فصل: تفسير الآية رقم (81):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (81):

{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ قْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)}
{فَرِحَ المخلفون} أي الذين خلفهم النبي صلى الله عليه وسلم وأذن لهم في التخلف أو خلفهم الله تعالى بتثبيطه إياهم لحكمة علمها أو خلفهم الشيطان باغرائه أو خلفهم الكسل والنفاق {قْعَدِهِمْ} متعلق بفرح وهو مصدر ميمي عنى القعود. وقيل: اسم مكان، والمراد منه المدينة، والأكثرون على الأول أي فرحوا بقعودهم عن الغزو {خلاف رَسُولِ الله} أي خلفه عليه الصلاة والسلام وبعد خروجه حيث خرج ولم يخرجوا، فهو نصب على الظرفية عنى بعد وخلف وقد استعملته العرب في ذلك، والعامل فيه كما قال أبو البقاء {مَقْعَدِ} وجوز أن يكون {فَرِحَ}. وقيل: هو عنى المخالفة فيكون مصدر خالف كالقتال وحينئذ يصح أن يكون حالًا عنى مخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يكون مفعولًا له والعامل إما {فَرِحَ} أي فرحوا لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم بالقعود وإما {مقعدهم} أي فرحوا بقعودهم لأجل المخالفة، وجعل المخالفة علة باعتبار أن قصدهم ذلك لنفاقهم ولا حاجة إلى أن يقال قصدهم الاستراحة ولكن لما آل أمرهم إلى ذلك جعل علة كما قالوا في لام العاقبة وجوز أن يكون نصبًا على المصدر بفعل دل عليه الكلام.
{وَكَرِهُواْ أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} إيثارًا للراحة والتنعم بالمآكل والمشارب مع ما في قلوبهم من الكفر والنفاق، وبين الفرح والكراهة مقابلة معنوية لأن الفرح بما يحب.
وإيثار ما في النظم على أن يقال وكرهوا أن يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إيذان بأن اجلهاد في سبيل الله تعالى مع كونه من أجل الرغائب التي ينبغي أن يتنافس فيها المتنافسون قد كرهوه كما فرحوا بأقبح القبائح وهو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الكلام تعريض بالمئمنين الذين آثروا ذلك وأحبوه ابتغاء لرضا الله تعالى ورسوله {وَقَالُواْ} أي لاخوانهم تثبيتًا لهم على القعود وتواصيًا بينهم بالفساد أو للمؤمنين تثبيطًا لهم على الجهاد ونهيًا عن المعروف وإظهارًا لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به، والقائل رجال من المنافقين كما روي عن جابر بن عبد الله وهو الذي يقتضيه الظاهر.
وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي أن القائل رجل من بني سلمة، ووجه ضمير الجمع على هذا يعلم بما مر غير مرة {لاَ تَنفِرُواْ} لا تخرجوا إلى الغزو {فِى الحر} فإنه لا يستطاع شدته {قُلْ} يا محمد ردًا عليهم وتجهيلًا لهم {نَارُ جَهَنَّمَ} التي هي مصيركم بما فعلتم {أَشَدُّ حَرّا} من هذا الحر الذي ترونه مانعًا من النفير فما لكم لا تحذرونها وتعرضون أنفسكم لها بإيثار القعود والمخالفة لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام {لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} تذييل من جهته تعالى غير داخل على القول المأمور به مؤكد لمضمونه، وجواب {لَوْ} مقدر وكذا مفعول {يَفْقَهُونَ} أي لو كانوا يعلمون أنها كذلك أو أحوالها وأهوالها أو أن مرجعهم إليها لما آثروا راحة زمن قليل على عذاب الأبد، وأجهل الناس من صان نفسه عن أمير يسير يوقعه في ورطة عظيمة، وأنشد الزمخشري لابن أخت خالته:
مسرة أحقاب تلقيت بعدها ** مساءة يوم أريها شبه الصاب

فكيف بأن تلقى مسرة ساعة ** وراء تقضيها مساءة أحقاب

وقدر بعضهم الجواب لتأثروا بهذا الالزام وهو خلاف الظاهر، وجوز أن تكون {لَوْ} لمجرد التمني المنبئ عن امتناع تحقق مدخولها، وينزل الفعل المتعدي منزلة اللازم فلا جواب ولا مفعول ويؤول المعنى إلى أنهم ما كانوا من أهل الفطانة والفقه، ويكون الكلام نظير قوله تعالى: {قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} [يونس: 101] وهو خلاف الظاهر أيضًا.

.تفسير الآية رقم (82):

{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بما كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)}
{فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} اخبار عن عاجل أمرهم وآجله من الضحك القليل في الدنيا والبكاء الكثير في الأخرى، وإخراجه في صورة الأمر للدلالة على تحتم وقوع المخبر به وذلك لأن صيغة الأمر للوجوب في الأصل والأكثر فاستعمل في لازم معناه أو لأنه لا يحتمل الصدق والكذب بخلاف الخبر كذا قرره الشهاب ثم قال: فإن قلت: الوجوب لا يقتضي الوجود وقد قالوا: إنه يعبر عن الأمر بالخبر للمبالغة لاقتضائة تحقق المأمور به فالخبر آكد وقد مر مثله فما باله عكس. قلت: لا منافاة بينهما كما قيل لأن لكل مقام مقالًا والنكت لا تتزاحم فإذا عبر عن الأمر بالخبر لإفادة أن المأمور لشدة امتثاله كأنه وقع منه ذلك وتحقق قبل الأمر كان أبلغ، وإذا عبر عن الخبر بالأمر لإفادة لزومه ووجوبه كأنه مأمور به أفاد ذلك مبالغة من جهة أخرى، وقيل: الأمر هنا تكويني كما في قوله تعالى: {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] ولا يخفى ما فيه.
والفاء لسببية ما سبق للأخبار بما ذكر من الضحك والبكاء لا لنفسهما إذ لا يتصور في الأول أصلًا، وجعل ذلك سببًا لاجتماع الأمرين بعيد، ونصب {قَلِيلًا وأكدى كَثِيرًا} على المصدرية أو الظرفية أي ضحكًا أو زمانًا قليلًا وبكاء أو زمانًا كثيرًا، والمقصود بإفادته في الأول على ما قيل هو وصف القلة فقط وفي الثاني هو وصف الكثرة مع الموضوف، فيروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم.
وجوز أن يكون الضحك كناية عن الفرح والبكاء كناية عن الغم والأول في الدنيا والثاني في الأخرى أيضًا، والقلة على ما يتبادر منها، ولا حاجة إلى حملها على العدم كما حملت الكثرة على الدوام. نعم إذا اعتبر كل من الأمرين في الآخرة احتجنا إلى ذلك إذ لا سرور فيها لهم أصلا، ويفهم من كلام ابن عطية أن البكار والضحك في الدنيا كما في حديث الشيخين، وغيرهما «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا» أي أنهم بلغوا في سوء الحال والخطر مع الله تعالى إلى حيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلًا وبكاؤهم من أجل ذلك كثيرًا.
{جَزَاء بما كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي من فنون المعاصي، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار التجددي، و{جَزَاء} مفعول له للفعل الثاني ولك أن تجعله مفعولًا له للفعلين أو مصدر من المبني للمفعول حذف ناصبه أي يجزون مما ذكر من البكاء الكثير أو منه ومن الضحك القليل جزاء بما استمروا عليه من المعاصي.

.تفسير الآية رقم (83):

{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)}
{فَإِن رَّجَعَكَ الله} أي من سفرك، والفاء لتفريع الأمر الآتي على ما بين من أمرهم و{رَجْعُ} هنا متعد عنى رد ومصدره الرجع وقد يكون لازمًا ومصدره الرجوع، وأوثر استعمال المتعدي وإن كان استعمال اللازم كثيرًا إشارة إلى أن ذلك السفر لما فيه من الخطر يحتاج الرجوع منه لتأييد الهي ولذا أوثرت كلمة {ءانٍ} على إذا أي فإن ردك الله سبحانه: {إلى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ} أي إلى المنافقين من المتخلفين بناء على أن منهم من لم يكن منافقًا أو إلى من بقي من المنافقين المتخلفين بأن ذهب بعضهم بالموت أو بالغيبة عن البلد أو بأن لم يستأذنك البعض، وقيل: المراد بتلك الطائفة من بقي من المنافقين على نفاقه ولم يتب وليس بذاك.
أخرج ابن المنذر. وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: ذكر لنا أنهم كانوا اثنى عشر رجلًا من المنافقين وفيهم قيل ما قيل. {فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ} معك إلى غزوة أخرى بعد غزوتك هذه التي ردك الله منها بتأييده {فَقُلْ} لهم إهانة لهم على أتم وجه {لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا} ما دمت ودمت {وَلَن تقاتلوا مَعِىَ عَدُوّا} من الأعداء، وهو أخبار في معنى النهي للمبالغة.
وذكر القتال كما قال بعض المحققين لأنه المقصود من الخروج فلو اقتصر على احدهما لكفي إسقاطًا لهم عن مقام الصحبة ومقام الجهاد أو عن ديونا الغزاة وديوان المجاهدين وإظهارًا لكراهة صحبتهم وعدم من الجند أو ذكر الثاني للتأكيد لأنه أصرح في المراد والأول لمطابقته للسؤال، ونظير ذلك:
أقول له ارحل لا تقين عندنا

فإن الثاني أدل على الكراهة {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود} عن الخروج معي وفرحتم به {أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي من الخروج فنصب أفعل المضاف على المصدرية، وقيل: على الظرفية الزمانية واستبعده أبو حيان، والظاهر أن هذا الاختلاف للاختلاف في {مَرَّةٍ} ونقل عن أبي البقاء أنها في الأصل مصدر مر يمر ثم استعملت ظرفًا، واختار القاضي البيضاوي بيض الله غرة أحواله النصب على المصدرية وأشار إلى تأنيث الموصوف حيث قال: وأول مرة هي الخرجة إلى عزوة تبوك وذكر أفعل لأن التذكير هو الأكثر في مثل ذلك. وفي الكشاف أن {مَرَّةٍ} نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل، وذكر اسم التفضيل المضاف إليها وهو دال على واحدة من المرات لأن أكثر اللغتين هند أكبر النساء وهي أكبرهن، وهي كبرى مرأة لا تكاد تعثر عليه ولكن هي أكبر امرأة وأول مرة وآخر مرة، وعلل في الكشف عدم العثور على نحو هي كبرى امرأة بأن أفعل فيه مضاف إلى غير المفضل عليه بل إلى العدد المتلبس هو به بيانًا له فكأنه قيل: هي امرأة أكبر من كل واحدة واحدة من النساء، وفي مثله لا يختلف أفعل التفضيل، فالتحقيق أنه لا يشبه ما فيه اللام وإنما المطابقة بين موصوفة وما أضيف إليه ولا مدخل لطباقه في اللفظ والمعنى فتدبر، والجملة في موضع التعليل لما سلف فهي مستأنفة استئنافًا بيانيًا أي لأنكم رضيتم {فاقعدوا مَعَ الخالفين} أي المتخلفين لعدم لياقتهم كالنساء والصبيان والرجال العاجزين، وجمع المذكر للتغليب، واقتصر ابن عباس على الأخير، وتفسير الخالف بالمتخلف هو المأثور عن أكثر المفسرين السلف، وقيل: إنه من خلف عنى فسد.
ومنه خلوف فم الصائم لتغير رائحته، والظرف متعلق بما عنده أو حذوف وقع حالًا من ضمير الجمع، والفاء لتفريع الأمر بالقعود بطريق العقوبة على ما صدر منهم من الرضا بالقعود أي إذا رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا من بعد.
وقرأ عكرمة {الخافين} بوزن حذرين ولعله صفة مشبهة مثله، وقيل: هو مقصور من الخالفين إذ لم يثبت استعماله كذلك على أنه صفة مشبهة.

.تفسير الآية رقم (84):

{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)}
{وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم فِيهِ أَبَدًا} إشارة إلى إهانتهم بعد الموت.
أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله فقال: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80] وسأزيده على السبعين قال: إنه منافق قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله سبحانه: {وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم} الآية». وفي رواية أخرى له عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أنه لما مات عبد الله بن أبي ابن سلول دعى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فلما قام وثبت إليه فقلت: يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا أعدد عليه قوله فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أخر عني يا عمر» فلما أكثرت عليه قال: «أخر عني لو أعلم لو زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها» قال فصلي عليه عليه الصلاة والسلام ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيرًا حتى نزلت الآيتان من براءة {وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم} إلى قوله: {وَهُمْ فاسقون} فعجبت من جراءتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهر هذين الخبرين أنه لم ينزل بين {استغفر لَهُمْ أَوَلاَ *تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80]، وقوله تعالى: {وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم} شيء ينفع عمر رضي الله تعالى عنه وإلا لذكر، والظاهر أن مراده بالنهي في الخبر الأول ما فهمه من الآية الأولى لا ما يفهم كما قيل من قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] لعدم مطابقة الجواب حينئذ كما لا يخفى، وأخرج أبو يعلى. وغيره عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلي على ابن أبي فأخذ جبريل عليه السلام بثوبه فقال: {ولا تصل} الآية، وأكثر الروايات أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه وأن عمر رضي الله تعالى عنه أحب عدم الصلاة عليه وعد ذلك أحد موافقاته للوحي وإنما لم ينه صلى الله عليه وسلم عن التكفين بقميصه ونهى عن الصلاة عليه لأن الضنة بالقميص كانت مظنة الإخلال بالكرم على أنه كان مكافأة لقميصه الذي ألبسه العباس رضي الله تعالى عنه حين أسر ببدر فإنه جيء به رضي الله تعالى عنه ولا ثوب عليه وكان طويلًا جسيمًا فلم يكن ثوب بقدر قامته غير ثوب ابن أبي فكساه إياه، وأخرج أبو الشيخ عن قتادة أنهم ذكروا القميص بعد نزول الآية فقال عليه الصلاة والسلام: «وما يغنى عنه قميصي والله إني لأرجو أن يسلم به أكثر من ألف من بني الخزرج» وقد حقق الله تعالى رجاء نبيه كما في بعض الآثار، والأخبار فيما كان منه عليه الصلاة والسلام مع ابن أبي من الصلاة عليه وغيرها لا تخلو عن التعارض، وقد جمع بينهما حسا أمكن علماء الحديث، وفي لباب التأويل نبذة من ذلك فليراجع.
والمراد من الصلاة المنهى عنها صلاة الميت المعروفة وهي متضمنة للدعاء والاستغفار والاستشفاع له قيل: والمنع عنها لمنعه عليه الصلاة والسلام من الدعاء للمنافقين المفهوم من الآية السابقة أو من قوله سبحانه: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ} [التوبة: 113] إلخ، وقيل: هي هنا عنى الدعاء، وليس بذاك، و{أَبَدًا} ظرف متعلق بالنهي، وقيل: متعلق ات، والموت الأبدي كناية عن الموت على الكفر لأن المسلم يبعث ويحيا حياة طيبة، والكافر وإن بعث لكنه للتعذيب فكأنه لم يحي، وزعم بعضهم أنه لو تعلق بالنهي لزم أن لا تجوز الصلاة على من تاب منهم ومات على الإيمان مع أنه لا حاجة للنهي عن الصلاة عليهم إلى قيد التأبيد، ولا يخفى أنه أخطأ ولم يشعر بأن {منهم} حال من الضمير في مات أي مات حال كونه منهم أي متصفًا بصفتهم وهي النفاق كقولهم: أنت مني يعني على طريقتي وصفتي كما صرحوا به على أنه لو جعل الجار والمجرور صفة لأحد لا يكاد يتوهم ما ذكر وكيف يتوهم مع قوله تعالى الآتي {منهم} حال من الضمير في مات أي مات حال كونه منهم أي متصفًا بصفتهم وهي النفاق كقولهم: أنت مني يعني على طريقتي وصفتي كما صرحوا به على أنه لو جعل الجار والمجرور صفة لأحد لا يكاد يتوهم ما ذكر وكيف يتوهم مع قوله تعالى الآتي {أَنَّهُمْ كَفَرُواْ} إلخ، وقوله: مع أنه لا حاجة إلى النهي إلخ لظهور ما فيه لا حاجة إلى ذكره، و{مَّاتَ} ماض باعتبار سبب النزول وزمان انلهي ولا ينافي عمومه وشموله لمن سيموت، وقيل: إنه عنى المستقبل وعبر به لتحققه؛ والجملة في موضع الصفة لأحد {وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ} أي لا تقف عليه ولا تتول دفنه من قولهم: قام فلان بأمر فلان إذا كفاه إياه وناب عنه فيه، ويفهم من كلام بعضهم أن {على} عنى عند، والمراد لا تقف عند قبره للدفن أو للزيارة، والقبر في المشهور مدفن الميت ويكون عنى الدفن وجوزوا إرادته هنا أيضًا.
وفي فتاوي الجلال السيوطي هل يفسر القيام هنا بزيارة القبور وهل يستدل بذلك على أن الحكمة في زيارته صلى الله عليه وسلم قبر أمه أنه لاحيائها لتؤمن به بدليل أن تاريخ الزيارة كان بعد النهي؟
الجواب المراد بالقيام على القبر الوقوف عليه حالة الدفن وبعده ساعة، ويحتمل أن يعم الزيارة أيضًا أخذًا من الإطلاق وتاريخ الزيارة كان قبل النهي لا بعده فإن الذي صح في الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم زارها عام الحديبية والآية نازلة بعد غزوة تبوك، قم الضمير في {مِنْهُمْ} خاص بالمنافقين وإن كان بقية المشركين يلحقون بهم قياسًا، وقد صح في حديث الزيارة أنه استأذن ربه في ذلك فأذن له وهذا الاذن عندي يستدل به على أنها من الموحدين لا من المشركين كما هو اختياري، ووجه الاستدلال به أنه نهاه عن القيام على قبور الكفار وأذن له في القيام على قبر أمه فدل على أنها ليست منهم وإلا لما كان يأذن له فيه، واحتمال التخصيص خلاف الظاهر ويحتاج إلى دليل صريح، ولعله عليه الصلاة والسلام كان عنده وقفة في صحة توحيد من كان في الجاهلية حتى أوحى إليه صلى الله عليه وسلم بصحة ذلك، فلا يرد أن استئذانه يدل على خلاف ذلك وإلا لزارها من غير استئذان اه وفي كون المراد بالقيام على القبر الوقوف عليه حالة الدفن وبعده ساعة خفاء إذ المتبادر من القيام على القبر ما هو أعم من ذلك نعم كان الوقوف بعد الدفن قدر تحر جزور مندوبًا ولعله لشيوع ذلك إذ ذاك أخذ في مفهوم القيام على القبر ما أخذ.
وفي جواز زيارة قبور الكفار خلاف وكثير من القائلين بعدم الجواز حمل القيام على ما يعم الزيارة ومن أجاز استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة» فإنه عليه الصلاة والسلام علل الزيارة بتذكير الآخرة ولا فرق في ذلك بين زيارة قبور المسلمين وقبور غيرهم، وتمام البحث في موضعه والاحتياط عندي عدم زيارة قبور الكفار {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ} جملة مستأنفة سيقت لتعليل النهي على معنى أن الصلاة على الميت والاحتفال به إنما يكون لحرمته وهم عزل عن ذلك لأنهم استمروا على الكفر بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مدة حياتهم {وَمَاتُواْ وَهُمْ فاسقون} أي متمردون في الكفر خارجون عن حدوده.