فصل: تفسير الآية رقم (52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (52):

{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)}
{ثم} لتفاوت ما بين فعلهم القبيح، ولطفه تعالى في شأنهم، فلا يكون {مِن بَعْدِ ذلك} تكرارًا. و{عفا} عنى درس يتعدى ولا يتعدى كعفت الدار، وعفاها الريح والمراد بالعفو هنا محو الجريمة بالتوبة وذلك موضوع موضع {ذلكم} والإشارة للاتخاذ كما هو الظاهر، وإيثارها لكمال العناية بتمييزه كأنه يجعل ظلمهم مشاهدًا لهم وصيغة البعيد مع قربه لتعظيمه ليتوسل بذلك إلى جلالة قدر العفو والمراد بالترجي ما علمت، والمشهور هنا كونه مجازًا عن طلب الشكر على العفو ومن قدر الإرادة من أهل السنة أراد مطلق الطلب وليس ذلك من الاعتزال، إذ لا نزاع في أن الله تعالى قد يطلب من العباد ما لا يقع والشكر عند الجنيد هو العجز عن الشكر، وعند الشبلي التواضع تحت رؤية المنة وقال ذو النون: الشكر لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافآت، ولمن دونك بالإحسان.

.تفسير الآية رقم (53):

{وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)}
{الكتاب} التوراة بإجماع المفسرين في الفرقان أقوال: الأول: إنه هو التوراة أيضًا، والعطف من قبيل عطف الصفات للإشارة إلى استقلال كل منها، فإن التوراة لها صفتان يقالان بالتشكيك، كونها كتابًا جامعًا لما لم يجمعه منزل سوى القرآن، وكونها {فرقانًا} أي حجة تفرق بين الحق والباطل قاله الزجاج ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء وَذِكْرًا} [الأنبياء: 48] الثاني: أنه الشرع الفارق بين الحلال والحرام، فالعطف مثله في: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح} [القدر: 4] قاله ابن بحر. الثالث: أنه المعجزات الفارقة بين الحق والباطل من العصا واليد وغيرهما قاله مجاهد.
الرابع: إنه النصر الذي فرق بين العدو والولي، وكان آية لموسى عليه السلام، ومنه قيل ليوم بدر: يوم الفرقان، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: إنه القرآن، ومعنى إتيانه لموسى عليه السلام نزول ذكره له حتى آمن به، حكاه ابن الأنباري وهو بعيد وأبعد منه، ما حكي عن الفراء وقطرب أنه القرآن والكلام على حذف مفعول أي ومحمدًا الفرقان وناسب ذكر الاهتداء إثر ذكر إتيان موسى، الكتاب والفرقان لأنهما يترتب عليهما ذلك لمن ألقى السمع وهو شهيد.

.تفسير الآية رقم (54):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)}
{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ باتخاذكم العجل} نعمة أخروية في حق المقتولين من بني إسرائيل حيث نالوا درجة الشهداء، كما أن العفو نعمة دنيوية في حق الباقين، وإنما فصل بينهما بقوله: {وإذ آتينا} [البقرة: 53] إلخ؛ لأن المقصود تعداد النعم فلو اتصلا لصارا نعمة واحدة وقيل: هذه الآية وما بعدها منقطعة عما تقدم من التذكير بالنعم وليس بشيء واللام في {لِقَوْمِهِ} للتبليغ، وفائدة ذكره التنبيه على أن خطاب موسى لقومه كان مشافهة لا بتوسط من يتلقى منه كالخطابات المذكورة سابقًا لبني إسرائيل والقوم اسم جمع لا واحد له من لفظه، وإنما واحده امرئ وقياسه أن لا يجمع وشذ جمعه على أقاويم والمشهور اختصاصه بالرجال لقوله تعالى: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ} مع قوله: {وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء} [الحجرات: 11] وقال زهير:
فما أدري وسوف أخال أدري ** بما قوم آل حصن أم نساء

وقيل: لا اختصاص له بهم، بل يطلق على النساء أيضًا لقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ} [نوح: 1] والأول أصوب، واندراج النساء على سبيل الاستتباع، والتغليب والمجاز خير من الاشتراك، وسمي الرجال قومًا لأنهم يقومون بما لا يقوم به النساء، وفي إقبال موسى عليهم بالنداء، ونداؤه لهم بيا قوم إيذان بالتحنن عليهم وأنه منهم وهم منه، وهزّ لهم لقبولهم الأمر بالتوبة بعد تقريعهم بأنهم ظلموا أنفسهم والباء في {باتخاذكم} سببية وفي الاتخاذ هنا الاحتمالان السابقان هناك.
{فَتُوبُواْ إلى بَارِئِكُمْ} الفاء للسببية لأن الظلم سبب للتوبة وقد عطفت ما بعدها على {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ} والتوافق في الخبرية والإنشائية إنما يشترط في العطف بالواو وتشعر عبارات بعض الناس أنها للسببية دون العطف، والتحقيق أنها لهما معًا، والبارئ هو الذي خلق الخلق بريًا من التفاوت وعدم تناسب الأعضاء وتلائم الأجزاء بأن تكون إحدى اليدين في غاية الصغر والرقة، والأخرى بخلافه؛ ومتميزًا بعضه عن بعض بالخواص والإشكال والحسن والقبح فهو أخص من الخالق وأصل التركيب لخلوص الشيء وانفصاله عن غيره إما على سبيل التفصي كبرء المريض أو الإنشاء كبرأ الله تعالى آدم أي خلقه ابتداءً متميزًا عن لوث الطين، وفي ذكره في هذا المقام تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطف حكمته حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله تعالى ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم، وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغمطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها وهو مثل في الغباوة والبلادة وقرأ أبو عمرو: {بَارِئِكُمْ} بالاختلاس، وروي عنه السكون أيضًا وهو من إجراء المتصل من كلمتين مجرى المنفصل من كلمة، وللناس في تخريجه وجوه لا تخلو عن شذوذ.
{فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} الفاء للتعقيب، والمتبادر من القتل القتل المعروف من إزهاق الروح وعليه جمع من المفسرين والفعل معطوف على سابقه، فإن كانت توبتهم هو القتل إما في حقهم خاصة، أو توبة المرتد مطلقًا في شريعة موسى عليه السلام، فالمراد بقوله تعالى: {فَتُوبُواْ} اعزموا على التوبة ليصح العطف وإن كانت هي الندم والقتل من متمماتها كالخروج عن المظالم في شريعتنا فهو على معناه ولا إشكال، وقد يقال: إن التوبة جعلت لهؤلاء عين القتل ولا حاجة إلى تأويل توبوا باعزموا، بل تجعل الفاء للتفسير كما تجعل الواو له وقد قيل به في قوله تعالى: {فانتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم فِي اليم} [الأعراف: 136] وظاهر الأمر أنهم مأمورون بأن يباشر كل قتل نفسه، وفي بعض الآثار أنهم أمروا أن يقتل بعضهم بعضًا، فمعنى {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29] {وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] والمؤمنون كنفس واحدة، وروي أنه أمر من لم يعبد العجل أن يقتل من عبده، والمعنى عليه استسلموا أنفسكم للقتل، وسمى الاستسلام للقتل قتلًا على سبيل المجاز، والقاتل إما غير معين، أو الذين اعتزلوا مع هارون عليه السلام، والذين كانوا مع موسى عليه السلام، وفي كيفية القتل أخبار لا نطيل بذكرها، وجملة القتلى سبعون ألفًا، وبتمامها نزلت التوبة وسقطت الشفار من أيديهم، وأنكر القاضي عبد الجبار أن يكون الله تعالى أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم وقال: لا يجوز ذلك عقلًا إذ الأمر لمصلحة المكلف وليس بعد القتل حال تكليف ليكون فيه مصلحة، ولم يدر هذا القاضي بأن لنفوسنا خالقًا بأمره نستبقيها؛ وبأمره نفنيها وأن لها بعد هذه الحياة التي هي لعب ولهو، حياة سرمدية وبهجة أبدية، وأن الدار الآخرة لهي الحيوان، وأن قتلها بأمره يوصلها إلى حياة خير منها، ومن علم أن الإنسان في هذه الدنيا كمجاهد أقيم في ثغر يحرسه، ووال في بلد يسوسه وأنه مهما استرد فلا فرق بين أن يأمره الملك بخروجه بنفسه، أو يأمر غيره بإخراجه وهذا واضح لمن تصور حالتي الدنيا والآخرة، وعرف قدر الحياتين والميتتين فيهما، ومن الناس من جوّز ذلك إلا أنه استبعد وقوعه فقال: معنى {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} ذللوا، ومن ذلك قوله:
إن التي عاطيتني فرددتها ** قتلت قتلت فهاتها لم تقتل

ولولا أن الروايات على خلاف ذلك لقلت به تفسيرًا. ونقل عن قتادة أنه قرأ: {فأقيلوا أنفسكم} والمعنى أن أنفسكم قد تورطت في عذاب الله تعالى بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه، وقد هلكت فأقيلوها بالتوبة والتزام الطاعة، وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات.
{ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ} جملة معترضة للتحريض على التوبة أو معللة، والإشارة إلى المصدر المفهوم مما تقدم، و{خَيْرٌ} أفعل تفضيل حذفت همزته، ونطقوا بها في الشعر. قال الراجز:
بلا خير الناس وابن الأخير

وقد تأتي ولا تفضيل والمعنى: أن ذلكم خير لكم من العصيان والإصرار على الذنب أو خير من ثمرة العصيان، وهو الهلاك الدائم، والكلام على حد العسل أحلى من الخل أو خير من الخيور كائن لكم. والعندية هنا مجاز، وكرر البارئ بلفظ الظاهر اعتناءً بالحث على التسليم له في كل حال، وتلقى ما يرد من قبله بالقبول والامتثال فإنه كما رأى الإنشاء راجحًا فأنشأ رأي الإعدام راجحًا، فأمر به وهو العليم الحكيم.
{فَتَابَ عَلَيْكُمْ} جواب شرط محذوف بتقدير قد إن كان من كلام موسى عليه السلام لهم، تقديره إن فعلتم ما أمرتم به فقد تاب عليكم ومعطوف على محذوف إن كان خطابًا من الله تعالى لهم، كأنه قال: ففعلتم ما أمرتم فتاب عليكم بارئكم وفيه التفات لتقدم التعبير عنهم في كلام موسى عليه السلام بلفظ القوم وهو من قبيل الغيبة، أو من التكلم إلى الغيبة في {فَتَابَ} حيث لم يقل: فتبنا، ورجح العطف لسلامته من حذف الأداة والشرط وإبقاء الجواب، وفي ثبوت ذلك عن العرب مقال، وظاهر الآية كونها إخبارًا عن المأمورين بالقتل الممتثلين ذلك. وقال ابن عطية: جعل الله تعالى القتل لمن قتل شهادة وتاب عن الباقين وعفا عنهم، فمعنى {علكيم} عنده، على باقيكم.
{عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} تذييل لقوله تعالى: {فَتُوبُواْ} فإن التوبة بالقتل لما كانت شاقة على النفس هوّنها سبحانه بأنه هو الذي يوفق إليها ويسهلها ويبالغ في الإنعام على من أتى بها، أو تذييل لقوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} وتفسر التوبة منه تعالى حينئذ بالقبول لتوبة المذنبين والتأكيد لسبق الملوح أو للاعتناء ضمون الجملة، والضمير المنصوب إن كان ضمير الشأن فالضمير المرفوع مبتدأ وهو الأنسب لدلالته على كمال الإعتناء ضمون الجملة، وإن كان راجعًا إلى البارئ سبحان فالضمير المرفوع إما فصل أو مبتدأ، هذا وحظ العارف من هذه القصة أن يعرف أن هواه نزلة عجل بني إسرائيل فلا يتخذه إلهًا {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} [الجاثية: 23] وأن الله سبحانه قد خلق نفسه في أصل الفطرة مستعدة لقبول فيض الله تعالى والدين القويم، ومتهيئة لسلوك المنهج المستقيم، والترقي إلى جناب القدس وحضرة الأنس، وهذا هو الكتاب الذي أوتيه موسى القلب، والفرقان الذي يهتدى بنوره في ليالي السلوك إلى حضرة الرب، فمتى أخلدت النفس إلى الأرض واتبعت هواها، وآثرت شهواتها على مولاها، أمرت بقتلها بكسر شهواتها وقلع مشتهياتها ليصح لها البقاء بعد الفناء، والصحو بعد المحو، وليست التوبة الحقيقية سوى محو البشرية بإثبات الألوهية، وهذا هو الجهاد الأكبر والموت الأحمر.
ليس من مات فاستراح بميت ** إنما الميت ميت الأحياء

وهذا صعب لا يتيسر إلا لخواص الحق ورجال الصدق، وإليه الإشارة وتوا قبل أن تموتوا. وقيل أول قدم في العبودية إتلاف النفس وقتلها بترك الشهوات، وقطعها عن الملاذ، فكيف الوصول إلى شيء من منازل الصديقين ومعارج المقربين هيهات هيهات ذاك عزل عنا، ومناط الثريا منا:
تعالوا نقم مأتما للهموم ** فإن الحزين يواسي الحزينا

.تفسير الآية رقم (55):

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)}
{وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} القائل هم السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام لميقات التوراة، قيل: قالوه بعد الرجوع، وقتل عبدة العجل، وتحريق عجلهم، ويفهم من بعض الآثار أن القائل أهل الميقات الثاني الذي ضربه الله تعالى للاعتذار عن عبدة العجل وكانوا سبعين أيضًا، وقيل القائل عشرة آلاف من قومه، وقيل: الضمير لسائر بني إسرائيل إلا من عصمه الله تعالى وسيأتي إن شاء الله تعالى في الأعراف ما ينفعك هنا واللام من {لَكَ} إما لام الأجل أو للتعدية بتضمين معنى الإقرار على أن موسى مقرّ له والمقر به محذوف، وهو أن الله تعالى أعطاه التوراة، أو أن الله تعالى كلمه فأمره ونهاه، وقد كان هؤلاء مؤمنين من قبل وسى عليه السلام، إلا أنهم نفوا هذا الإيمان المعين والإقرار الخاص. وقيل: أرادوا نفي الكمال أي لا يكمل إيماننا لك، كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه» والقول إنهم لم يكونوا مؤمنين أصلًا لم نره لأحد من أئمة التفسير.
{حتى نَرَى الله جَهْرَةً} {حتى} هنا حرف غاية، والجهرة في الأصل مصدر جهرت بالقراءة إذا رفعت صوتك بها واستعيرت للمعاينة بجامع الظهور التام. وقال الراغب: الجهر يقال لظهور الشيء بإفراط حاسة البصر أو حاسة السمع أما البصر فنحو رأيته جهارًا وأما السمع فنحو {وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} [طه: 7] وانتصابها على أنها مصدر مؤكد مزيل لاحتمال أن تكون الرؤية منامًا أو علمًا بالقلب، وقيل: على أنها حال على تقدير ذوي جهرة أو مجاهرين، فعلى الأول الجهرة من صفات الرؤية، وعلى الثاني من صفات الرائين، وثمّ قول ثالث، وهو أن تكون راجعة لمعنى القول أو القائلين فيكون المعنى وإذ قلتم كذا قولًا جهرة أو جاهرين بذلك القول مكترثين ولا مبالين، وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي عبيدة، وقرأ سهل بن شعيب وغيره جهرة بفتح الهاء، وهي إما مصدر كالغلبة ومعناها معنى المسكنة وإعرابها إعرابها أو جمع جاهر أو كفاسق وفسقة، وانتصابها على الحال.
{فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة} أي استولت عليكم وأحاطت بكم، وأصل الأخذ القبض باليد، والصاعقة هنا نار من السماء أحرقتهم أو جند سماوي سمعوا حسهم فماتوا، أو صيحة سماوية خروا لها صعقين ميتين يومًا وليلة، واختلف في موسى هل أصابه ما أصابهم؟ والصحيح لا وأنه صعق ولم يمت لظاهر {فلما أفاق} [الأعراف: 143] في حقه، و{ثُمَّ بعثناكم} [البقرة: 56] إلخ في حقهم، وقرأ عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما {الصعقة}.
{وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} جملة حالية ومتعلق النظر ما حل بهم من الصاعقة أو أثرها الباقي في أجسامهم بعد البعث، أو إحياء كل منهم كما وقع في قصة العزيز، قالوا: أحيا عضوًا بعد عضو: والمعنى: وأنتم تعلمون أنها تأخذكم، أو وأنتم يقابل بعضكم بعضًا، قال في البحر: ولو ذهب ذاهب إلى أن المعنى: وأنتم تنظرون إجابة السؤال في حصول الرؤية لكم كان وجهًا من قولهم: نظرت الرجل أي انتظرته كما قال:
فإنكما إن تنظراني ساعة ** من الدهر تنفعني لدى أم جندب

لكن هذا الوجه غير منقول فلا أجسر على القول به، وإن كان اللفظ يحتمله.