فصل: تفسير الآية رقم (156):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (156):

{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)}
{واكتب لَنَا} أي أثبت واقسم لنا {فِى هذه الدنيا} التي عرانا فيها ما عرانا {حَسَنَةٌ} حياة طيبة وتوفيقا للطاعة.
وقيل: ثناءًا جميلًا وليس بجميل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد اقبل وفادتنا وردنا بالمغفرة والرحمة {وَفِي الاخرة} أي واكتب لنا أيضًا في الآخرة حسنة وهي المثوبة الحسنى والجنة.
قيل: إن هذا كالتأكيد لقوله: اغفر وارحم {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي تبنا إليك من هاد يهود إذا رجع وتاب كما قال:
إني امرئ مما جنيت هائد

ومن كلام بعضهم:
يا راكب الذنب هدهد ** واسجد كأنك هدهد

وقيل: معناه مال، وقرأ بن علي رضي الله تعالى عنهما {هُدْنَا} بكسر الهاء من هاد يهيد إذا حرك، وأخرج ابن المنذر. وغيره عن أبي وجرة السعدي أنه أنكر الضم وقال: والله لا أعلمه في كلام أحد من العرب وإنما هو هدنا بالكسر أي ملنا وهو محجوج بالتواتر، وجوز على هذه القراءة أن يكون الفعل مبنيًا للفاعل والمفعول عنى حركنا أنفسنا أو حركنا غيرنا، وكذا على قراءة الجماعة، والبناء للمفعول عليها على لغة من يقول: عود المريض، ولا بأس بذلك إذا كان الهود عنى الميل سوى أن تلك لغة ضعيفة، وممن جوز الأمرين على القراءتين الزمخشري. وتعقبه السمين بأنه متى حصل الالتباس وجوب أن يأتي بحركة تزيله فيقال: عقت إذا عاقك غيرك بالكسر فقط أو الاشمام إلا أن سيبويه جوز في نحو قيل الأوجه الثلاثة من غير احتراز، والجملة تعليل لطلب المغفرة والرحمة، وتصديرها بحرف التحقيق لاظهار كمال النشاط والرغبة في مضمونها {قَالَ} استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى له بعد دعائه؟ فقيل: قال: {عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء} أي شأني أصيب بعذابي من أشاء تعذيبه من غير دخل لغيري فيه.
وقرأ الحسن. وعمرو الأسود {مِنْ أَسَاء} بالسين المهملة ونسبت إلى زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وأنكر بعضهم صحتها {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء} أي شأنها أنها واسعة تبلغ كل شيء ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في الدنيا بنعمتي، وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارع ونسبة السعة إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذان بأن الرحمة مقتضي الذات وأما العذاب فمقتضى معاصي العباد، والمشيئة معتبرة في جانب الرحمة أيضًا، وعدم التصريح بها قيل: تعظيمًا لأمر الرحمة، وقيل: للاشعار بغاية الظهور، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا} فإنه متفرع على اعتبار المشيئة كما لا يخفى، كأنه قيل: فإذا كان الأمر كذلك أي كما ذكر من إصابة عذابي وسعة رحمتي لكل من أشاء فسأثبتها إثباتًا خاصًا {لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي الكفر والمعاصي أما ابتداءًا أو بعد الملابسة {وَيُؤْتُونَ الزكواة} المفروضة عليهم في أموالهم وقيل المعنى يطيعون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والظاهر خلافه، وتخصيص إيتاء الزكاة بالذكر مع اقتضاء التقوى له للتعريض بقوم موسى عليه السلام لأن كان شاقا عليهم لمزيد حبهم للدنيا، ولعل الصلاة إنما لم تذكر مع انافتها على سائر العبادات وكونها عماد الدين اكتفار منها بالاتقاء الذي هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها وترك المنهيات عن آخرها {والذين هُم بئاياتنا} كلها كما يفيده الجمع المضاف {يُؤْمِنُونَ} إيمانًا مستمرًا من غير اخلال بشيء منها، وتكرير الموصول مع أن المراد به عين ما أريد بالموصول الأول دون أن يقال ويؤمنون بآياتنا عطفًا على ما قبله كما سلك في سابقه قيل: لما أشير إليه من القصر بتقديم الجار والمجرور أي هم بجميع آياتنا يؤمنون لا ببعضها دون بعض، وفيه تعرض بمن آمن ببعض وكفر ببعض كقوم موسى عليه السلام.
