فصل: تفسير الآية رقم (59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (59):

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)}
ثم إنه سبحانه وتعالى عقب ذلك بما يحققه ويقرره من قصص الأمم الخالية والقرون الماضية وفي ذلك أيضًا تسلية لرسوله عليه الصلاة والسلام فقال جل شأنه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ} وهو جواب قسم محذوف أي والله لقد أرسلنا إلخ، واطرد استعمال هذه اللام مع قد في الماضي على ما قال الزمخشري وقل الاكتفاء بها وحدها نحو قوله:
حلفت لها بالله حلفة فاجر ** لناموا فما ان من حديث ولا صالي

والسر في ذلك أن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيدًا للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنة لتوقع المخاطب حصول المقسم عليه لأن القسم دل على الاهتمام فناسب ذلك إدخال قد، ونقل عن النحاة أنهم قالوا: إذا كان جواب القسم ماضيًا مثبتًا متصرفًا فإما أن يكون قريبًا من الحال فيؤتى بقد وإلا أثبت باللام وحدها فجوزوا الوجهين باعتبارين، ولم يؤت هنا بعاطف وأتى به في هود (52). والمؤمنين (32). على ما قال الكرماني: لتقدم ذكر نوح صريحًا في هود وضمنًا في المؤمنين حيث ذكر فيها قبل {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} [المؤمنون: 22] وهو عليه السلام أول من صنعها بخلاف ما هنا.
ونوح بن لمك بفتحتين وقيل: بفتح فسكون، وقيل: ملكان يم مفتوحة ولام ساكنة ونون آخره. وقيل: لامك كهاجر بن متوشلخ بضم الميم وفتح التاء الفوقية والواو وسكون الشين المعجمة على وزن المفعول كما ضبطه غير واحد. وقيل: بفتح الميم وضم المثناة الفوقية المشددة وسكون الواو ولام مفتوحة وخاء معجمة ابن أخنوخ بهمزة مفتوحة أوله وخاء معجمة ساكنة ونون مضمومة وواو ساكنة وخاء أيضًا، ومعناه في تلك اللغة على ما قيل القراء. وقيل: خنوخ بإسقاط الهمزة وهو إدريس عليه السلام. أخرج ابن إسحاق. وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: بعث نوح عليه السلام في الألف الثاني وإن آدم عليه السلام لم يمت حتى ولد له نوح في آخر الألف الأول. وأخرجا عن مقاتل. وجويبر أن آدم عليه السلام حين كبر ودق عظمه قال: يا رب إلى متى أكد وأسعى؟ قال يا آدم حتى يولد لك ولد مختون فولد له نوح بعد عشرة أبطن وهو يومئذٍ ابن ألف سنة إلا ستين عامًا. وبعث على ما روي عن ابن عباس على رأس أربعمائة سنة، وقال مقاتل: وهو ابن مائة سنة. وقيل: وهو ابن خمسين سنة. وقيل: وهو ابن مائتين وخمسين سنة ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة. وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين فكان عمره ألفًا وأربعمائة وخمسين سنة. وبعث كما روى ابن أبي حاتم وابن عساكر عن قتادة من الجزيرة.
وهو أول نبي عذب الله تعالى قومه وقد لقي منهم ما لم يلقه نبي من الأنبياء عليهم السلام.
واختلف في عموم بعثته عليه السلام ابتداء مع الاتفاق على عمومها انتهاء حيث لم يبق بعد الطوفان سوى من كان معه في السفينة، ولا يقدح القول بالعموم في كون ذلك من خواص نبينا صلى الله عليه وسلم لأن ما هو من خواصه عليه الصلاة والسلام عموم البعثة لكافة الثقلين الجن والإنس وذلك مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة فيكفر منكره بل وكذا الملائكة كما رجحه جمع محققون كالسبكي ومن تبعه وردوا على من خالف ذلك وصريح آية {لِيَكُونَ للعالمين نَذِيرًا} [الفرقان: 1] إذ العالم ما سوى الله تعالى، وخبر مسلم «وأرسلت إلى الخلق كافة» يؤيد ذلك بل قال البارزي: إنه صلى الله عليه وسلم أرسل حتى للجمادات بعد جعلها مدركة. وفائدة الإرسال للمعصوم وغير المكلف طلب إذعانهما لشرفه ودخولهما تحت دعوته واتباعه تشريفًا على سائر المرسلين ولا كذلك بعثة نوح عليه السلام. والفرق مثل الصبح ظاهر. وهو كما في القاموس «اسم أعجمي صرف لخفته»، وجاء عن ابن عباس وعكرمة وجويبر ومقاتل أنه عليه السلام إنما سمي نوحًا لكثرة ما ناح على نفسه. واختلف في سبب ذلك فقيل: هو دعوته على قومه بالهلاك. وقيل: مراجعته ربه في شأن ابنه كنعان. وقيل: إنه مر بكلب مجذوم فقال له: اخسأ يا قبيح فأوحى الله إليه أعبتني أم عبت الكلب. وقيل: هو إصرار قومه على الكفر فكان كلما دعاهم وأعرضوا بكى وناح عليهم. قيل: وكان اسمه قبل السكن لسكون الناس إليه بعد آدم عليه السلام. وقيل: عبد الجبار. وأنا لا أعول على شيء من هذه الأخبار والمعول عليه عندي ما هو الظاهر من أنه اسم وضع له حين ولد، وليس مشتقًا من النايحة. وأنه كما قال صاحب القاموس.
{فَقَالَ ياقوم قَوْمٌ اعبدوا الله} أي وحده، وترك التقييد به للإيذان بأنها العبادة حقيقة وأما العبادة مع الإشراك فكلا عبادة ولدلالة قوله سبحانه وتعالى: {مَا لَكُم مّنْ إله} أي مستحق للعبادة {غَيْرُهُ} عليه، وهو استئناف مسوق لتعليل العبادة المذكورة أو الأمر بها و{مِنْ} صلة و{غَيْرُهُ} بالرفع وهي قراءة الجمهور صفة {إِلَهٍ} أو بدل منه باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية. وقرأ الكسائي بالجر باعتبار لفظه، وقرئ شاذًا بالنصب على الاستثناء، وحكم غير كما في «المفصل» حكم الاسم الواقع بعد إلا وهو المشهور أي مالكم إله إلا إياه كقولك: ما في الدار من أحد إلا زيدًا أو غير زيد، و{إِلَهٍ} إن جعل مبتدأ فلكم خبره أو خبره محذوف و{لَكُمْ} للتخصيص والتبيين أي مالكم في الوجود أو في العالم إله غير الله تعالى.
{إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ} إن لم تعبدوا حسا أمرت به. وتقدير إن لم تؤمنوا لما أن عبادته سبحانه وتعالى تستلزم الإيمان به وهو أهم أنواعها وإنما قال عليه السلام: {أَخَافُ} ولم يقطع حنوا عليهم واستجلابًا لهم بلطف. {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هو يوم القيامة أو يوم الطوفان لأنه أعلم بوقوعه إن لم يمتثلوا، والجملة كما قال شيخ الإسلام تعليل للعبادة ببيان الصارف عن تركها إثر تعليلها ببيان الداعي إليها، ووصف اليوم بالعظم لبيان عظم ما يقع فيه وتكميل الإنذار.

.تفسير الآية رقم (60):

{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)}
{قَالَ الملا مِن قَوْمِهِ} استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قوله عليه السلام ونصحه لقومه كأنه قيل: فماذا قالوا بعد ما قيل لهم ذلك؟ فقيل: قال إلخ. والملأ على ما قال الفراء الجماعة من الرجال خاصة. وفسره غير واحد بالأشراف الذين يملأون القلوب بجلالهم والأبصار بجمالهم والمجالس بأتباعهم، وقيل: سموا ملأ لأنهم مليون قادرون على ما يراد منهم من كفاية الأمور {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضلال} أي ذهاب عن طريق الحق، والرؤية قلبية ومفعولاها الضمير والظرف؛ وقيل: بصرية فيكون الظرف في موضع الحال {مُّبِينٌ} أي بين كونه ضلالًا.

.تفسير الآية رقم (61):

{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)}
{قَالَ} استئناف على طرز سابقه {عَلَيْهِ قَوْمٌ} ناداهم بإضافتهم إليه استمالة لهم نحو الحق {لَيْسَ بِى ضلالة} نفي للضلال عن نفسه الكريمة على أبلغ وجه فإن التاء للمرة لأن مقام المبالغة في الجواب لقولهم الأحمق يقتضي ذلك والوحدة المستفادة منه باعتبار أقل ما ينطلق فيرجع حاصل المعنى ليس بي أقل قليل من الضلال فضلًا عن الضلال المبين، وما يتخايل من أن نفي الماهية أبلغ فإن نفي الشيء مع قيد الوحدة قد يكون بانتفاء الوحدة إلى الكثرة مضمحل بما حقق أن الوحدة ليست صفة مقيدة بل اللفظ موضوع للجزء الأقل وهو الواحد المتحقق مع الكثرة ودونها على أن ملاحظة قيد الوحدة في العام في سياق النفي مدفوع، وكفاك لا رجل شاهدًا فإنه موضوع للواحد من الجنس وبذلك فرق بينه وبين أسامة فإذا وقع عامًا لا يلحظ ذلك. ولو سلم جواز أن يقال ليس به ضلالة أي ضلالة واحدة بل ضلالات متنوعة ابتداء لكن لا يجوز في مقام المقابلة كما نحن فيه قاله في الكشف وبه يندفع ما أورد على الكشاف في هذا المقام.
وفي المثل السائر الأسماء المفردة الواقعة على الجنس التي تكون بينها وبين واحدها تاء التأنيث متى أريد النفي كان استعمال واحدها أبلغ ومتى أريد الإثبات كان استعمالها أبلغ كما في هذه الآية، ولا يظن أنه لما كان الضلال والضلالة مصدرين من قولك: ضل يضل ضلالًا وضلالة كان القولان سواء لأن الضلالة هنا ليست عبارة عن المصدر بل عن المرة والنفي كما علمت، وإنما بالغ عليه السلام في النفي لمبالغتهم في الإثبات حيث جعلوه وحاشاه مستقرًا في الضلال الواضح كونه ضلالًا.
وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبّ العالمين} استدراك على ما قبله رافع لما يتوهم منه، وذلك على ما قيل أن القوم لما أثبتوا له الضلال أرادوا به ترك دين الآباء ودعوى الرسالة فحين نفى الضلالة توهم منه أنه على دين آبائه وترك دعوى الرسالة فوقع الإخبار بأنه رسول وثابت على الصراط المستقيم استدراكًا لذلك، وقيل: هو استدراك مما قبله باعتبار ما يستلزمه من كونه في أقصى مراتب الهداية فإن رسالته من رب العالمين مستلزمة له لا محالة كأنه قيل وليس بي شيء من الضلالة لكني في الغاية القاصية من الهداية، وحاصل ذلك على ما قرره الطيبي أن لكن حقها أن تتوسط بين كلامين متغايرين نفيًا وإثباتًا والتغاير هنا حاصل من حيث المعنى كما في قولك: جاءني زيد لكن عمرًا غاب، وفائدة العدول عن الظاهر إرادة المبالغة في إثبات الهداية على أقصى ما يمكن كما نفى الضلالة كذلك، وسلك طريق الإطناب لأن هذا الاستدراك زيادة على الجواب إذ قوله: {لَيْسَ بِى ضلالة} كان كافيًا فيه فيكون من الأسلوب الحكيم الوارد على التخلص إلى الدعوة على وجه الترجيع المعنوي لأنه بدأ بالدعوة إلى إثبات التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى فلما أراد إثبات الرسالة لم يتمكن لما اعترضوا عليه من قولهم: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضلال مُّبِينٍ} فانتهز الفرصة وأدمج مقصوده في الجواب على أحسن وجه حيث أخرجه مخرج الملاطفة والكلام المنصف يعني دعوا نسبة الضلال إلي وانظروا ما هو أهم لكم من متابعة ناصحكم وأمينكم ورسول رب العالمين ألا ترى أن صالحًا عليه السلام لما لم يعترضوا عليه عقب بإثبات الرسالة إثبات التوحيد؛ ففي هذه الآية خمسة من أنواع البديع فإذا اقتضى المقام هذا الإطناب كان الاقتصار على العبارة الموجزة تقصيرًا انتهى.
ولا يخفى أن هذا الاستدراك غير الاستدراك بالمعنى المشهور. وقد ذكر غير واحد من علماء العربية أن الاستدراك في لكن أن تنسب لما بعدها حكمًا مخالفًا لما قبلها سواء تغايرا إثباتًا ونفيًا أو لا، وفسره صاحب «البسيط» وجماعة برفع ما توهم ثبوته، وتمام الكلام فيه في المغني، واعتبار اللازم لتحصيل الاستدراك بالمعنى الثاني مما لا يكاد يقبل لأنه لا يذهب وهم واهم من نفي الضلالة إلى نفي الهداية حتى يحتاج إلى تداركه، ووجهه بعضهم من دون اعتبار اللازم بأنه عليه السلام لما نفى الضلالة عن نفسه فرا يتوهم المخاطب انتفاء الرسالة أيضًا كما انتفى الضلالة فاستدركه بلكن كما في قولك زيد ليس بفقيه لكنه طبيب، وأنت تعلم أن هذا إن لم يرجع إلى ما قرر أولًا فليس بشيء، وقيل: إنه إذا انتفى أحد المتقابلين يسبق الوهم إلى انتفاء المقابل الآخر لا إلى انتفاء الأمور التي لا تعلق لها به، ولهذا يؤول ما وقع في معرض الاستدراك بما يقابل الضلال مثلًا يقال: زيد ليس بقائم لكنه قاعد ولا يقال: لكنه شارب إلا بعد التأويل بأن الشارب يكون قاعدًا، وقال بعض فضلاء الروم: النظر الصائب في هذا الاستدراك أن يكون مثل قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب

وقوله:
هو البدر إلا أنه البحر زاخرا ** سوى أنه الضرغام لكنه الوبل

كأنه قيل: ليس بي ضلالة وعيب سوى أني رسول من رب العالمين، وأنت تعلم أن هذا النوع يقال له عندهم تأكيد المدح بما يشبه الذم وهو قسمان ما يستثنى فيه من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح لذلك الشيء بتقدير دخولها في صفة الذم المنفية. وما يثبت فيه لشيء صفة مدح ويتعقب ذلك بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى لذلك، والظاهر أن ما في الآية من القسم الأول إلا أنه غير غني عن التأويل فتأمل. و{مِنْ} فيها لابتداء الغاية مجازًا متعلقة حذوف وقع صفة لرسول مؤكدة ما يفيده التنوين من الفخامة الذاتية كأنه قيل: إني رسول وأي رسول كائن من رب العالمين.

.تفسير الآية رقم (62):

{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)}
{أُبَلّغُكُمْ رسالات رَبّى} استئناف مسوق لتقرير رسالته وتفصيل أحكامها وأحوالها. وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون صفة أخرى لرسول على المعنى لأنه عبارة عن الضمير في {إني} وهذا كقول علي كرم الله تعالى وجهه حين بارز مرحبًا اليهودي يوم خيبر:
أنا الذي سمتني أمي حيدره

كليث غابات كريه المنظره

أوفيهم بالصاع كيل السندره

حيث لم يقل سمته حملًا له على المعنى لأمن اللبس، وأوجب بعضهم الحمل على الاستئناف زعمًا منه أن ما ذكر قبيح حتى قال المازني: لولا شهرته لرددته، وتعقب ذلك الشهاب بأن ما ذكره المازني في صلة الموصول لا في وصف النكرة فإنه وارد في القرآن مثل {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] وقد صرح بحسنه في كتب النحو والمعاني، على أن ما ذكره في الصلة أيضًا مردود عند المحققين وإن تبعه فيه ابن جني حتى استرذل قول المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وفي الانتصاف أنه حسن في الاستعمال وكلام أبي الحسن أصدق شاهد على ما قال وعلى حسن كلام ابن الحسين، وهذا كما قال الشهاب إذا لم يكن الضمير مؤخرًا نحو الذي قرى الضيوف أنا أو كان للتشبيه نحو أنا في الشجاعة الذي قتل مرحبًا. وقرأ أبو عمرو {أُبَلّغُكُمْ} بتسكين الباء وتخفيف اللام من الإبلاغ، وجمع الرسالات مع أن رسالة كل نبي واحدة وهو مصدر والأصل فيه أن لا يجمع رعاية لاختلاف أوقاتها أو تنوع معاني ما أرسل عليه السلام به أو أنه أراد رسالته ورسالة غيره ممن قبله من الأنبياء كإدريس عليه السلام وقد أنزل عليه ثلاثون صحيفة، وشيث عليه السلام وقد أنزل عليه خمسون صحيفة، ووضع الظاهر موضع الضمير وتخصيص ربوبيته تعالى له عليه السلام بعد بيان عمومها للعالمين للإشعار بعلة الحكم الذي هو تبليغ رسالته تعالى إليهم فإن ربوبيته تعالى له من موجبات امتثاله بأمره تعالى بتبليغ رسالته.
{وَأَنصَحُ لَكُمْ} أي أتحرى ما فيه صلاحكم بناءً على أن النصح تحري ذلك قولًا أو فعلًا، وقيل: هو تعريف وجه المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه، والمعنى هنا أبلغكم أوامر الله تعالى ونواهيه وأرغبكم في قبولها وأحذركم عقابه إن عصيتموه، وأصل النصح في اللغة الخلوص يقال: نصحت العسل إذا خلصته من الشمع، ويقال: هو مأخوذ من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه شبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بفعل الخياط فيما يسد من خلل الثوب، وقد يستعمل لخلوص المحبة للمنصوح له والتحري فيما يستدعيه حقه، وعلى ذلك حمل ما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«إن الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» ويقال: نصحته ونصحت له كما يقال: شكرته وشكرت له، قيل: وجيء باللام هنا ليدل الكلام على أن الغرض ليس غير النصح وليس النصح لغيرهم عنى أن نفعه يعود عليهم لا عليه عليه السلام كقوله: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 57] وهذا مبني على أن اللام للاختصاص لا زائدة، وظاهر كلام البعض يشعر بأنها مع ذلك زائدة وفيه خفاء. وصيغة المضارع للدلالة على تجدد نصحه عليه السلام لهم كما يفصح عنه قوله: {رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلًا وَنَهَارًا} [نوح: 5].
وقوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} عطف على ما قبله وتقرير لرسالته عليه السلام أي أعلم من قبله تعالى بالوحي أشياء لا علم لكم بها من الأمور الآتية. فمن لابتداء الغاية مجازًا أو أعلم من شؤونه عز وجل وقدرته القاهرة وبطشه الشديد على من لم يؤمن به ويصدق برسله ما لا تعلمونه. فمن إما للتبعيض أو بيانية لما، ولابد في الوجهين من تقدير المضاف، قيل: كانوا لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلهم فكانوا آمنين غافلين لا يعلمون ما علمه نوح عليه السلام فهم أول قوم عذبوا على كفرهم.