فصل: تفسير الآية رقم (40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (40):

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)}
{خالدون يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} خطاب لطائفة خاصة من الكفرة المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم بعد الخطاب العام، وإقامة دلائل التوحيد والنبوة والمعاد والتذكير بصنوف الانعام، وجعله سبحانه بعد قصة آدم، لأن هؤلاء بعد ما أوتوا من البيان الواضح والدليل اللائح، وأمروا ونهوا وحرضوا على اتباع النبي الأميّ الذي يجدونه مكتوبًا عندهم ظهر منهم ضد ذلك، فخرجوا عن جنة الإيمان الرفيعة، وهبطوا إلى أرض الطبيعة، وتعرضت لهم الكلمات إلا أنهم لم يتلقوها بالقبول ففات منهم ما فات، وأقبل عليهم بالنداء ليحركهم لسماع ما يرد من الأوامر والنواهي. و{بني} جمع ابن شبيه بجمع التكسير لتغير مفرده، ولذا ألحق في فعله تاء التأنيث كقالت بنو عامر وهو مختص بالأولاد الذكور، وإذا أضيف عم في العرف الذكور والإناث فيكون عنى الأولاد وهو المراد هنا وذكر الساليكوتي أنه حقيقة في الأبناء الصلبية كما بين في الأصول واستعماله في العام مجاز، وهو محذوف اللام، وفي كونها ياء أو واوًا خلاف، فذهب إلى الأول ابن درستويه وجعله من البناء، لأن الابن فرع الأب ومبني عليه، ولهذا ينسب المصنوع إلى صانعه، فيقال للقصيدة مثلًا: بنت الفكر، وقد أطلق في شريعة من قبلنا على بعض المخلوقين أبناء الله تعالى بهذا المعنى، لكن لما تصور من هذا الجهلة الأغبياء معنى الولادة حظر ذلك حتى صار التفوه به كفرًا، وذهب إلى الثاني الأخفش، وأيده بأنهم قالوا: البنوّة، وبأن حذف الواو أكثر، وقد حذفت في أب وأخ وبه قال الجوهري ولعل الأول أصح، ولا دلالة في البنوّة لأنهم قالوا أيضًا: الفتوّة، ولا خلاف في أنها من ذوات الياء وأمر الأكثرية سهل، وعلى التقديرين في وزن ابن هل هو فعل أو فعل؟ خلاف؛ و{إسرائيل} اسم أعجمي، وقد ذكروا أنه مركب من إيل اسم من أسمائه تعالى، وإسرا وهو العبد، أو الصفوة أو الإنسان أو المهاجر وهو لقب سيدنا يعقوب عليه السلام وللعرب فيه تصرفات، فقد قالوا: إسرائيل بهمزة بعد الألف وياء بعدها وبه قرأ الجمهور وإسراييل بياءين بعد الألف وبه قرأ أبو جعفر وغيره وإسرائل بهمزة ولام، وهو مروي عن ورش وإسرأل بهمزة مفتوحة ومكسورة بعد الراء، ولام وإسرأل بألف ممالة بعدها لام خفيفة وبها ولا إمالة وهي رواية عن نافع وقراءة الحسن وغيره وإسرائين بنون بدل اللام، كما في قوله إسرائينا:
تقول أهل السوء لما جينا ** هذا ورب البيت إسرائينا

وأضاف سبحانه هؤلاء المخاطبين إلى هذا اللقب تأكيدًا لتحريكهم إلى طاعته فإن في إسرائيل ما ليس في اسم الكريم يعقوب وقولك: يا ابن الصالح أطع الله تعالى، أحث للمأمور من قولك: يا ابن زيد مثلًا أطع، لأن الطبائع تميل إلى اقتفاء أثر الآباء وإن لم يكن محمودًا فكيف إذا كان؟ ويستعمل مثل هذا في مقام الترغيب والترهيب بناء على أن الحسنة في نفسها حسنة وهي من بيت النبوّة أحسن والسيئة في نفسها سيئة وهي من بيت النبوّة أسوأ، و{اذكروا} أمر الذكر بكسر الذال وضمها عنى واحد، ويكونان باللسان والجنان، وقال الكسائي: هو بالكسر للسان وبالضم للقلب وضد الأول الصمت، وضد الثاني النسيان.
وعلى العموم: فإما أن يكون مشتركًا بينهما، أو موضوعًا لعنى عام شامل لهما والظاهر هو الأول، والمقصود من الأمر بذلك الشكر على النعمة والقيامة بحقوقها لا مجرد الأخطار بالجنان، أو التفوه باللسان، وإضافة النعمة إلى ضميره تعالى لتشريفها، وإيجاب تخصيص شكرها به سبحانه، وقد قال بعض المحققين: إنها تفيد الاستغراق إذ لا عهد ولمناسبته قام الدعوة إلى الإيمان، فهي شاملة للنعم العامة والخاصة بالمخاطبين، وفائدة التقييد بكونها عليهم أنا من هذه الحيثية أدعى للشكر فإن الإنسان حسود غيور، وقال قتادة: أريد بها ما أنعم به على آبائهم مما قصه سبحانه في كتابه وعليهم من فنون النعمة التي أجلها إدراك زمن أشرف الأنبياء وجعلهم من جملة أمة الدعوة له، ويحتاج تصحيح الخطاب حينئذ إلى اعتبار التغليب، أو جعل نعم الآباء نعمهم، فلا جمع بين الحقيقة والمجاز كما وهمَ ويجوز في الياء من {نِعْمَتِيَ} الإسكان والفتح، والقراء السبعة متفقون على الفتح، و{أَنْعَمْتَ} صلة {التى} والعائذ محذوف، والتقدير أنعمتها وقرئ ادكروا بالدال المهملة المشددة على وزن افتعلوا.
{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} يقال: أوفى ووفى مخففًا ومشددًا عنى، وقال ابن قتيبة: يقال: أوفيت بالعهد ووفيت به، وأوفيت الكيل لا غير، وجاء أوفى عنى ارتفع كقوله:
ربما أوفيت في علم ** ترفعن ثوبي شمالات

والعهد يضاف إلى كل ممن يتولى أحد طرفيه، والظاهر هنا أن الأول: مضاف إلى الفاعل، والثاني: إلى المفعول، فإنه تعالى أمرهم بالإيمان والعمل وعهد إليهم بما نصب من الحجج العقلية والنقلية الآمرة بذلك، ووعدهم بحسن الثواب على حسناتهم والمعنى: أوفوا بعهدي بالإيمان والطاعة أوف بعهدكم بحسن الإثابة، ولتوسط الأمر صح طلب الوفاء منهم.
واندفع ما قال العلامة التفتازاني على ما فيه أنه لا معنى لوفاء غير الفاعل بالعهد، وقيل: وهو المفهوم من كلام قتادة ومجاهد أن كليهما مضاف إلى المفعول والمعنى أوفوا بما عاهدتموني من الإيمان والتزام الطاعة أوف بما عاهدتكم من حسن الإثابة، وتفصيل العهدين قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسراءيل} إلى قوله سبحانه: {وَلاَدْخِلَنَّكُمْ} [المائدة: 12] إلخ، ويحوج هذا إلى اعتبار أن عهد الآباء عهد الأبناء لتناسبهم في الدين، وإلا فالمخاطبون بـ {أَوْفُواْ} ما عوهدوا بالعهد المذكور في الآية، وقيل: إن فسر الإيفاء باتمام العهد تكون الإضافة إلى المفعول في الموضعين، وإن فسر راعاته تكون الإضافة الأولى للفاعل والثانية للمفعول وفيه تأمل، ولا يخفى أن للوفاء عرضًا عريضًا، فأول المراتب الظاهرة منا الاتيان بكلمتي الشهادة، ومنه تعالى حقن الدماء والمال وآخرها منا الفناء حتى عن الفناء، ومنه تعالى التحلية بأنوار الصفات والأسماء فما روي من الآثار على اختلاف أسانيدها صحة وضعفًا في بيان الوفاء بالعهدين فبالنظر إلى المراتب المتوسطة، وهي لعمري كثيرة ولك أن تقول: أول: المراتب منا توحيد الأفعال، وأوسطها: توحيد الصفات. وآخرها: توحيد الذات، ومنه تعالى ما يفيضه على السالك في كل مرتبة مما تقتضيه تلك المرتبة من المعارف والأخلاق، وقرأ الزهري {أُوفِ} بالتشديد، فإن كان موافقًا للمجرد فذاك؛ وإن أريد به التكثير والقلب إليه يميل فهو إشارة إلى عظيم كرمه وإحسانه، ومزيد امتنانه، حيث أخبر وهو الصادق، أنه يعطي الكثير في مقابلة القليل، وهو صرح بذلك في قوله سبحانه: {مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] وانجزام الفعل لوقوعه في جواب الأمر والجزم إما به نفسه أو بشرط مقدر، وهو اختيار الفارسي ونص سيبويه.
{وإياى فارهبون} الرهبة الخوف مطلقًا، وقيل: مع تحرز، وبه فارق الاتقاء، لأنه مع حزم ولهذا كان الأول: للعامة، والثاني: للأئمة، والأشبه واقع الاستعمال أن الاتقاء التحفظ عن المخوف، وأن يجعل نفسه في وقاية منه، والرهبة نفس الخوف، وفي الأمر بها وعيد بالغ، وليس ذلك للتهديد والتهويل كما في {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] كما وهمَ لأن هذا مطلوب وذاك غير مطلوب كما لا يخفى و{إياي} ضمير منفصل منصوب المحل حذوف يفسره المذكور، والفاء عند بعضهم جزائية زحلقت من الجزاء المحذوف إلى مفسره ليكون دليلًا على تقدير الشرط، ويحتمل أن تكون مفسرة للفاء الجزائية المحذوفة مع الجزاء، ومن أطلق الجزائية عليها فقد توسع، ولا يجوز أن تكون عاطفة لئلا يجتمع عاطفان، واختار صاحب «المفتاح» أنها للعطف على الفعل المحذوف، فإن أريد التعقيب الزماني أفادت طلب استمرار الرهبة في جميع الأزمنة بلا تخلل فاصل وإن أريد الرتبي كان مفادها طلب الترقي من رهبة إلى رهبة أعلى ولا يقدح في ذلك اجتماعها مع واو العطف مثلًا لأنها لعطف المحذوف على ما قبله وهذه الفاء لعطف المذكور على المحذوف وكون {فارهبون} مفسرًا للمحذوف لا يقتضي اتحاده به من جميع الوجوه وأن لا يفيد معنى سوى التفسير حتى لا يصح جعلها عاطفة، واستحسن هذا بعض المتأخرين لاشتماله على معنى بديع خلت عنه الجزائية، وقال بعضهم كالمتوسط في المسألة: إنها عاطفة بحسب الأصل، وبعد الحذف زحلقت وجعلت جزائية وعلى كل تقدير فالآية الكريمة آكد في إفادة التخصيص من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] وعدّ من وجوه التأكيد تقديم الضمير المنفصل وتأخير المتصل والفاء الموجبة معطوفًا عليه ومعطوفًا أحدهما مظهر والآخر مضمر تقديره إياي ارهبوا {فارهبون} وما في ذلك من تكرير الرهبة وما فيه من معنى الشرط بدلالة الفاء والمعنى إن كنتم متصفين بالرهبة فخصوني بالرهبة، وحذف متعلق الرهبة للعموم أي ارهبوني في جميع ما تأتون وتذرون، وقيل: ارهبون في نقض العهد؛ ولعل التخصيص به مستفاد من ذكر الأمر بالرهبة معه ثم الخوف خوفان: خوف العقاب وهو نصيب أهل الظاهر، وخوف إجلال وهو نصيب أهل القلوب. وما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعنى ارهبون أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره ظاهر في قسم أهل الظاهر وهو المناسب بحال هؤلاء المخاطبين الذين {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الاخرة هُمْ غافلون} [الروم: 7] وحذفت ياء الضمير من ارهبون لأنها فاصلة، وقرأ ابن أبي إسحق بالياء على الأصل.

.تفسير الآية رقم (41):

{وَآَمِنُوا بما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)}
{وَءامِنُواْ بما أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ} عطف على ما قبله، وظاهره أنه أمر لبني إسرائيل، وقيل: نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه علماء اليهود ورؤسائهم فهو أمر لهم، وأفرد سبحانه الإيمان بعد اندراجه في {أَوْفُواْ بِعَهْدِى} [البقرة: 40] جموع الأمر به والحث عليه المستفاد من قوله تعالى: {مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ} للإشارة إلى أنه المقصود، والعمدة للوفاء بالعهود، وما موصولة، و{أُنزِلَتِ} صلته والعائد محذوف أي أنزلته ومصدقًا حال إما من الموصول أو من ضميره المحذوف. واللام في {لَّمًّا} مقوية، والمراد {بما أنزلت} القرآن وفي التعبير عنه بذلك تعظيم لشأنه والمراد بما معكم التوراة والتعبير عنها بذلك للإيذان بعلمهم بتصديقه لها فإن المعية مئنة لتكرار المراجعة إليها والوقوف على تضاعيفها المؤدي إلى العلم بكونه مصدقًا لها، ومعنى تصديقه لها أنه نازل حسا نعت فيها، أو مطابق لها في أصل الدين والملة أو لما لم ينسخ كالقصص والمواعظ وبعض المحرمات كالكذب والزنا والربا أو لجميع ما فيها والمخالفة في بعض جزئيات الأحكام التي هي للأمراض القلبية كالأدوية الطبية للأمراض البدنية المختلفة بحسب الأزمان والأشخاص ليست خالفة في الحقيقة بل هي موافقة لها من حيث إن كُلاّ منها حق في عصره متضمن للحكمة التي يدور عليها فلك التشريع، وليس في التوراة ما يدل على أبدية أحكامها المنسوخة حتى يخالفها ما ينسخها بل إن نطقها بصحة القرآن الناسخ لها نطق بنسخها وانتهاء وقتها الذي شرعت للمصلحة فيه وليس هذا من البداء في شيء كما يتوهمون، فإذن المخالفة في تلك الأحكام المنسوخة إنما هو اختلاف العصر حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتقدم، ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم، وإلى ذلك يشير ما أخرجه الإمام أحمد وغيره عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال حين قرأ بين يديه عمر رضي الله تعالى عنه شيئًا من التوراة: «لو كان موسى حيًا لما وسعه إلا اتباعي» وفي رواية الدرامي «والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل ولو كان حيًا وأدرك نبوتي لاتبعني» وتقييد المنزل بكونه مصدقًا لما معهم لتأكيد وجوب الامتثال فإن إيمانهم بما معهم يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعًا، ومن الناس من فسر المنزل بالكتاب والرسول صلى الله عليه وسلم وما معهم بالتوراة والإنجيل، وليس فيه كثير بعد إلا أن البعيد من وجه جعل مصدقًا حالًا من الضمير المرفوع والأبعد جعل ما مصدرية، ومصدقًا حال من ما الثانية، وأبعد منه جعله حالًا من المصدر المقدر.
{وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أي لا تسارعوا إلى الكفر به فإن وظيفتكم أن تكون أول من آمن به لما أنكم تعرفون حقيقة الأمر وحقيته وقد كنتم من قبل تقولون إنا نكون أول من يتبعه فلا تضعوا موضع ما يتوقع فيكم، ويجب منكم ما يبعد صدوره عنكم ويحرم عليكم من كونكم أول كافر به. وأول في المشهور أفعل لقولهم: هذا أول منك ولا فعل له لأن فاءه وعينه واو. وقد دل الاستقراء على انتفاء الفعل لما هو كذلك وإن وجد فنادر. وما في الشافية من أنه من وول بيان للفعل المقدر. وقيل: أصله أوأل من وأل وأولا إذا لجأ ثم خفف بإبدال الهمزة واوًا ثم الإدغام وهو تخفيف غير قياسي، والمناسبة الاشتقاقية أن الأول الحقيقي أعني ذاته تعالى ملجأ للكل، وإن قلنا وأل عنى تبادر فالمناسبة أن التبادر سبب الأولية، وقيل: أوأل من آل عنى رجع، والمناسبة الاشتقاقية على قياس ما ذكر سابقًا، وإنما لم يجمع على أواول لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع، وقال الدريدي: هو فوعل فقلبت الواو الأولى همزة، وأدغمت واو فوعل في عين الفعل، ويبطله ظاهرًا منع الصرف وهو خبر عن ضمير الجمع، ولابد هنا عند الجمهور من تأويل المفضل عليه بجعله مفردًا للفظ جمع المعنى أي: أول فريق مثلًا أو تأويل المفضل أي لا يكن كل واحد منكم، والمراد عموم السلب كما في {لاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ} [القلم: 10] وبعض الناس لا يوجب في مثل هذا المطابقة بين النكرة التي أضيف إليها أفعل التفضيل وما جرى هو عليه بل يجوز الوجهان عنده كما في قوله:
وإذا هم طعموا فالأم طاعم ** وإذا هم جاعوا فشر جياع

ومن أوجب أول البيت كالآية ونهيهم عن التقدم في الكفر به مع أن مشركي العرب أقدم منهم لما أن المراد التعريض فأول الكافرين غيرهم أو ولا تكونوا أول كافر من أهل الكتاب، والخطاب للموجودين في زمانه صلى الله عليه وسلم بل للعلماء منهم، وقد يقال الضمير راجع إلى ما معكم والمراد من لا تكونوا أول كافر بما معكم لا تكونوا أول كافر ممن كفر بما معه ومشركو مكة وإن سبقوهم في الكفر بما يصدق القرآن حيث سبقوا بالكفر به وهو مستلزم لذلك لكن ليسوا ممن كفر بما معه، والفرق بين لزوم الكفر والتزامه غير بين إلا أنه يخدش هذا الوجه، إن هذا واقع في مقابلة {ا أَنزَلَ أُنزِلَتِ} فيقتضي اتحاد متعلق الكفر والإيمان، وقيل يقدر في الكلام مثل، وقيل: ويقدر ولا تكونوا أول كافر وآخره.
وقيل: {أَوَّلُ} زائدة، والكل بعيد، وبحمل التعريض على سبيل الكناية يظهر وجه التقييد بالأولية، وقيل: إنها مشاكلة لقولهم: إنا نكون أول من يتبعه، وقد يقال: إنها عنى السبق، وعدم التخلف فافهم.
{وَلاَ تَشْتَرُواْ الله ثَمَنًا قَلِيلًا} الاشتراء مجاز عن الاستبدال لاختصاصه بالأعيان إما باستعمال المقيد في المطلق كالمرسن في الأنف أو تشبيه الاستبدال المذكور في كونه مرغوبًا فيه بالاشتراء الحقيقي، والكلام على الحذف أي لا تستبدلوا بالإيمان بآياتي، والاتباع لها حظوظ الدنيا الفانية القليلة المسترذلة بالنسبة إلى حظوظ الآخرة وما أعد الله تعالى للمؤمنين من النعيم العظيم الأبدي، والتعبير عن ذلك بالثمن مع كونه مشتري لا مشتري به للدلالة على كونه كالثمن في الاسترذال والامتهان، ففيه تقريع وتجهيل قوى حيث إنهم قلبوا القضية وجعلوا المقصود آلة والآلة مقصودة وإغراب لطيف حيث جعل المشتري ثمنًا بإطلاق الثمن عليه، ثم جعل الثمن مشترى بإيقاعه بدلًا لما جعله ثمنًا بإدخال الباء عليه فإن قيل: الاشتراء عنى الاستبدال بالإيمان بالآيات إنما يصح إذا كانوا مؤمنين بها ثم تركوا ذلك للحظوظ الدنيوية وهم عزل عن الإيمان، أجيب بأن مبنى ذلك على أن الإيمان بالتوراة الذي يزعمونه إيمان بالآيات كما أن الكفر بالآيات كفر بالتوراة فيتحقق الاستبدال، ومن الناس من جعل الآيات كناية عن الأوامر والنواهي التي وقفوا عليها في أمر النبي صلى الله عليه وسلم من التوراة والكتب الإلهية أو ما علموه من نعته الجليل وخلقه العظيم عليه الصلاة والسلام، وقد كانوا يأخذون كل عام شيئًا معلومًا من زروع أتباعهم وضروعهم ونقودهم فخافوا إن بينوا ذلك لهم وتابعوه صلى الله عليه وسلم أن يفوتهم ذلك فضلوا وأضلوا، وقيل: كان سلوكهم يدرّون عليهم الأموال ليكتموا ويحرفوا، وقيل: غير ذلك، وقد استدل بعض أهل العلم بالآية على منع جواز أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى والعلم، وروي في ذلك أيضًا أحاديث لا تصح، وقد صح أنهم قالوا: «يا رسول الله أنأخذ على التعليم أجرًا؟ فقال: إن خير ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله تعالى» وقد تظافرت أقوال العلماء على جواز ذلك وإن نقل عن بعضهم الكراهة، ولا دليل في الآية على ما ادعاه هذا الذاهب كما لا يخفى والمسألة مبينة في الفروع.
{وإياى فاتقون} بالإيمان واتباع الحق والإعراض عن الاشتراء بآيات الله تعالى الثمن القليل والعرض الزائل، وإنما ذكر في الآية الأولى {فارهبون} [البقرة: 40] وهنا {فاتقون} لأن الرهبة دون التقوى فحيثما خاطب الكافة عالمهم ومقلدهم وحثهم على ذكر النعمة التي يشتركون فيها أمرهم بالرهبة التي تورث التقوى ويقع فيها الاشتراك، ولذا قيل الخشية ملاك الأمر كله، وحيثما أراد بالخطاب فيما بعد العلماء منهم، وحثهم على الإيمان ومراعاة الآيات أمرهم بالتقوى التي أولها ترك المحظورات وآخرها التبري مما سوى غاية الغايات، وليس وراء عبادان قرية.