فصل: تفسير الآية رقم (59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (59):

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)}
{يَجْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ} أي ما قدر لانتفاعكم من ذلك وإلا فالرزق ليس كله منزلًا، واستعمال أنزل فيما ذكر مجاز من إطلاق المسبب على السبب، وجوز أن يكون الإسناد مجازيًا بأن أسند الإنزال إلى الرزق لأن سببه كالمطر منزل، وقيل: إن هناك استعارة مكنية تخيلية وهو بعيد، وجعل الرزق مجازًا عن سببه أو تقدير لفظ سبب مما لا ينبغي و{مَا} إما موصولة في موضع النصب على أنها مفعول أول لأرأيتم والعائد محذوف أي أنزله والمفعول الثاني ما ستراه إن شاء الله تعالى قريبًا و{مَا} استفهامية في موضع النصب على أنه مفعول {أَنَزلَ} وقدم عليه لصدارته، وهو معلق لما قبله إن قلنا بالتعليق فيه أي أي شيء أنزل الله تعالى من رزق {فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلًا} أي فبعضتموه وقسمتموه إلى حرام وحلال وقلتم، {هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام: 138] و{مَا فِي بُطُونِ هذه الانعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا} [الأنعام: 139] إلى غير ذلك.
{قُلِ الله أَذِنَ لَكُمْ} في جعل البعض منه حرامًا والبعض الآخر حلالًا {أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} {أَمْ} والهمزة متعادلتان والجملة في موضع المفعول الثاني لأرأيتم و{قُلْ} مكرر للتأكيد فلا يمنع من ذلك، والعائد على المفعول الأول مقدر، والمعنى أرأيتم الذي أنزله الله تعالى لكم من رزق ففعلتم فيه ما فعلتم أي الأمرين كائن فيه الإذن فيه من الله تعالى بجعله قسمين أم الافتراء منكم، وكان أصل {الله أَذِنَ لَكُمْ} إلخ آلله أذن أم غيره فعدل إلى ما في النظم الجليل دلالة على أن الثابت هو الشق الثاني وهم نسبوا ذلك إليه سبحانه فهم مفترون عليه جل شأنه لا على غيره وفيه زجر عظيم كما لا يخفى، ولعل هذا مراد من قال: إن الاستفهام للاستخبار ولم يقصد به حقيقته لينافي تحقق العلم بانتفاء الإذن وثبوت الافتراء بل قصد به التقرير والوعيد وإلزام الحجة.
وجوز أن يكون الاستفهام لإنكار الإذن وتكون {أَمْ} منقطعة عنى بل الإضرابية، والمقصود الإضراب عن ذلك لتقرير افترائهم، والجملة على هذا معمولة للقول وليست متعلقة بأرأيتم وهو قد اكتفى بالجملة الأولى كما أشرنا إليه، ومن الناس من جوز كون {أَمْ} متصلة وكونها منفصلة على تقدير تعلق الجملة بفعل القول وأوجب الاتصال على تقدير تعلقها بأرأيتم وجعل الاسم الجليل مبتدأ مخبرًا عنه بالجملة للتخصيص عند بعض ولتقوية الحكم عند آخر، والإظهار بعد في مقام الإضمار للإيذان بكمال قبح افترائهم، وتقديم الجار والمجرور للقصر مطلقًا في رأي ولمراعاة الفواصل على الوجه الأول وللقصر على الوجه الثاني في آخر.
واستدل المعتزلة بالآية على أن الحرام ليس برزق ولا دليل لهم فيها على ما ذكرناه لأن المقدر للانتفاع هو الحلال فيكون المذكور هنا قسمًا من الرزق وهو شامل للحلال والحرام والكفرة إنما أخطأوا في جعل بعض الحلال حرامًا، ومن جعل أهل السنة نظيرًا لهم في جعلهم الرزق مطلقًا منقسمًا إلى قسمين فقد أعظم الفرية.

.تفسير الآية رقم (60):

{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)}
{وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} كلام مسوق من جهته تعالى لبيان هول ما سيلقونه غير داخل تحت القول المأمور به، والتعبير عنهم بالموصول لقطع احتمال الشق الأول من الترديد والتسجيل عليهم بالافتراء، وزيادة الكذب مع أن الافتراء لا يكون إلا كذلك لإظهار لإظهار كمال قبح ما افتعلوا وكونه كذبًا في اعتقادهم أيضًا، و{مَا} استفهامية مبتدأ و{ظَنَّ} خبرها هو مصدر مضاف إلى فاعله ومفعولاه محذوفان.
وقوله سبحانه: {يَوْمُ القيامة} ظرف لنفس الظن لا بيفترون لعدم صحته معنى ولا قدر لأن التقدير خلاف الظاهر، أي أي شيء ظنهم في ذلك اليوم أني فاعل بهم، والمقصود التهديد والوعيد، ويدل على تعلقه بالظن قراءة عيسى ابن عمر {وَمَا ظَنُّ} بصيغة الماضي و{مَا} في هذه القراءة عنى الظن في محل نصب على المصدرية، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع وأكثر أحوال القيامة يعبر عنها بذلك في القرآن لما ذكر، والعمل في الظرف المستقبل لا يمنع لتصييره الفعل نصًا في الاستقبال التجوز المذكور لأنه يقدر لتحققه أيضًا ماضيًا، وقيل: الظرف متعلق بما يتعلق به ظنهم اليوم من الأمور التي ستقع يوم القيامة تنزيلًا له ولما يقع فيه من الأهوال لمكان وضوح أمره في التحقق والتقرر منزلة المسلم عندهم، أي أي شيء ظنهم لما سيقع يوم القيامة أيحسبون أنهم لا يسألون عن افترائهم أو لا يجازون عليه أو يجازون جزاءً يسيرًا ولذلك ما يفعلون يفعلون كلا إنهم لفي أشد العذاب لأن معصيتهم أشد المعاصي، والآية السابقة قيل متصلة بقوله سبحانه: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض} [يونس: 31] إلخ كأنه قيل: حيث أقروا أنه سبحانه الرازق قل لهم أرأيتم ما أنزل الله إلخ ونقل ذلك عن أبي مسلم، وقيل: بقوله تعالى: {يا أيها الناس} [يونس: 57] إلخ، وذلك أنه جل شأنه لما وصف القررن بما وصفه وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرغب باغتنام ما فيه عقب ذلك بذكر مخالفتهم لما جاء به وتحريمهم ما أحل، وقيل: إنها متصلة بالآيات الناعية عليهم سوء اعتقادهم كأنه سبحانه بعد أن نعى عليهم أصولهم بين بطلان فروعهم، ولعل خير الثلاثة وسطها.
{إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ} أي عظيم لا يقدر قدره ولا يكتنه كنهه {عَلَى الناس} جميعًا حيث أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وبين لهم ما لا تستقل عقولهم بإدراكه وأرشدهم إلى ما يهمهم من أمر المعاش والمعاد ورغبهم ورهبهم وشرح لهم الأحوال وما يلقاه الحائد عن الرشاد من الأهوال.
{ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} ذلك الفضل فلا ينتفعون به، ولعل الجملة تذييل لما سبق مقرر لمضمونه.

.تفسير الآية رقم (61):

{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)}
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} أي في أمر معتنى به، من شأنه بالهمز كسأله إذا قصده وقد تبدل همزته ألفًا، وهو في الأصل مصدر وقد أريد المفعول {وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ} الضمير المجرور للشأن؛ والتلاوة أعظم شؤونه صلى الله عليه وسلم ولذا خصت بالذكر أو للتنزيل، والإضمار قبل الذكر لتفخيم شأنه أو لله عز وجل، و{مِنْ} قيل تبعيضية على الاحتمالين الأولين وابتدائية على الثالث والتي في قوله سبحانه: {مِن قُرْءانٍ} زائدة لتأكيد النفي على جميع التقادير وإلى ذلك ذهب القطب. وقال الطيبي: إن {مِنْ} الأولى على الاحتمال الأخير ابتدائية والثانية مزيدة، وعلى الاحتمال الأول الأولى للتبعيض والثانية للبيان، وعلى الثاني الأولى ابتدائية والثانية للبيان.
