فصل: تفسير الآية رقم (46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (46):

{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)}
الظن في الأصل الحسبان واللقاء وصول أحد الجسمين إلى الآخر بحيث يماسه، والمراد من ملاقاة الرب سبحانه، إما ملاقاة ثوابه أو الرؤية عند من يجوّزها، وكل منهما مظنون متوقع لأنه وإن علم الخاشع أنه لابد من ثواب للعمل الصالح، وتحقق أن المؤمن يرى ربه يوم المآب لكن من أين يعلم ما يختم به عمله ففي وصف أولئك بالظن إشارة إلى خوفهم، وعدم أمنهم مكر ربهم {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون} [الأعراف: 99] وفي تعقيب الخاشعين به حينئذ لطف لا يخفى، إلا أن عطف {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ راجعون} على ما قبله يمنع حمل الظن على ما ذكر لأن الرجوع إليه تعالى المفسر بالنشور أو المصير إلى الجزاء مطلقًا، مما لا يكفي فيه الظن والتوقع بل يجب القطع به اللهم إلا أن يقدر له عامل أي ويعلمون أو يقال: إن الظن متعلق بالمجموع من حيث هو مجموع، وهو كذلك غير مقطوع به وإن كان أحد جزئيه مقطوعًا أن يقال: إن الرجوع إلى الرب هنا المصير إلى جزائه الخاص، أعني الثواب بدار السلام، والحلول بجواره جل شأنه والكل خلاف الظاهر ولهذا اختير تفسير الظن باليقين مجازًا، ومعنى التوقع والانتظار في ضمنه، ولقاء الله تعالى عنى الحشر إليه، والرجوع عنى المجازات ثوابًا أو عقابًا فكأنه عز شأنه قال: يعلمون أنهم يحشرون إليهم فيجازيهم متوقعين لذلك، وكأن النكتبة في استعمال الظن المبالغة في إيهام أن من ظن ذلك لا يشق عليه ما تقدم فكيف من تيقنه والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلية الربوبية والمالكية للحكم وجعل خبر أن في الموضعين اسمًا للدلالة على تحقق اللقاء والرجوع وتقررهما عنده، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه {يعلمون} وهي تؤيد هذا التفسير.
ومن باب الإشارة: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر} الذي هو الفعل الجميل الموجب لصفاء القلب وزكاء النفس ولا تفعلون ما ترتقون به من مقام تجلي الأفعال إلى تجلي الصفات {وَأَنتُمْ تَتْلُونَ كِتَابٌ} فطرتكم الذي يأمركم بالدين السالك بكم سبيل التوحيد {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] فتقيدون مطلقات صفاتكم الذميمة بعقال ما أفيض عليكم من الأنوار القديمة، واطلبوا المدد والعون ممن له القدرة الحقيقية بالصبر على ما يفعل بكم، لكي تصلوا إلى مقام الرضا والصلاة التي هي المراقبة وحضور القلب لتلقي تجليات الرب، وإن المراقبة لشاقة إلا على المنكسرة قلوبهم، اللينة أفئدتهم لقبول أنوار التجليات اللطيفة، واستيلاء سطواتها القهرية، فهم الذين يتيقنون أنهم بحضرة ربهم {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجعون} [البقرة: 46] بفناء صفاتهم ومحوها في صفاته؛ فلا يجدون في الدار إلا شؤون الملك اللطيف القهار.

.تفسير الآية رقم (47):

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)}
{يبَنِى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} كرر التذكير للتأكيد والإيذان بكمال غفلتهم عن القيام بحقوق النعمة، وليربط ما بعده من الوعد الشديد به لتتم الدعوة بالترغيب والترهيب، فكأنه قال سبحانه: إن لم تطيعوني لأجل سوابق نعمتي، فأطيعوني للخوف من لواحق عقابي، ولتذكير التفضيل الذي هو أجل النعم، فإنه لذلك يستحق أن يتعلق به التذكير بخصوصه مع التنبيه على أجليته بتكرير النعمة التي هي فرد من أفرادها.
{وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} عطف على {نِعْمَتِيَ} من عطف الخاص على العام، وهو مما انفردت به الواو كما في البحر، ويسمى هذا النحو من العطف بالتجريد كأنه جرد المعطوف من الجملة، وأفرد بالذكر اعتناءًا به، والكلام على حذف مضاف أي فضلت آباءكم وهم الذين كانوا قبل التغيير، أو باعتبار أن نعمة الآباء نعمة عليهم، قال الزجاج: والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ نجيناكم} [البقرة: 49] إلخ، والمخاطبون لم يروا فرعون ولا آله، ولكنه تعالى أذكرهم أنه لم يزل منعمًا عليهم، والمراد بالعالمين سائر الموجودين في وقت التفضيل، وتفضيلهم بما منحهم من النعم المشار إليها بقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم قَوْمٌ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكًا} [المائدة: 20] فلا يلزم من الآية تفضيلهم على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على أمته، الذين هم خير أمة أخرجت للناس وكذا لا يصح الاستدلال بها على أفضلية البشر على الملائكة من جميع الوجوه ولو صح ذلك يلزم تفضيل عوامهم على خواص الملائكة، ولا قائل به.
ومن اللطائف أن الله سبحانه وتعالى أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال: {وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ} إلخ، وأشهد المسلمين فضل نفسه فقال: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58] فشتان من مشهوده فضل ربه، ومن مشهوده فضل نفسه فالأول: يقتضي الفناء والثاني: يقتضي الإعجاب، والحمد لله الذي فضلنا على كثير ممن خلق تفضيلًا.

.تفسير الآية رقم (48):

{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)}
{واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} اليوم الوقت، وانتصابه إما على الظرف والمتقى محذوف أي واتقوا العذاب يومًا وإما مفعول به واتقاؤه عنى اتقاء ما فيه إما مجازًا يجعل الظرف عبارة عن المظروف أو كناية عنه للزومه له، وإلا فالاتقاء من نفس اليوم مما لا يمكن، لأنه آت لا محالة، ولابد أن يراه أهل الجنة والنار جميعًا، والممكن المقدور اتقاء ما فيه بالعمل الصالح، و{تَجْزِى} من جزى عنى قضى، وهو متعد بنفسه لمفعوله الأول، وبعن للثاني وقد ينزل منزلة اللازم للمبالغة والمعنى لا تقضي يوم القيامة نفس عن نفس شيئًا مما وجب عليها، ولا تنوب عنها، ولا تحتمل مما أصابها، أو لا تقضي عنها شيئًا من الجزاء، فنصب {شَيْئًا} إما على أنه مفعول به أو على أنه مفعول مطلق قائم مقام المصدر، أي جزاء مّا. وقرأ أبو السماك: {وَلاَ} من أجزأ عنه إذا أغنى، فهو لازم، و{تَكُ شَيْئًا} مفعول مطلق لا غير، والمعنى لا تغني نفس عن نفس شيئًا من الإغناء ولا تجديها نفعًا وتنكير الأسماء للتعميم في الشفيع والمشفوع، وما فيه الشفاعة، وفيه من التهويل والإيذان بانقطاع المطامع ما لا يخفى، كما يشير إليه قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ لِكُلّ امرئ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34-37] والجملة في المشهور صفة يوم والرابط محذوف، أي: لا تجزي فيه ولم يجوز الكسائي حذف المجرور إذا لم يتعين، فلا تقول: رأيت رجلًا أرغب، وأنت تريد أرغب فيه، ومذهبه في هذا التدريج، وهو أن يحذف حرف الجر أولًا حتى يتصل الضمير بالفعل فيصير منصوبًا فيصح حذفه كما في قوله:
فما أدري أغيرهم تناء ** وطول العهد أو مال أصابوا

يريد أصابوه، وقد يجوز على رأي الكوفيين أن لا تكون الجملة صفة، بل مضاف إليها {يوم} محذوف لدلالة ما قبله عليه فلا تحتاج إلى ضمير، ويكون ذلك المحذوف بدلًا من المذكور ومن ذلك ما حكاه الكسائي أطعمونا لحمًا سمينًا، شاة ذبحوها بجر شاة على تقدير لحم شاة وحكى الفراء مثل ذلك، ومنه قوله:
رحم الله أعظما دفنوها ** بسجستان طلحة الطلحات

في رواية من خفض طلحة، والبصريون لا يجوّزون حذف المضاف، وترك المضاف إليه على خفضه، ويقولون بشذوذ ما ورد من ذلك، وقرأ أبو سرار: {لا تجزي نسمة عن نسمة} وهي عنى النفس.
{وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شفاعة وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} الشفاعة كما في البحر ضم غيره إلى وسيلته وهي من الشفع ضد الوتر لأن الشفيع ينضم إلى الطالب في تحصيل ما يطلب فيصير شفعًا بعد أن كان فردًا والعدل الفدية، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وروي عنه أيضًا البدل أي رجل مكان رجل، وأصل العدل بفتح العين ما يساوي الشيء قيمة وقدرًا وإن لم يكن من جنسه وبكسرها المساوى في الجنس والجرم، ومن العرب من يكسر العين من معنى الفدية، وذكر الواحدي أن عدل الشيء بالفتح والكسر مثله، وأنشد قول كعب بن مالك:
صبرنا لا نرى لله عدلا ** على ما نابنا متوكلينا

وقال ثعلب: العدل الكفيل والرشوة ولم يؤثر في الآية والضميران المجروران بمن إما راجعان إلى النفس الثانية لأنها أقرب مذكور ولموافقته لقوله تعالى: {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} ولأنه المتبادر من قوله: {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} ومعنى عدم قبول الشفاعة حينئذٍ أنها إن جاءت بشفاعة شفيع لم تقبل منها وإما إلى الأولى لأنها المحدث عنها، والثانية فضلة ولأن المتبادر من نفي قبول الشفاعة أنها لو شفعت لم تقبل شفاعتها، وحينئذٍ معنى عدم أخذ العدل من الأولى أنه لو أعطى عدلًا من الثانية لم يؤخذ، وكأن في الآية على هذا نوعًا من الترقي ارتكب هنا وإن لم يرتكب في مقام آخر كأنه قيل: إن النفس الأولى لا تقدر على استخلاص صاحبتها من قضاء الواجبات وتدارك التبعات لأنها مشغولة عنها بشأنها، ثم إن قدرت على نفي ما كان بشفاعة لا يقبل منها، وإن زادت عليه بأن ضمت الفداء فلا يؤخذ منها، وإن حاولت الخلاص بالقهر والغلبة وأنى لها ذلك فلا تتمكن منه، واختار الكواشي جعل الضمير الأول للنفس الأولى، والثانية للثانية على اللف والنشر لما فيه من إجراء الجملتين على المعنى الظاهر منهما، ويهوّن أمر التفكيك الاتضاح، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ولا تقبل بالتاء، وسفيان {يَقْبَلُ} بفتح الياء، ونصب شفاعة على البناء للفاعل، وفيه التفات من ضمير المتكلم في {نِعْمَتِيَ} [البقرة: 47] إلخ إلى ضمير الغائب وبناؤه للمفعول أبلغ.
{وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} النصر في الأصل المعونة، ومنه أرض منصورة ممدودة بالمطر، والمراد به هنا ما يكون بدفع الضرر أي ولاهم يمنعون من عذاب الله عز وجل والضمير راجع إما إلى ما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفي من النفوس الكثيرة فيكون من قبيل ما تقدم ذكره معنى بدلالة لفظ آخر، وإما إلى النفس المنكرة من حيث كونها لعمومها بالنفي في معنى الكثرة كما قيل في قوله تعالى: {فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين} [الحاقة: 47] وأتى به مذكرًا لتأويل النفوس بالعباد والأناسي، وفيه تنبيه على أن تلك النفوس عبيد مقهورون مذللون تحت سلطانه تعالى، وأنهم ناس كسائر الناس في هذا الأمر، وعوده إلى النفسين بناءً على أن التثنية جمع ليس بشيء، وجعل النفي منسحبًا على جملة اسمية للتقوى، ورفع {هُمْ} على الابتداء والجملة بعده خبره، وجعله مفعولًا لما لم يسم فاعله والفعل بعده مفسر فتوافق الجمل لا أوافق على اختياره وإن ذهب إليه بعض الأجلة وتمسك المعتزلة بعموم الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر وكون الخطاب للكفار والآية نازلة فيهم لا يدفع العموم المستفاد من اللفظ، وأجيب بالتخصيص من وجهين، الأول: بحسب المكان والزمان فإن مواقف القيامة ومقدار زمانها فيها سعة وطول، ولعل هذه الحالة في ابتداء وقوعها وشدته ثم يأذن بالشفاعة، وقد قيل: مثل ذلك في الجمع بين قوله تعالى: {فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ} [المؤمنون: 101] وقوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} [الطور: 25] وكون مقام الوعيد يأبى عنه غير مسلم، والثاني: بحسب الأشخاص إذ لابد لهم من التخصيص في غير العصاة لمزيد الدرجات فليس العام باقيًا على عمومه عندهم وإلا اقتضى نفي زيادة المنافع وهم لا يقولون به، ونحن نخصص في العصاة بالأحاديث الصحيحة البالغة حد التواتر، وحيث فتح باب التخصيص نقول أيضًا: ذلك النفي مخصص بما قبل الإذن، لقوله تعالى: {لاَّ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ} [سبأ: 23] وهو تخصيص له دليل، وتخصيصهم لا يظهر له دليل على أن الشفاعة بزيادة المنافع يكاد أن لا تكون شفاعة وإلا لكنا شفعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عند الصلاة عليه مع أن الإجماع وقع منا ومنهم على أنه هو الشفيع، وأيضًا في قوله تعالى: {واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [محمد: 19] ما يشير إلى الشفاعة التي ندعيها ويحث على التخصيص الذي نذهب إليه رزقنا الله تعالى الشفاعة وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة، ولما قدم سبحانه ذكر نعمه إجمالًا أراد أن يفصل ليكون أبلغ في التذكير وأعظم في الحجة فقال:

.تفسير الآية رقم (49):

{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)}
{وَإِذْ نجيناكم مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب} وهو على الشائع عطف على {نِعْمَتِيَ} [البقرة: 47] بتقدير: اذكروا كيلا يلزم الفصل بين المعطوفين بأجنبي وهو اتقوا وقد تقدم قبل ما ينفعك هنا، وقرئ {أنجيناكم}، و{أنجيتكم} ونسبت الأول للنخعي، والآل قيل: عنى الأهل وإن ألفه بدل عن هاء، وإن تصغيره أهيل، وبعضهم ذهب إلى أن ألفه بدل من همزة ساكنة وتلك الهمزة بدل من هاء، وقيل: ليس عنى الأهل لأن الأهل القرابة والآل من يؤول إليك في قرابة أو رأي أو مذهب، فألفه بدل من واو، ولذلك قال يونس في تصغيره: أويل، ونقله الكسائي نصًا عن العرب، وروي عن أبي عمر غلام ثغلب إن الأهل القرابة كان لها تابع أولًا، والآل القرابة بتابعها فهو أخص من الأهل، وقد خصوه أيضًا بالإضافة إلى أولي الخطر فلا يضاف إلى غير العقلاء ولا إلى من لا خطر له منهم، فلا يقال آل الكوفة، ولا آل الحجام وزاد بعضهم اشتراط التذكير فلا يقال آل فاطمة ولعل كل ذلك أكثري وإلا فقد ورد على خلاف ذلك كآل أعوج اسم فرس، وآل المدينة، وآل نعم، وآل الصليب، وآلك ويستعمل غير مضاف كهُم خير آل ويجمع كأهل فيقال آلون: وفرعون لقب لمن ملك العمالقة ككسرى لملك الفرس، وقيصر لملك الروم، وخاقان لملك الترك، وتبع لملك اليمن، والنجاشي لملك الحبشة وقال السهيلي: هو اسم لكل من ملك القبط ومصر، وهو غير منصرف للعلمية والعجمة، وقد اشتق منه باعتبار ما يلزمه فقيل: تفر عن الرجل إذا تجبر وعتا، واسم فرعون هذا الوليد بن مصعب قاله ابن إسحاق، وأكثر المفسرين وقيل: أبوه مصعب بن ريان حكاه ابن جرير، قيل: قنطوس حكاه مقاتل، وذكر وهب بن منبه أن أهل الكتابين قالوا: إن اسمه قابوس، وكنيته أبو مرة وكان من القبط، وقيل: من بني عمليق أو عملاق بن لاوز بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام، وهم أمم تفرقوا في البلاد، وروي أنه من أهل اصطخر ورد إلى مصر فصار بها ملكًا، وقيل: كان عطارًا بأصفهان ركبته الديون فدخل مصر وآل أمره إلى ما آل وحكاية البطيخ شهيرة وقد نقلها مولانا مفتي الديار الرومية في تفسيره، والصحيح أنه غير فرعون يوسف عليه السلام، وكان اسمه على المشهور الريان بن الوليد، وقد آمن بيوسف ومات في حياته وهو من أجداد فرعون المذكور على قول، ويؤيد الغيرية أن بين دخول يوسف ودخول موسى عليهما السلام أكثر من أربعمائة سنة، والمراد بـ آل فرعون هنا أهل مصر أو أهل بيته خاصة أو أتباعه على دينه، وب أنجيناكم أنجينا آباءكم، وكذا نظائره فلا حجة فيها لتناسخي، وهذا في كلام العرب شائع كقوله حسان:
ونحن قتلناكم ببدر فأصبحت ** عساكركم في الهالكين تجول

و{يسومونكم} من السوم، وأصله الذهاب للطلب، ويستعمل للذهاب وحده تارة، ومنه السائمة، وللطلب أخرى، ومنه السوم في البيع، ويقال: سامه كلفه العمل الشاق، والسوء مصدر ساء يسوء، ويراد به السيء، ويستعمل في كل ما يقبح كأعوذ بالله تعالى من سوء الخلق و{سوء العذاب} أفظعه وأشده بالنسبة إلى سائره، وهو منصوب على المفعولية ليسومونكم بإسقاط حرف الجر أو بدونه، والجملة يحتمل أن تكون مستأنفة، وهي حكاية حال ماضية، ويحتمل أن تكون في موضع الحال من ضمير {نجيناكم} أو {مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ}، وهو الأقرب، والمعنى يولونكم أو يكلفونكم الأعمال الشاقة، والأمور الفظيعة أو يرسلونكم إليها ويصرفونكم فيها أو يبغونكم سوء العذاب المفسر بما بعده، وقد حكي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدمًا وخولًا، وصنفهم في الأعمال فصنف يبنون، وصنف يحرثون، وصنف يخدمون ومن لم يكن منهم في عمل وضع عليه الجزية يؤديها كل يوم، ومن غربت عليه الشمس قبل أن يؤديها غلت يده إلى عنقه شهرًا، وجعل النساء يغزلن الكتان، وينسجن.
{يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ} جملة حالية أو استئنافية كأنه قيل: ما الذي ساموهم إياه، فقال: {يُذَبّحُونَ} إلخ، ويجوز أن تخرج على إبدال الفعل من الفعل كما في قوله تعالى: {يَلْقَ أَثَامًا يضاعف لَهُ العذاب} [الفرقان: 68، 69]، وقيل: بالعطف وحذف حرفه لآية إبراهيم، والمحققون على الفرق، وحملوا {سُوء العذاب} فيها على التكاليف الشاقة غير الذبح، وعطف للتغاير، واعتبر هناك لا هنا على رأيهم لسبق {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} [إبراهيم: 5]، وهو يقتضي التعداد، وليس هنا ما يقتضيه، والأبناء الأطفال الذكور، وقيل: إنهم الرجال هذا وسموا أبناء باعتبار ما كانوا قبل، وفي بعض الأخبار أنه قتل أربعين ألف صبي، وحكي أنه كان يقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج والتجمع لإفساد أمره، والمشهور حمل الأبناء على الأول، وهو المناسب المتبادر، وفي سبب ذلك أقوال وحكايات مختلفة ومعظمها يدل على أن فرعون خاف من ذهاب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل ففعل ما فعل {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَرًا مَّقْدُورًا} [الأحزاب: 38] وقرأ الزهري وابن محيصن: {يُذَبّحُونَ} مخففًا، وعبد الله: {يَقْتُلُونَ} مشددًا {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} عطف على {يُذَبّحُونَ} أي يستبقون بناتكم ويتركونهن حيات، وقيل: يفتشون في حيائهن ينظرون هل بهن حمل والحياء الفرج لأنه يستحى من كشفه، والنساء جمع المرأة، وفي البحر إنه جمع تكسير لنسوة على وزن فعلة جمع قلة، وزعم ابن السراج أنه اسم جمع، وعلى القولين لم يلفظ له بواحد من لفظه، وهي في الأصل البالغات دون الصغائر، فهي على الوجه الأول مجاز باعتبار الأول للإشارة إلى أن استبقاءهم كان لأجل أن يصرن نساءً لخدمتهم، وعلى الثاني فيه تغليب البالغات على الصغائر، وعلى الثالث حقيقة، وقدم الذبح لأنه أصعب الأمور وأشقها عند الناس وإن كان ذلك الاستحياء أعظم من القتل لدى الغيور.
{وَفِى ذلكم بَلاء مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ} إشارة إلى التذبيح والاستحياء، أو إلى الإنجاء، وجمع الضمير للمخاطبين، ويجوز أن يشار بذلكم إلى الجملة وأصل البلاء الاختبار، وإذا نسب إليه تعالى يراد منه ما يجري مجراه مع العباد على المشهور، وهو تارة يكون بالمسار ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا، وتارة بهما ليرغبوا ويرهبوا فإن حملت الإشارة على المعنى الأول: فالمراد بالبلاء المحنة، وإن على الثاني: فالمراد به النعمة، وإن على الثالث: فالمراد به القدر المشترك كالامتحان الشائع بينهما، ويرجح الأول: التبادر، والثاني: أنه في معرض الامتنان، والثالث: لطف جمع الترغيب والترهيب؛ ومعنى {مّن رَّبّكُمْ} من جهته تعالى إما بتسليطهم عليكم أو ببعث موسى عليه السلام وتوفيقه لتخليصكم أو بهما جميعًا، و{عظيم} صفة {بلاء} وتنكيرهما للتفخيم، والعظم بالنسبة للمخاطب، والسامع لا بالنسبة إليه تعالى لأنه العظيم الذي لا يستعظم شيئًا.
ومن باب الإشارة: والتأويل: وإذ نجيناكم من قوى فرعون النفس الأمارة المحجوبة بأنانيتها، والنظر إلى نفسها المستعلية على إهلاك الوجود، ومصر مدينة البدن المستعبدة، وهي وقواها من الوهم، والخيال، والغضب، والشهوة القوى الروحانية التي هي أبناء صفوة الله تعالى يعقوب الروح، والقوى الطبيعية البدنية من الحواس الظاهرة والقوى النباتية أولئك يكلفونكم المتاعب الصعبة، والأعمال الشاقة من جمع المال، والحرص وترتيب الأقوات والملابس وغير ذلك، ويستعبدونكم بالتفكر فيها والاهتمام بها لتحصل لكم لذة هي في الحقيقة عذاب وذلة لأنها تمنعكم عن مشاهدة الأنوار، والتمتع بدار القرار {يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ} التي هي القوى الروحانية من القوى النظرية التي هي العين اليمنى للقلب، والعملية التي هي العين اليسرى له، والفهم الذي هو سمعه، والسر الذي هو قلبه {وَيَسْتَحْيُونَ} [البقرة: 49] قواكم الطبيعية ليستخدموها ويمنعوها عن أفعالها اللائقة بها. وفي ذلك الإنجاء نعمة عظيمة من ربّكم المرقي لكم من مقام إلى مقام ومشهد إلى مشهد حتى تصلوا إليه وتحطوا رحالكم بين يديه، أو في مجموع ذلك امتحان لكم وظهور آثار الأسماء المختلفة عليكم فاشكروا واصبروا فالكل منه وكل ما فعل المحبوب محبوب.