فصل: تفسير الآية رقم (69):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (69):

{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)}
{فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ} قال محيي السنة: روي أنه لما نزلت الآية الأولى كف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيديهم عما أخذوا من الفداء فنزلت هذه الآية، فالمراد مما غنمتم إما الفدية وإما مطلق الغنائم، والمراد بيان حكم ما اندرج فيها من الفدية وإلا فحل الغنيمة مما عداها قد علم سابقًا من قوله سبحانه: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم} [الأنفال: 41] إلخ بل قال بعضهم: إن الحل معلوم قبل ذلك بناءً على ما في كتاب الأحكام أن أول غنيمة في الإسلام حين أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه لبدر الأولى ومعه ثمانية رهط من المهاجرين رضي الله تعالى عنهم فأخذوا عيرًا لقريش وقدموا بها على النبي صلى الله عليه وسلم فاقتسموها وأقرهم على ذلك.
ويؤيد القول بأن هذه الآية محللة للفدية ما أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مما هو نص في ذلك، وقيل: المراد بما غنمتم الغنائم من غير اندراج الفدية فيها لأن القوم لما نزلت الآية الأولى امتنعوا عن الأكل والتصرف فيها تزهدًا منهم لا ظنًا لحرمتها إذ يبعده أن الحل معلوم لهم مما مر وليس بالبعيد والقول بأن القول الأول مما يأباه سباق النظم الكريم وسياقه ممنوع ودون إثباته الموت الأحمر.
والفاء للعطف على سبب مقدر، أي قد أحبت لكم الغنائم فكلوا مثلًا، وقيل: قد يستغني عن العطف على السبب المقدر بعطفه على ما قبله لأنه عناه، أي لا أؤاخذكم بما أخذتم من الفداء فكلوه، وزعم بعضهم أن الأظهر تقدير دعوا والعطف عليه، أي دعوا ما أخذتم فكلوا مما غنمتم وهو مبني على ما ذهب إليه من الإباء، وبنحو هذه الآية تشبث من زعم أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة، وضعف بأن الإباحة ثبتت هنا بقرينة أن الأكل إنما أمر به لمنفعتهم فلا ينبغي أن تثبت على وجه المضرة والمشقة، وقوله تعالى: {حلالا} حال من {مَا} الموصولة أو من عائدها المحذوف أو صفة للمصدر أي أكلًا حلالًا، وفائدة ذكره وكذا ذكر قوله تعالى: {طَيّبًا} تأكيد الإباحة لما في العتاب من الشدة {واتقوا الله} في مخالفته {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ولذا غفر لكم ذنبكم وأباح لكم ما أخذتموه، وقيل: فيغفر لكم ما فرط منكم من استباحة الفداء قبل ورود الإذن ويرحمكم ويتوب عليكم إذا اتقيتموه.

.تفسير الآية رقم (70):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)}
{ياأيها النبى قُل لّمَن فِي أَيْدِيكُم} أي في ملكتكم واستيلائكم كأن أيديكم قابضة عليهم {مّنَ الاسرى} الذين أخذتم منهم الفداء، وقرأ أبو عمرو. وأبو جعفر من {الأسارى} {الاسرى إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} إيمانًا وتصديقًا كما قال ابن عباس {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} من الفداء.
والآية على ما في رواية ابن سعد. وابن عساكر نزلت في جميع أسارى بدر وكان فداء العباس منهم أربعين أوقية وفداء سائرهم عشرين أوقية، وعن محمد بن سيرين أنه كان فداؤهم مائة أوقية والأوقية أربعون درهمًا وستة دنانير.
وجاء في رواية أنها نزلت في العباس رضي الله تعالى عنه، وقد روي عنه أنه قال: كنت مسلمًا لكن استكرهوني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن يكن ما تذكر حقًا فالله تعالى يجزيك فإما ظاهر أمرك فقد كان علينا فاد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحرث. وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو فقلت: ما ذاك عندي يا رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام: فأين الذي دفنت أنت وأم الفضل؟ فقلت لها: إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله وقثم فقلت: وما يدريك فقال صلى الله عليه وسلم: أخبرني ربي فعند ذلك قال العباس: أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك رسول الله إنه لم يطلع على ذلك أحد إلا الله تعالى ولقد دفعته إليها في سواد الليل» وروى عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال بعد حين: أبدلني الله خيرًا من ذلك لي الآن عشرون عبدًا إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفًا وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربكم بتأويل ما في قوله تعالى: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فإنه وعد بالمغفرة مؤكد بالاعتراض التذييلي، وروي أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مال البحرين ثمانون ألفًا فتوضأ صلى الله عليه وسلم وما صلى حتى فرقه وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ ما قدر على حمله، وكان رضي الله تعالى عنه يقول: هذا خير مما أخذ مني وأرجو المغفرة، والظاهر أن الآية عامة لسائر الأسارى على ما يقتضيه صيغة الجمع، ولا يأبى ذلك رواية أنها نزلت في العباس لما قالوا من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقرأ الأعمش {الله خَيْرًا} والحسن وشيبة {مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} على البناء للفاعل.

.تفسير الآية رقم (71):

{وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)}
{وَإِن يُرِيدُواْ} أي الأسرى {خِيَانَتَكَ} أي نقض ما عاهدوك عليه من إعطاء الفدية أو أن لا يعودوا لمحاربتك ولا إلى معاضدة المشركين، ويجوز أن يكون المراد وإن يريدوا نكث ما بايعوك عليه من الإسلام والردة واستحباب دين آبائهم {فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ} بالكفر ونقض ميثاقه المأخوذ على كل عاقل بل ادعى بعضهم أنه الأقرب {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} أي أقدرك عليهم حسا رأيت في بدر فإن أعادوا الخيانة فاعلم أنه سيمكنك الله تعالى منهم أيضًا فالمفعول محذوف، وقوله سبحانه: {فَقَدْ خَانُواْ} قائم مقام الجواب، والجملة كلام مسوق من جهته تعالى لتسليته عليه الصلاة والسلام بطريق الوعد له صلى الله عليه وسلم والوعيد لهم، {والله عَلِيمٌ} فيعلم ما في نياتهم وما يستحقونه من العقاب {حَكِيمٌ} يفعل كل ما يفعله حسا تقتضيه حكمته البالغة.

.تفسير الآية رقم (72):

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)}
{إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ} هم المهاجرون الذين هجروا أوطانهم وتركوها لأعدائهم في الله لله عز وجل: {وجاهدوا بأموالهم} فصرفوها للكراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج من المسلمين {وَأَنفُسِهِمْ} باشرةِ القتال واقتحام المعارك والخوض في لجج المهالك {فِى سَبِيلِ الله} قيل: هو متعلق بجاهدوا قيد لنوعي الجهاد، ويجوز أن يكون من باب التنازع في العمل بين هاجروا وجاهدوا ولعل تقديم الأموال على الأنفس لما أن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعًا وأتم دفعًا للحاجة حيث لا يتصور المجاهدة بالنفس بلا مجادة بالمال، وقيل: ترتيب هذه المتعاطفات في الآية على حسب الوقوع فإن الأول الإيمان ثم الهجرة ثم الجهادب المال لنحو التأهب للحرب ثم الجهاد بالنفس {والذين ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ} هم الأنصار آووا المهاجرين وأنزلوهم منازلهم وآثروهم على أنفسهم ونصروهم على أعدائهم {أولئك} أي المذكورون الموصوفون بالصفات الفاضلة، وهو مبتدأ وقوله تعالى: {بَعْضُهُمْ} إما بدل منهم، وقوله سبحانه: {أَوْلِيَاء بَعْضٍ} خبر وإما مبتدأ ثان و{أَوْلِيَاء} خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول أي بعضهم أولياء بعض في الميراث على ما هو المروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. والحسن. ومجاهد. والسدي. وقتادة فإنهم قالوا: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري واستمر أمرهم على ذلك إلى فتح مكة ثم توارثوا بالنسب بعد إذ لم تكن هجرة، فالولاية على هذا الوراثة المسببة عن القرابة الحكمية.
والآية منسوخة، وقال الأصم: هي محكمة، والمراد الولاية بالنصرة والمظاهرة وكأنه لم يسمع قوله تعالى: {فَعَلَيْكُمُ النصر} بعد نفي موالاتهم في الآية الآتية {والذين ءامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ} كسائر المؤمنين {مَا لَكُم مّن ولايتهم مّن شَيْء} أي توليهم في الميراث وإن كانوا أقرب ذوي قرابتكم {حتى يُهَاجِرُواْ} وحينئذٍ يثبت لهم الحكم السابق. وقرأ حمزة. والأعمش. ويحيى بن وثاب {ولايتهم} بالكسر، وزعم الأصمعي أنه خطأ وهو المخطئ فقد تواترت القراءة بذلك، وجاء في اللغة الولاية مصدرًا بالفتح والكسر وهما لغتان فيه عنى واحد وهو القرب الحسي والمعنوي كما قيل، وقيل: بينهما فرق فالفتح ولاية مولى النسب ونحوه والكسر ولاية السلطان ونسب ذلك إلى أبي عبيدة. وأبي الحسن، وقال الزجاج: هي بالفتح النصرة والنسب وبالكسرة للإمارة، ونقل عنه أنه ذهب إلى أن الولاية لاحتياجها إلى تمرن وتدرب شبهت بالصناعات ولذا جاء فيها الكسر كالإمارة، وذلك لما ذهب إليه المحققون من أهل اللغة من أن فعالة بالكسر في الأسماء لما يحيط بشيء ويجعل فيه كاللفافة والعمامة وفي المصادر يكون في الصناعات وما يزاول بالأعمال كالكتابة والخياطة والزراعة والحراثة، وما ذكره من حديث التشبيه بالصناعات يحتمل أن يكون من الواضع عنى أن الواضع حين وضعها شبهها بذلك فتكون حقيقة ويحتمل أن يكون من غيره على طرز تشبيه زيد بالأسد فحينئذٍ يكون هناك استعارة، وهي كما قال بعض الجلة: استعارة أصلية لوقوعها في المصدر دون المشتق وإن كان التصرف في الهيئة لا في المادة، ومنه يعلم أن الاستعارة الأصلية قسمان ما يكون التجوز في مادته وما يكون في هيئته {وَإِنِ استنصروكم إِلاَّ على قَوْمٍ} منهم {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق} فلا تنصروهم عليه لما في ذلك من نقض عهدهم {والله بما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا تخالفوا أمره ولا تتجاوزوا ما حده لكم كي لا يحل عليكم عقابه.

.تفسير الآية رقم (73):

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)}
{والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} آخر منهم أي في الميراث كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال قتادة. وابن إسحاق: في المؤازرة، وهذا فهومه مفيد لنفي الموارثة والمؤازرة بينهم وبين المسلمين وإيجاب ضد ذلك وإن كانوا أقارب، ومن هنا ذهب الجمهور إلى أنه لا يرث مسلم كافرًا ولا كافر مسلمًا، وأخرج ذلك ابن مردويه. والحاكم وصححه عن أسامة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك وقرأ الآية، ومن الناس من قال: إن المسلم يرث الكافر دون العكس وليس مما يعول عليه والفتوى على الأول كما تحقق في محله {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ} أي إلا تفعلوا ما أمرتم به في الآيتين، وقيل: الضمير المنصوب للميثاق أو حفظه أو الإرض أو النصر أو الاستنصار المفهوم من الفعل والأولى ما ذكرنا، وفي الأخير ما لا يخفى من التكلف.
{تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض} أي تحصل فتنة عظيمة فيها، وهي اختلاف الكلمة وضعف الإيمان وظهور الكفر {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} وهو سفك الدماء على ما روي عن الحسن فالمراد فساد كبير فيها، وقيل: المراد في الدارين وهو خلاف الظاهر، وعن الكسائي أنه قرأ {كَثِيرٍ} بالمثلثة.

.تفسير الآية رقم (74):

{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)}
{والذين ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله والذين ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ المؤمنون حَقًّا} كلام مسوق للثناء على القسمين الأولين من الأقسام الثلاثة للمؤمنين وهم المهاجرون والأنصار بأنهم الفائزون بالقدح المعلى من الإيمان مع الوعد الكريم بقوله سبحانه: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} لا يقادر قدرها {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي لا تبعة له ولا منة فيه، وقيل: هو الذي لا يستحيل نجوا في الأجواف وهو رزق الجنة.

.تفسير الآية رقم (75):

{وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)}
{والذين ءامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا مَعَكُمْ} أي في بعض أسفاركم، والمراد بهم قيل: المؤمنون المهاجرون من بعد صلح الحديبية وهي الهجرة الثانية، وقيل: من بعد نزول الآية، وقيل: من بعد غزوة بدر، والأصح أن المراد بهم الذين هارجوا بعد الهجرة الأولى {فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ} أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار، وفيه إشارة إلى أن السابقين هم السابقون في الشرف وأن هؤلاء دونهم فيه، ويؤيد أمر شرفهم توجيه الخطاب إليهم بطريق الالتفات، وبهذا القسم صارت أقسام المؤمنين أربعة، والتوارث إنما هو في القسمين الأولين على ما علمت؛ وزعم الطبرسي أن ذلك الحكم يثبت لهؤلاء أيضًا فيكون التوارث بين ثلاثة أقسام، وجعل معنى {مّنكُمْ} من جملتكم وحكمهم حكمكم في وجوب الموالاة والموارثة والنصرة ولم أره لأصحابنا.
{وَأُوْلُواْ الارحام} أي ذوو القرابة {بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} آخر منهم في التوريث من الأجانب {فِي كتاب الله} أي في حكمه أو في اللوح المحفوظ، أخرج الطيالسي. والطبراني. وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه وورث بعضهم من بعض حتى نزلت هذه الآية فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب، وأخرج ابن مردويه عنه رضي الله تعالى عنه قال: توارث المسلمون لما قدموا المدينة بالهجروة ثم نسخ ذلك بهذه الآية، واستدل بها على توريث ذوي الأرحام الذين ذكرهم الفرضيون، وذلك لأنها نسخ بها التوارث بالهجرة ولم يفرق بين العصبات وغيرهم فيدخل من لا تسمية لهم ولا تعصيب وهم هم وبها أيضًا احتج ابن مسعود كما أخرجه ابن أبي حاتم. والحاكم على أن ذوي الأرحام أولى من مولى العتاقة، ولما سمع الحبر قال: هيهات هيهات أين ذهب؟ إنما كان المهاجرون يتوارثون دون الاعراب فنزلت، وخالفه سائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم أيضًا على ما قيل. وأنت تعلم أنه ءذا أريد بكتاب الله تعالى آيات المواريث السابقة في سورة النساء أو حكمه سبحانه المعلوم هناك لا يبقى للاستدلال على توريث ذوي الأرحام بالآية وجه، وكذا ما قاله ابن الفرس من أنه قد يستدل بها لمن قال: إن القريب أولى بالصلاة على الميت من الوالي {أَنَّ الله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} ومن جملته ما في تعليق التوارث بالقرابة الدينية أولًا على الوجه السابق وبالقرابة النسبية آخرًا من الحكم البالغة.
هذا ومن باب ازشارة: {والذين ءامَنُواْ} الإيمان العلمي {وَهَاجَرُواْ} من أوطان نفوسهم {وجاهدوا بأموالهم} بإنفاقها حتى تخللوا بعباء التجرد والانقطاع إلى الله عز وجل: {وَأَنفُسِهِمْ} باتعابها بالرياضة ومحاربة الشيطان وبذلها في سبيل الله تعالى وطريق الوصول إليه {والذين ءاوَواْ} إخوانهم في الطريق ونصروهم على عدوهم بالإمداد {أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} يراث الحقائق والعلوم النافعة {والذين ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ} عن وطن النفس {مَا لَكُم مّن ولايتهم مّن شَيْء} فلا توارث بينكم وبينهم إذ ما عندكم لا يصلح لهم ما لم يستعدوا له وما عندهم يأباه استعدادكم {حتى يُهَاجِرُواْ} كما هاجرتم فحينئذٍ يثبت التوارث بينكم وبينهم {وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر} [الأنفال: 72] فإن الدين مشترك، وعلى هذا الطرز يقال في باقي الآيات والله تعالى ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق.