فصل: تفسير الآية رقم (69):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (69):

{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)}
{كالذين مِن قَبْلِكُمْ} التفات من الغيبة إلى الخطاب للتشديد، والكاف في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أي أنتم مثل الذين من قبلكم من الأمم المهلكة أو في حيز النصب بفعل مقدر أي فعلتم مثل الذين من قبلكم، ونحوه قول النمر يصف ثور وحش وكلابًا:
حتى إذا الكلاب قال لها ** كاليوم مطلوبًا ولا طالبًا

فإن أصله لم أر مطلوبًا رأيته اليوم ولا طلبة كطلبة رأيتها اليوم فاختصر الكلام فقيل لم أر مطلوبًا كمطلوب اليوم لملابسته له ثم حذف المضاف اتساعًا وعدم الباس، وقيل: كاليوم وقدم على الموصوف فصار حالا للاعتناء والمبالغة وحذف الفعل للقرينة الحالية ووجه الشبه المعمولية لفعل محذوف، وقوله سبحانه: {كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أموالا وأولادا} إلخ تفسير للتشبيه وبيان لوجه الشبه بين المخاطبين ومن قبلهم فلا محل لها من الاعراب، وفيه إيذان بأن المخاطبين أولى وأحق بأن يصيبهم ما أصابهم {فاستمتعوا بخلاقهم} أي تمتعوا بنصيبهم من ملاذ الدنيا، وفي صيغة الاستفعال ما ليس في التفعل من الاستفادة والاستدامة في التمتع، واشقاق الخلاق من الخلق عنى التقدير وهو أصل معناه لغة {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بخلاقكم كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بخلاقهم} ذم الأولين باستمتاعهم بحظوظهم الخسيسة من الشهوات الفانية والتهائهم فيها عن النظر في العاقبة والسعي في تحصيل اللذائذ الحقيقية تمهيدًا لذم المخاطبين شابهتهم واقتفاء أثرهم، ولذلك اختير الاطناب بزيادة {فاستمتعوا بخلاقهم} وهذا كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف وأنت تفعل مقله، ومحل الكافالنصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي استمتعتم استمتاعًا كاستمتاع الذين {وَخُضْتُمْ} أي دخلتم في الباطل {كالذي خَاضُواْ} أي كالذين فحذفت نونه تخفيفًا كما في قوله:
إن الذين حانت بفلج دماؤهم ** هم القوم كل القوم يا أم خالد

ويجوز أن أكون الذي صفة لمفرد اللفظ مجموع المعنى كالفوج والفريق فلوحظ في الصفة اللفظ وفي الضمير المغنى أو هو صفة مصذر محذوف أي كالخوض الذي خاضوه ورجح بعدم التكلف فيه، وقال الفراء: إن الذي تكون مصدرية وخرج هذا عليه أي كخوضهم وهو كما قال أبو البقاء نادر، وهذه الجملة عطف على ما قبلها وحينئذ إما أن يقدر فيها ما يجعلها على طرزه لعطفها عليه أو لا يقدر إشارة إلى الاعتناء بالأول {أولئك} إشارة إلى المتصفين بالصفات المعدودة من المشبهين والمشبه بهم، وكونه إشارة إلى الأخير يقتضي أن يكون حكم المشبهين مفهومًا ضمنًا ويؤدي إلى خلو تلوين الخطاب عن الفائدة إذ الظاهر حينئد أولئكم والخطاب لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام أو لكل من يصلح له أي أولئك المتصفون بما ذكر من القبائح {حَبِطَتْ أعمالهم} أي التي كانوا يستحقون بها أجورًا حسنة لو قارنت الإيمان، والحبط السقوط والبطلان والاضمحلال؛ والمراد لم يستحقوا عليها ثوابًا وكرامة {فِى الدنيا والاخرة} أما في الآخرة فظاهر وأما في الدنيا فلأن ما حصل لهم من الصحة والسعة ونحوهما ليس الا بطريق الاستدراج كما نطقت به الآيات دون الكرامة {وَأُوْلئِكَ} الموصوفون بحبط الأعمال في الدارين {هُمُ الخاسرون} أي الكاملون في الخسران الجامعون لمباديه وأسبابه طرا.
وإيراد اسم الإشارة في الموضعين للأشعار بعلية الأوصاف المشار إليها للحبط والخسران.

