فصل: تفسير الآية رقم (109):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (109):

{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)}
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} أي مبنية فهو مصدر كالغفران واستعمل عنى المفعول، وعن أبي علي أن البنيان جمع واحده بنيانة ولعل مراده أنه اسم جنس جمعي واحده ما ذكر وإلا فليس بشيء، والتأسيس وضع الأساس وهو أصل البناء وأوله، ويستعمل عنى الأحكام وبه فسره بعضهم هنا، واختار آخرون التفسير الأول لتعديه بعلي في قوله سبحانه: {على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} فإن المتبادر تعلقه به، وجوز تعلقه حذوف وقع حالا من الضمير المستكن في أسس وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى، والمراد من الرضوان طلبه بالطاعة مجازًا وإن شئت قدرت المضاف ليكون المتعاطفان من أعمال العبد، والهمزة للإنكار، والفاء للعطف على مقدر كما قالوا في نظائره أي أبعد ما علم حالهم فمن أسس بنيانه على تقوى وخوف من الله تعالى وطلب مرضاته بالطاعة {خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ} أي طرفه، ومنه أشفى على الهلاك أي صار على شفاء وشفى المريض لأنه صار على شفا البرء والسلامة ويثنى على شفوان. والجرف بضمتين البئر التي لم تطو، وقيل: هو الهوة وما يجرفه السيل من الأودية لجرف الماء له أي أكله وإذهابه. وقرأ أبو بكر. وابن عامر. وحمزة {جُرُفٍ} بالتخفيف وهو لغة فيه {هَارٍ} أي متصدع مشرف على السقوط وقيل ساقط؛ وهو نعت لجرف وأصله هاور أو هاير فهو مقلوب ووزنه فالع، وقيل: إنه حذفت عينه اعتباطًا فوزنه قال، والاعراب على رائه كباب، وقيل: إنه لا قلب فيه ولا حذف وأصله هور أو هير على وزن فعل بكسر العين ككتف فلما تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفًا، والظاهر أنه وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى فيما سبق، وفيه استعارة تصريحية تحقيقية حيث شبه الباطل والنفاق بشفا جرف هار في قلة الثبات ثم استعير لذلك والقرينة المقابلة، وقوله تعالى: {فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} ترشيح، وباؤه أما للتعدية أو للمصاحبة، ووضع في مقابلة الرضوان تنبيهًا على أن تأسيس ذلك على أمر يحفظه مما يخاف ويوصله إلى ما أدنى مقتضياته الجنة، وتأسيس هذا على ما هو بصدد الوقوع في النار ساعة فساعة ثم المصير إليها لا محالة، والاستعارة فيما تقدم مكنية حيث شبهت فيه التقوى بقواعد البناء تشبيهًا مضمرًا في النفس ودل عليه ما هو من روادفه ولوازمه وهو التأسيس والبنيان، واختار غير واحد أن معنى الآية أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة هي التقوى وطلب الرضا بالطاعة خير أم من أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها فأدى به ذلك لخوره وقلة استمساكه إلى السقوط في النار، وإنما اختير ذلك على ما قيل لما أنه أنسب بتوصيف أهل مسجد الضرار ضارة المسلمين والكفر والتفريق والإرصار وتوصيف أهل مسجد التقوى بأنهم يحبون أن يتطهروا بناء على أن المراد التطهير عن المعاصي والخصال المذمومة لأنه المقتضى بزعم البعض لمحبة الله تعالى لا التطهير المذكور في الأخبار، وأمر الاستعارة على هذا التوجيه على طرز ما تقدم في التوجيه الأول، وجوز أن يكون في الجملة الأولى تمثيل لحال من أخلص لله تعالى وعمل الأعمال الصالحة بحال من بنى بناء محكمًا يستوطنه ويتحصن به، وان يكون البنيان استعارة أصلية والتأسيس ترشيحًا أو تبعية وكذا جوز التمثيل في الجملة الثانية وإجراء ذلك فيها ظاهر بعد اعتبار إجرائه في مقابله، وفاعل {أَنْهَارٌ} إما ضمير البنيان وضمير {بِهِ} للمؤسس وإما للشفا وضمير به للبنيان وإليه يميل ظاهر التفسير المار آنفا.
وظاهر الأخبار أن ذلك المسجد إذا وقع وقع في النار. فقد أخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن قتادة أنه قال في الآية: والله ما تناهى أن وقع في النار، وذكر لنا أنه حفرت فيه بقعة فرئى منه الدخان.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى أنه قال فيها: مضى حين خسف به إلى النار. وعن سفيان بن عيينة يقال: إنه بقعة من نار جهنم. وأنت تعلم أني والحمد لله تعالى مؤمن بقدرته سبحانه على أتم وجه وأنه جل جلاله فعال لما يريد لكني لا أومن ثل هذه الظواهر ما لم يرد فيها خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأ نافع. وابن عامر {أَسَّسَ} بالبناء للمفعول في الموضعين، وقرئ {المطهرين أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} على الإضافة ونسب ذلك إلى علي بن نصر {وأسس} بفتحات ونسبت إلى عاصم {إساس} بالكسر، قيل: وثلاثتها جمع أس وفيه نظر، ففي الصحاح الأس أصل البناء وكذلك الأساس والأسس مقصور منه وجمع الأس أساس مثل عس وعساس وجمع الأساس أسس مثل قذال وقذل وجمع الأسس آساس مثل سبب وأسباب انتهى. وجوز في في أسس أن يكون مصدرًا. وقرأ عيسى بن عمرو {وتقوى} بالتنوين، وخرج ذلك ابن جنى على أن الألف للإلحاق كما في أرطى ألحق بجعفر لا للتأنيث كالف تترى في رأي وإلا لم يجز تنوينه. وقرأ ابن مسعود {فَإِنَّهَا رَبَّهُ والمشركين فِي نَارِ جَهَنَّمَ} {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} أي لأنفسهم أو الواضعين للأشياء في غير مواضعها أي لا يرشدهم إلى ما فيه صلاحهم إرشادًا موجبًا له لا محالة.

.تفسير الآية رقم (110):

{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)}
{لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ} أي بناؤهم الذي بنوه، فالبنيان مصدر أريد به المفعول كما مر، ووصفه بالمفرد ما يرد على مدعي الجمعية وكذا الأخبار عنه بقوله سبحانه: {رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} واحتمال تقدير مضاف وجعل الصفة وكذا الخبر له خلاف الظاهر. نعم قيل: الأخبار بريبة لا دليل فيه على عدم الجمعية لأنه يقال: الحيطان منهدمة والجبال راسية؛ وجوز بعضهم كون البنيان باقيًا على المصدرية و{الذى} مفعوله، والريبة اسم من الريب عنى الشك وبذلك فسرها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والمراد به شكهم في نبوته صلى الله عليه وسلم المضمر في قلوبهم وهو عين النفاق، وجعل بنيانهم نفس الريبة للمبالغة في كونه سببًا لها. قال الإمام: وفي ذلك وجوه.
أحدها أن المنافقين عظم فرحهم ببنيانه فلما أمر بتخريبه ثقل عليهم وازداد غيظهم وارتيابهم في نبوته صلى الله عليه وسلم. وثانيها أنه لما أمر بتخريبه ظنوا أن ذلك للحسد فارتفع أمانهم عنه صلى الله عليه وسلم وعظم خوفهم فارتابوا في أنهم هل يتركون على حالهم أو يؤمر بقتلهم ونهب أموالهم. وثالثها أنهم اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في البناء فلما أمر بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بذلك والصحيح هو الأول. ويمكن كما قال العلامة الطيبي أن يرجح الثاني بأن تحمل الريبة على أصل موضوعها ويراد منها قلق النفس واضطرابها.
وحاصل المعنى لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا سببًا للقلق والاضطراب والوجل في القلوب ووصف بنيانهم بما وصف للإيذان بكيفية بنائهم له وتأسيسه على ما عليه تأسيسه مما علمت وللأشعاء بعلة الحكم، وقيل: وصف بذلك للدلالة على أن المراد بالبنيان ما هو المبني حقيقة لا ما دبروه من الأمور فإن البناء قد يطلق على تدبير الأمر وتقديره كما في قولهم كم أبني وتهدم وعليه قوله:
متى يبلغ البنيان يومًا تمامه ** إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم

وحاصله أن الوصف للتأكيد وفائدته دفع المجاز، وهذا نظير ما قالوا في قوله سبحانه: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] وفيه بحث.
والاستثناء في قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} من أعم الأوقات أو أعم الأحوال وما بعد إلا في محل النصب على الظرفية أي لا يزال بنيانهم ريبة في كل وقت إلا وقت تقطع قلوبهم أو في كل حال إلا حال تقطعها أي تفرقها وخروجها عن قابلية الإدراك وهذا كناية عن تمكن الريبة في قلوبهم التي هي محل الإدراك وإضمار الشرك بحيث لا يزوب منها ما داموا أحياء إلا إذا تقطعت وفرقت وحينئذ تخرج منها الريبة وتزول، وهو خارج مخرج التصوير والفرض، وقيل: المراد بالتقطع ما هو كائن بالموت من تفرق أجزاء البدن حقيقة وروي ذلك عن بعض السلف.
وأخرج ابن المنذر. وغيره عن أيوب قال: كان عكرمة يقرأ {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ فِي القبور} وقيل: المراد إلا أن يتوبوا ويندموا ندامة عظيمة تفتت قلوبهم وأكبادهم فالتقطع كناية أو مجاز عن شدة الأسف. وروى ذلك ابن أبي حاتم عن سفيان، وتقطع من التفعل بإحدى التاءين والبناء للفاعل أي تتقطع. وقرئ {تُقَطَّعَ} على بناء الجهول من التفعيل وعلى البناء للفاعل منه على أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أي إلا أن تقطع أنت قلوبهم بالقتل، وقرئ على البناء للمفعول من الثلاثي مذكرًا ومؤنثًا.
وقرأ الحسن {إلى أَن تُقَطَّعَ} على الخطاب، وفي قراءة عبد الله {وَلَوْ قُطّعَتْ قُلُوبِهِمْ} على إسناد الفعل مجهولًا إلى قلوبهم. وعن طلحة ولو قطعت قلوبهم على خطاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويصح أن يعني بالخطاب كل مخاطب، وكذا يصح أن يجعل ضمير تقطع مع نصب قلوبهم للريبة {والله عَلِيمٌ} بجميع الأشياء التي من جملتها ما ذكر من أحوالهم {حَكِيمٌ} في جميع أفعاله التي من جملتها أمره سبحانه الوارد في حقهم.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عاهد الله لَئِنْ ءاتانا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين} [التوبة: 75] إشارة إلى وصف المغرورين الذين ما ذاقوا طعم المحبة ولا هب عليهم نسيم العرفان، ومن هنا صححوا لأنفسهم أفعالًا فقالوا: لنصدقن {فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ} [التوبة: 76] أي أنهم نقضوا العهد لما ظهر لهم ما سألوه، والبخال كما قال أبو حفص: ترك الايثار عند الحاجة إليه {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ} وهو ما لا يعلمونه من أنفسهم {ونجواهم} [التوبة: 78] أي ما يعلمونه منها دون الناس، وقيل: السر ما لا يطلع عليه إلا عالم الأسرار والنجوى ما يطلع عليه الحفظة {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا} [التوبة: 81] أرادوا التثبيط على المؤمنين ببيان بعض شدائد الغزو وما دروا أن المحب يستعذب المر في طلب وصال محبوبه ويرى الحزن سهلًا والشدائد لذائذ في ذلك، ولا خير فيمن عاقه الحر والبرد، ورد عليهم بأنهم آثروا خالفتهم النار التي هي أشد حرًا ويشبه هؤلاء المنافقين في هذا التثبيط أهل البطالة الذين يثبطون السالكين عن السلوك ببيان شدائد السلوك وفوات اللذائذ الدنيوية {لكن الرسول والذين ءامَنُواْ مَعَهُ جاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ} فأفنوا كل ذلك في طلب مولاهم جل جلاله {وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الخيرات} المشاهدات والمكاشفات والقربات {وأولئك هُمُ المفلحون} [التوبة: 88] الفائزون بالبغية.
{لَّيْسَ عَلَى الضعفاء} أي الذين أضعفهم حمل المحمبة {وَلاَ على المرضى} بداء الصبابة حتى ذابت أجسامهم بحرارة الفكر وشدائد الرياضة {وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} وهم المتجردون من الأكوان {حَرَجٌ} اثم في التخلف عن الجهاد الأصغر {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] بأن أرشدوا الخلق إلى الحق {وَمِنَ الاعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا} [التوبة: 98] غرامة وخسرانا، قيل: كل من يرى الملك لنفسه يكون ما ينفق غرامة عنده وكل من يرى الأشياء لله تعالى وهي عارية عنده يكون ما ينفق غنمًا عنده {والسابقون الاولون} أي الذين سبقوا إلى الوحدة من أهل الصنف الأول {مِنَ المهاجرين} وهم الذين هجروا مواطن النفس {والانصار} وهم الذين نصروا القلب بالعلوم الحقيقية على النفس {والذين اتبعوهم} في الاتصاف بصفات الحق {بإحسان} أي شاهدة من مشاهدات الجمال والجلال {رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُمْ} بما أعطاهم من عنايته وتوفيقه {وَرَضُواْ عَنْهُ} بقبول ما أمر به سبحانه وبدل أموالهم ومهجهم في سبيل عز شأنه {وَأَعَدَّ لَهُمْ جنات} من جناب الأفعال والصفات {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} [التوبة: 100] وهي أنهار علوم التوكل والرضا ونحوهما ووراء هذه الجنات المشتركة بين المتعاطفات جنة الذات وهي مختصة بالسابقين {وَءاخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} وهم الذين لم ترسخ فيهم ملكة الذنب وبقي منهم فيهم نور الاستعداد ولهذا لانت شكيمتهم واعترفوا بذنوبهم ورأوا قبحها وأما من رسخت فيه ملكة الذنب واستولت عليه الظلمة فلا يرى ما يفعل من القبائح إلا حسنًا {خَلَطُواْ عَمَلًا صالحا وَءاخَرَ سَيّئًا} حيث كانوا في رتبة النفس اللوامة التي لم يصر اتصالها بالقلب وتنورها بنوره ملكة لها ولهذا تنقاد له تارة وتعمل أعمالًا صالحة وذلك إذا استولى القلب عليها وتنفر عنه أخرى وتفعل أفعالًا سيئة إذا احتجبت عنه بظلمتها وهي دائمًا بين هذا وذاك حتى يقوى اتصالها بالقلب ويصير ذلك ملكة لها وحينئذ يصلح أمرها وتنجو من المخالفات، ولعل قوله سبحانه: {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] إشارة إلى ذلك وقد تتراكم عليها الهيآت المظلمة فترجه القهقري ويزول استعدادها وتحجب عن أنوار القلب وتهوى إلى سجين الطبيعة فتهلك مع الهالكين، وترجح أحد الجانبين على الآخر يكون بالصحبة فإن أدركها التوفيق صحبت الصالحين فتحلت بأخلاقهم وعملت أعمالهم فكانت منهم، وإن لحقها الخذلان صحبت المفسدين واختلطت بهم فتدنست بخلالهم وفعلت أفاعيلهم فصارت من الخاسرين أعاذنا الله تعالى من ذلك، ولله در من قال:
عليك بأرباب الصدور فمن غدا ** مضافًا لأرباب الصدور تصدرًا

وإياك أن ترضى صحابة ناقص ** فتنحط قدرًا عن علاك وتحقرا

فرفع أبو من ثم خفض مزمل ** يبين قولي مغريًا ومحذرًا

وقد يكون ترجح جانب الاتصال بأسباب أخر كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا} لأن المال مادة الشهوات فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأخذ من ذلك ليكون أول حالهم التجرد لتنكسر قوى النفس وتضعف أهواؤها وصفاتها فتتزكى من الهيآت المظلمة وتتطهر من خبث الذنوب ورجس دواعي الشيطان {وَصَلّ عَلَيْهِمْ} بامداد الهمة وإفاضة أنوار الصحبة{إنٍ صلواتك سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 103] أي سبب لنزول السكينة فيهم، وفسروا السكينة بنور يستقر في القلب وبه يثبت على التوجه إلى الحق ويتخلص عن الطيش {لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} لأن النفس تتأثر فيه بصفاء الوقت وطيب الحال وذوق الوجدان بخلاف ما إذا كان مبنيًا على ضد ذلك فإنها تتأثر فيه بالكدورة والتفرقة والقبض.
وأصل ذلك أن عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت وتسخيره فيلزم أن يكون لنيات النفوس وهيأتها تأثير فيما تباشره من الأعمال، ألا ترى الكعبة كيف شرفت وعظمت وجعلت محلا للتبرك لما أنها كانت مبنية بيد خليل الله تعالى عليه الصلاة والسلام بنية صادقة ونفس شريفة، ونحن نجد أيضًا أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع وضد ذلك في بعضها، ولست أعني إلا وجود ذوي النفوس الحساسة الصافية لذلك وإلا فالنفوس الخبيثة تجد الأمر على عكس ما تجده أرباب تلك النفوس، والصفراوي يجد السكر مرا، والجعل يستخبث رائحة الورد: ومن هنا كان المنافق في المسجد كالسمك في اليبس والمخلص فيه كالسمكة في الماء {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} أي أهل إرادة وسعى في التطهر عن الذنوب، وهو إشارة إلى أن صحبة الصالحين لها أثر عظيم، ويتحصل من هذا وما قبله الإشارة إلى أنه ينبغي رعاية المكان والإخوان في حصول الجمعية، وجاء عن القوم أنه يجب مراعاة ذلك مع مراعاة الزمان في حصول ما ذكر {والله يُحِبُّ المطهرين} [التوبة: 108] ولو محبته إياهم لما أحبوا ذلك. وعن سهل الطهارة على ثلاثة أوجه: طهارة العلم من الجهل، وطهارة الذكر من النسيان، وطهارة الطاعة من المعصية. وقال بعضهم: الطهارة على أقسام كثيرة: فطهارة الاسرار من الخطرات، وطهارة الأرواح من الغفلات، وطهارة القلوب من الشهوات وطهارة العقول من الجهالات، وطهارة النفوس من الكفريات، وطهارة الأبدان من الزلات. وقال آخر: الطهارة الكامل طهارة الاسرار من دنس الأغيار والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل.