله تعالى: {فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين} [الشعراء: 4] فإن خاضعين خبر عن الضمير المضاف إليه الأعناق لا عن الأعناق ألا ترى أنك إذا قلت: الأعناق خاضعون لا يجوز لأن الجمع المذكر السالم إنما يكون من صفات العقلاء فلا يقال أيد طويلون ولا كلاب نابحون. وتعقب بأنه لعل هذا راجع إلى القول بالزيادة وقد علمت ما فيه. وقد قيل: إن المراد بالأعناق الرؤساء والمعظمون. وقيل: الجماعة كما يقال: جاء زيد في عنق من الناس أي في جماعة. وقال الروذراوري: إنه لو ساغ الإعراض عن المضاف والحكم على المضاف إليه لساغ أن يقال: كان صاحب الدرع سابغة ومالك الدار متسعة وليس فليس. الثامن: أن الرحمة والرحم متقاربان لفظًا وهو واضح ومعنى بدليل النقل عن أئمة اللغة فأعطي أحدهما حكم الآخر. وتعقب بأنه ليس بشيء لأن الوعظ والموعظة تتقارب أيضًا فينبغي أن يجيز هذا القائل أن يقال: موعظة نافع وعظة حسن وكذلك الذكر والذكرى فينبغي أن يقال: ذكرى نافع كما يقال: ذكر نافع. التاسع: أن فعيلا هنا عنى النسب فقريب معناه ذات قرب كما يقول الخليل في حائض: إنه عنى ذات حيض. وتعقب بأنه باطل لأن اشتمال الصفات على معنى النسب مقصور على أوزان خاصة وهي فعال وفعل وفاعل.
العاشر: ما قاله الروزراوري أن فعيلا مطلقًا يشترك فيه المؤنث والمذكر. وتعقب بأنه من أفسد ما قيل لأنه خلاف الواقع في كلام العرب فإنهم يقولون: امرأة ظريفة وعليمة وحليمة ورحيمة ولا يجوز التذكير في شيء من ذلك ولهذا قال أبو عثمان المازني في قوله تعالى: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] أن بغيا فعول والأصل بغوى ثم قبلت الواو ياء والضمة كسرة وأدغمت الياء في الياء، وأما قوله:
فتور القيام قطيع الكلام ** تفتر عن در عروب حصر

فالجواب عنه من أوجه: أحدها: أنه نادر. الثاني: أن أصله قطيعة ثم حذف التاء للإضافة كقوله تعالى: {لَّيْسَ البر} [الأنبياء: 73] والإضافة مجوزة لحذف التاء كما توجب حذف النون والتنوين. وقد نص على ذلك غير واحد من القراء الثالث: أنه إنما جاز ذلك لمناسبة فتور لأنه فعول وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث. الحادي عشر: أنهم يقولون في قرب النسب: قريب وإن أجري على مؤنث نحو فلانة قريب مني ويفرقون بينه وبين قرب المسافة. وتعقب بأنه مبني على أن يقال في القرب النسبي: فلان قرابتي. وقد نص جمع على أن ذلك خطأ وأن الصواب أن يقال فلان ذو قرابتي كما قال:
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ** وذو قرابته في الحي مسرور

الثاني عشر: من تأويل المؤنث ذكر موافق له في المعنى. واختلف القائلون بذلك فمنهم من يقدر إن إحسان الله قريب ومنهم من يقدر لطف الله قريب. ومن ذلك قوله:
أرى رجلًا منهم أسيفًا كأنما ** يضم إلى كشحيه كفًا مخضبا

فأول الكف على معنى العضو. وتعقب بأنه باطل لأن ذلك إنما يقع في الشعر وقد تقدم أنه لا يقال: موعظة حسن مع أن الموعظة نزلة الوعظ في المعنى ويقاربه في اللفظ أيضًا. وأما البيت فنص النحاة على أنه ضرورة وما هذه سبيله لا يخرج عليه كلام الله سبحانه وتعالى، على أن بعضهم قال: إن الكف قد يذكر. الثالث عشر: أن المراد بالرحمة هنا المطر ونقل ذلك عن الأخفش والمطر مذكر، وأيد بأن الرحمة فيما بعد عنى المطر. واعترض عليه من أوجه. أحدها: أنه لو كانت الرحمة الثانية هي الرحمة الأولى لم تذكر ظاهرة على ما هو الظاهر إذ الموضع للضمير. ثانيها: أنه إذا أمكن الحمل على العام لا يعدل إلى الخاص ولا ضرورة هنا إلى الحمل كما لا يخفى، ثالثها: أن الرحمة التي هي المطر لا تختص بالمحسنين لأن الله سبحانه يرزق الطائع والعاصي، وإنما المختص في عرف الشرع هو الرحمة التي هي الغفران والتجاوز والثواب. والجواب عن هذا بأنه كما جاز تخصيص الخطاب بالرحمة بالمعنى الشرعي بالمحسنين على سبيل الترغيب كذلك يجوز تخصيص المطر الذي هو سبب الإرزاق بهم ترغيبًا في الإحسان ليس بشيء عندي. رابعها: أنك لو قلت: مطر الله قريب لوجدت هذه الإضافة مما تمجها الأسماع وتنبو عنها الطباع بخلاف إن رحمت الله فدل على أنه ليس نزلته في المعنى. وأجيب عنه بأن مجموع رحمة الله استعمل مرادًا به المطر، وبأن الإضافة في مطر الله إنما لم تحسن للعلم بالاختصاص ولا كذلك رحمة الله تعالى، وهذا كما يحسن أن يقال: كلام الله تعالى ولا يحسن أن يقال: قرآن الله سبحانه، والإنصاف أن هذا القول ليس بشيء كما لا يخفى على ذي ذهن طري. وقال ابن هشام: لا بعد في أن يقال: إن التذكير في الآية الكريمة لمجموع أمور من الأمور المذكورة. واختار أنه لما كان المضاف يكتسب من المضاف إليه التذكير وكانت الرحمة مقاربة للرحم في اللفظ وكان قريب على صيغة فعيل وفعيل الذي عنى فاعل قد يحمل على فعيل عنى مفعول جاء التذكير. وادعى أنه لا يناقض ما قدمه من الاعتراضات لأنه لا يلزم من انتفاء اعتبار شيء من هذه الأمور مستقلًا انتفاء اعتباره مع غيره اه. ولا يخلو عن حسن سوى أنه إذا أخذ في المجموع كون الرحمة عنى المطر يفسد الزرع، وقد جرى في هذه الآية بحث طويل بين ابن مالك والروذراوري وفي كلام كل حق وصواب، وفي نقل ذلك ما يورث السآمة.
وأجاب الجوهري بأن الرحمة مصدر والمصادر لا تجمع ولا تؤنث وهو كما ترى. وقيل: التذكير لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي ولا يخفى بعده لأن المتضمن لضمير المؤنث ولو كان غير حقيقي لم يحسن تذكيره على المشهور، وقيل: إن فعيلًا هنا محمول على فعيل الوارد في المصادر فإنه للمؤنث والمذكر كفعيل عنى مفعول كالنقيض بالنون والقاف والضاد المعجمة وهو صوت الرحل ونحو والضغيب بالضاد والغين المعجمة والياء المثناة من تحت والباء الموحدة صوت الأرنب. وأنت تعلم أن حمله على فعيل عنى مفعول أولى من هذا الحمل وهو الذي أميل إليه، نعم را يدعى أن في ذلك إشارة ما إلى مزيد قرب الرحمة لكنه بعيد جدًا وقد لا يسلم. والذي أختاره أن فعيلًا هنا عنى فاعل لا عنى مفعول كما زعم الكرماني لما مرت الإشارة إليه، ولأن الرحمة صفة ذات عند جمع وصفات الذات سواء قلنا بعينيتها أو بغيريتها أو بأنها لا ولا لا يحسن الإخبار عنها بأنها مقربة، وذلك على القولين الأخيرين ظاهر وعلى الأول أظهر، والقول بأن في ذلك ترغيبًا في الإحسان حيث أشير إلى أنه كالفاعل وقد أثر فيما لا يقبل التأثر مما لا يكاد يسلم، وأنه قد حمل على فعيل عنى مفعول كما حمل على ذلك في خصوصية قريب في قول جرير:
أتنفعك الحياة وأم عمرو ** قريب لا تزور ولا تزار

وإنما لم يقل قريبة على الأصل للإشارة لأرباب الأذهان السليمة إلى أنها قريبة جدًا من المحسنين كما لا يخفى على المتأمل. واختار بعضهم تفسير الرحمة هنا بالإحسان لمكان المحسنين {وَهَلْ جَزَاء الإحسان إِلاَّ الإحسان} [الرحمن: 60] ولعله يعتبر شاملًا للإحسان الدنيوي والأخروي. ووجه القرب على ما قيل وجود الأهلية بحسب الحكمة مع ارتفاع الموانع بالكلية. وفسرها ابن جبير بالثواب، والمتبادر منه الإحسان الأخروي. ووجه القرب عليه بأن الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار الدنيا وإقبال على الآخرة، وإذا كان كذلك كان الموت أقرب إليه من الحياة فلا يكون بين المحسن والثواب في الآخرة إلا الموت وكل آت قريب.
وجعل الزمخشري الآية من قبيل قوله تعالى: {وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ} [طه: 82] إلخ أي علق فيها الرحمة بإحسان الأعمال كما علق الغفران فيه بالتوبة والإيمان والعمل الصالح فكأن {من تاب وآمن} إلخ تفسير للمحسينين وهو إشارة إلى ما يزعمه قومه من أن الآية تدل على أن صاحب الكبيرة لا يخلص من النار لأنه ليس من المحسنين، والتخليص من النار بعد الدخول فيها رحمة. وأجيب بأن صاحب الكبيرة مؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن يكون كذلك فهو محسن بدليل أن الصبي إذا بلغ ضحى وآمن ومات قبل الظهر فقد اجتمعت الأمة على أنه داخل تحت قوله تعالى: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى} [يونس: 26] فهو محسن جرد الإيمان، والقول بأن المحسنين هم الذين أتوا بجميع أنواع الإحسان على ما يؤذن به الآية الممثل بها أول البحث أول المسألة. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه فسر المحسنين بالمؤمنين. وعن بعضهم تفسيره بالداعين خوفًا وطمعًا لقرينة السباق على ذلك ونظر فيه.