فصل: تفسير الآية رقم (25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (25):

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)}
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ} خطاب للمؤمنين خاصة وامتنان عليهم بالنصرة على الأعداء التي يترك لها الغيور أحب الأشياء إليه، والمواطن جمع موطن وهو الموضع الذي يقيم فيه صاحبه، وأريد بها مواطن الحرب أي مقاماتها ومواقفها ومن ذلك قوله:
كم موطن لولاي طحت كما هوى ** بأجرامه من قلة النيق منهوي

والمنع من الصرف لصيغة منتهى الجمهوع، واللام موطئة للقسم أي قسم والله لقد نصركم الله في مواقف ووقائع {كَثِيرَةٍ} منها وقعة بدر التي ظهرت بها شمس الإسلام، ووقعة قريظة. والنضير. والحديبية وأنهاها بعضهم إلى ثمانين. وروي أن المتوكل اشتكى شكاية شديدة فنذر أن يتصدق إن شفاه الله تعالى ال كثير فلما شفي سأل العلماء عن حد الكثير فاختلفت أقوالهم فأشير إليه أن يسأل أبا الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى الكاظم رضي الله تعالى عنهم وقد كان حبسه في داره فأمر أن يكتب إليه فكتب رضي الله تعالى عنه يتصدق بثمانين درهمًا ثم سألوه عن العلة فقرأ هذه الآية وقال: عددنا تلك المواطن فبلغت ثمانين {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} عطف على محل مواطن وعطف ظرف الزمان على المكان وعكسه جائز على ما يقتضيه كلام أبي علي ومن تبعه. نعم ظاهر كلام البعض المنع لأن كلًا من الظرفين يتعلق بالفعل بلا توسط العاطف، ومتعلقات الفعل إنما يعطف بعضها على بعض إذا كانت من جنس واحد، وقال آخرون: لا منع من نسق زمان على مكان وبالعكس إلا أن الأحسن ترك العاطف في مثله. ومن منع العطف أو استحسن تركه قال: إنه معطوف بحذف المضاف أي وموطن يوم حنين، ولعل التغيير للإيماء إلى ما وقع فيه من قلة الثبات من أول الأمر.
وقد يعتبر الحذف في جانب المعطوف عليه، أي في أيام مواطن، والعطف حينئذٍ من عطف الخاص على العام، ومزية هذا الخاص التي أشار إليها العطف هي كون شأنه عجيبًا وما وقع فيه غريبًا للظفر بعد اليأس والفرج بعد الشدة إلى غير ذلك، وليس المراد بها كثرة الثواب وعظم النفع ليرد أن يوم حنين ليس بأفضل من يوم بدر الذي نالوا به القدح المعلى وفازوا فيه بالدرجات العلا فلا تتأتى فيه نكتة العطف؛ وقيل: إن موطن اسم زمان كمقتل الحسين فالمعطوفان متجانسان وهو بعيد عن الفهم. وأوجب الزمخشري كون {يَوْمٍ} منصوبًا ضمر والعطف من عطف جملة على جملة أي ونصركم يوم حنين، ولا يصح أن يكون ناصبه {نَصَرَكُمُ} المذكور لأن قوله سبحانه: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} بدل من يوم حنين فيلزم كون زمان الإعجاب بالكثرة ظرف النصرة الواقعة في المواطن الكثيرة لاتحاد الفعل ولتقييد المعطوف بما يقيد به المعطوف عليه وبالعكس.
واليوم مقيد بالإعجاب بالكثرة والعامل منسحب على البدل والمبدل منه جميعًا، ويلزم من ذلك أن يكون زمان الإعجاب ظرفًا وقيدًا للنصرة الواقعة في المواطن الكثيرة وهو باطل إذ لا إعجاب في تلك المواطن.
وأجيب بأن الفعل في المتعاطفين لا يلزم أن يكون واحدًا بحيث لا يكون له تعدد أفراد كضربت زيدًا اليوم وعمرًا قبله وأضربه حين يقوم وحين يقعد إلى غير ذلك بل لابد في نحو قولك: زيد وعمرو من اعتبار الأفراد وإلا لزم قيام العرض الواحد بالشخص حلين مختلفين وهو لا يجوز ضرورة فلا يلزم من تقييده في حق المعطوف بقيد تقييده في حق المعطوف عليه بذلك، ولا نسلم أن هذا هو الأصل حتى يفتقر غيره إلى دليل، وقال بعضهم: إن ذلك إنما يلزم لو كان المبدل منه في حكم التنحية مع حرف العطف ليؤول إلى نصركم الله في مواطن كثيرة إذ أعجبتكم وليس كذلك بل يؤول إلى نصركم الله في مواطن كثيرة وإذ أعجبتكم ولا محذور فيه، وفي كون البدل قيدًا للمبدل منه نظر، وحنين واد بين مكة والطائف على ثلاثة أميال من مكة حارب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون هوزان. وثقيفًا. وحشما وفيهم دريد بن الصمة يتيمنون برأيه وأناسًا من بني هلال وغيرهم وكانوا أربعة آلاف وكان المسلمون على ما روى الكلبي عشرة آلاف وعلى ما روي عن عطاء ستة عشر ألفًا، وقيل: ثمانية آلاف، وصحح أنهم كانوا اثني عشر ألفًا العشر الذين حضروا مكة وألفان انضموا إليهم من الطلقاء فلما التقوا قال سلمة بن سلامة أو أبو بكر رضي الله تعالى عنهما: لن نغلب اليوم من قلة إعجابًا بكثرتهم، وقيل: إن قائل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستبعد ذلك الإمام لانقطاعه صلى الله عليه وسلم عن كل شيء سوى الله عز وجل. ويؤيد ذلك ما أخرجه البيهقي في الدلائل عن الربيع أن رجلًا قال يوم حنين: لن نغلب من قلة فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن هذه الكلمة إذا لم ينضم إليها أمر آخر لا تنافي التوكل على الله تعالى ولا تستلزم الاعتماد على الأسباب، وإنما شقت على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انضم إليها من قرائن الأحوال مما يدل على الإعجاب، ولعل القائل أخذها من قوله عليه الصلاة والسلام: «خير الأصحاب أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولا يغلب اثنا عشر ألفًا من قلة كلمتهم واحدة» لكن صحبها ما صحبها من الإعجاب، ثم إن القوم اقتتلوا قتالًا شديدًا فأدرك المسلمون إعجابهم، والجمع قد يؤخذ بفعل بعضهم فولوا مدبرين وكان أول من انهزم الطلقاء مكرًا منهم وكان ذلك سببًا لوقوع الخلل وهزيمة غيرهم، وقيل: إنهم حملوا أولًا على المشركين فهزموهم فأقبلوا على الغنائم فتراجعوا عليهم فكان ما كان والنبي صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء تزول الجبال ولا يزول ومعه العباس.
وابن عمه أبو سفيان بن الحرث. وابنه جعفر. وعلي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه. وربيعة بن الحرث. والفضل بن العباس. وأسامة بن زيد. وأيمن بن عبيد. وقتل رضي الله تعالى عنه بين يديه عليه الصلاة والسلام وهؤلاء من أهل بيته. وثبت معه أبو بكر. وعمر رضي الله تعالى عنهما فكانوا عشرة رجال، ولذا قال العباس رضي الله تعالى عنه:
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة ** وقد فر من قد فر منهم وأقشعوا

وعاشرنا لاقي الحمام بنفسه ** بما مسه في الله لا يتوجع

وقد ظهر منه صلى الله عليه وسلم من الشجاعة في تلك الوقعة ما أبهر العقول وقطع لأجله أصحابه رضي الله تعالى عنهم بأنه عليه الصلاة والسلام أشجع الناس، وكان يقول إذ ذاك غير مكترث بأعداء الله تعالى:
أنا النبي لا كذب ** أنا ابن عبد المطلب

واختار ركوب البغلة إظهارًا لثباته الذي لا ينكره إلا الحمار وأنه عليه الصلاة والسلام لم يخطر بباله مفارقة القتال فقال للعباس وكان صيتًا: «صح بالناس» فناد يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فكروا عنقًا واحدًا لهم حنين يقولون: لبيك لبيك، ونزلت الملائكة فالتقوا مع المشركين، فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا حين حمى الوطيس» ثم أخذ كفًا من تراب فرماهم ثم قال صلى الله عليه وسلم: «انهزموا ورب الكعبة» فانهزموا، وتفصيل القصة على أتم وجه في كتب السير {فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ} أي لم تنفعكم تلك الكثرة {شَيْئًا} من النفع في أمر العدو أو لم تعطكم شيئًا يدفع حاجتكم {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بما رَحُبَتْ} أي برحبها وسعتها على أن {مَا} مصدرية والباء للملابسة والمصاحبة أي ضاقت مع سعتها عليكم. وفيه استعارة تبعية إما لعدم وجدان مكان يقرون به مطمئنين أو أنهم لا يجلسون في مكان كما لا يجلس في المكان الضيق {ثُمَّ وَلَّيْتُم} أي الكفار ظهوركم على أن ولي متعدية إلى مفعولين كما في قوله سبحانه: {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادبار} [الأنفال: 15] ويدل عليه كلام الراغب، وزعم بعضهم أنه لا حاجة إلى تقدير مفعولين لما في القاموس ولى تولية أدبر بل لا وجه له عند بعض وليس بشيء، والاعتماد على كلام الراغب في مثل ذلك أرغب عند المحققين بل قيام: إن كلام القاموس ليس بعمدة في مثله، وقوله تعالى: {مُّدْبرين} حال مؤكدة وهو من الإدبار عنى الذهاب إلى خلف والمراد منهزمين.

.تفسير الآية رقم (26):

{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)}
{مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ} أي رحمته التي تسكن بها القلوب وتطمئن اطمئنانًا كليًا مستتبعًا للنصر القريب، وأما مطلق السكينة فقد كانت حاصلة له صلى الله عليه وسلم {وَعَلَى المؤمنين} عطف على رسوله وإعادة الجار للإيذان بالتفاوت، والمراد بهم الذين انهزموا، وفيه دلالة على أن الكبيرة لا تنافي الإيمان.
وعن الحسن أنهم الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: المراد ما يعم الطائفتين ولا يخلو عن حسن، ولا ضير في تحقق أصل السكينة في الثابتين من قبل، وفسر بعضهم السكينة بالأمان وهو له صلى الله عليه وسلم عاينة الملائكة عليهم السلام ولمن معه بظهور علامات ذلك وللمنهزمين بزوال قلقهم واضطرابهم باستحضار إن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أو نحو ذلك، والظاهر أن {ثُمَّ} في محلها للتراخي بين الانهزام وإنزال السكينة على هذا الوجه.
وقيل: إذا أريد من المؤمنين المنهزمون فهي على محلها، وإن أريد الثابتون يكون التراخي في الأخبار أو باعتبار مجموع هذا الإنزال وما عطف عليه، وجعلها للتراخي الرتبي بعيد {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} بأبصاركم كما يرى بعضكم بعضًا وهم الملائكة عليهم السلام على خيول بلق عليهم البياض، وكون المراد لم تروا مثلها قبل ذلك خلاف الظاهر ولم نر في الآثار ما يساعده، واختلف في عددهم فقيل: ثمانية آلاف لقوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ} مع قوله سبحانه بعد: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ} [آل عمران: 124، 125] وقيل: خمسة آلاف للآية الثانية والثلاثة الأولى داخلة في هذه الخمسة، وقيل: ستة عشر ألفًا بعدد العسكرين اثنا عشر ألفًا عسكر المسلمين وأربعة آلاف عسكر المشركين، وكذا اختلفوا في أنهم قاتلوا في هذه الوقعة أم لا، والجمهور على أن الملائكة لم يقاتلوا إلا يوم بدر. وإنما نزلوا لتقوية قلوب المؤمنين بإلقاء الخواطر الحسنة وتأييدهم بذلك وإلقاء الرعب في قلوب المشركين. فعن سعيد بن المسيب قال حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه فقالوا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكنافنا.
واحتج من قال: إنهم قاتلوا بما روي أن رجلًا من المشركين قال لبعض المؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق والرجال عليهم ثياب بيض؟ ما كنا نراهم فيكم إلا كهيئة الشامة وما كان قتلنا إلا بأيديهم فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: «تلك الملائكة» وليس له سند يعول عليه {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ} بالقتل والأسر والسبي {وَذَلِكَ} أي ما فعل بهم مما ذكر {جَزَاء الكافرين} لكفرهم في الدنيا.

.تفسير الآية رقم (27):

{ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)}
{ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك} التعذيب {على مَن يَشَاء} أن يتوب عليه منهم لحكمة تقتضيه والمراد يوفقه للإسلام {والله غَفُورٌ} يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي {رَّحِيمٌ} يتفضل عليهم ويثيبهم بلا وجوب عليه سبحانه. روى البخاري عن المسور بن مخرمة «أن أناسًا منهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبر الناس وقد سبى أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا، وقد سبى يومئذٍ ستة آلاف نفس وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى فقال عليه الصلاة والسلام: إن عندي ما ترون إن خير القول أصدقه اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئًا فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن هؤلاء جاؤنا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئًا فمن كان بيده شيء وطابت به نفسه أن يرده فشأنه ومن لا فليعطنا وليكن قرضًا علينا حتى نصيب شيئًا فنعطيه مكانه قالوا: قد رضينا وسلمنا، فقال عليه الصلاة والسلام: إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا فرفعت إليه صلى الله عليه وسلم العرفاء أنهم قد رضوا».