فصل: تفسير الآية رقم (200):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (200):

{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)}
{وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ} النزغ والنسغ والنخس عنى وهو إدخال الإبرة أو طرف العصا أو ما يشبه ذلك في الجلد، وعن ابن زيد أنه يقال: نزغت ما بن القوم إذا أفسدت ما بينهم، وقال الزجاج: هو أدنى حركة تكون، ومن الشيطان وسوسته، والمعنى الأول هو المشهور، وإطلاقه على وسوسة الشيطان مجاز حيث شبه وسوسته إغراء للناس على المعاصي وإزعاجًا بغرز السائق ما يسوقه، وإسناد الفعل إلى المصدر مجازي كما في جد جده، وقيل: النزغ عنى النازغ فالتجوز في الطرف، والأول أبلغ وأولى، أي إما يحملنك من جهة الشيطان وسوسة ما على خلاف ما أمرت به من اعتراء غضب أو نحوه {فاستعذ بالله} فاستجربه والتجئ إليه سبحانه وتعالى في دفعه عنك {إِنَّهُ سَمِيعٌ} سمع على أكمل وجه استعاذتك قولًا {عَلِيمٌ} يعلم كذلك تضرعك إليه قلبًا في ضمن القول أو بدونه فيعصمك من شره، أو سمع أي مجيب دعاءك بالاستعاذة عليم بما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه، أو سميع بأقوال من آذاك عليم بأفعاله فيجازيه عليها، والآية على ما نص عليه بعض المحققين من باب {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] فلا حجة فيها لمن زعم عدم عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من وسوسة الشيطان وارتكاب المعاصي. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة قالوا: وإياك يا رسول الله قال: وإياي إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» وقال آخرون: إن نزغ الشيطان بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم مجاز عن اعتراء الغضب المقلق للنفس، وفي الآية حينئذٍ زيادة تنفير عن الغضب وفرط تحذير عن العمل وجبه، ولذا كرر صلى الله عليه وسلم النهي عنه كما جاء في الحديث، وفي الأمر بالاستعاذة بالله تعالى تهويل لذلك وتنبيه على أنه من الغوائل التي لا يتخلص من مضرتها إلا بالالتجاء إلى حرم عصمته عز وجل.

.تفسير الآية رقم (201):

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)}
{إِنَّ الذين اتقوا} استئناف مقرر لما قبله من الأمر ببيان أن الاستعاذة سنة مسلوكة للمتقين والإخلال بها شنشنة الغاوين، أي إن الذين اتصفوا بتقوى الله تعالى: {إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشيطان} أي لمة منه كما روي عن ابن عباس، وتنوينه للتحقير، والمراد وسوسة ما، وهو اسم فاعل من طاف بالشيء إذا دار حوله، وجعل الوسوسة طائفًا للإيذان بأنها وإن مست لا تؤثر فهم فكأنها طافت حولهم ولم تصل إليهم.
وجوز أن يكون من طاف طيف الخيال إذا ألم في المنام فالمراد به الخاطر. وذهب غير واحد إلى أن المراد بالطائف الغضب. وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو. والكسائي. ويعقوب {طيف} على أنه مصدر أو تخفيف من طيف من الواوي أو اليائي كهين ولين. والمراد بالشيطان الجنس لا إبليس فقط ولذا جمع ضميره فيما سيأتي {تَذَكَّرُواْ} أي ما أمر الله تعالى به ونهى عنه، أو الاستعاذة به تعالى والالتجاء إليه سبحانه وتعالى، أو عداوة الشيطان وكده {فَأذَاهُمْ} بسبب ذلك التذكر {هُم مُّبْصِرُونَ} مواقع الخطأ ومناهج الرشد فيحترزون عما يخالف أمر الله تعالى وينجون عما لا يرضيه سبحانه وتعالى، والظاهر أن المراد من الموصول من اتصف بعنوان الصلة مطلقًا، وقال بعض المحققين: إن الخطاب في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ} [الأعراف: 200] إلخ أما أن يكون مختصًا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو الظاهر فالمناسب أن يراد بالمتقين المرسلون من أولي العزم، أو يكون عامًا على طريقة «بشر المشائين إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة»، أو خاصًا يراد به العام نحو {يا أيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} [الطلاق: 1] فالمتقون حينئذٍ الصالحون من عباد الله تعالى انتهى. ولا يخفى أن الملازمة في الشرطية الأولى في حيز المنع والعموم هو المتبادر على كل حال، وزعم بعضهم أن المراد بالمتقين المنسوب إليهم المس غير الأنبياء عليهم السلام، وجعل الخطاب فيما سبق خاصًا بالسيد الأعظم صلى الله عليه وسلم وادعى أن النزغ أول الوسوسة والمس لا يكون إلا بعد التمكن، ثم قال: ولذا فصل الله سبحانه وتعالى بين النبي عليه الصلاة والسلام وغيره من سائر المتقين فعبر في حقه عليه الصلاة والسلام بالنزغ وفي حقهم بالمس، وقد يقال: إن اهتمام الشيطان في الوسوسة للكامل أكمل من اهتمامه في الوسوسة لمن دونه فلذا عبر أولًا بالنزغ وثانيًا بالمس.

.تفسير الآية رقم (202):

{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)}
{وإخوانهم} أي إخوان الشياطن الذين لم يتقوا وذلك معنى الإخوة بينهم، وهو مبتدأ وقوله سبحانه وتعالى: {يَمُدُّونَهُمْ فِي الغى} خبره، والضمير المرفوع للشياطين والمنصوب للمبتدأ، أي تعاونهم الشياطين في الضلال وذلك بأن يزينوه لهم ويحملوهم عليه، والخبر على هذا جار على غير من هو له وفي أنه هل يجب إبراز الضمير أولا يجب في مثل ذلك خلاف بين أهل القريتين كالصفة المختلف فيها بينهم، وقيل: إن الضمير الأول للإخوان والثاني للشياطين، والمعنى وإخوان الشياطين يمدون الشياطين بالاتباع والامتثال، وعلى هذا يكون الخبر جاريًا على من هو له، والجار والمجرور متعلق بما عنده، وجوز أن يكون في موضع الحال من الفاعل أو من المفعول. وقرأ نافع {يَمُدُّونَهُمْ} بضم الياء وكسر الميم من الإمداد والجمهور على فتح الياء وضم الميم.
قال أبو علي في الحجة بعد نقل ذكر ذلك: وعامة ما جاء في التنزيل مما يحمد ويستحب أمددت على أفعلت كقوله تعالى: {أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون: 55] {وأمددناهم بفاكهة} [الطور: 22] و{أَتُمِدُّونَنِ الٍ} [النمل: 36] وما كان بخلافه على مددت قال تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] وهكذا يتكلمون بما يدل على أن الوجه فتح الياء كما ذهب إليه الأكثر، ووجه قراءة نافع أنه مثل {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] {فَسَنُيَسّرُهُ للعسرى} [الليل: 10] وقرأ الجحدري {يمادونهم} من باب المفاعلة وهي هنا مجازية كأنهم كان الشاطين يعينونهم بالإغراء وتهوين المعاصي عليهم وهؤلاء يعينون الشياطين بالاتباع والامتثال{ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} أي لا يمسكون ولا يكفون عن إغوائهم حتى يردوهم بالكلية فهو من أقصر إذا أقلع وأمسك كما في قوله:
سما لك شوق بعد ما كان أقصرا

وجوز أن يكون الضمير للإخوان. وروي ذلك عن ابن عباس. والسدي وإليه ذهب الجبائي، أي ثم لا يكف هؤلاء عن الغي ولا يقصرون كالمتقين، وجوز أيضًا أن يراد بالإخوان الشياطين وضمير الجمع المضاف إليه أولًا والمفعول ثانيًا والفاعل ثالثًا يعود إلى الجاهلين في قوله سبحانه وتعالى: {وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين} [الأعراف: 199] أي وإخوان الجاهلين وهم الشياطين يمدون الجاهلين في الغي ثم لا يقصر الجاهلون عن ذلك، والخبر على هذا أيضًا جار على ما هو له كما في بعض الأوجه السابقة والأول أولى رعاية للمقابلة. وقرأ عيسى بن عمر {يُقْصِرُونَ} بفتح الياء وضم الصاد من قصر وهو مجاز عن الإمساك أيضًا.

.تفسير الآية رقم (203):

{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)}
{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِئَايَةٍ} من القرآن عند تراخي الوحي كما روي عن مجاهد. وقتادة. والزجاج، أو بآية مقترحة كما روي عن ابن عباس. والجبائي. وأبي مسلم {قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها} أي هلا جمعتها ولفقتها من عند نفسك افتراء، أو هلا أخذتها من الله تعالى بطلب منه، وهو تهكم منهم لعنهم الله تعالى، ومما ذكرنا علم أن لاجتبى معنيين جمع وأخذ ويختلف المراد حسب الاختلاف في تفسير الآية، وعن علي بن عيسى أن الاجتباء في الأصل الاستخراج ومنه جباية الخراج، وقيل: أصله الجمع من جبيت الماء في الحوض جمعته، ومنه قيل للحوض جابية لجمعه الماء، وإلى هذا ذهب الراغب، وف الدر المصون جبى الشيء جمعه مختارًا ولذا غلب اجتبيته عنى اخترته.
وقال الفراء يقال اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك وكذا اخترعته عند أبي عبيدة، وقال ابن زيد: هذه الأحرف تقولها العرب للكلام يبتديه الرجل لم يكن أعده قبل ذلك في نفسه، ومن جعل الأصل شيئًا لا ينكر الاستعمال في الآخر مجازًا كما لا يخفى {قُلْ} ردًا عليهم {إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَىَّ مِن رَّبّى} من غير أن يكون لي دخل ما في ذلك أصلًا على معنى تخصيص حاله عليه الصلاة والسلام باتباع ما يوحى إليه بتوجيه القصر إلى نفس الفعل بالنسبة إلى مقابله الذي كلفوه إياه عليه الصلاة والسلام لا على معنى تخصيص اتباعه صلى الله عليه وسلم بما يوحى إليه بتوجيه القصر بالقياس إلى مفعول آخر كما هو الشائع في موارد الاستعمال كأنه قل: ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي منه تعالى دون الاختلاف والاقتراح، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى {هذا} إشارة إلى القرآن الجليل المدلول عليه بما يوحى إليّ {بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ} أي نزلة البصائر للقلوب بها تبصر الحق وتدرك الصواب، أو حجج بينة وبراهين نيرة تغني عن غيرها فالكلام خارج مخرج التشبيه البليغ، وقد حققت ما فيه على الوجه الأتم في الطراز المذهب، أو فيه مجاز مرسل حيث أطلق المسبب على السبب، وجوز أن تكون البصائر مستعارة لإرشاد القرآن الخلق إلى إدراك الحقائق، وهذا مبتدأ وبصائر خبره، وجمع خبر المفرد لاشتماله على آيات وسور جعل كل منها بصيرة، و{مِنْ} متعلقة حذوف وقع صفة لبصائر مفيدة لفخامتها أي بصائر كائنة منه تعالى، والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد وجوب الإيمان بها، وقوله سبحانه وتعالى: {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} عطف على بصائر، وتنوينهما للتفخيم، وتقديم الظرف عليهما وتعقبهما بقوله تعالى: {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} كما قال شيخ الإسلام للإيذان بأن كون القرآن بصائر متحقق بالنسبة إلى الكل وبه تقوم الحجة على الجميع، وأما كونه البعض من أن الثلاثة للمؤمنين، فقد قال النيسابوري في التفسير: إن البصائر لأصحاب عين اليقن والهدى لأرباب علم اليقين والرحمة لغيرهم من الصالحين المقلدين على أتم وجه والجميع لقوم يؤمنون، وذكر نحو ذلك الخازن وادعى أنه من اللطائف وهو خلاف الظاهر بل لا يكاد يسلم، وهذه الجملة على ما يظهر من تمام القول المأمور به.
واحتج بالآية من لم يجوز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه نظر.

.تفسير الآية رقم (204):

{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)}
{وَإِذَا قرئ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ} إرشاد إلى طريق الفوز بما أشير إليه من المنافع الجليلة التي ينطوي عليها القرآن، والاستماع معروف؛ واللام يجوز أن تكون أجلية وأن تكون عنى إلى وأن تكون صلة، أي فاستمعوه، والإنصات السكوت يقال: نصت ينصت وأنصت وانتصت إذا سكت والاسم النصتة بالضم، ويقال كما قال الأزهري: أنصته وأنصت له إذا سكت له واستمع لحديثه، وجاء أنصته إذا أسكته، والعطف للاهتمام بأمر القرآن، وعلل الأمر بقوله سبحانه وتعالى: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي لكي تفوزوا بالرحمة التي هي أقصى ثمراته، والآية دليل لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في أن المأموم لا يقرأ في سرية ولا جهرية لأنها تقتضي وجوب الاستماع عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها؛ وقد قام الدليل في غيرها على جواز الاستماع وتركه فبقي فيها على حاله في الإنصات للجهر وكذا في الإخفاء لعلمنا بأنه قرأ، ويؤيد ذلك أخبار جمة، فقد أخرج عبد بن حميد. وابن أبي حاتم. والبيهقي في سننه عن مجاهد قال: قرأ رجل من الأنصار خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فنزلت وإذا قرئ القرآن إلخ.
وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن مسعود أنه صلى بأصحابه فسمع أناسًا يقرؤون خلفه فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفهموا أما آن لكم أن تعقلوا {وَإِذَا قرئ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ} كما أمركم الله تعالى.
وأخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن ثابت قال: لا قراءة خلف الإمام. وأخرج أيضًا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا». وأخرج أيضًا عن جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان له إمام فقراءته له قراءة» وهذا الحديث إذا صح وجب أن يخص عموم قوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ} [المزمل: 20] وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة إلا بقراءة» على طريقة الخصم مطلقًا فيخرج المقتدى وعلى طريقتنا أيضًا لأن ذلك العموم قد خص منه البعض وهو المدرك في الركوع إجماعًا فجاز التخصيص بعده بالمقتدى بالحديث المذكور، وكذا يحمل قوله عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: «فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» على غير حالة الاقتداء جمعًا بين الأدلة، بل قد يقال: إن القراءة ثابتة من المقتدى شرعًا فإن قراءة الإمام قراءة له فلو قرأ لكان له قراءتان في صلاة واحدة وهو غير مشروع. بق الكلام في تصحيح الخبر، وقد روي من طرق عديدة مرفوعًا عن جابر رضيي الله تعالى عنه عنه عليه الصلاة والسلام وقد ضعف.
واعترف المضعفون لرفعه كالدارقطني. والبيهقي. وابن عدي بأن الصحيح أنه مرسل لأن الحفاظ كالسفيانين. وأبي الأحوص. وشعبة. وإسرائيل. وشريك. وجرير. وأبي الزبير. وعبد بن حميد وخلق آخرين رووه عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلوه، وقد أرسله مرة أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، وحينئذٍ لنا أن نقول المرسل حجة عند أكثر أهل العلم فيكفينا فيما رجع إلى العمل على رأينا وعلى طريق الإلزام أيضًا بإقامة الدليل على حجية المرسل أيضًا، وعلى تقدر التنزل عن حجيته فقد رفعه الإمام بسند صحيح.
وروى محمد بن الحسن في موطئه قال: أنبأنا أبو حنيفة حدثنا أبو الحسن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى خلف إمام فإن قراءة الإمام له قراءة» وقولهم: إن الحفاظ الذن عدوهم لم يرفعوه غير صحيح. فقد قال أحمد بن منيع في مسنده: أخبرنا إسحاق الأزرق حدثنا سفيان. وشريك عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة». ثم قال وحدثنا جرير عن موسى عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره ولم يذكر جابرًا ورواه عبد بن حميد قال: حدثنا أبو نعيم حدثنا الحسن بن صالح عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره، وإسناد حديث جابر الأول على شرط الشيخين والثاني على شرط مسلم، فهؤلاء سفيان. وشريك. وجرير. وأبو الزبير رفعوه بالطرق الصحيحة فبطل عدهم فيمن لم يرفعه، ولو تفرد الثقة وجب قبوله لأن الرفع زيادة وزيادة الثقة مقبولة فكيف ولم ينفرد، والثقة قد يسند الحديث تارة ويرسله أخرى. وأخرجه ابن عدي عن الإمام رضي الله تعالى عنه في ترجمته وذكر فيها قصة وبها أخرجه أبو عبد الله الحاكم قال: حدثنا أبو محمد بن بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي حدثنا عبد الصمد بن الفضل البلخي حدثنا مكي بن إبراهيم عن أبي حنيفة عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد بن الهاد عن جابر بن عبد الله «إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ورجل خلفه قرأ فجعل رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينهاه عن القراءة في الصلاة فلما انصرف أقبل عليه الرجل قال: أتنهاني عن القراءة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعا حتى ذكرا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم:
«من صلى خلف إمام فإن قراءة الإمام له قراءة». وفي رواية لأبي حنيفة «إن ذلك كان في الظهر أو العصر» وهي أن رجلًا قرأ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر فأومأ إليه رجل فنهاه فلما انصرف قال: أتنهاني الحدث. نعم إن جابرًا روى منه محل الحكم فقط تارة والمجموع تارة ويتضمن رد القراءة خلف الإمام لأنه خرج تأييدًا لنهي ذلك الصحابي عنها مطلقًا في السرية والجهرية خصوصًا في رواية أبي حنيفة أن القصة كانت في السرية لا إباحة فعلها وتركها فيعارض ما روي في بعض روايات حديث: «مالي أنازع في القرآن» أنه قال: إنه لابد ففي الفاتحة، وكذا ما رواه أبو داود. والترمذي عن عبادة بن الصامت قال: كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: لعلكم تقرؤون خلف إمامكم، قلنا: نعم هذا، قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها؛ ويقدم لتقدم المنع على الإطلاق عند التعارض ولقوة السند فإن حديث المنع أصح فبطل رد المتعصبين، وتضعيف بعضهم لمثل الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه مع تضييقه في الرواية إلى الغاية حتى أنه شرط التذكر لجوازها بعد علم الراوي أن ذلك المروي خطه، ولم يشترط الحفاظ هذا ولم يوافقه صاحباه على أن الخبر قد عضد بروايات كثيرة عن جابر غير هذه وإن ضعفت وذاهب الصحابة أيضًا كابن عباس. وابن عمر. وزيد بن ثابت. وابن مسعود.
وأخرج محمد عن داود بن قيس بن عجلان أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: ليت في فم الذي يقرأ خلف الإمام حجرًا، وروي مثل ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه إلا أن فيه مقالًا أنه قال: من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة، وقال الشعبي: أدركت سبعين بدريًا كلهم يمنعون المقتد عن القراءة خلف الإمام، وقد ادعى بعض أصحابنا إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم على ذلك، ولعل مراده بذلك إجماع كثير من كبارهم، وإلا ففيه نظر، وكون مراده الإجماع السكوتي ليس بشيء أيضًا، وذهب قوم إلى أن المأموم يقرأ إذا أسر الإمام القراءة ولا يقرأ إذا جهر وهو قول عروة بن الزبير. والقاسم بن محمد. والزهري. ومالك. وابن المبارك. وأحمد. وإسحاق، وروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه وحجتهم فما قيل: إن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن والسنة تدل على وجوب القراءة خلف الإمام فحملنا مدلول الآيية على صلاة الجهر ومدلول السنة على صلاة السر جمعًا بين الدلائل، وقال آخرون: إنما قرأ في السرية لأنه لا يقال له مستمع، واعترض بأنه وإن سلمنا أنه لا يقال له ذلك لكن لا نسلم أنه لا يقال له منصت مع علمه بالقراءة وبأنا لا نسلم دلالة السنة على وجوب القراءة خلف الإمام ودون إثبات ذلك خرط القتاد، على أن الجزم العمل بأقوى الدليلين، وليس مقتضى أقواهما إلا المنع، ومن هنا ضعف ما يروى عن محمد بن الحسن رحمه الله تعالى أنه يستحسن قراءة الفاتحة على سبيل الاحتياط مخالفًا لما ذهب إليه الإمام.
وأبو يوسف من كراهة القراءة لما في ذلك من الوعيد، والحق أن قوله كقولهما، فقد قال في كتاب «الآثار» بعدما أسند إلى علقمة بن قيس: إنه ما قرأ قط فيما يجهر به ولا فيما لا يجهر به، وبه نأخذ فلا نرى القراءة خلف الإمام في شيء من الصلاة يجهر فيه أو لا يجهر فيه، ولا ينبغي أن يقرأ خلفه في شيء منها، وذكر في موطئه نحو ذلك، وقال السرخسي تفسد صلاة القارئ خلف الإمام في قول عدة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومنهم فيما قيل سعد بن أبي وقاص، وفي رواية المزني عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه يقرأ في الجهرية والسرية، وفي رواية البويطي أنه يقرأ في السرية أم القرآن ويضم السورة في الأوليين ويقرأ في الجهرية أم القرآن فقط، والمشهور عند الشافعية أنه لا سورة للمأموم الذي يسمع الإمام في جهرية بل يستمع فإن بعد بأن لم سمع أو سمع صوتًا لا يميز حروفه أو كانت سرية قرأ في الأصح، وسبب النزول لم يكن القراءة في الصلاة بل أمر آخر. فقد روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت، وحاصلها النهي عن التكلم لا عن القراءة، ومن الناس من فسر القرآن بالخطبة، والأمر بالاستماع إما للوجوب أو الندب، وعندنا الإنصات في الخطبة فرض على تفصيل في المسألة، وأخرج غير واحد عن مجاهد رضي الله تعالى عنه أن الآية في الصلاة والخطبة يوم الجمعة، وفي كلام أصحابنا ما يدل على وجوب الاستماع في الجهر بالقرآن مطلقًا.
قال في الخلاصة: رجل يكتب الفقه وبجنبه رجل يقرأ القرآن فلا يمكنه استماع القرآن فالإثم على القارئ، وعلى هذا لو قرأ على السطح في الليل جهرًا والناس نيام يأثم، وهذا صريح في إطلاق الوجوب، وعلل ذلك بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، و{إِذَا} هنا للكلية وغالب الشرطات القرآنية المؤداة بها كلية، هذا والمراد من الاستماع في الآية المعنى المتبادر منه، وقال الزجاج: المراد منه القبول والإجابة، وهو بهذا المعنى مجاز كما نص عليه في الأساس، ومنه سمع الله تعالى لمن حمده وسمع الأمير كلام فلان، ورجح ذلك العلامة الطيبي قال: وهذا أوفق لتأليف النظم الكريم سابقًا ولاحقًا وأجمع للمعاني والأقوال فإنه تعالى لما ذكر تعريضًا أن المشركين إنما استهزأوا بالقرآن ونبذوه وراءهم ظهريًا لأنهم فقدوا البصائر وعدموا الهداية والرحمة وأن حالهم على خلاف المؤمنين أمر المؤمنين بما هو أزيد من مجرد الاستماع وهو قبوله والعمل بما فيه والتمسك به وأن لا يجاوزه مرتبًا للحكم على تلك الأوصاف، ولذلك قيل: إذا قرئ القرآن وضعًا للمظهر موضع المضمر لمزيد الدلالة على العلية، يعني إذا ظهر أيها المؤمنون إنكم لستم مثل هؤلاء المعاندين فعليكم بهذا الكتاب الجامع لصفات الكمال الهادي إلى الصراط المستقيم الموصل إلى مقام الرحمة والزلفى فاستمعوه وبالغوا في الأخذ منه والعمل بما فيه ليحصل المطلوب ولعلكم ترحمون، ويدخل في هذا وجوب الإنصات في الصلاة بطريق الأولى لأنها مقام المناجاة والاستماع من المتكلم، وعلى هذا الإنصات عند تلاوة الرسول صلى الله عليه وسلم ه، ويعلم منه أن الخطاب في الآية للمؤمنين بل هو نص في ذلك.
وقال بعضهم: إن الخطاب فيها للكفار، وذلك أن كون القرآن بصائر وهدى ورحمة لا يظهر إلا بشرط مخصوص وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا قرأ عليهم القرآن عند نزوله استمعوا له وأنصتوا ليقفوا على معانيه ومزاياه فيعترفوا بإعجازه ويستغنوا بذلك عن طلب سائر المعجزات، وأيد هذا بقوله سبحانه وتعالى: في آخر الآية {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بناءً على أن ذلك للترجي وإنما يناسب حال الكفار لا حال المؤمنين الذين حصل لهم الرحمة جزمًا في قوله تعالى: {وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203]. وأجيب بأن هذه الرحمة المرجوة غير تلك الرحمة، ولئن سلم كونها إياها فالإطماع من الكريم واجب فلم يبق فرق، وفي بناء الفعل للمفعول إشارة إلى أن مدار الأمر القراءة من أي قارئ كان. وفي الآية من الدلالة على تعظيم شأن القرآن ما لا يخفى. ومن هنا قال بعض الأصحاب: يستحب لمريد قراءته خارج الصلاة أن يلبس أحسن ثيابه ويتعمم ويستقبل القبلة تعظيمًا له، ومثله في ذلك العلم، ولو قرأ مضطجعًا فلا بأس إذ هو نوع من الذكر. وقد مدح سبحانه ذاكريه قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم وضم رجليه عند القراءة ولا يمدها لأنه سوء أدب ولو قرأ ماشيًا أو عند النسج ونحوه من الأعمال فإن كان القلب حاضرًا غير مشتغل لم يكره وإلا كره، ولا يقرأ وهو مكشوف العورة أو كان بحضرته من هو كذلك. وإن كانت زوجته، وكره بعضهم القراءة في الحمام والطريق. قال النووي: ومذهبنا لا تكره فيهما، وتكره في الحش وبيت الرحى وهي تدور عند الشعبي وهو مقتضى مذهبنا، والكلام في آداب القراءة وما ينبغي للقارئ طويل. وفي الإتقان قدر له قدر من ذلك فإن كان عندك فارجع إليه.
والجملة على ما يدل عليه كلامهم يحتمل أن تكون من القول المأمور به ويحتمل أن تكون استئنافًا من جهته تعالى، قيل: وعلى الأول.
فقوله سبحانه وتعالى: