فصل: تفسير الآية رقم (188):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (188):

{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)}
{قُلْ لاَ أَمْلِك لِنَفْسِى نَفْعًا ولاَ ضرًا} أي لا أملك لأجل نفسي جلب نفع مّا ولا دفع ضرر مّا.
والجار والمجرور كما قال أبو البقاء إما متعلق بأملك أو حذوف وقع حالا من نفعا. والمراد لا أملك ذلك في وقت من الأوقات {إِلاَّ مَا شَاء الله} أي إلا وقت مشيئته سبحانه بأن يمكنني من ذلك فإنني حينئذ أملكه شيئته، فالاستثناء متصل وفيه دليل كما قال الشيخ إبراهيم الكوراني على أن قدرة العبد مؤثرة بإذن الله تعالى ومشيئته، وقيل: الاستثناء منقطع أي لكن ما شاء الله تعالى من ذلك كائن، وفيه على هذا من اظهار العجز ما لا يخفى، والكلام مسوق لإثبات عجزه عن العلم بالساعة على أتم وجه، وإعادة الأمر لاظهار العناية بشأن الجواب والتنبيه على استقلاله ومغايرته للأول {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب} أي الذي من جملته ما بين الأشياء من المناسبات المصححة عادة للسببية والمسببية ومن المباينات المستتبعة للمدافعة والممانعة {لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير} أي لحصلت كثيرًا من الخير الذي نيط بترتيب الأسباب ورفع الموانع {وَمَا مَسَّنَا السوء} أي السوء الذي يمكن التفصي عنه بالتوقي عن موجباته والمدافعة وانعه وإن كان منه ما لا مدفع له وكأن عدم مس السوء من توابع استكثار الخير في الجملة، ولذا لم يسلك في الجملة الثانية نحو مسلك الجملة الأولى، والاستلزام في الشرطية لا يلزم أن يكون عقليًا وكليًا بل يكفي أن يكون عاديا في البعض. وقد حكم غير واحد أنه في الآية من العادي، وبذلك دفع الشهاب ما قيل: إن العلم بالشيء لا يلزم منه القدرة عليه ومنشؤه الغفلة عن المراد.
وحمل الخير والسوء على ما ذكر هو الذي ذهب إليه جلة المحققين. وفسر بعض الأول بالربح في التجارة والفوز بالخصب. والثاني بضد ذلك بناء على ما روي عن الكلبي أن أهل مكة قالوا، يا محمد ألا تخبرنا بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فنشتري فنربح، وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرتحل منها إلى ما قد أخصب فنزلت.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأول بالربح في التجارة والثاني بالفقرة، وقيل: الأول الجواب عن السؤال والثاني التكذيب، وقيل: الأول الاشتغال بدعوة من سبقت له السعادة، والثاني النصب الحاصل من دعوة من حقت عليه كلمة العذاب.
وقيل: ونسب إلى مجاهد. وابن جريج المراد من الغيب الموت، ومن الخير الاكثار من الأعمال الصالحة، ومن السوء ما لم يكن كذلك، وقيل: غير ذلك، والكل كما ترى ومنها ما لا ينبغي أن يخرج عليه التنزيل، وقدم ذكر الخير على ذكر السوء لمناسبة ما قبل حيث قدم فيه ذكر النفع على ذكر الضر وسلك في ذكرهما هناك كذلك مسلك الترقي على ما قيل: فإن دفع المضار أهم من جلب المنافع، وذكر النيسابوري أن أكثر ما جاء في القرآن إذ يؤتي بالضر والنفع معا تقديم لفظ الضر على النفع وهو الأصل لأن العابد إنما يعبد معبوده خوفًا من عقابه أولا ثم يعبده طمعا في ثوابه ثانيًا كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16] وحيث تقدم النفع على الضر كان ذلك لسبق لفظ تضمن معني نفع كما في هذه السورة حيث تقدم آنفًا لفظ الهداية على الضلال في قوله تعالى: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدى وَمَن يُضْلِلْ} [الأعراف: 178] إلخ وفي الرعد تقدم ذكر الطوع في قوله سبحانه: {طَوْعًا وَكَرْهًا} وهو نفع، وفي الفرقان تقدم العذب في قوله جل وعلا: {هذا عَذَابٌ فُرَاتٌ} [الفرقان: 53] وهو نفع، وفي سبأ تقدم البسط في قوله تبارك اسمه: {رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ} [سبأ: 36] وليقس على هذا غيره، وابن جريح يفسر النفع هنا بالهدى والضر بالضلال، وبه تقوى نكتة التقديم التي اعتبرها هذا الفاضل فيما نحن فيه كما لا يخفى.
واستشكلت هذه الآية مع ما صح أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بالمغيبات الجمة وكان الأمر كما أخبر، وعد ذلك من أعظم معجزاته عليه الصلاة والسلام، واختلف في الجواب فقيل: المفهوم من الآية نفي علمه عليه الصلاة والسلام إذ ذاك بالغيب المفيد لجلب المنافع ودفع المضار التي لا علاقة بينها وبين الأحكام والشرائع وما يعلمه صلى الله عليه وسلم من الغيوب ليس من ذلك النوع وعدم العلم به مما لا يطعن في منصبه الجليل عليه الصلاة والسلام.
وقد أخرج مسلم عن أنس. وعائشة رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون فقال: عليه الصلاة والسلام: «لو لم تفعلوا لصلح» فلم يفعلوا فخرج شيصًا فمر بهم صلى الله عليه وسلم فقال: ما لقحتم؟ قالوا: قلت كذا وكذا قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» وفي رواية أخرى له أنه عليه الصلاة والسلام قال حين ذكر له أنه صار شيصا: «إن كان شيء من أمر دنياكم فشأنكم، وإن كان من أمر دينكم فإلى» وقد عد عدم علمه صلى الله عليه وسلم بأمر الدنيا كمالا في منصبه إذ الدنيا بأسرها لا شيء عند ربه.
وقيل: المراد نفي استمرار علمه عليه الصلاة والسلام الغيب، ومجيء {كَانَ} للاستمرار شائع، ويلاحظ الاستمرار أيضًا في الاستكثار وعدم المس. وقيل: المراد بالغيب وقت قيام الساعة لأن السؤال عنه وهو عليه الصلاة والسلام لم يعلمه ولم يخبر به أصلًا، وحينئذ يفسر الخير والسوء بما يلائم ذلك كتعليم السائلين وعدم الطعن في أمر الرسالة من الكافرين، وقيل: أل في الغيب للاستغراق وهو صلى الله عليه وسلم لم يعلم كل غيب فان من الغيب ما تفرد الله تعالى به كمعرفة كنه ذاته تبارك وتعالى وكمعرفة وقت قيام الساعة على ما تدل عليه الآية.
وفي لباب التأويل للخازن في الجواب عن ذلك أنه يحتمل أن يكون هذا القول منه عليه الصلاة والسلام على سبيل التواضع والأدب، والمعنى لا أعلم الغيب ألا أن يطلعني الله تعالى عليه ويقدره لي، ويحتمل أن يكون قال ذلك قبل أن يطلعه الله تعالى على الغيب فلما اطلعه أخبر به، أو يكون خرج هذا الكلام مخرج الجواب عن سؤالهم ثم بعد ذلك أظهره الله تعالى على أشياء من المغيبات ليكون ذلك معجزة له ودلالة على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم انتهى، وفيه تأمل؛ وكلام بعض المحققين يشير إلى ترجيح الأول.
ومعنى قوله سبحانه: {أَنَّ أَبَاكُمْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} على ذلك ما أنا إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة وشأني حيازة ما يتعلق بهما من العلوم لا الوقوف على الغيوب التي لا علاقة بينها وبينهما وقد كشفت من أمر الساعة ما يتعلق به الانذار من مجيئها لا محالة واقترابها وأما تعيين وقتها فليس مما يستدعيه الإنذار بل هو مما يقدح فيه لما مر من أن إبهامه ادعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية، وتقديم النذير لأن المقام مقام انذار {ياقوم يُؤْمِنُونَ} أي يصدقون بما جئت به، والجار اما متعلق بالوصفين جميعًا والمؤمنون ينتفعون بالإنذار كما ينتفعون بالتبشير واما متعلق بالأخير ومتعلق الأول محذوف أي نذير للكافرين، وحذف ليطهر اللسان منهم.