واختلف في توجيه هذا الجواب فقال شيخ الإسلام: لعل الله تعالى حين جعل توبة عبدة العجل بقتلهم أنفسهم وكان الكلام الذي أطمع السبعين في الرؤية في ذلك ضمن موسى عليه السلام دعاءه التخفيف والتيسير حيث قال: {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً} أي خصلة حسنة عارية عن المشقة والشدة فإن في القتل من العذاب الشديد ما لا يخفى فأجابه سبحانه بأن عذابي أصيب به من أشاء وقومك ممن تناولته مشيئتي ولذلك جعلت توبتهم مشوبة بالعذاب الدنيوي ورحمتي وسعت كل شيء وقد نال قومك نصيب منها في ضمن العذاب الدنيوي وسأكتب الرحمة خالصة غير مشوبة بالعذاب الدنيوي كما دعوت لمن صفتهم كيت وكيت لا لقومك لأنهم ليسوا كذلك فيكفيهم ما قدر لهم من الرحمة وإن كانت مقارنة العذاب، وعلى هذا فموسى عليه السلام لم يستجب له سؤاله في قومه ومن الله تعالى بما سأله على من آمن حمد صلى الله عليه وسلم.
وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما أجيب بما ذكر قال: أتيتك يا رب بوفد من بني إسرائيل فكانت وفادتنا لغيرنا. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما دعا موسى ربه سبحانه فجعل دعاءه لمن آمن حمد عليه الصلاة والسلام واتبعه، وفي رواية أخرى رواها جمع عنه سأل موسى ربه مسألة فاعطاها محمدًا صلى الله عليه وسلم وتلا الآية، لكن لا يخفى أن ما قرره هذا الشيخ بعيد. وقال صاحب الكشف في ذلك: كأنه لما سأل موسى عليه السلام لنفسه ولقومه خير الدارين أجيب بأن عذابي لغير التائبين ان شئت ورحمتي الدنيوية تعم التائب وغيره وأما الجمع بين الرحمتين فهو للمستعدين فإن تاب من دعوت لهم وثبتوا كأعقابهم نالتهم الرحمة الخاصة الجامعة وأثر فيهم دعاؤك وإن داوموا على ما هم فيه بعدوا عن القبول، والغرض ترغيبهم على الثبات على التوبة والعمل الصالح وتحذيرهم عن المعاودة عما فرط منهم مع التخلص إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم والحث على اتباعه أحسن تخلص وحث يحير الألباب ويبدي للمتأمل فيه العجب العجاب، وإلى بعض هذا يشير كلام الزمخشري.
وقال العلامة الطيبي في توجيهه: إن هذا الجواب وارد على الأسلوب الحكيم، وقوله سبحانه: {عَذَابِى} إلخ كالتمهيد للجواب، والجواب {فَسَأَكْتُبُهَا} إلخ، وذلك أن موسى عليه السلام طلب الغفران والرحمة والحسنة في الدارين لنفسه ولأمته خاصة بقوله: {واكتب لَنَا} وعلله بقوله: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} فأجابه الرب سبحانه بأن تقييدك المطلق ليس من الحكمة فإن عذابي من شأنه أنه تابع لمشيئتي فأمتك لو تعرضوا لما اقتضت الحكمة تعذيب من باشره لا ينفعهم دعاؤك لهم وإن رحمتي من شأنها أن تعم في الدنيا الخلق صالحهم وطالحهم مؤمنهم وكافرهم فالحسنة الدنيوية عامة فلا تختص بأمتك فتخصيصها تحجير للواسع وأما الحسنة الأخروية فهي للموصوفين بكذا وكذا، وجعل {فَسَأَكْتُبُهَا} كالقول بالموجب لأنه عليه السلام طلب ما طلب وجعل العلة ما جعل فضم الله تعالى ما ضم، يعني أن الذي يوجب اختصاص الحسنتين معا هذه الصفات المتعددة لا التوبة المجردة، ثم ذكر أن ترتيب هذا على ما قبله بالفاء على منوال قوله تعالى جوابًا عن قول إبراهيم عليه السلام: {وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] وأيد هذا التقرير بما روي عن الحسن. وقتادة وسعت رحمته في الدنيا البر والفاجر وهي يوم القيامة للمتقين خاصة اه ما أريد منه، وما ذكره من حديث التحجر في القلب منه شيء فإن الظاهر أن ما في دعاء موسى عليه السلام ليس منه وإنما التحجر في مثل ما أخرجه أحمد. وأبو داود عن جندب عن عبد الله البجلي قال: «جاء اعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها وصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نادى اللهم ارحمني ومحمدًا ولا تشرك في رحمتنا أحدًا فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: لقد حظرت رحمة واسعة إن الله خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وانسها وبهائمها وعنده تسعة وتسعون». وأنا أقول: قد يقال: إن موسى عليه السلام إنما طلب على أبلغ وجه المغفرة والرحمة الدنيوية والأخروية له ولقومه وتعليل ذلك بالتوبة مما لا شك في صحته، ولا يفهم من كلامه عليه السلام أنه طلب للقوم كيف كانوا وفي أي حالة وجدوا وعلى أي طريقة سلكوا فإن ذلك مما لا يكاد يقع ممن له أدنى معرفة بربه فضلًا عن مثله عليه السلام، وإنما هذا الطلب لهم من حيث إنهم تائبون راجعون إليه عز شأنه، ولا يبعد أن يقال باستجابة دعائه بذلك بل هي أمر مقطوع به بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم؛ وكيف يشك في أنه غفر له ورحم وأوتي خير الدارين وهو هو وأما بالنسبة إلى قومه فالظاهر أن التائب منهم أوتي خير الآخرة لأن هذه التوبة إن كانت هي التوبة بالقتل فقد جاء عن الزهري أن الله تعالى أوحي إلى موسى بعد أن كان ما كان ما يحزنك؟ أما من قتل منكم فحي يرزق عندي وأما من بقي فقد قبلت توبته فسر بذلك موسى وبنو اسرائيل، وإن كانت غيرها فمن المعلوم أن التوبة تقبل قتضى الوعد المحتوم، وخير من قبلت توبته في الآخرة كثير، وأما خير الدنيا فقد نطقت الآيات بأن القوم غرقي فيه، ويكفي في ذلك قوله تعالى: {يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِى التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} [البقرة: 47].
وحينئذ فيمكم أن يقال في توجيه الجواب: أنه سبحانه لما رأى من موسى عليه السلام شدة القلق والاضطراب ولهذا بالغ في الدعاء خشية من طول غضبه تعالى على من يشفق عليه من ذلك سكن جل شأنه روعته وأجاب طلبته بأسلوب عجيب، وطريق بديع غريب فقال سبحانه له: {عَذَابِى} أي الذي تخشى أن تصيب بعض نباله التي أرميها بيد جلالي عن قسى إرادتي من دعوت له أصيب به من أشاء فلا يتعين قومك الذين تخشى عليهم ما تخشى لأن يكون غرضًا له بعد أن تابوا من الذنب وتركوا فعله {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء} إنسانًا كان أو غيره مطيعًا كان أو غيره فما من شيء إلا وهو داخل فيها سابح في تيارها أو سايح في فيافيها بل ما من معذب إلا ويرشح عليه ما يرشح منها ولا أقل من أني لم أعذبه بأشد مما هو فيه مع قدرتي عليه فطب نفسا وقرعينا فدخول قومك في رحمة وسعت كل شيء ولم تضق عن شيء أمر لا شك فيه ولا شبهة تعتريه كيف وقد هادوا إلى ووفدوا على أفتري أني أضيق الواسع عليهم وأوجه نبال الخيبة إليهم وأردهم بخفى حنين فيرحع كل منهم صفر الكفين؟ لا أراني أفعل بل إني سأرحمهم وأذخب عنهم ما أهمهم وأكتب الحظ الأوفر من رحمتي لأخلافهم الذين يأتون آخر الزمان ويتصفون بما يرضيني ويقومون بأعباء ما يراد منهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله سبحانه: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} إلخ، ولعل تقديم وصف العذاب دون وصف الرحمة ليفرغ ذهنه عليه السلام مما يخاف منه مع أن في عكس هذا الترتيب ما يوجب انتشار النظم الكريم؛ ووصف أخلاقهم بما وصفوا به لاستنهاض همهم إلى الاتصاف بما يمكن اتصافهم به منه أو إلى الثبات عليه، ولم يصرح في الجواب بحصول السؤال بأن يقال: قد أوتيت سؤلك يا موسى مثلا اختيارًا لما هو أبلغ فيه، وهذا الذي ذكرناه وإن كان لا يخلو عن شيء إلا أنه أولى من كثير مما وقفنا عليه من كلام المفسرين وقد تقدم بعضه، وأقول بعد هذا كله: خير الاحتمالات ما تشهد له الآثار وإذا صح الحديث فهو مذهبي فتأمل. والسين في {سأكتبها} يحتمل أن تكون للتأكيد، ويحتمل أن تكون للاستقبال كما لا يخفي وجهه على ذوي الكمال.

.تفسير الآية رقم (157):

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)}
{يُؤْمِنُونَ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول} الذي أرسله الله تعالى لتبليغ الأحكام {النبى} أي الذي أنبأ الخلق عن الله تعالى فالأول تعتبر فيه الإضافة إلى الله تعالى والثاني تعتبر فيه الإضافة إلى الخلق، وقدم الأول عليه لشرف وتقدم إرسال الله تعالى له على تبليغه، وإلى هذا ذهب بعضهم، وجعلوا إشارة إلى أن الرسول والنبي هنا مراد بهما معناهما اللغوي لاجرائهما على ذات واحدة كما أنهما كذلك في قوله تعالى: {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم: 54]، وفسر في الكشاف الرسول بالذي يوحى إليه كتاب والنبي بالذي له معجزة، ويشير إلى الفرق بين الرسول والنبي بأن الرسول من له كتاب خاص والنبي أعم. وتعقبه في الكشف بأن أكثر الرسل لم يكونوا أصحاب كتاب مستقل كاسمعيل. ولوط. والياس عليهم السلام وكم وكم ثم قال: والتحقيق أن النبي هو الذي ينبئ عن ذاته تعالى وصفاته وما لا تستقل العقول بدرايته ابتداء بلا واسطة بشر، والرسول هو المأمور مع ذلك باصلاح النوع، فالنبوة نظر فيها إلى الأنبار عن الله تعالى والرسالة إلى المبعوث إليهم، والثناي وإن كان أخص وجودا إلا أنهما مفهومان مفترقان ولهذا لم يكن رسولًا نبيا مثل انسان هيوان اه.
وفيه مخالفة بينة لما ذكر أولًا، ولا حجر في الاعتبار. نعم ما ذكروه مدفوع بأن الفرق المذكور مع تغاير المفهومين على كل حال من عرف الشرع والاستعمال، واما في الوضع والحقيقة اللغوية فهما عامان. وقد ورد في القرآن بالاستعمالين فلا تعارض بينهما.
ولا يرد أن ذكر النبي العام بعد الخاص لا يفيد والمعروف في مثل ذلك العكس، ولا يخفى أن المراد بهذا الرسول النبي نبينا صلى الله عليه وسلم {النبى الامى} أي الذي لا يكتب ولا يقرأ، وهو على ما قال الزجاج نسبة إلى أمة العرب لأن الغالب عليهم ذلك. وروى الشيخان وغيرهما عن ابن عمر قال: «قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» أو إلى أم القرى لأن أهلها كانوا كذلك، ونسب ذلك إلى الباقر رضي الله تعالى عنه أو إلى أمه كأنه على الحالة التي ولدته امه عليها، ووصف عليه الصلاة والسلام بذلك تنبيهًا على أن كمال علمه مع حاله احدى معجزاته صلى الله عليه وسلم فهو بالنسبة إليه بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام صفة مدح، وأما بالنسبة إلى غيره فلا، وذلك كصفة التكبير فإنها صفة مدح لله عز وجل وصفة ذم لغيره.
واختلف في أنه عليه الصلاة والسلام هل صدر عنه الكتابة في وقت أم لا؟ فقيل: نعم صدرت عنه عام الحديبية فكتب الصلح وهي معجزة أيضًا له صلى الله عليه وسلم وظاهر الحديث يقتضيه، وقيل: لم يصدر عنه أصلًا وإنما أسندت إليه في الحديث مجازًا.
وجاء عن بعض أهل البيت رضي الله تعالى عنهم أنه صلى الله عليه وسلم كان تنطق له الحروف المكتوبة إذا نظر فيها، ولم أر لذلك سندًا يعول عليه، وهو صلى الله عليه وسلم فوق ذلك. نعم أخرج أبو الشيخ من طريق مجاهد قال حدثني عون بن عبد الله بن عتبة عن أبيه قال: «ما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى قرأ وكتب فذكرت هذا الحديث للشعبي فقال: صدق سمعت أصحابنا يقولون ذلك» وقيل: الأمي نسبة إلى الأم بفتح الهمزة عنى القصد لأنه المقصود وضم الهمزة من تغيير النسب، ويؤيده قراءة يعقوب {الامى} بالفتح وإن احتملت أن تكون من تغيير النسب أيضًا، والموصول في محل جر بدل من الموصول الأول، هو أما بدل كل على أن المراد منه هؤلاء المعهودين أو بعض على أنه عام ويقدر حينئذ منهم، وجوز أن يكون نعتًا له، ويحتمل أن يكون في محل نصب على القطع وإضمار ناصب له، وأن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقيل: على أنه مبتدأ خبره جملة {يَأْمُرُهُم} أو {أُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} وكلاهما خلاف المتبادر من النظم {الذى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا} باسمه ونعوته الشريفة بحيث لا يشكون أنه هو، ولذلك عدل عن أن يقال: يجدون اسمه أو وصفه مكتوبًا {عِندَهُمُ} ظرف لمكتوبا الواقع حالا أو ليجدون، وذكر لزيادة التقرير وأن شأنه عليه الصلاة والسلام حاضرة عندهم لا يغيب عنهم أصلا {فِي التوراة والإنجيل} اللذين يعتمد بهما بنو اسرائيل سابقًا ولاحقًا، وكأنه لهذا المعنى اقتصر عليهما وإلا فهو صلى الله عليه وسلم مكتوب في الزبور أيضًا، أخرج ابن سعد. والدارمي في مسنده. والبيهقي في الدلائل. وابن عساكر عن عبد الله بن سلام قال: «صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة ولكن يعفو ويصفح ولن يقيضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء حتى يقولوا لا آله إلا الله ويفتح أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا»، ومثله من رواية البخاري وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وجاء من حديث أخرجه ابن سعد. وابن عساكر من طريقذ موسى بن يعقوب الربعي عن سهل مولى خيثمة قال: «قرأت في الإنجيل محمد صلى الله عليه وسلم أنه لا قصير ولا طويل أبيض ذو ضفيرتين بين كتفيه خاتم لا يقبل الصدقة وبركب الحمار.
والبعير ويحلب الشاة ويلبس قميصًا مرقوعًا ومن فعل ذلك فقد برئ من الكبر وهو يفعل ذلك وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد»
.
وجاء من خبر أخرجه البيهقي في الدلائل عن وهب بن منبه قال: إن الله تعالى أوحى في الزبور يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد لا أغضب عليه أبدًا ولا يعصيني أبدًا وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأمته مرحومة أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا إلى كل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم وأمرتهم باجلهاد كما أمرت الرسل قبلهم يا داود إني فضلت محمدًا وأمته على الأمم كلهم، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم، لا أؤاخذهم بالخطأ والنسيان وكل ذنب ركبوه على غير عمد إذا استغفروني منه غفرته وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم عجلته لهم اضعافًا مضاعفة ولهم عندي أضعاف مضاعفة وأفضل من ذلك، وأعطيتهم على المصائب إذا صبروا وقالوا: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون} [البقرة: 156] الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم، فإن دعوني استجبت لهم فإما أن يروه عاجلًا وإما أن أصرف عنهم سوءًا وإما أن أدخره لهم في الآخرة، يا داود من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي صادقًا بها فهو معي في جنتي وكرامتي ومن لقيني وقد كذب محمدًا وكذب بما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه من قبره العذاب صبا وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره في قبره ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار. إلى غير ذلك من الأخبار الناطقة بأنه صلى الله عليه وسلم مكتوب في الكتب الإلهية. والظرفان متعلقان بيجدونه أو كتوبا. وذكر الإنجيل قبل نزوله من قبيل ما نحن فيه من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم قبل مجيئهما.
{يَأْمُرُهُم بالمعروف وينهاهم عَنِ المنكر} كلام مستأنف، وهو على ما قيل متضمن لتفصيل بعض أحكام الرحمة التي وعد فيما سبق بكتبها إجمالًا إذا ما أشارت إليه المتعاطفات من آثار الرحمة والواسعة، وجوز كونه في محل نصب على أنه حال مقدرة من مفعول يجدونه أو من النبي أو من المستكن في مكتوبًا، وقيل: هو مفسر لمكتوبا أي لما كتب، والمراد بالمعروف قيل الإيمان، وقيل: ما عرف في الشريعة، والمراد بالمنكر ضد ذلك {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخبئث} فسر الأول بالأشياء التي يستطيبها الطبع كالشحوم، والثاني بالأشياء التي يستخبثها كالدم، فتكون الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس وستلذه الطبع الحل وفي كل ما تستخبثه النفس ويكرهه الطبع الحرمة إلا لدليل منفصل، وفسر بعضهم الطيب بما طاب في حكم الشرع والخبيث بما خبث فيه كالربا والرشوة.
وتعقب بأن الكلام حينئذ يحل ما يحكم بحله ويحرم ما يحكم بحرمته ولا فائدة فيه. وردوه بأنه يفيد فائدة وأي فائدة لأن معناه أن الحل والحرمة بحكم الشرع لا بالعقل والرأي، وجوز بعضهم كون الخبيث عنى ما يستخبث طبعًا أو ما خبث شرعًا وقال كالدم أو الربا ومثل للطيب بالشحم وجعل ذلك مبينا على اقتضاء التحليل سبق التحريم والشحم كان محرمًا عند بني اسرائيل، وعلى اقتضاء التحريم سبق التحليل وجعل الدم وأخيه مما حرم على هذا لأن الأصل في الأشياء الحل، ولا يرد {أَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الرباا} [البقرة: 275] لأنه لرد قولهم {إِنَّمَا البيع مِثْلُ الرباا} [البقرة: 275] أو لأن المراد ابقاؤه على حله لمقابلته بتحريم الربا، ودفع بهذا ما توهم من عدم الفائدة {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والاغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} أي يخفف عنهم ما كلفوه من التكاليف الشاقة كقطع موضع النجاسة من الثواب أو منه ومن البدن، واحراق الغنائم، وتحريم السبت، وقطع الأعضاء الخاطئة، وتعين القصاص في العمد والخطأ من غير شرع الدية فإنه وان لم يكن مأمورًا به في الألواح إلا أنه شرع بعد تشديدًا عليهم على ما قيل، وأصل الأصر الثقل الذي يأصر صاحبه عن الحراك، والاغلال جمع غل بضم الغين وهي في الأصل كما قال ابن الأثير الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه ويقال لها جامعة أيضًا، ولعل غير الحديد إذا جمع به يد إلى عنق يقال له ذلك أيضًا، والمراد منهما هنا ما علمت وهو المأثور عن كثير من السلف، ولا يخفى ما في الآية من الاستعارة.
وجوز أن يكون هناك تمثيل، وعن عطاء كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم ورا ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها على السارية يحبس نفسه على العبادة وعلى هذا فالاغلال يمكن أن يراد حقيقته، وقرأ ابن عامر {آصارهم} على الجمع وقرأ {عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} بالفتح على المصدر وبالضم على الجمع أيضًا {فالذين ءامَنُواْ بِهِ} أي صدقوا برسالته ونبوته {وَعَزَّرُوهُ} أي عظموه ووقروه كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عتهما، وقال الراغب: التعزير النصرة مع التعظيم، والتعزير الذي هو دون الحد يرجع إليه لأنه تأديب والتأذيب نصرة لأن أخلاق السوء أعداء ولذا قال في الحديث: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا فقيل كيف أنصره ظالمًا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تكفه عن الظلم» وأصلح عند غير وأحد المنع والمراد منعوه حتى لا يقوى عليه عدو، وقرئ {عزروه} بالتخفيف {وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} على أعدائه في الدين وعطف هذا على ما قبله ظاهر على ما روي عن الحبر وكذا على ما قاله الجمع إذ الأول عليه من قبيل درء المفاسد وهذا من قبيل جلب المصالح، ومن فسر الأول بالتعظيم مع التقوية أخذا من كلام الراغب قال هنا نصروه لي أي قصدوا بنصره وجه الله تعالى واعلاء كلمته فلا تكرار خلافًا لمن توهمه {واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ} وهو القرآن وعبر عنه بالنور لظهوره في نفسه باعجازه وإظهاره لغيره من الأحكام وصدق الدعوى فهو أشبه شيء بالنور الظاهر بنفسه والمظهر لغيره بل هو نور على نور، والظرف اما متعلق بانزل والكلام على حذف مضاف أي مع نبوته أو ارساله عليه السلام لأنه لم ينزل معهم وإنما نزل مع جبريل عليه السلام.
نعم استنباؤه أو ارساله كان مصحوبًا بالقرآن مشفوعًا به وإما متعلق باتبعوا على معنى شاركوه في اتباعه وحينئذ لم يحتج إلى تقدير، وقد يعلق به على معنى اتبعوا القرآن مع اتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى العمل بالكتاب والسنة، وجوز أن يكون في موضع الحال من ضمير اتبعوا أي اتبعوا أي اتبعوا النور مصاحبين له في اتباعه وحاصله ما ذكر في الاحتمال الثاني، وأن يكون حالا مقدرة من نائب فاعل أنزل. وفي مجمع البيان أن مع عنى على وهو متعلق بأنزل ولم يشتهر وروي ذلك، وقال بعضهم: هن هنا مرادفة لعند وهو أحد معانيها المشهورة إلا أنه لا يخفى بعده وإن قيل حاصل المعنى حينئذ أنزل عليه {أولئك} أي المنعوتون بتلك النعوت الجليلة {هُمُ المفلحون} أي هم الفائزون يا لمطلوب لا المتصفون بأضداد صفاتهم، وفي الإشارة إشارة إلى علية تلك الصفات للحكم، وكاف البعد للايذان ببعد المنزلة وعلو الدرجة في الفضل والشرف، والمراد من الموصول المخبر عنه بهذه الجملة عند ابن عباس رضي الله تعالى عنه اليهود الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: ما يعمهم وغيرهم من أمته عليه الصلاة والسلام المتصفين بعنوان الصلة إلى يوم القيامة والاتصاف بذلك لا يتوقف على إدراكه صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى وهو الأولى عندي.
وادعى بعضهم أن المراد من الموصول في قوله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156] المعنى الأعم أيضًا وجعله ابن الخازن قول جمهور المفسرين، وفيه ما فيه ومما يقضي منه العجب كون المراد منه اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام، والجملة متفرعة على ما تقدم من نعوته صلى الله عليه وسلم الجليلة الشان، وقيل: على كتب الرحمة لمن مر، وذكر شيخ الإسلام أنها تعليم لكيفية اتباعه عليه السلام وبيان علو رتبة متبعيه واغتنامهم مغانم الرحمة الواسعة في الدارين ءثر بيان نعوته الجليلة والإشارة إلى إرشاده عليه الصلاة والسلام إياهم بما في ضمن {يَأْمُرُهُم} إلخ، وجعل الحصر المدلول عليه بقوله سبحانه: {أُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} بالنسبة إلى غيرهم من الأمم ثم قال: فيدخل فيهم قوم موسى عليه السلام دخولا أوليا حيث لم ينجوا عما في توبتهم من المشقة الهائلة، وهو مبني على ما سلكه في تفسير الآيات من أول الأمر ولا يصفو عن كدر.