فصل: تفسير الآية رقم (90):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (90):

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)}
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِى حَاضِرَةَ البحر} من جاوز المكان إذا قطعه وتخطاه، وهو متعد إلى المفعول الأول الذي كان فاعلًا في الأصل بالباء وإلى الثاني بنفسه، والمعنى جعلناهم مجاوزين البحر بأن جعلناه يبسًا وحفظناهم حتى بلغوا الشط. وقرأ الحسن {وجاوزنا} بالتضعيف، وفعل عنى فاعل فهو من التجويز المرادف للمجاوزة بالمعنى السابق وليس عنى نفذ لأنه لا يحتاج إلى التعدية بالباء ويتعدى إلى المفعول الثاني بفي كما في قوله:
ولا بد من جار يجيز سبيلها ** كما جوز السكي في الباب فيتق

فكان الواجب هنا من حيث اللغة أن يقال: وجوزنا بني إسرائيل البحر أي نفذناهم وأدخلناهم فيه؛ وفي الآية إشارة إلى انفصالهم عن البحر وإلى مقارنة العناية الإلهية لهم عند الجواز كما هو المشهور في الفرق بين أذهبه وذهب به {فَأَتْبَعَهُمْ} قال الراغب: يقال تبعه وأتبعه إذا قفا أثره إما بالجسم أو بالارتسام والائتمار وظاهره أن الفعلين عنى.
وقال بعض المحققين: يقال تبعته حتى أتبعته إذا كان سبقك فلحقته، فالمعنى هنا أدركهم ولحقهم {فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} حتى تراءت الفئتان وكاد يجتمع الجمعان {بَغْيًا وَعَدْوًا} أي ظلمًا واعتداءً، وهما مصدران منصوبان على الحال بتأويل اسم الفاعل أي باغين وعادين أو على المفعولية لأجله أي للبغي والعدوان.
وقرأ الحسن {وَعَدْوًا} بضم العين والدال وتشديد الواو، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما أخبر موسى وهارون عليهما السلام بإجابة دعوتهما أمر موسى عليه السلام بإخراج بني إسرائيل من مصر ليلًا وكانوا كما ذكره غير واحد ستمائة ألف فخرج بهم على حين غفلة من فرعون وملئه فلما أحس بذلك خرج هو وجنوده على أثرهم مسرعين فالتفت القوم فإذا الطامة الكبرى وراءهم فقالوا: يا موسى هذا فرعون وجنوده وراءنا وهذا البحر أمامنا فكيف الخلاص فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق اثني عشر فرقًا كل فرق كالطود العظيم وصار لكل سبط طريق فسلكوا ووصل فرعون ومن معه إلى الساحل وهم قد خرجوا من البحر ومسلكهم باق على حاله فسلكه بمن معه أجمعين فلما دخل آخرهم وهم أولهم بالخروج غشيهم من اليم ما غشيهم {حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الغرق} أي لحقه، والمراد بلحوقه إياه وقوعه فيه وتلبسه بأوائله، وقيل: معنى أدركه قارب إدراكه كجاء الشتاء فتأهب لأن حقيقة اللحوق تمنعه من القول الذي قصه سبحانه بقوله جل شأنه: {قَالَ ءامَنتُ} إلخ، ومن الناس من أبقى الإدراك على ظاهره وحمل القول على النفسي وزعم أن الآية دليل على ثبوت الكلام النفسي، ونظر فيه بأن قيام الاحتمال يبطل صحة الاستدلال، وأيًا ما كان فليس المراد الإخبار بإيمان سابق كما قيل بل إنشاء إيمان {أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إسراءيل} أي بأنه، وقدر الجار لأن الإيمان وكذا الكفر متعد بالباء ومحل مدخوله بعد حذفه الجر أو النصب فيه خلاف شهير وجعله متعديًا بنفسه فلا تقدير لأنه في أصل وضعه كذلك مخالفة للاستعمال المشهور فيه.
وقرأ حمزة والكسائي {أَنَّهُ} بالكسر على إضمار القول أي وقال إنه أو على الاستئناف لبيان إيمانه أو الإبدال من جملة آمنت؛ والجملة الاسمية يجوز إبدالها من الفعلية، والاستئناف على البدلية باعتبار المحكي لا الحكاية لأن الكلام في الأول، والجملة الأولى في كلامه مستأنفة والمبدل من المستأنف مستأنف والضمير للشأن، وعبر عنه تعالى بالموصول وجعل صلته إيمان بني إسرائيل به تعالى ولم يقل كما قال السحرة: {بِرَبّ العالمين رَبّ رَبّ موسى وهارون} [الأعراف: 121، 122] للإشعار برجوعه عن الاستعصاء واتباعه لمن كان يستتبعهم طمعًا في القبول والانتظام معهم في سلك النجاة {وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} أي الذين أسلموا نفوسهم لله تعالى أي جعلوها خالصة سالمة له سبحانه، وأراد بهم أما بني إسرائيل خاصة وإما الجنس وهم إذ ذاك داخلون دخولًا أوليًا، والظاهر أن الجملة على التقديرين معطوفة على جملة {ءامَنتُ} وإيثار الاسمية لادعاء الدوام والاستمرار.
