فصل: تفسير الآية رقم (46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (46):

{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)}
{وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لاعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً} أي أهبة من الزاد والراحلة وسائر ما يحتاج إليه المسافر في السفر الذي يريده.
وقرئ {عده} بضم العين وتشديد الدال والإضافة إلى ضمير الخروج، قال ابن جنى: سمع محمد بن عبد الملك يقرأ بها، وخرجت على أن الأصل عدته إلا أن التاء سقطت كما في إقام الصلاة وهو سماعي وإلى هذا ذهب الفراء، والضمير على ما صرح به غير واحد عوض عن التاء المحذوفة، قيل: ولا تحذف بغير عوض وقد فعلوا مثل ذلك في عدة بالتخفيف عنى الوعد كما في قول زهير:
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا ** وأخلفوك عدى الأمر الذي وعدوا

وقرئ {عده} بكسر العين بإضافة وغيرها {عُدَّةً ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم} أي خروجهم كما روي عن الضحاك أو نهوضهم للخروج كما قال غير واحد {فَثَبَّطَهُمْ} أي حبسهم وعوقهم عن ذلك: والاستدراك قيل عما يفهم من مقدم الشرطية فإن انتفاء إرادة الخروج يستلزم انتفاء خروجهم وكراهة الله تعالى انبعاثهم يستلزم تثبطهم عن الخروج فكأنه قيل: ما خرجوا لكن تثبطوا عن الخروج، فهو استدراك نفي الشيء بإثبات ضده كما يستدرك نفي الاحسان بإثبات الإساءة في قولك: ما أحسن إلى لكن أساء، والاتفاق في المعنى لا يمنع الوقوع بين طرفي لكن بعد تحقق الاختلاف نفيًا وإثباتًا في اللفظ، وبحث فيه بعضهم بأن {لَكِنِ} تقع بين ضدين أو نقيضين أو مختلفين على قول وقعت فيما نحن فيه بين متفقين على هذا التقرير فالظاهر أنها للتأكيد كما أثبتوا مجيئها لذلك وفيه نظر: واستظهر بعض المحققين كون الاستدراك من نفس المقدم على نهج ما في الأقيسة الاستثنائية، والمعنى لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن ما أرادوه لما أنه تعالى كره انبعاثهم من المفاسد فحبسهم بالجبن والكسل فتثبطوا عنه ولم يستعدوا له.
{وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين} تمثيل لخلق الله تعالى داعية القعود فيهم والقائه سبحانه كراهة الخروج في قلوبهم بالأمر بالقعود أو تمثيل لوسوسة الشيطان بذلك فليس هناك قول حقيقة، ونظير ذلك قوله سبحانه: {فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أحياهم} [البقرة: 243] أي أماتهم، ويجوز أن يكون حكاية قول بعضهم لبعض أو أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في العقود فالقول على حقيقته، والمراد بالقاعدين الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت كالنساء والصبيان والزمنى أو الرجال الذين يكون لهم عذر يمنعهم عن الخروج، وفيه على بعض الاحتمالات من الذم ما لا يخفى فتدبر.

.تفسير الآية رقم (47):

{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)}
{لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم} بيان لكراهة الله تعالى انبعاثهم أي لو خرجوا مخالطين لكم {مَّا زَادُوكُمْ} شيئًا من الأشياء {إِلاَّ خَبَالًا} أي شرًا وفسادًا. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عجزًا وجبنًا. وعن الضحاك غدرًا ومكرًا، وأصل الخبال كما قال الخازن: اضطراب ومرض يؤثر في العقل كالجنون، وفي مجمع البيان أنه الاضطراب في الرأي، والاستثناء مفرغ متصل والمستثنى منه ما علمت ولا يستلزم أن يكون لهم خبال حتى لو خرجوا زادوه لأن الزيادة باعتبار أعم العام الذي وقع منه الاستثناء. وقال بعضهم: توهمًا منه لزوم ما ذكر هو مفرغ منقطع والتقدير ما زادوكم قوة وخيرًا لكن شرًا وخبالًا.
واعترض بأن المنقطع لا يكون مفرغًا وفيه بحث لأنه مانه منه إذا دلت القرينة عليه كما إذا قيل: ما أنيسك في البادية فقلت: ما لي بها إلا اليعافير أي ما لي بها أنيس إلا ذلك، وأنت تعلم أن في وجود القرينة هاهنا مقالًا.
وقال أبو حيان: إنه كان في تلك الغزوة منافقون لهم خبال فلو خرج هؤلاء أيضًا واجتمعوا بهم زاد الخبال فلا فساد في ذلك الاستلزام لو ترب {ولاَوْضَعُواْ خلالكم} الايضاع سير الابل يقال: أوضعت الناقة تضع إذا أسرعت وأوضعتها أنا إذا حملتها على الإسراع، والخلال جمع خلل وهو الفرجة استعمل ظرفًا عنى بين ومفعول الإيضاع مقدر أي النمائم بقرينة السياق، وفي الكلام استعارة مكنية حيث شبهت النمائم بالركائب في جريانها وانتقالها وأثبت لها الأيضاع على سبيل التخييل، والمعنى ولسعوا بينكم بالنميمة وإفساد ذات البين.
وقال العلامة الطيبي: فيه استعارة تبعية حيثي شبه سرعة افسادهم ذات البين بالنمائم بسرعة سير الراكب ثم استعير لها الإيضاع وهو للابل والأصل ولأوضعوا ركائب نمائمهم خلالكم ثم حذف النمائم وأقيم المضاف إليه مقامه فقيل لأوضعوا اركائبهم ثم حذفت الركائب. ومنع الأخفش في كتاب الغايات أن يقال: أوضعت الركائب ووضع البعير عنى أسرع وإنما يستعمل ذلك بدون قيد، وجوز ذلك غيره واستدل له بقوله:
فلم أر سعدى بعد يوم لقيتها ** غداة بها أجمالها صاح توضع

وقرئ {ولأرقصوا} من رقصت الناقة إذا أسرعت وأرقصتها ومنه قوله:
يا عام لو قدرت عليك رماحنا ** والراقصات إلى منى فالغبغب

وقرئ {لأوفضوا} والمراد لأسرعوا أيضًا يقال: أوفض واستوفض إذا استعجل وأسرع والوفض العجلة، وكتب قوله تعالى: {لأوضعوا} في الامام بألفين الثانية منهما هي فتحة الهمزة والفتحة ترسم لها ألف كما ذكره الداني، وفي الكشاف كانت الفتحة تكتب ألفا قبل الخط العربي اخترع قريبًا من نزول القرآن وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفًا وفتحتها ألفًا أخرى ومثل ذلك{أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21] {يَبْغُونَكُمُ الفتنة} أي يطلبون أن يفتنوكم بايقاع الخلاف فيما بينكم وتهويل أمر العدو عليكم وإلقاء الرعب في قلوبكم وهذا هو المروى عن الضحاك. وعن الحسن أن الفتنة عنى الشرك أي يريدون أن تكونوا مشركين، والجملة في موضع الحال من ضمير أوضعوا أي باغين لكم الفتنة، ويجوز أن تكون استئنافًا {وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ} أي نمامون يسمعون حديثكم لأجل نقله إليهم كما روي عن مجاهد. وابن زيد أو فيكم أناس من المسلمين ضعفة يسمعون قولهم ويطيعونهم كما روي عن قتادة. وابن اسحق. وجماعة.
واللام على التفسير الأول للتعليل وعلى الثاني للتقوية كما في قوله تعالى: {فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16]، والجملة حال من مفعول {يَبْغُونَكُمُ} أو من فاعله لاشتمالها على ضميرهما أو مستأنفة.
قال بعض المحققين: ولعل هؤلاء لم يكونوا في كمية العدد وكيفية الفساد بحيث يخل مكانهم فيما بين المؤمنين بأمر الجهاد اخلالًا عظيمًا ولم يكن فساد خروجهم معادلًا لمنفعته ولذلك لم تقتض الحكمة عدم خروجهم فخرجوا مع المؤمنين، ولكن حيث كان انضمان المنافقين القاعدين إليهم مستتبعًا لخل كلي كره الله تعالى انبعاثهم فلم يتسن اجتماعهم فاندفع فسادهم انتهى، والاحتجياج إليه على التفسير الأول أظهر منه على التفسير الثاني لأن الظاهر عليه أن القوم لم يكونوا منافقين، ووجه العتاب على الاذن في قعودهم مع ما قص الله تعالى فيهم أنهم لو قعدوا بغير إذن منه عليه الصلاة والسلام لظهر نفاقهم فيما بين المسلمين من أول الأمر ولم يقدروا على مخالطتهم والسعي فيما بينهم بالاراجيف ولم يتسن لهم التمتع بالعيش إلى أن يظهر حالهم بقوارع الآيات النازلة {والله عَلِيمٌ بالظالمين} علمًا محيطًا بظواهرهم وبواطنهم وأفعالهم الماضية والمستقبلة فيجازيهم على ذلك، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم والتشديد في الوعيد والاشعار بترتبه على الظلم، ويجوز أن يراد بالظالمين الجنس ويدخل المذكورون دخولًا أوليًا، والمراد منهم إما القاعدون أو هم والسماعون.

.تفسير الآية رقم (48):

{لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)}
{لَقَد ابْتَغُوُا الْفتْنَةَ} تشتيت شملك وتفرق أصحابك {من قبل} تشتيت شملك وتفرق أصحابك {مِن قَبْلُ} أي من قبل هذه الغزوة، وذلك كما روي عن الحسن يوم أحد حين انصرف عبد الله بن أبي بن سلول بأصحابه المنافقين، وقد تخلف بهم عن هذه الغزوة أيًا بعد أن خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريب من ثنية الوداع، وروي عن سعيد بن جبير، وابن جريج. أن المراد بالفتنة الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وذلك أنه اجتمع اثنا عشر رجلًا من المنافقين ووقفوا على الثنية ليفتكوا به عليه الصلاة والسلام فردهم الله تعالى خاسئين {وَقَلَّبُواْ لَكَ الامور} أي المكايد تقليبها مجاز عن تدبيرها أو الآراء وهو مجاز عن تفتيشها، أي دبروا لك المكايد والحيل أو دوروا الآراء في إبطال أمرك. وقرئ {وَقَلَّبُواْ} بالتخفيف {حتى جَاء الحق} أي النصر والظفر الذي وعده الله تعالى: {وَظَهَرَ أَمْرُ الله} أي غلب دينه وعلا شرعه سبحانه: {وَهُمْ كارهون} أي في حال كراهتهم لذلك أي على رغم منهم، والاتيان كما قالوا لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن تخلف المتخلفين وبيان ما ثبطهم الله تعالى لأجله وهتك أستارهم وإزاهة أعذارهن تداركا لما عسى يفوت بالمبادرة إلى الاذن وإيذنًا بأن ما فات بها ليس مما لا يمكن تلافيه تهويلًا للخطب.

.تفسير الآية رقم (49):

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)}
{وَمنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائذن لِّي} في القعود عن الجهاد {وَلاَ تَفْتِنّى} أي لا توقعني في الفتنة بنساء الروم.
أخرج ابن المنذر. والطبراني. وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى غزوة تبوك قال لجد بن قيس: يا جد بن قيس ما تقول في مجاهدة بني الاصفر؟ فقال: يا رسول الله إني امرأ صاحب نساء ومتى أرى نساء بني الاصفر أفتتن فائذن لي ولا تفتني فنزلت، وروي نحوه عن عائشة. وجابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، أولا توقعني في المعصية والاثم خالفة أمرك في الخروج إلى الجهاد، وروي هذا عن الحسن. وقتادة. واختاره الجبائي، وفي الكلام على هذا إشعار بأنه لا محالة متخلف أذن له صلى الله عليه وسلم أو لم يأذن. وفسر بعضهم الفتنة بالضرر أي لا توقعني في ذلك فاني إن خرجت معك هلك مالي وعيالي لعدم من يقوم صالحهم، وقال أبو مسلم: أي لا تعذبني بتكليف الخروج في شدة الحر، وقرئ {وَلاَ تَفْتِنّى} من أفتنه عنى فتنة {أَلا فِي الفتنة} أي في نفسها وعينها وأكمل أفرادها الغنى عن الوصف بالكمال الحقيق باختصاص اسم الجنس به {سَقَطُواْ} لا في شيء مغاير لها فضلًا عن أن يكون مهربًا ومخلصًا عنها، وذلك بما فعلوا من العزيمة على التخلف والجراءة على هذا الاستئذان والقعود بالإذن المبني عليه وعلى الاعتذارات الكاذبة، وفي مصحف أبي {سُقِطَ} بالافراد مراعاة للفظ {مِنْ} ولا يخفى ما في تصدير الجملة بأداة التنبيه من التحقيق، وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة المفصحة عن ترديهم في دركات الردي أسفل سافلين، وتقديم الجار والمجرور لا يخفى وجهه {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} وعيد لهم على ما فعلوا وهو عطف على الجملة السابقة داخل تحت التنبيه، أي جامعة لهم من كل جانب لا محالة وذلك يوم القيامة، فالمجاز في اسم الفاعل حيث استعمل في الاستقبال بناء على أنه حقيقة في الحال، ويحتمل أن يكون المراد أنها حيطة بهم الآن بأن يراد من جهنم أسبابها من الكفر والفتنة التي سقطوا فيها ونحو ذلك مجازًا.
وقد يجعل الكلام تمثيلًا بأن تشبه حالهم في إحاطة الأسباب بحالهم عند إحاطة النار، وكون الأعمال التي هم فيها هي النار بعينها لكنها ظهرت بصورة الأعمال في هذه النشأة وتظهر بالصورة النارية في النشأة الأخرى كما قيل نظيره في قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] منزع صوفي، والمراد بالكافرين إما المنافقون المبحوث عنهم، وإيثار وضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالكفر والاشعار بأنه معظم أسباب الإحاطة المذكورة وإما جميع الكافرين ويدخل هؤلاء دخولًا أوليًا.

.تفسير الآية رقم (50):

{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)}
{إِن تُصِبْكَ} في بعض مغازيك {حَسَنَةٌ} من الظفر والغنيمة {تَسُؤْهُمْ} تلك الحسنة أي تورثهم مساءة وحزنًا لفرط حسدهم لعنهم الله تعالى وعداوتهم {وَإِن تُصِبْكَ} في بعضها {مُّصِيبَةٍ} كانكسار جيش وشدة {يَقُولُواْ} متبجحين بما صنعوا حامدين لآرائهم {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا} أي تلا فينا ما يهمنا من الأمير يعنون به التخلف والقعود عن الحرب والمداراة مع الكفرة وغير ذلك من أمو الكفر والنفاق قولًا وفعلًا {مِن قَبْلُ} أي من قبل إصابة المصيبة حيث ينفع التدارك، يشيرون بذلك إلى أن نحو ما صنعوه إنما يروج عند الكفرة بوقوعه حال قوة الإسلام لا بعد إصابة المصيبة {وَيَتَوَلَّواْ} أي وينصرفوا عن متحدثهم ومحل اجتماعهم إلى أهليهم وخاصتهم أو يتفرقوا وينصرفوا عنك يا رسول الله {وَّهُمْ فَرِحُونَ} بما صنعوا وا أصابك من السيئة، والجملة في موضع الحال من الضمير في {يَقُولُواْ وَيَتَوَلَّواْ} فإن الفرح مقارن للأمرين معًا، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على دوام السرور، وإنما لم يؤت بالشرطية الثانية على طرز الأولى بأن يقال: وإن تصبك مصيبة تسرهم بل أقيم ما يدل على ذلك مقامه مبالغة في فرط سرورهم مع الايذان بأنهم في معزل عن إدراك سوء صنيعهم لاقتضاء المقام ذلك، وقل: إن إسناد المساءة إلى الحسنة والمسرة إلى أنفسهم للايذان باختلاف حالهم حالتي عروض المساءة والمسرة بأنهم في الأولى مضطرون وفي الثانية مختارون، وقوبل هنا الحسنة بالمصيبة ولم تقابل بالسيئة كما قال سبحانه في سورة آل عمران: {وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا} [آل عمران: 120] لأن الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو هناك للمؤمنين وفرق بين المخاطبين فإن الشدة لا تزيده صلى الله عليه وسلم إلا ثوابًا فإنه المعصوم في جميع أحواله عليه الصلاة والسلام، وتقييد الإصابة في بعض الغزوات لدلالة السياق عليه، وليس المراد به بعضًا معينًا هو هذه الغزوة التي استأذنوا في التخلف عنها وهو ظاهر. نعم سبب النزول يوهم ذلك، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال: جعل المنافقون الذين تخلفوا في المدينة يخبرون عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار السوء يقولون: إن محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا فبلغهم تكذيب حديثهم وعافية النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه فأنزل الله تعالى الآية فتأمل.