.تفسير الآية رقم (70):

{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)}
{أَلَمْ يَأْتِهِمْ} أي المنافقين {نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي خبرهم الذي له شأن واستفهام للتقرير والتحذير {قَوْمُ نُوحٍ} أغرقوا بالطوفان {وَعَادٌ} أهلكوا بالريح {وَثَمُودُ} أهلكوا بالرجفة، وغير الأسلوب في القومين لأنهم لم يشتهروا بنبيهم، وقيل: لأن الكثير منهم آمن {وَقَوْمِ إبراهيم} أهلك نمروذ رئيسهم ببعوض وأبيدوا بعده لكن لا بسبب سماوي كغيرهم {وأصحاب مَدْيَنَ} أي أهلها وهم قوم شعيب عليه السلام أهلكوا بالنار يوم الظلة أو بالصيحة والرجفة أو بالنار والرجفة على اختلاف الروايات {والمؤتفكات} جمع مؤتفكة من الائتفاك وهو الانقلاب بجعل أعلى الشيء أسفل بالخسف، والمراد بها إما قريات قوم لوط عليه السلام فالائتفاك على حقيقته فإنها انقلبت بهم وصار عاليها سافلها وأمطر على من فيها حجارة من سجيل وإما قريات المكذبين المتمردين مطلقًا فالائتفاك مجاز عن انقلاب حالها من الخير إلى الشر على طريق الاستعارة كقول ابن الرومي:
وما الخسف أن تلقى أسافل بلدة ** أعاليها بل أن تسود الأراذل

لأنها لم يصبها كلها الائتفاك الحقيقي {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات} استئناف لبيان نبئهم، وضمير الجمع للجميع لا للمؤتفكات فقط {فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} أي فكذبوهم فأهلكهم الله تعالى فما كان إلخ، فالفاء للعطف على ذلك المقدر الذي ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام، أي لم يكن من عادته سبحاته ما يشبه ظلم الناس كالعقوبة بلا جرم، وقد يحمل على استمرار النفي أي لا يصدر منه سبحانه ذلك أصلا بل هو أبلغ كما لا يخفى. وقول الزمخشري: أي فما صح منه أن يظلمهم وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح مبني على الاعتزال. {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} حيث عرضوها قتضى استعدادهم للعقاب بالكفر والتكذيب، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار، وتقديم المفعول على ما قرره بعض الأفاضل لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلة من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم على رأي من لا يرى التقديم موجبًا للقصر كابن الأثير فيما قيل.

.تفسير الآية رقم (71):

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)}
{وَالْمُؤْمنُونَ وَالمُؤْمنَاتُ} بيان لحسن حال المؤمنين والمؤمنات حالا ومآلا بعد بيان حال أضدادهم عاجلًا وآجلًا، وقوله سبحانه: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} يقابل قوله تعالى فيما مر: {بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ} [التوبة: 67]، وتغيير الأسلوب للإشارة إلى تناصرهم وتعاضدهم بخلاف أولئك؛ وقوله عز وجل: {يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} ظاهر المقابلة {يَأْمُرُونَ بالمنكر} إلخ والكلام في المنكر والمعروف معروف، وقوله جل وعلا: {وَيُقِيمُونَ الصلاة} في مقابلة {نَسُواْ الله} [التوبة: 67] وقوله تعالى جده: {وَيُؤْتُونَ الزكواة} في مقابلة {يقبضون أَيْدِيهِمْ} [التوبة: 67] وقوله تعبارك وتعالى: {وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ} أي في سائر الأمور في مقابلة وصف المناقين بكمال الفسق والخروج عن الطاعة وقيل: هو في مقابلة {نَسُواْ الله}، وقوله سبحانه: {وَيُقِيمُونَ الصلاة} زيادة مدح، وقوله تعالى شأنه: {أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله} في مقابلة {فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] المفسر نع لطفه ورحمته سبحانه، وقيل: في مقابلة {إنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفاسقون} [التوبة: 67] لأنه عنى المتقين المرحومين، والإشارة إلى المؤمنين والمؤمنات باعتبار اتصافهم بما سلف من الصفات الجليلة، والاتيان بما يدل على البعد لما مر غير مرة.
والسين على ما قال الزمخشري وتبعه غير واحد لتأكيد الوعد وهي كما تفيد ذلك تفيد تأكيد الوعيد، ونظر فيه صاحب التقريب ووجه ذلك بأن السين في الإثبات في مقابلة لن في النفي فتكون بهذا الاعتبار تأكيدًا لما دخلت عليه ولا فرق في ذلك بين أن يكون وعدًا أو وعيدًا أو غيرهما. وقال العلامة ابن حجر: ما زعمه الزمخشري من أن السين تفيد القطع دخولها مردود بأن القطع إنما فهم من المقام لا من الوضع وهو توطئة لمذهبه الفاسد في تحتم الجزاء ومن غفل عن هذه الدسيسة وجهه، وتعقبه الفهامة ابن قاسم بأن هذا لا وجه له لأنه أمر نقلي لا يدفعه ما ذكر ونسبة الغفلة للأئمة إنما أوجبه حب الاعتراض، وحينئذ فالمعنى أولئك المنعوتون بما فصل من النعوت الجليلة يرحمهم الله تعالى لا محالة {أَنَّ الله عَزِيزٌ} قوي قادر على كل شيء لا يمتنع عليه ما يريده {حَكِيمٌ} يضع الأشياء مواضعها ومن ذلك النعمة والنقمة؛ والجملة تعليل للوعد وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (72):

{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}
وقوله تعالى: {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا} في مقابلة الوعيد السابق للمنافقين المعبر عنه بالوعد تهكمًا كما مر، ويفهم من كلام البعض أن قوله سبحانه: {سَيَرْحَمُهُمُ} [التوبة: 71] بيان لإفاضة آثار الرحمة الدنيوية من التأييد والنصر وهذا تفصيل لآثار رحمته سبحانه الأخروية، والاظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير والأشعار بعلية الإيمان لما تعلق به الوعد، ولم يضم إليه باقي الأوصاف للإيذان بأنه من لوازمه ومسيتبعاته، والكلام في خالدين هنا كالكلام فيما مر {ومساكن طَيّبَةً} أي تستطيبها النفوس أو يطيب فيها العيش فالاسناد اما حقيقي أو مجازي.
وأخرج ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن الحسن قال: سألت عمران بن حصين. وأبا هريرة عن تفسير {ومساكن طَيّبَةً} فقالا: على الخبير سقطت سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قصر من لؤلؤة في الجنة في ذلك القصر سبعون دارًا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتًا من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريرًا على كل سرير سبعون فراشًا من كل لون على كل فراش امرأة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة في كل مائدة سبعون لونًا من كل طعام في كل بيت سبعون وصيفًا ووصيفة فيعطي المؤمن من القوة في كل غداة ما يأتي على ذلك كله» {فِي جنات عَدْنٍ} قيل: هو علم لمكان مخصوص بدليل قوله تعالى: {جنات عَدْنٍ التي وَعَدَ الرحمن} [مريم: 61] حيث وصف فيه بالمعرفة، ولما أخرجه البزار. والدارقطني في المختلف والمؤتلف. وابن مردويه من حديث أبي الدرداء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عدن دار الله تعالى لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة: النبيون. والصديقون. والشهداء يقول الله سبحانه طوبى لمن دخلك» وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن في الجنة قصرًا يقال له عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد. وعن ابن مسعود أنها بطنان الجنة وسرتها. وقال عطاء بن السائب: عدن نهر في الجنة جناته على حافاته. وقيل: العدن في الأصل الاستقرار والثبات ويقال: عدن بالمكان إذا أقام. والمراد به هنا الإقامة على وجه الخلود لأنه الفرد الكامل المناسب لمقام المدح أي في جنات إقامة وخلود، وعلى هذا الجنات كلها جنات عدن لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا والتغاير بين المساكن والجنات المشعر به العطف إما ذاتي بناء على أن يراد بالجنات غير عدن وهي لعامة المؤمنين وعدن للنبيين عليهم الصلاة والسلام والصديقين والشهداء أو يراد بها البساتين أنفسها وهي غير المساكن كما هو ظاهر، فالوعد حينئذ صريحًا بشيئين والمساكن فلكل أحد جنة ومسكن وإما تغاير وصفي فيكون كل منهما عامًا ولكن الأول باعتبار اشتمالها على الأنهاء والبساتين والثاني لا بهذا الاعتبار، وكأنه وصف ما وعدوا به أولًا بأنه من جنس ما هو أشرف الأماكن المعروفة عندهم من الجنات ذات الأنهار الجارية لتميل إليه طباعهم أول ما يقرع أسماعهم ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش معرى عن سوائب الكدورات التي لا تكاد تخلو عنها أماكن الدنيا وأهلها وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ثم وصف بأنه دار إقامة بلا ارتحال وثبات بلا زوال ولا يعد هذا تكرارًا لقوله سبحانه: {خالدين فِيهَا} كما لا يخفى ثم وعدهم جل شأنه كما يفهم من الكلام هو ما أجل وأعلى من ذلك كله بقوله تبارك وتعالى: {ورضوان مّنَ الله} أي وقدر يسير من رضوانه سبحانه: {أَكْبَرَ} ولقصد إفادة ذلك عدل عن رضوان الله الأخضر إلى ما في النظم الجليل، وقيل: إفادة العدول كون ما ذكر أظهر في توجه الرضوان إليهم، ولعله إنما لم يعبر بالرضا تعظيمًا لشأن الله تعالى في نفسه لأن في الرضوان من المبالغة ما لا يخفى ولذلك لم يستعمل في القرآن إلا في رضاء الله سبحانه، وإنما كان ذلك أكبر لأنه مبدأ لحلول دار الإقامة ووصول كل سعادة وكرامة وهو غاية أرب المحبين ومنتهى أمنية الراغبين.
وقد أخرج الشيخان. وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة. فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعذ أحدًا من خلقك. فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك يا ربنا؟ فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا» ولعل عدم نظم هذا الرضوان في سلك الوعد على طرز ما تقدم مع عزته في نفسه لأنه متحقق في ضمن كل موجود ولأنه مستمر في الدارين {ذلك} أي جميع ما ذكر {هُوَ الفوز العظيم} دون ما يعده الناس فوزًا من خظوظ الدنيا فإنها مع قطع النظر عن فنائها وتغيرها وتنغصها بالآلام ليست بالنسبة إلى أدنى شيء من نعيم الآخرة إلا ثابة جناج البعوض، وفي الحديث: «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقي منها كافرًا شربة ماء» ولله در من قال:
تالله لو كانت الدنيا باجمعها ** تبقى علينا وما من رزقها رغدا

ما كان من حق حر أن يذل بها ** فكيف وهي متاع يضمحل غدا

وجوز أن تكون الإشارة إلى الرضوان فهو فوز عظيم يستحقر عنده نعيم الدنيا وحظوظها أيضًا أو الدنيا ونعيمها والجنة وما فيها، وعلى الاحتمالين لا ينافي قوله سبحانه: {أَعَدَّ الله لَهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا ذلك الفوز العظيم} [التوبة: 89] فقد فسر فيه العظيم بما يستحقر عنده نعيم الدنيا فتدبر.