وأراد بعضهم من الكافرين المستمرين على الكفر ومن مقابلهم الذين يؤمنون في أي وقت كان وحينئذ في الآية ترغيب للكفرة في أحداث الإيمان وتحذير عن الاصرار على الكفر والطغيان.

.تفسير الآية رقم (189):

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)}
{هُوَ الذي خَلَقَكُمْ} استئناف لبيان ما يقتضي التوحيد الذي هو المقصد الأعظم، وإيقاع الموصول خبرًا لتفخيم شأن المبتدأ أي هو سبحانه ذلك العظيم الشأن الذي خلقكم جميعًا وحده من غير أن يكون لغيره مدخل في ذلك أصلًا {مّن نَّفْسٍ واحدة} وهو آدم عليه السلام على ما نص عليه الجمهور {وَجَعَلَ مِنْهَا} أَى من جنسها كما في قوله سبحانه: {جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [الشورى: 11] فمن ابتدائية والمشهور أنها تبعيضية أي من جسدها لما يروى أنه سبحانه خلق حواء من ضلع آدم عليه السلام اليسرى، والكيفية مجهولة لنا ولا يعجز الله تعالى شيء، والفعل معطوف على صلة الموصول داخل في حكمها ولا ضير في تقدم مضمونه على مضمون الأول وجودًا لما أن الواو لا تستدعي الترتيب فيه، وهو إما عنى صير فقوله سبحانه: {زَوْجَهَا} مفعوله الأول والثاني هو الظرف المقدم واما عني انشأ والظرف متعلق به قدم على المفعول الصريح لما مر مرارًا أو حذوف وقع حالا من المفعول {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} علة غائية للجعل أي ليستأنس بها ويطمئن إليها، والضمير المستكن للنفس، وكان الظاهر التأنيث لأن النفس من المؤنثات السماعية ولذا أنثت صفتها إلا أنه ذكر باعتبار أن المراد منها آدم ولو أنث على الظاهر لتوهم نسبة السكون إلى الأنثى والمقصود خلافه، وذكر الزمخشري أن التذكير أحسن طباقًا للمعنى وبينه في الكشف بأنه لما كان السكون مفسرًا بالميل وهو متناول للميل الشهواني الذي هو مقدمة التغشي لاسيما وقد أكد بالفاء في قوله تعالى: {فَلَمصا تغشاها} والتغشي منسوب إلى الذكر لا محالة كان الطباق في نسبته أيضًا إليه وإن كان من الجانبين، وفيه إيماء إلى أن تكثير النوع علة المؤانسة كما أن الوحدة علة الوحشة، وأيضًا لما جعل المخلوق أولا الأصل كان المناسب أن يكون جعل الزوج لسكونه بعد الاستيحاش لا العكس فإنه غير ملائم لفظًا ومعنى، لكن ذكر ابن الشحنة أن النفس إذا أريد به الإنسان بعينه فمذكر وإن كان لفظه مؤنث، وجاء ثلاثة أنفس على معنى ثلاثة أشخاص وإذا أريد بها الروح فهي مؤنثة لا غير وتصغيرها نفيسة فليفهم. والضمير المنصوب من تغشاها للزوج وهو عنى الزوجة مؤنث، والتغشي كناية عن الجماع أي فلما جامعها {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} أي محمولًا خفيفًا وهو الجنين عند كونه نطفة أو علقة أو مضغة فإنه لا ثقل فيه بالنسبة إلى ما بعد ذلك من الأطوار، فنصب حملا على أنه مفعول به وهو بفتح الحاء ما كان في بطن أو على شجر وبالكسر خلافه. وقد حكى في كل منهما الكسر والفتح.
وجوز أن يكون هنا مصدرًا منصوبًا على أنه مفعول مطلق، وأن يراد بالخفة عدم التأذي أي حملت حملًا خف عليها ولم تلق منه ما تلقي بعض الحوامل من حملهن من الكرب والأذية {فَمَرَّتْ بِهِ} أي استمرت به كما قرأ به ابن عباس. والضحاك. والمراد بقيت به كما كانت قبل حيث قامت وقعدت وأخذت وتركت وهو معنى لا غبار فيه. والقول بأنه من القلب أي فاستمر بها حملها من القلب عند النقاد، وقرأ أبو العالية وغيره {مرت} بالتخفيف فقيل: إنه مخفف مرت كما يقال: ظلت في ظللت، وقيل: هو من المرية أي الشك أي شكت في أمر حملها.
وقرأ ابن عمر والجحدري {فمارت} من ماريمور إذا جاء وذهب فهي عنى قراءة الجمهور أو هي من المرية كقراءة أبي العالية ووزنه فاعلت وحذفت لامه للساكنين {بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت} أي صارت ذات ثقل بكبر الحمل في بطنها فالهمزة فيه للصيرورة كقولهم أتمر وألبن أي صار ذا تمر ولبن، وقيل: إنها للدخول في زمان الفعل أي دخلت في زمان الثقل كاصبح دخل في الصباح والأول أظهر، والمتبادر من الثقل معناه الحقيقي، والتقابل بينه وبين المعنى الأول للخفة ظاهر، وقد يراد به الكرب ليقابل الخفة بالمعنى الثاني لكن المتبادر في الموضعين المعنى الحقيق، وقرئ {أَثْقَلَت} بالبناء للمفعول والهمزة للتعدية أي أثقلها حملها {دَّعَوَا الله} أي آدم وحواء عليهما السلام لما خاقا عاقبة الأمر فاهتما به وتضرعا إليه عز وجل: {رَبُّهُمَا} أي مالك أمرهما الحقيق بأن يخص به الدعاء.
وفي هذا إشارة إلى أنهما قد صدرا به دعاءهما وهو المعنود منهما في الدعاء، ومتعلق الدعاء محذوف لإيذان الجملة القسمية به، أي دعواه تعالى أن يؤتيهما صالحًا وعدًا قابلته الشكر على سبيل التوكيد القسمي وقالا أو قائلين {لَئِنْ ءاتَيْنَا صالحا} أي نسلًا من جنسنا سويًا، وقيل: ولدًا سليمًا من فساد الخلقة كنقص بعض الأعضاء ونحو ذلك وعليه جماعة. وعن الحسن غلامًا ذكرًا وهو خلاف الظاهر {لَنَكُونَنَّ} نحن أو نحن ونسلنا {مِنَ الشاكرين} الراسخين في الشكر لك على إيتائك. وقيل: على نعمائك التي من جملتها هذه النعمة.
وجوز أن يكون ضمير آتيتنا لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما وليس بذلك.

.تفسير الآية رقم (190):

{فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)}
{فَلَمَّا ءاتاهما صالحا} وهو ما سألاه أصالة من النسل أو ما طلباه أصالة واستتباعًا من الولد وولد الولد ما تناسلوا {جَعَلاَ} أي النسل الصالح السوي، وثنى الضمير باعتبار أن ذلك النسل صنفان ذكر وأنثى وقد جاء أن حواء كانت تلد في كل بطن كذلك {لَهُ} أي لله سبحانه وتعالى: {شُرَكَاء} من الأصنام والأوصان {فِيمَا ءاتاهما} من الأولاد حيث أضافوا ذلك إليهم، والتعبير {ا} لأن هذه الإضافة عند الولادة والأولاد إذ ذاك ملحقون بما لا يعقل.
وقيل: المراد بالموصول ما يعم سائر النعم فإن المشركين ينسبون ذلك إلى آلهتهم، ووجه العدول عن الإضمار حيث لم يقل شركاء فيه على الوجهين ظاهر، وإسناد الجعل للنسل على حد بنو تميم قتلوا فلانًا {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} تنزيه فيه معنى التعجب، والفاء لترتيبه على ما فصل من قدرته سبحانه عز وجل وآثار نعمته الزاجرة عن الشرك الداعية إلى التوحيد، وضمير الجمع لأولئك النسل الذين جعلوا لله شركاء وفيه تغليب المذكر على المؤنث وإيذان بعظم شركهم، والمراد بذلك إما التسمية أو مطلق الإشراك، و{مَا} إما مصدرية أي عن إشراكهم أو موصولة أو موصوفة أي عما يشركون به تعالى، وهذه الآية عندي من المشكلات؛ وللعلماء فيها كلام طويل ونزاع عريض وما ذكرناه هو الذي يشير إليه كلام الجبائي وهو مما لا بأس به بعد إغضاء العين عن مخالفته للمرويات سوى تثنية الضمير تارة وجمعه أخرى مع كون المرجع مفردًا لفظًا ولم نجد ذلك في الفصيح.
واختار غير واحد أن في جعلا وآتاهما بعد مضافًا محذوفًا وضمير التثنية فيهما لآدم وحواء على طرز ما قيل أي جعل أولادهما فيما آتى أولادهما من الأولاد وإنما قدروه في موضعين ولم يكتفوا بتقديره في الأول وإعادة الضمير من الثاني على المقدر أولًا لأن الحذف لم تقم عليه قرينة ظاهرة فهو كالمعدوم فلا يحسن عود الضمير عليه، والمراد بالشرك فيما آتى الأولاد تسمية كل واحد من أولادهم بنحو عبد العزي وعبد شمس.
واعترض أولًا: بأن ما ذكر من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه إنما يصار إليه فيما يكون للفعل ملابسة ما بالمضاف إليه أيضًا بسرايته إليه حقيقة أو حكمًا ويتضمن نسبته إليه صورة مزية يقتضيها المقام كما في قوله تعالى: {وَإِذْ أنجيناكم مّنْ ءالِ فِرْعَونَ} [الأعراف: 141] الآية فإن الانجاء منهم مع أن تعلقه حقيقة ليس إلا بأسلاف اليهود وقد نسب إلى أخلافهم بحكم سرايته إليهم توفية لمقام الامتنان حقه وكذا يقال في نظائره وهنا ليس كذلك إذ لا ريب في أن آدم وحواء عليهما السلام بريئان من سراية الجعل المذكور إليهما بوجه من الوجوه فلا وجه لإسناده إليهما صورة، وثانيًا: بأن إشاركهم بإضافة أولادهم بالعبودية إلى أصنامهم من لازم اتخاذ تلك الأصنام آلهة ومتفرع له لا أمر حدث عنهم لم يكن قبل فينبغي أن يكون التوبيخ على هذا دون ذلك، وثالثًا: بأن إشراك أولادهما لم يكن حين آتاهما الله تعالى صالحًا بل بعده بأزمنة متطاولة، ورابعًا: بأن إجراء جعلا على غير ما أجري عليه الأول والتعقيب بالفاء يوجب اختلال النظم الكريم.
وأجيب عن الأول: بأن وجه ذلك الإسناد الإيذان بتركهما الأولى حيث أقدما على نظم أولادهما في سلك أنفسهما والتزما شكرهم في ضمن شكرهما وأقسما على ذلك قبل تعرف أحوالهم ببيان أن إخلالهم بالشكر الذي وعداه وعدًا مؤكدًا باليمين نزلة إخلالهما بالذات في استيجاب الحنث والخلق مع ما فيه من الإشعار بتضاعف جنايتهم أنهم يجعلهم المذكور أوقعوهما في ورطة الحنث والخلف وجعلوهما كأنهما باشراه بالذات فجمعوا بين الجناية مع الله تعالى والجناية عليهما السلام، وعن الثاني: بأن المقام يقتضي التوبيخ على هذا لأن لما ذكر ما أنعم سبحانه وتعالى به عليهم من الخلق من نفس واحدة وتناسلهم وبخهم على جهلهم وإضافتهم تلك النعم إلى غير معطيها وإسنادها إلى من لا قدرة له على شيء ولم يذكر أولًا أمرًا من أمور الألوهية قصدًا حتى يوبخوا على اتخاذ الآلهة، وعن الثالث: بأن كلمة لما ليست للزمان المتضايق بل الممتد فلا يلزم أن يقع الشرط والجزاء في يوم واحد أو شهر أو سنة بل يختلف ذلك باختلاف الأمور كما يقال: لماظهر الإسلام طهرت البلاد من الكفر والإلحاد، وعن الرابع: بما حرره صاحب الكشف في اختيار هذا القول وإيثاره على القول بأن الشرك راجع لآدم وحواء عليهما السلام وليس المتعارف بل ما نقل من تسمية الولد عبد الحرث وهو أن الظاهر أن قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} [الأعراف: 189] خطاب لأهل مكة وأنه بعدماختمت قصة اليهود بما ختمت تسلية وتشجيعًا للنبي صلى الله عليه وسلم وحملا له على التثبت والصبر اقتداء بإخوته من أولى العزم عليه وعليهم الصلاة والسلام لاسيما مصطفاه وكليمه موسى عليه السلام فإن ما قاساه من بني إسرائيل كان شديد الشبه بما كان يقاسيه صلى الله عليه وسلم من قريش وذيلت بما يقتضي العطف على المعنى الذي سيق له الكلام أولًا أعني قوله سبحانه وتعالى: {وَمِمَّن خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق} [الأعراف: 181] وقع التخلص إلى ذلك أهل مكة في حاق موقعه فقيل: {والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا سَنَسْتَدْرِجُهُم} [الأعراف: 182] وذكر سؤالهم عما لا يعنيهم فلما أريد بيان أن ذلك مما لا يهمكم وإنما المهم إزالة ما أنتم عليه منغمسون فيه من أوضار الشرك والآثام مهد له{هو الذي خلقكم} [الأعراف: 189] مضمنًا معنى الامتنان والمالكية المقتضيين للتوحيد والعبودية ثم قيل: {فَلَمَّا ءاتاهما صالحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء} أي جعلتم يا أولادهما ولقد كان لكم في أبويكم أسوة حسنة في قولهما: {لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صالحا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} [الأعراف: 189] وكأن المعنى والله تعالى أعلم فلما آتاهما صالحًا ووفيا بما وعدا به ربهما من القيام وجب الشكر خالفتم أنتم يا أولادهما فأشركتم وكفرتم النعمة، وفي هذا الالتفات ثم إضافة فعلهم إلى الأبوين على عكس ما جعل من خلق الأب وتصويره في معرض الامتنان متعلقًا بهم إيماء إلى غاية كفرانهم وتماديهم في الغي، وعليه ينطبق قوله سبحانه: {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} ثم قال: فظهر أن ءجراء جعلا له على غير ما أجحري عليه الأول، والتعقيب بالفاء لا يوجب اختلال النظم بل يوجب التئامه اه، والانصاف أن الأسئلة قوية والآية على هذا الوجه من قبيل اللغز، وعن الحسن. وقتادة أن ضمير جعلا وآتاهما يعود على النفس وزوجها من ولد آدم لا إلى آدم وحواء عليهما السلام، وهو قول الأصم قال: ويكون المعنى في قوله سبحانه وتعالى: {خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} [الأعراف: 189] خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وخلق لكل نفس زوجًا من جنسها فلما تغشى كل نفس زوجها حملت حملًا خفيفًا وهو ماء الفحل فلما أثقلت صير ذلك الماء لحمًا ودمًا وعظمًا دعا الرجل والمرأة ربهما لئن آتيتنا صالحًا أي ذكرا سويًا لنكونن من الشاكرين وكانت عادتهم أن يئدوا البنات فلما آتاهما أي فلما أعطى الله تعالى الأب والأم ما سألاه جعلا له شركاء فسميا عبد اللات وعبد العزى وغير ذلك ثم رجعت الكناية في قوله سبحانه وتعالى: {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} إلى الجميع ولا تعلق للآية بآدم وحواء عليهما السلام أصلًا، ولا يخفى أن المتبادر من صدرها آدم وحواء ولا يكاد يفهم غيرهما رأسًا نعم اختار ابن المنير ما مآله هذا في الانتصاف وادعى أنه أقرب وأسلم مما تقدم وهو أن يكون المراد جنسي الذكر والأنثى ولا يقصد معين من ذلك ثم قال: وكأن المعنى والله تعالى أعلم هو الذي خلقكم جنسًا واحدًا وجعل أزواجكم منكم أيضًا لتسكنوا إليهن فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر الجنس الذي هو الأنثى جرى من هذين الجنسين كيت وكيت، وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنسو إن كان فيهم الموحدون لأن المشركين منهم فجاز أن يضاف الكلام إلى الجنس على طريقة قتل بنو تميم فلانًا وإنما قتلهم بعضهم، ومثله قوله تعالى: {وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} [مريم: 66] و{قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] إلى غير ذلك وتعقب بأن فيه إجراء جميع ألفاظ الآية على الأوجه البعيدة.
وعن أبي مسلم أن صدر الآية ادم وحواء كما هو الظاهر إلا أن حديثهما ما تضمنه قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] وانقطع الحديث ثم خص المشركين من أولاد آدم بالذكر، ويجوز أن يذكر العموم ثم يخص البعض بالذكر، وهو كما ترى. وقيل: يجوز أن يكون ضمير جعلا لآدم وحواء كماهو الظاهر والكلام خارج مخرج الاستفهام الإنكاري والكناية في {فتعالى} إلخ للمشكرين، وذلك أنهم كانوا يقولون: إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ويشرك كما نشرك فرد عليهم بذلك ونظير هذا أن ينعم رجل على آخر بوجوه كثيرة من الإنعام ثم يقال لذلك المنعم: إن الذي أنعمت عليه يقصد إيذاءك وإيصال الشر إليك فيقول: فعلت في حقه كذا وكذا وأحسنت إليه بكذا وكذا ثم إنه يقابلني بالشر والإساءة ومراده أنه بريء من ذلك ومنفي عنه. وقيل: يحتمل أن يكون الخطاب في {خَلَقَكُمْ} لقريش وهم آل قصي فإنهم خلقوا من نفسي قصي وكان له زوج من جنسه عربية قريشية وطلبًا من الله تعالى الولد فأعطاهما أربعة بنين فسمياهم عبد مناف وعبد شمس وعبد العزى وعبد الدار يعني بها دار الندوة ويكون الضمير في {يُشْرِكُونَ} لهما ولأعقابهما المقتدين بهما وأيد ذلك بقوله في قصة أم معبد:
فيا لقصي ما زوى الله عنكم ** به من فخار لا يباري وسودد

واستبعد ذلك في الكشف بأن المخاطبني لم يخلقوا من نفس قصي لا كلهم ولا كلهم وإنما هو مجمع قريش وبأن القول بأن زوجه قرشية خطأ لأنها إنما كانت بنت سيد مكة من خزاعة وقريش إذ ذاك متفرقون ليسوا في مكة، وأيضًا من أين العلم إنهما وعدًا عند الحمل أن يكونا شاكرين لله تبارك وتعالى ولا كفران أشد من الكفر الذي كانا فيه. وما مثل من فسر بذلك إلا كمن عمر قصرًا فهدم مصرًا، وأما البيت فإنما خص فيه بنو قصي بالذكر لأنهم ألصق برسول الله صلى الله عليه وسلم أو لأنه لما كان سيدهم وأميرهم شمل ذكره الكل شمول فرعون لقومه ومعلوم أن الكل ليسوا من نسل فرعون اه. وأجيب عن قوله: من أين العلم إلخ بأنه من إعلام الله تعالى إن كان ذلك هو معنى النظم، ومنه يعلم أن كون زوجته غير قرية في حيز المنعم. نعم في كون قصي هو أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم كان مشركًا مخالفة لما ذهب إليه جمع من أن أجداده عليه الصلاة والسلام كلهم غير مشركين، وقيل: إن ضمير له للولد، والمعنى أنهما طلبا من الله تعالى أمثالًا للولد الصالح الذي أتاهما، وقيل: هو لإبليس، والمعنى جعلا لإبليس، والمعنى جعلا لإبليس شركاء في اسمه حيث سميا ولدهما بعبد الحرث، وكلا القولين ردهما الآمدي في أبكار الأفكار، وهما لعمري أوهن من بيت العنكبوت لكني ذكرتهما استيفاء للأقوال، وذهب جماعة من السلف كابن عباس.
ومجاه. وسعيد بن المسيب وغيرهم إلى أن ضمير {جَعَلاَ} يعود آدم وحواء عليهما السلام، والمراد بالشرك بالنسبة إليهما غير المتبادر بل ما أشرنا إليه آنفًا إلى أن قوله سحبانه وتعالى: {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} تخلص إلى قصة العرب وإشراكهم الأصنام فهو كما قال السدي من الموصول لفظًا المفصول معنى، ويوضح ذلك كما قيل تغيير الضمير إلى الجمع بعد التقنية ولو كانت القصة واحدة لقيل يشركان، وكذلك الضمائر بعد، وأيد ذلك بما أخرجه أحمد. والترمذي وحسنه. والحاكم وصححه عن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال لها: سميه عبد الحرث فإنه يعيش فسمته بذلك فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره وأراد بالحرث نفسه فإنه كان يسمى به بين الملائكة» ولا يعد هذا شركًا بالحقيقة على ما قال القطب لأن أسماء الأعلام لا تفيد مفهوماتها اللغوية لكن أطلق عليه الشك تغليظًا وإيذانًا بأن ما عليه أولئك السائلون عما لا يعنيهم أمر عظيم لا يكاد يحيط بفظاعته عبارة.
وفي لباب التأويل أن إضافة عبد إلى الحرث على معنى أنه كان سببًا لسلامته وقد يطلق اسم العبد على ما لا يراد به المملوك كقوله:
وأني لعبد الضيف ما دام ثاويًا

ولعل نسبة الجعل إليهما مع أن الحديث ناطق بأن الجاعل حواء لا هي وآدم لكونه عليه السلام أقرها على ذلك، وجاء في بعض الروايات التصريح بأنهما سمياه بذلك. وتعقب هذا القول بعض المدققين بأن الحديث لا يصلح تأييدًا له لأنه لم يرد مفسرًا للآية ولا إنكار لصدور ذلك منهما عليهما السلام فإنه ليس بشرك. نعم كان الأولى بهما التنزه عن ذلك إنما المنكر حمل الآية على ذلك مع ما فيه من العدول عن الظاهر لاسيما على قراءة الأكثرين {شُرَكَاء} بلفظ الجمع؛ ومن حمل {فتعالى} إلخ على أنه ابتداء كلام وهو راجع إلى المشركين من الكفار، والفاء فصيحة، وكونه منقولًا عن السلف معارض بأن غيره منقول أيضًا عن جمع منهم انتهى. وقد يقال: أخرج ابن جرير عن الحبر أن الآية نزلت في تسمية آدم وحواء ولديهما بعبد الحرث، ومثل ذلك لا يكاد يقال من قبل الرأي، وهو ظاهر في كون الخبر تفسيرًا للآية، وارتكاب خلاف الظاهر في تفيرها مما لا مخلص عنه كما لا يخفى على المنف.
ووجه جمع الشركاء زيادة في التغليظ لأن من جوز الشرك جوز الشركاء فلما جعلا شريكًا فكأنهما جعلا شركاء، وحمل {فتعالى الله} إلخ على الابتداء مما يستدعيه السابق والسياق وبه صرح كثير من أساطين ازسلام والذاهبون إلى غير هذا الوجه نزر قليل بالنسبة إلى الذاهبين إليه وهم دونهم أيضًا في العلم والفضل وشتان ما بين دندنة النحل وألحان معبد، ومن هنا قال العلامة الطيبي: إن هذا القول أحسن الأقوال بل لا قول غيره ولا معمول إلا عليه لأنه مقتبس من مشكاة النبوة وحضرة الرسالة صلى الله عليه وسلم، وأنت قد علمت مني أنه إذا صح الحديث فهو مذهبي وأراه قد صح ولذلك أحجم كميت قلمي عن الجري في ميدان التأويل كما جرى غيره والله تعالى الموفق للصواب. وقرأ نافع. وأبو بكر {شركًا} بصيغة المصدر أي شركة أو ذوي شركة وهم الشركاء.