وقيل: إنها على الأول معطوفة وعلى الثاني تحتمل الحالية أيضًا من ضمير المتكلم أي آمنت مخلصًا لله تعالى منتظمًا في سلك الراسخين في ذلك، ولقد كرر المعنى الواحد بثلاث عبارات وبالغ ما بالغ حرصًا على القبول المقتضي للنجاة وليت بعض ذلك قد كان حين ينفعه الإيمان وذلك قبل اليأس، فإن إيمان اليأس غير مقبول كما عليه الأئمة الفحول.

.تفسير الآية رقم (91):

{آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)}
{ءالآنَ} الاستفهام للإنكار والتوبيخ، والظرف متعلق حذوف يقدر مؤخرًا أي الآن تؤمن حين يئست من الحياة وأيقنت بالممات، وقدر مؤخرًا ليتوجه الإنكار والتوبيخ إلى تأخير الإيمان إلى حد يمتنع قبوله فيه، والكلام على تقدير القول أي فقيل له ذلك وهو معطوف على {قَالَ} [يونس: 90] وهذا إلى {ءايَةً} [يونس: 92] حكاية لما جرى منه سبحانه من الغضب على المحذوف ومقابلة ما أظهره بالرد الشنيع وتقريعه بالعصيان والإفساد إلى غير ذلك، وفي حذف الفعل المذكور وإبراز الخبر المحكي في صورة الإنشاء من الدلالة على عظم السخط وشدة الغضب ما لا يخفى. والقائل له ذلك قيل: هو الله تعالى، وقيل: هو جبريل عليه السلام، وقيل: إنه ميكائيل عليه السلام. فقد أخرج أبو الشيخ عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي جبريل عليه السلام: «ما أبغضت شيئًا من خلق الله تعالى ما أبغضت إبليس يوم أمر بالسجود فأبى أن يسجد وما أبغضت شيئًا أشد بغضًا من فرعون فلما كان يوم الغرق خفت أن يعتصم بكلمة الإخلاص فينجو فأخذت قبضة من حمأة فضربت بها في فيه فوجدت الله تعالى عليه أشد غضبًا مني فأمر ميكائيل فأتاه فقال آلآن...» إلخ وما تضمنه هذا الخبر من فعل جبريل عليه السلام جاء في غير ما خبر. ومن ذلك ما أخرجه الطيالسي. وابن حبان. وابن جرير. وابن المنذر. وابن مردويه. والبيهقي في الشعب. والترمذي. والحاكم وصححاه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم«قال لي جبريل: لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في في فرعون مخافة أن تدركه الرحمة». واستشكل هذا التعليل.
وفي الكشاف أن ذلك من زيادات الباهتين لله تعالى وملائكته عليهم السلام: وفيه جهالتان: إحداهما: أن الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس فحال البحر لا يمنعه. والأخرى: أن من كره إيمان الكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر لأن الرضا بالكفر كفر، وارتضاه ابن المنير قائلًا: لقد أنكر منكرًا وغضب لله تعالى وملائكته عليهم السلام كما يجب لهم، والجمهور على خلافه لصحة الحديث عند الأئمة الثقات كالترمذي المقدم على المحدثين بعد مسلم. وغيره. وقد خاضوا في بيان المراد منه بحيث لا يبقى فيه إشكال.
ففي إرشاد العقل السليم أن المراد بالرحمة الرحمة الدنيوية أي النجاة التي هي طلبة المخذوف وليس من ضرورة إدراكها صحة الإيمان كما في إيمان قوم يونس عليه السلام حتى يلزم من كراهته ما لا يتصور في شأن جبريل عليه السلام من الرضا بالكفر إذ لا استحالة في ترتب هذه الرحمة على مجرد التفوه بكلمة الإيمان وإن كان ذلك في حالة البأس واليأس فيحمل دسه عليه السلام على سد باب الاحتمال البعيد لكمال الغيظ وشدة الحرد انتهى.
ولا يخفى أن حمل الرحمة على الرحمة الدنيوية بعيد ويكاد يأبى عنه ما أخرجه ابن جرير. والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي جبريل عليه السلام: لو رأيتني يا محمد وأنا أغط فرعون بإحدى يدي وأدس من الحال في فيه مخافة أن تدركه رحمة الله تعالى فيغفر له» فإنه رتب فيه المغفرة على إدراك الرحمة وهو ظاهر في أنه ليس المراد بها الرحمة الدنيوية لأن المغفرة لا تترتب عليها وإنما يترتب عليها النجاة.
وقال بعض المحققين: إنما فعل جبريل عليه السلام ما فعل غضبًا عليه لما صدر منه وخوفًا أنه إذا كرر ذلك را قبل منه على سبيل خرق العادة لسعة بحر الرحمة الذي يستغرق كل شيء، وأما الرضا بالكفر فالحق أنه ليس بكفر مطلقًا بل إذا استحسن وإنما الكفر رضاه بكفر نفسه كما في التأويلات لعلم الهدى انتهى، وقد تقدم آنفًا ما يتعلق بهذه المسألة فتذكره فما في العهد من قدم، نعم قيل: إن الرضا بكفر نفسه إنما يكون وهو كافر فلا معنى لعده كفرًا والكفر حاصل قبله، وهو على ما له وما عليه بحث آخر لا يضر فيما نحن فيه.
والطيبي بعد أن أجاب بما أجاب أردف ذلك بقوله: على أنه ليس للعقل مجال في مثل هذا النقل الصحيح إلا التسليم ونسبة القصور إلى النفس، وقد يقال: إن الخبر متى خالف صريح العقل أو تضمن نسبة ما لا يتصور شرعًا في حق شخص إليه ولم يمكن تأويله على وجه يوافق حكم العقل ويندفع به نسبة النقص لا يكون صحيحًا، واتهام الراوي بما يوهن أمر روايته أهون من اتهام العقل الصريح ونسبة النقص إليه دون نسبة النقص إلى من شهد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بعصمته وكماله فتأمل والله تعالى الموفق، وقوله سبحانه: {وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} في موضع الحال من فاعل الفعل. العامل في الظرف جيء به لتشديد التوبيخ والتقريع على تأخير الإيمان إلى هذا الآن ببيان أنه لم يكن تأخيره لما عسى يعد عذرًا بل كان ذلك على طريقة الرد والاستعصاء والإفساد فإن قوله تعالى: {وَكُنتَ مِنَ المفسدين} عطف على {عَصَيْتُ} داخل في حيز الحال والتحقيق أي وقد كنت من المفسدين الغالين في الضلال والإضلال عن الإيمان فهذا عبارة عن فساده الراجع إلى نفسه والساري إلى غيره من الظلم والتعدي وصد بني إسرائيل عن السبيل والأول عن عصيانه الخاص به وقوله جل شأنه:

.تفسير الآية رقم (92):

{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)}
{فاليوم نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ} تهكم به وتخييب له وحسم لأطماعه بالمرة، والمراد فاليوم نخرجك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافيًا ملابسًا ببدنك عاريًا عن الروح إلا أنه عبر عن ذلك بالتنجية مجازًا، وجعل الجار والمجرور في موضع الحال من ضمير المخاطب لذلك مع ما فيه من التلويح بأن مراده بالإيمان هو النجاة، وقيل: معنى الحال عاريًا عن اللباس أو تام الأعضاء كاملها.
وجعل بعض الأفاضل الكلام على التجريد، وجوز أن يكون الباء زائدة وبدنك بدل بعض من ضمير المخاطب كأنه قيل: ننجي بدنك، وجعل الباء للآلة ليكون على وزان قولك أخذته بيدك ونظرته بعينك إيذانًا بحصول هذا المطلوب البعيد التناول وجه لكنه غير وجيه كما لا يخفى، وقيل: التنجية الإلقاء على النجوة وهي المكان المرتفع، قيل: وسمي به لنجاته عن السيل، وإلى هذا ذهب يونس بن حبيب النحوي، فقد أخرج ابن الأنباري. وأبو الشيخ عنه أنه قال: المعنى نجعلك على نجوة من الأرض كي يراك بنو إسرائيل فيعرفوا أنك قدمت، وجاء تفسير البدن بالدرع، وروي ذلك عن محمد بن كعب. وأبي، وكانت له درع من ذهب يعرف بها، وفي رواية أنها كانت من لؤلؤ.
وأخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن أبي جهضم موسى بن سالم أنه كان لفرعون شيء يلبسه يقال له البدن يتلألأ، وقرأ يعقوب {نُنَجّيكَ} من باب الأفعال وهو عنى التفعيل عنييه السابقين، وأخرج ابن الأنباري عن محمد بن السميقع اليماني. ويزيد البربري أنهما قرآ {ننحيك} بالحاء المهملة ونسبت إلى أبي بن كعب. وأبي السمال أي نجعلك في ناحية ونلقيك على الساحل. وقرأ أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه {بأبدانك} على صيغة الجمع بجعل كل عضو نزلة البدن فأطلق الكل على الجزء مجازًا وعلى هذا جمع الإجرام في قوله:
وكم موطن لولاي طحت كما هوى ** بإجرامه من قلة النيق منهوي

أو بإرادة دروعك بناءً على أن المخذول كان لابسًا درعًا على درع. وأخرج ابن الأنباري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ {بندائك} أي بدعائك {بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً} أي لتكون لمن يأتي بعدك من الأمم إذا سمعوا حال أمرك ممن شاهد حالك وما عراك عبرة ونكالًا من الطغيان أو حجة تدلهم على أن الإنسان وإن بلغ الغاية القصوى من عظم الشأن وعلو الكبرياء وقوة السلطان فهو مملوك مقهور بعيد عن مظان الألوهية والربوبية، وقيل: المراد بمن خلفه من بقي بعده من بني إسرائيل فهو مملوك مقهور بعيد عن مظان الألوهية والربوبية، وقيل: المراد بمن خلفه من بقي بعده من بني إسرائيل أي لتكون لهم علامة على صدق موسى عليه السلام إذ كان في نفوسهم من عظمته ما خيل إليهم أنه لا يهلك فكذبوا لذلك خبر موسى عليه السلام بهلاكه حتى عاينوه على ممرهم من الساحل أحمر قصيرًا كأنه ثور وروي هذا عن مجاهد.
وقرئ {لِمَنْ خَلْفَكَ} فعلًا ماضيًا أي حل مكانك، ونسب إلى ابن السميقع. وأبي السمال أنهما أيضًا قرآ {لِمَنْ خَلَقَكَ} بفتح اللام والقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر الآيات فإن إفراده سبحانه إياك بالإلقاء إلى الساحل دليل على أنه قصد منه جل شأنه لكشف تزويرك وإماطة الشبهات في أمرك وبرهان نير على كمال علمه وقدرته وحكمته وإرادته وهو معنى لا بأس به يصح أن توجه به الآية على القراءة المشهورة أيضًا. ذكر في النشر أن مما لا يوثق بنقله قراءة ابن السميقع. وأبي السمال {ننحيك} بالحاء و{لِمَنْ خَلَقَكَ} بالقاف، وفي تعليل تنجيته بما ذكر كما قاله بعض المحققين إيذان بأنها ليست لا عزازه أو لفائدة أخرى عائدة إليه بل لكمال الاستهانة به وتفضيحه على رؤوس الأشهاد وزيادة تفظيع حاله كمن يقتل ثم يجر جسده في الأسواق ويطرح جيفة في الميدان أو يدار برأسه في النواحي والبلدان، واللام الأولى متعلقة بالفعل قبلها والثانية حذوف وقع حالًا من {ءايَةً} أي كائنة لمن خلفك، وجاد الرد على هذا المحذوف على طرز ما أتى به في قوله: {آمنت أنه} [يونس: 90] إلخ في اشتماله على المبالغة كما لا يخفى على من تفكر في الآية، وقد قرر فحوى المحكي بقوله سبحانه: {وَإِنَّ كَثِيرًا مّنَ الناس عَنْ ءاياتنا لغافلون} أي لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها، وهو اعتراض تذييلي جيء به عند الحكاية لذلك، ولهذه الآية وأشباهها وقع الإجماع على كفر المخذول وعدم قبول إيمانه، ويشهد لذلك أيضًا ما رواه ابن عدي. والطبراني من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله تعالى يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنًا وخلق فرعون في بطن أمه كافرًا» فهو من أهل النار المخلدين فيها بلا ريب وبذلك قال الشيخ الأكبر قدس سره في أول كتابه الفتوحات في الباب الثاني والستين منه حيث ذكر أن الذين خلذهم الله تعالى من العباد جعلهم طائفتين، طائفة لا تضرهم الذنوب التي وقعت منهم واليهم الإشارة بقوله تعالى: {والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268] وهؤلاء لا تمسهم النار بما تاب الله تعالى عليه واستغفار الملأ الأعلى ودعائهم لهم.
وقسم الطائفة الأخرى إلى قسمين قسم أخرجهم من النار بالشفاعة وهم طائفة من المؤمنين وأهل التوحيد ماتوا ولم تكفر عنهم خطاياهم، وقسم آخر أبقاهم في النار وهم المجرمون خاصة الذين يقال لهم يوم القيامة: {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} [يس: 59] ولهم يقال: أهل النار لأنهم الذين يعمرونها، وهم على أربع طواثف كلهم في النار لا يخرجون منها. الطائفة الأولى المتكبرون على الله تعالى كفرعون وأشباهه ممن ادعى الربوبية لنفسه ونفاها عن الله تعالى فقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى} [القصص: 38] وقال: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى} [النازعات: 24] يريد به ما في السماء غيري وكذلك نمروذ وغيره.
والثانية المشركون وهم الذين أثبتوا الله تعالى إلا أنهم جعلوا معه آلهة أخرى وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى} [الزمر: 3] والثالثة المعطلة وهم الذين نفوا إلا له جملة واحدة فلم يثبتوا للعالم الها أصلًا. والرابعة المنافقون وهم الذين أظهروا الإيمان للقهر الذي حكم عليهم وهم في نفوسهم على ما هم عليه من اعتقاد إحدى هذه الطوائف الثلاث فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل النار الذين لا يخرجون منها من الجن والانس انتهى. وهو صريح فيما قلنا إلا أنه ذهب في موضع آخر من الكتاب المذكور إلى خلافه فقال في الباب السابع والستين ومائة ما حاصله:
إن الله تعالى لما علم أنه قد طبع على كل قلب مظهر للجبروت والكبرياء وأن فرعون في نفسه أذل الاذلاء أمر موسى وهارون عليهما السلام أن يعاملاه بالرحمة واللين لمناسبة باطنه واستنزال ظاهره من جبروته وكبريائه فقال سبحانه: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] ولعل وعسى من الله تعالى واجبتان فتذكر بما يقابله من اللين والمسكنة ما هو عليه في باطنه ليكون الظاهر والباطن على السواء فما زالت تلك الخميرة معه تعمل في باطنه مع الترجي الإلهي الواجب فيه وقوع المترجى ويتقوى حكمها إلى حين انقطاع يأسه من أتباعه وحال الغرق بينه وبين اطماعه لجأ إلى ما كان مستترًا في باطنه من الذلة والافتقار ليتحقق عند المؤمنين وقوع الرجاء الإلهي فقال: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} [يونس: 90] فرفع الاشكال من الاشكال كما قالت السحرة لما آمنت: {بِرَبّ العالمين رَبّ رَبّ موسى وهارون} [الأعراف: 121، 122] أي الذي يدعوان إليه فجاءت بذلك لدفع الارتياب ورفع الأشكال، وقوله: {وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} خطاب منه للحق تعالى لعلمه أنه سبحانه يسمعه ويراه فخاطبه الحق بلسان الغيب وسمعه آلآن أظهرت ما قد كنت تعلمه {وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} لـ [يونس: 91] أتباعك، وما قال له وَأَنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فهي كلمة بشرى له عرفنا بها لنرجو رحمته مع إسرافنا وإجرامنا ثم قال سبحانه: {فاليوم نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً} يعني لتكون النجاة لمن يأتي بعدك آية أي علامة إذا قال ما قلته تكون له النجاة مثل ما كانت لك، وما في الآية أن بأس الآخرة لا يرتفع وأن إيمانه لم يقبل وإنما فيها أن بأس الدنيا لا يرتفع عمن نزل به إذا آمن في حال نزوله الأقوم يونس عليه السلام فقوله سبحانه: {فاليوم نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ} عنى أن العذاب لا يتعلق إلا بظاهرهك وقد أريت الخلق نجاته من العذاب فكان ابتداء الغرق عذابًا فصار الموت فيه شهادة خالصة بريئة لم يتخللها معصية فقبض على أفضل عمل وهو التلفظ بالإيمان كل ذلك حتى لا يقنط أحد من رحمة الله تعالى والأعمال بخواتيمها فلم يزل الإيمان بالله تعالى يجول في باطنه وقد حال الطابع الإلهي الذاتي في الخلق بين الكبرياء واللطائف الإنسانية فلم يدخلها قط كبرياء، وأما قوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85] فكلام محقق في غاية الوضوح فإن النافع هو الله تعالى فما نفعهم إلا هو سبحانه، وقوله عز وجل: {سُنَّةَ الله التي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر: 85] فيعنى بذلك الإيمان عند رؤية البأس الغير المعتاد، وقد قال تعالى: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السموات والأرض طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15] فغاية هذا الإيمان أن يكون كرهًا وقد أضافه الحق سبحانه إليه والكراهة محلها القلب والإيمان كذلك والله تعالى لا يأخذ العبد بالأعمال الشاقة عليه من حيث ما يجده من المشقة فيها بل يضاعف له فيها الأجر، وأما في هذا الموطن فالمشقة منه بعيدة بل جاء طوعًا في إيمانه وما عاش بعد ذلك بل قبض ولم يؤخر لئلا يرجع إلى ما كان عليه من الدعوى ولو قبض ركاب البحر الذين قال سبحانه فيهم: {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] عند نجاتهم لماتوا موحدين وقد حصلت لهم النجاة، ثم قوله تعالى في تتميم قصته هذه: {فاليوم نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً} على معنى قد ظهرت نجاتك آية أي علامة على حصول النجاة فغفل أكثر الناس عن هذه الآية فقضوا على المؤمن بالشقاء، وأما قوله تعالى: {فَأَوْرَدَهُمُ النار} [هود: 98] فليس فيه أنه يدخلها معهم بل قال جل وعلا: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46] ولم يقل أدخلوا فرعون وآله، ورحمة الله تعالى أوسع من أن لا يقبل إيمان المضطر وأي اضطرار أعظم من اضطرار فرعون في حال الغرق؟ والله تبارك وتعالى يقول: {أَم مَّنْ يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السوء} [النمل: 62] فقرن للمضطر إذ دعاه بالإجابة وكشف السوء عنه، وهذا آمن من لله تاعلى خالصًا وما دعاه في البقاء في الحياة الدنيا خوفًا من العوارض وأن يحال بينه وبين هذا الإخلاص الذي جاءه في هذه الحال فرجح جانب لقاء الله تعالى على البقاء بالتلفظ بالإيمان وجعل ذلك الغرق نكال الآخرة والأولى فلم يكن عذابه أكثر من غم الماء الاجاج وقبضه على أحسن صفة، وهذا هو الذي يعطيه ظاهر اللفظ وهو معنى قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يخشى}
[النازعات: 26] يعني في أخذه نكال الآخرة والأولى.
وقدم سبحانه: ذكر الآخرة على الأولى ليعلم أن ذلك العذاب أعني عذاب الغرق هو نكال الآخرة وهذا هو الفصل العظيم انتهى، وهو نص في إيمانه بل في كونه من الشهداء بناء على أن الموت غرقًا شهادة للمؤمنين كما أجمع عليه أئمة الدين على خلاف في موت من قصر في تعلم السباحة غريقًا هل يهد شهادة أم لا؟ فإن بعض الشافعية ذهب إلى أن المقصر المذكور إذا مات غريقًا مات عاصيًا لا شهيدًا، وإنما الشهيد من مات كذلك وكان عارفًا بالسباحة أو غير مقصر في تعلمها لكن لم يتعلم وكأن الشيخ قدس سره لا يقول بهذا التفصيل أو كان يعلم أن فرعون كان ممن يعلم السباحة أو ممن لم يقصر في تعلمها أو أنه يقول: إن الإيمان كفر عنه كل معصية قبله ومن جملة ذلك معصية التقصير مثلًا التي هي دون قوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى} [النازعات: 24] و{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى} [القصص: 38] بألف ألف مرتبة لكن لا أدري هل الغريق شهيد في شريعة موسى عليه السلام كما هو كذلك في شريعتنا أم هذا هلأمر من خواص هذه الشريعة التي أنعم الله تعالى على أهلها بما أنعم كرامة لنبيها صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب قدس سره في كتابه فصوص الحكم إلى نحو ما ذهب إليه أخيرًا في كتابه الفتوحات، وقد اعترض عليه بذلك غير واحد وهو عندي ليس بأعظم من قوله قدس سره بإيمان قوم نوح عليه السلام وكثير من اضرابهم ونجاتهم يوم القيامة وقد نص على ذلك في الفصوص، والعجب أنه لم يكثر معترضوه في ذلك كثرتهم في القول بإيمان فرعون؛ وقد انتصر له بعض الناس ومنهم في المشهور الجلال الدواني وله رسالة في ذلك أتى فيها بما لا يعد شيئًا عند أصاغر الطلبة، لكن في تاريخ حلب للفاضل الحلبي كما قال مولانا الشهاب أنها ليست للجلال وإنما هي لرجل يسمى محمد بن هلال النحوي وقد ردها القزويني وشنع عليه وقال: إنما مثله مثل رجل خامل الذكر لما قدم مكة بال في زمزم ليشتهر بين الناس، وفي المثل خالف تعرف، ويؤيد كونها ليست للجلال أنه شافعي المذهب كما يشهد لذلك حاشيته على الأنوار. وفي فناوي ابن حجر أن بعض فقهائنا كفر من ذهب إلى إيمان فرعون مع ما عليه تلك الرسالة من اختلال العبارة وظهور الركاكة وعدم مشابهتها لسائر تأليفاته، ولولا خوف الاطالة لسردتها عليك، وبالجملة ظواهر الآي صريحة في كفرفرعون وعدم قبول إيمانه، ومن ذلك قوله سبحانه: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مّن مساكنهم وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ وقارون وَفِرْعَوْنَ وهامان وَلَقَدْ جَاءهُمْ موسى بالبينات فاستكبروا فِي الأرض وَمَا كَانُواْ سابقين فَكُلًا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}
[العنكبوت: 38-40] فإنه ظاهر في استمرار فرعون على الكفر والمعاصي الموجبة لما حل به كما يدل عليه التعبير بكان والفعل المضارع ومع الإيمان لا استمرار، على أن نظمه في سلك من ذكر معه ظاهر أيضًا في المدعى. وألحق بعضهم بذلك قوله تعالى: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ} [طه: 39] بناء على أن {عَدُوٌّ} صفة مشبهة وهي للثبوت فيدل على ثبوت عداوته لله تعالى وعداوته لرسوله عليه السلام وثبوت احدى العداوتين كاف في سوء حاله خلافًا لمن وهم، وقد صرحوا أيضًا بأن إيمان البأس واليأس غير مقبول ولا شك أن إيمان المخذول كان من ذلك القبيل وإنكاره مكابرة، وقد حكى إجماع الأئمة المحتهدين على عدم القابول ومستندهم فيه الكاتب والسنة، وما ينقل عن الإمام مالك من القبول لم يثبت عند المطلعين على أقوال المجتهدين واختلافاتهم. نعم صرح الإمام القاضي عبد الصمد من ساداتنا الحنفية في تفسيره بأن مذهب الصوفية أن الإيمان ينتفع به ولو عند معاينة العذاب، وهذا الإمام متقدم على الشيخ الأكبر قدس سره بنحو مائة سنة، وحينئذ تشكل حكاية الإجماع إلا أن يقال: بعدم تسليم صحة ذلك عن الصوفية الذين هم من أهل الاجتهاد المعول عليهم لما فيه من المخالفة للأدلة الظاهرة في عدم النفع فلا يخل ذلك بالإجماع بالاجماع. وفي الزواجر أنه على تقدير التسليم لا يضرنا ذلك في دعوى إجماع الأمة على كفر فرعون لأنا لم نحكم بكفره لأجل إيمانه عند البأس فحسب بل لما انضم إليه من أنه لم يؤمن بالله تعالى إيمانًا صحيحيًا بل كان تقليدًا محضًا بدليل قوله: {لا إله إِلاَّ الذي ءامَنَتْ إسراءيل} [يونس: 90] فكأنه اعترف بأنه لا يعرف الله تعالى وإنما سمع من بني إسرائيل أن للعالم إلهًا فآمن بذلك الإله الذي سمع بني إسرائيل يقرون بوجوده وهذا هو محض التقليد الذي لا يقبل لاسيما من مثل فرعون الذي كان دهريًا منكرًا لوجود الصانع فإنه لابد له من برهان قطعي يزيل ما هو عليه من الاعتقاد الخبيث البالغ نهاية القبح والفحش، وأيضًا لابد في إسلام الدهري ونحوه ممن كان قد دان بشيء أن يقر ببطلان ذلك الشيء الذي كفر به فلو قال: آمنت بالذي لا إله غيره لم يكن مسلمًا، وفرعون لم يعترف ببطلان ما كان كفر به من نفى الصانع وادعاء الإلهية لنفسه الخبيثة، وقوله: {لا إله إِلاَّ الذي ءامَنَتْ إسراءيل} [بونس: 90] لا يدري ما الذي أراد به فلذا صرح الأئمة بأن آمن بالذي لا إله غيره لا يحصل الإيمان للاحتمال فكذا ما قاله، وعلى التنزل فالإجماع منعقد على أن الإيمان بالله تعالى مع عدم الإيمان بالرسول لا يصح فلو سلمنا أن فرعون آمن بالله تعالى إيمانًا صحيحًا فهو لم يؤمن وسى عليه السلام ولا تعرض له أصلًا فلم يكن إيمانه نافعًا، ألا ترى أن الكافر لو قال ألوفًا من المرات أشهد أن لا إله إلا الله أو إلا الذي آمن به المسلمون لا يكون مؤمنًا حتى يقول وان محمدًا رسول الله.
والسحرة تعرضوا في إيمانهم للإيمان وسى عليه السلام بقولهم: {بِرَبّ العالمين رَبّ رَبّ موسى وهارون} [الأعراف: 121-122] فلا يقال: إن إيمان فرعون على طرز إيمانهم لذلك على أن إيمانهم حين آمنوا كان عجزة موسى عليه السلام والإيمان بالله تعالى مع الإيمان عجزة الرسول إيمان بالرسول فهم آمنوا. وسى عليه السلام بخلاف فرعون فإنه لم يتعرض للإيمان به عليه السلام أصلًا بل في ذكره بني إسرائيل دونه مع أنه الرسول العارف بالاله وما يليق به والهادي إلى طريقه إشارة ما إلى بقائه على كفره به. وما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره في توجيه آية {حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الغرق} [يونس: 90] إلخ خارج عن ذوق الكلام العربي وتجشم تكلف لا معنى له، ويرشد إلى بعض ذلك أنه قدس سره حمل قوله تعالى: {ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ} [يونس: 91] إلخ على على العتب والبشرى، مع أنه لا يحفى أنه لو صح إيمانه وإسلامه لكان الأنسب قام الفضل الذي إليه طمح نظر الشيخ أن يقال له: الآن نقبلك ونكرمك لاستلزام صحة إيمانه رضا الحق عنه ومن وقع له الرضا لا يخاطب ثل ذلك الخطاب كما لا يخفى على من له وقوف على أساليب كلام العرب ومحاوراتهم، وأيضًا كيف يخاطب من محا الإيمان عصيانه وافساده بما هو ظاهر في التأنيب المحض والتقريع الصرف والتوبيخ البحت فما ذلك إلا لإقامة أعظم نواميس الغضب عليه وتذكيره بقبائحه التي قدمها وإعلامه بأنها هي التي منعته عند النطق بالإيمان إلى حيث لا ينفعه وكذا تأويله {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم} [غافر: 85] بأن النافع هو الله تعالى مع أن اصطلاح الكتاب والسنة نسبة الأشياء إلى أسبابها إيجابًا وسلبًا، فإذا قيل: لا ينفع الإيمان فليس معناه الشرعي إلا الحكم عليه بأنه باطل لا يعتد به؛ وأي معنى سوغ تخصيص نفع الله تعالى بهذه الحالة التي هي حالة وقوع العذاب مع النظر إلى ما هو الواقع من أن الله تعالى هو النافع حقيقة في كل وقت ولو نفعهم لما استأصلهم بالعذاب، وقوله تعالى: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون} [غافر: 78] دليل واضح على أن المراد {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم} [غافر: 85] أنهم باقون مع ذلك الإيمان على الكفر إلى غير ذلك مما لا يخفى على النظر في كلامه قدس سره، فالذي ينبغي أن يعول عليه ما ذهب أولا إليه، وقد قالوا: إذا اختلف كلام إمام يؤخذ منه بما يوافق الأدلة الظاهرة ويعرض عما خالفها، ولا شك أن ما ذهب إليه أولًا هو الموافق لذلك، على أنه لو لم يكن له قدس سره إلا القول بقبول إيمانه لا يلزمنا اتباعه في ذلك والأخذ به لمخالفته ما دل عليه الكتاب والسنة وشهدت به أئمة الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المجتهدين، وجلالة قائله لا توجب القبول، فقد قال مالك.
وغيره: ما من أحد إلا مأخوذ من قوله ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وعن على كرم الله تعالى وجهه: لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال، وكأن الشيخ قدس سره قال ذلك من طريق النظر والنظر يخطئ ويصيب، ومن علم أن للنبي عليه الصلاة والسلام اجتهادًا جاء الوحي بخلافه لم يستعظم ما قيل في الشيخ وان كان هو هو على أنه لو كان قال ذلك من طريق الكشف إلا أنه أبدي الاستدلال تفهيمًا وإرشادًا إلى أن فهمه لم يخالف ما يدل عليه الكاتب لم يلزمنا أيضًا تقليده بل قد مر عن الإمام الرباني قدس سره أنه لا يجوز تقليد الكشف، وصرح غير واحد بأنه ليس بحجة على الغير كالإلهام ولا يثبت به حكم شرعي. وأنت تعلم أنه لو كان كل من القولين من طريق الكشف يلزم انقسام الكشف إلى صواب وخطأ كالنظر ضرورة عدم اجتماع الإيجاب والسلب على الكذب ولا على الصدق وهو ظاهر، وقد قال بعضهم: بالانقسام ويخفى وجهه، ومن الناس من أول كلام الشيخ المثبت لقبول الإيمان بأن المراد بفرعون فيه النفس الأمارة ووسى وهارون المأمورين بالقول اللين موسى الروح وهارون القلب وأخذ يقرر الكلام على هذا السنن، ولا يخفى أن ارتكاب ذلك على ما فيه من التكلف الظاهر الكلف في كلام الشيخ ما يأباه، ولعله خلاف مطمح نظره ولذلك لم يرتكبه أجلة أصحابه بل أبقوا كلامه على ظاهره وهو الظاهر، واكفار بعض المنكرين له فيه ضلال وأي ضلال وظلم عظيم موجب للنكال، فإن له قدس سره في ذلك مستندًا كغيره المقابل له وان اختلفا في القوة والضعف، على أن الوقوف على حقيقة هذه المسألة ليس مما كلفنا به فلا يضر الجهل بها في الدين والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.