وفي إرشاد العقل السليم أن الضمير الأول للشأن والظرف صفة لمصدر محذوف أي تلاوة كائنة من الشأن أو للتنزيل و{مِنْ} ابتدائية أو تبعيضية أو لله تعالى شأنه و{مِنْ} ابتدائية و{مِنْ} الثانية مزيدة وابتدائية على الوجه الأول وبيانية أو تبعيضية على الوجه الثاني والثالث. وأنت تعلم أنه قد يكون الظرف متعلقًا بما عنده، والتزام تعلقه حذوف وقع صفة لمصدر كذلك في جميع الاحتمالات مما لا حاجة إليه. نعم اللازم بناءً على المشهور أن لا يتعلق حرفان عنى تعلق واحد، وذهب أبو البقاء إلى أن الضمير الأول للشأن و{مِنْ} الأولى للأجل كما في قوله سبحانه: {مّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ} [نوح: 25] و{مِنْ} الثانية مزيدة وما بعدها مفعول به لتتلو وله وجه، ومما يقضي منه العجب ما قاله بعضهم إنه يحتمل أن يكون ضمير {مِنْهُ} للشأن إما على تقدير ما تتلو حال كون القراءة بعض شؤونك وإما أن يحمل الكلام على حذف المضاف أي وما تتلو من أجل الشأن بأن يحدث لك شأن فتتلو القرآن من أجله فإن الحالية مما لا تكاد تخطر ببال من له أدنى ذوق في العربية ولم نر القول بتقدير مضاف في الكلام إذا كان فيه {مِنْ} الأجلية أو نحوها، وما في كلام غير واحد من الأفاضل في أمثال ذلك تقدير معنى لا تقدير إعراب، ويبعد حمل هذا البعض على ذلك كما لا يخفى {هذا} ثم إن القرآن عام للمقروء كلًا وبعضًا وهو حقيقة في كل كما حقق في موضعه، والقول بأنه مجاز في البعض بإطلاق الكل وإرادة الجزء مما لا يلتفت إليه {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} أي أي عمل كان، والخطاب الأول خاص برأس النوع الإنساني وسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم وهذا عام ويشمل سائر العباد برهم وفاجرهم لا الأخيرين فقط، وقد روعي في كل من المقامين ما يليق به فعبر في مقام الخصوص في الأول بالشأن لأن عمل العظيم عظيم وفي الثاني بالعمل العام للجليل والحقير، وقيل: الخطاب الأول عام للأمة أيضًا كما في قوله تعالى: {يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} [الطلاق: 1] {إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} استثناء مفرغ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة أي وما تلابسون بشيء منها في حال من الأحوال إلا حال كوننا رقباء مطلعين عليه حافظين له كذا قالوا، ويفهم منه أن الجار والمجرور متعلق بما بعده، ولعل تقديمه للاهتمام بتخويف من أريد تخويفه من المخاطبين، وكأنه للمبالغة فيه جيء بضمير العظمة، وأن المقصود من الاطلاع عليهم الاطلاع على عملهم {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أي تشرعون فيه وتتلبسون به، وأصل الإفاضة الاندفاع بكثرة أو بقوة، وحيث أريد بالأفعال السابقة الحالة المستمرة الدائمة المقارنة للزمان الماضي أيضًا أوثر في الاستثناء صيغة الماضي، وفي الظرف كلمة {إِذْ} التي تفيد المضارع معنى الماضي كذا قيل، ولم أر من تعرض لبيان وجه اختيار النفي بما التي تخلص المضارع للحال ععند الجمهور عند انتفاء قرينة خلافه في الجملتين الأوليين والنفي بلا التي تخلص المضارع للاستقبال عند الأكثرين خلافًا لابن مالك في الجملة الثالثة، ولعل ذلك من آثار اختلاف الخطاب خصوصًا وعمومًا فتأمله فإنه دقيق جدًا {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ} أي ما يبعد وما يغيب، ومنه يقال: الروض العازب وروض عزيب إذا كان بعيدًا من الناس، والكلام على حذف مضاف أي وما يعزب عن علم ربك عز وجل أو هو كناية عن ذلك، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من الإشعار باللطف ما لا يخفى.
وقرأ الكسائي. والأعمش. ويحيى بن وثاب بكسر الزاي {مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ} {مِنْ} مزيدة لتأكيد النفي، والمثقال اسم لما يوازن الشيء ويكون في ثقله وهو في الشرع أربعة وعشرون قيراطًا. وأخرج ذلك ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي جعفر، والصحيح أنه لم يختلف جاهلية وإسلامًا فقد نقل الجلال السيوطي عن الرافعي أنه قال: أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن وهو أن الدرهم ستة دوانيق وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل ولم يتغير المثقال في الجاهلية ولا في الإسلام. والذرة واحدة الذر وهو النمل الأحمر الصغير، وسئل ثعلب عنها فقال: إن مائة نملة وزن حبة والذرة واحدة منها، وقيل: الذرة ليس لها وزن ويراد بها ما يرى في شعاع الشمس الداخل في الناذة {فِي الأرض وَلاَ فِي السماء} أي في جهتي السفل والعلو أو في دائرة الوجود والإمكان لأن العامة لا تعرف سواهما ممكنًا ليس فيهما ولا متعلقًا بهما، والكلام شامل لهما أنفسهما أيضًا كما لا يخفى، وتقديم الأرض على السماء مع أنها قدمت عليها في كثير من المواضع ووقعت أيضًا في سبأ في نظير هذه الآية مقدمة لأن الكلام في حال أهلها والمقصود إقامة البرهان على إحاطة علمه سبحانه بتفاصيلها، وذكر السماء لئلا يتوهم اختصاص إحاطة علمه جل وعلا بشيء دون شيء، وحاصل الاستدلال أنه سبحانه لا يغيب عنه شيء ومن يكون هذا شأنه كيف لا يعلم حال أهل الأرض وما هم عليه مع نبيه صلى الله عليه وسلم، وقوله سبحانه: {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} جملة مستقلة ليست معطوفة على ما قبلها، و{لا} نافية للجنس و{أَصْغَرَ} اسمها منصوب لشبهه بالمضاف وكذا {أَكْبَرَ} لتقدير عمله، وقول السمين: إنهما مبنيان على الفتح ضعيف وهو مذهب البغداديين، وزعم أنه سبق قلم متأخر عن حيز القبول، و{فِى كتاب} متعلق حذوف وقع خبرًا.
وقرأ حمزة. ويعقوب. وخلف. وسهل بالرفع على الابتداء والخبر، و{لا} يجوز الغاؤها إذا تكررت، وأما قولهم: إن الشبيه بالمضاف يجب نصبه فالمراد منه المنع من البناء لا المنع من الرفع والإلغاء كما توهمه بعضهم، وجوز أن يكون ذلك على جعل {لا} عاملة عمل ليس، وقيل: إن {أَصْغَرَ} على القراءة الأولى عطف على {مِثْقَالَ} أو {ذَرَّةٍ} باعتبار اللفظ، وجيء بالفتح بدلا عن الكسر لأنه لا ينصرف للوصف ووزن الفعل، وعلى القراءة الأخرى معطوف على {مِثْقَالَ} باعتبار محله لأنه فاعل. و{مِنْ} كما عرفت مزيد. واستشكل بأنه يصير التقدير ولا يعزب عنه أصفر من ذلك ولا أكبر منه إلا في كتاب فيعزب عنه ومعناه غير صحيح. وأجيب بأن هذا على تقدير اتصال الاستثناء وأما على تقدير انقطاعه فيصير التقدير لكن لا أصغر ولا أكبر إلا هو في كتاب مبين، وهو مؤكد لقوله سبحانه: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ} [سبأ: 3] إلخ، وأجاب بعضهم على تقدير الاتصال بأنه على حد {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى} [الدخان: 56] {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] في رأي، فالمعنى لا يبعد عن علمه شيء إلا ما في اللوح الذي هو محل صور معلوماته تعالى شأنه بناء على تفسير الكتاب المبين به أو إلا ما في علمه بناء على ما قيل: إن الكتاب العلم، فإن عد ذلك من العزوب فهو عازب عن علمه وظاهر أنه ليس من العزوب قطعًا فلا يعزب عن علمه شيء قطعًا. ونقل عن بعض المحققين في دفع الأشكال أن العزوب عبارة عن مطلق البعد، والمخلوقات قسمان قسم أوجده الله تعالى من غير واسطة كالأرض والسماء والملائكة عليهم السلام وقسم أوجده بواسطة القسم الأول مثل الحوادث في العالم وقد تتباعد سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجود سبحانه، فالمعنى لا يبعد عن مرتبة وجوده تعالى ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين أثبت فيه سبحانه تلك المعلومات، فهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال، وإثبات العزوب عنى البعد عنه تعالى في سلسلة الإيجاد لا محذور فيه وهو وجه دقيق إلا أنه أشبه بتدقيقات الحكماء وأن خالف ما هم عليه في الجملة.
وقال الكواشي: معنى يعزب يبين وينفصل، أي لا يصدر عن ربك شيء من خلقه إلا وهو في اللوح وتلخيصه أن كل شيء مكتوب فيه. واعترض بأن تفسيره بيبين وينفصل غير معروف، وقيل: المراد بالبعد عن الرب سبحانه البعد والخروج عن غيبه أي لا يخرج عن غيبه إلا ما كان في اللوح فيعزب عن الغيب ويبعد إذ لا يبقى ذلك غيبًا حينئذ لاطلاع الملائكة عليهم السلام وغيرهم عليه فيفيد إحاطة علمه سبحانه بالغيب والشهادة.
ومن هنا يظهر وجه آخر لتقديم الأرض على السماء، وقيل: إن {إِلا} عاطفة نزلة الواو كما قال بذلك الفراء في قوله تعالى: {لاَ يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون إَلاَّ مَن ظَلَمَ} [النحل: 01-11] والأخفش في قوله سبحانه: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} [البقرة: 150] وقوم في قوله جل شأنه: {الذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم} [النجم: 32] وهو مقدر بعدها، والكلام قد تم عند قوله سبحانه: {وَلا أَكْبَرَ} ثم ابتدأ بقوله تعالى: {إِلاَّ فِي كتاب} أي وهو في كتاب ونقل ذلك مكي عن أبي علي الحسن بن يحيى الجرجاني ثم قال: وهو قول حسن لولا أن جميع البصريين لا يعرفون {إِلا} عنى الواو، والانصاف أنه لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى العزيز على ذلك ولو اجتمع الخلق إنسهم وجنهم على مجيء إلا عنى الواو، وقيل: آن الاستثناء من محذوف دل عليه الكلام السابق أي ولا شيء إلا في كتاب؛ ونظيره {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْء} [الأنعام: 38] ويكون من مجموع ذلك إثبات العلم لله تعالى في كل معلوم وإن كل شيء مكتوب في الكتاب، ويشهد لهذا على ما قيل كثير من أساليب كلام العرب. ونقل عن صاحب كتاب تبصرة المتذكر أنه يجوز أن يكون الاستثناء متصلًا بما قبل قوله تعالى: {وَلاَ يَعْزُبُ} ويكون في الآية تقديم وتأخير، وترتيبها وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا في كتاب مبين إلا كنا عليكم شهودًا إذ تفيضون فيه إلى ولا أكبر، وتلخيصه وما من شيء إلا وهو في اللوح المحفوظ ونحن نشاهده في كل آن. ونظر فيه البلقيني في رسالته المسماة بالاستغناء بالفتح المبين في الاستثناء في {وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} بأنه على ما فيه من التكلف يلزم عليه القول بتركيب في الكلام المجيد لم يوجد في كلام العرب مثله أعني إلا في كتاب مبين إلا كنا عليكم شهودًا وليس ذلك نظير.
أمرر بهم الا الفتى إلا العلا. كما لا يخفى.
وأنت تعلم أن أقل الأقوال تكلفا القول بالانقطاع، وأجلها قدرًا وأدقها سرًا القول بالاتصال وإخراج الكلام مخرج {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] ونظائره الكثيرة نثرًا ونظمًا، ولا عيب فيه إلا أن الآية عليه أبلغ فليفهم، ثم إنه تعالى لما عمم وعده ووعيده في حق كافة من أطاع وعصى أتبعه سبحانه بشرح أحوال أوليائه تعالى المخلصين فقال عز من قائل: