فصل: تفسير الآية رقم (45):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (45):

{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)}
{وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ} أي أراد ذلك بدليل تفريع قوله سبحانه: {فَقَالَ رَبّ إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى} عليه، وقيل: النداء على حقيقته والعطف بالفاء لكون حق التفصيل يعقب الإجمال {وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق} أي وإن وعدك ذلك أوكل وعد تعده حق لا يتطرق إليه خلف فيدخل فيه الوعد المعهود دخولًا أوليًا.
{وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} لأنك أعلمهم وأعدلهم، وقد ذكر أنه إذا بني أفعل من الشيء الممتنع من التفضيل والزيادة يعتبر فيما يناسب معناه معنى الممتنع، وقال العز بن عبد السلام في أماليه: إن هذا ونحوه من أرحم الراحمين وأحسن الخالقين مشكل لأن أفعل لا يضاف إلا إلى جنسه، وهنا ليس كذلك لأن الخلق من الله سبحانه عنى الإيجاد ومن غيره عنى الكسب وهما متباينان يعني على المشهور من مذهب الأشاعرة، والرحمة من الله تعالى إن حملت على الإرادة أو جعلت من مجاز التشبيه صح وإن أريد إيجاد فعل الرحمة كان مشكلًا أيضًا إذ لا موجد سواه سبحانه، وأجاب الآمدي بأنه عنى أعظم من يدعي بهذا الاسم، واستشكل بأن فيه جعل التفاضل في غير ما وضع اللفظ بإزائه وهو يناسب مذهب المعتزلة فافهم، وقيل: المعنى هنا أنك أكثر حكمة من ذوي الحكم على أن الحاكم من الحكم كالدارع من الدرع، واعترض عليه بأن الباب ليس بقياسي وأنه لم يسمع حاكم عنى حكيم وأنه لا يبنى منه أفعل إذًا لأنه ليس جاريًا على الفعل لا يقال: ألبن وأتمر من فلان إذ لا فعل بذلك المعنى، والجواب بأنه قد كثر في كلامهم فجوز على أن يكون وجهًا مرجوحًا وبأنه من قبيل أحنك الشاتين لا يخلو عن تعسف كما في الكشف، وتعقب بأن للحكمة فعلا ثلاثيًا وهو حكم، وأفعل من الثلاثي مقيس، وأيضًا سمع احتنك الجراد. وألبن. وأتمر فغايته أن يكون من غير الثلاثي ولا يخفى ما فيه، ومنهم من فسره على هذا بأعلمهم بالحكمة كقولهم؛ آبل من أبل عنى أعلم. وأحذف بأمر الإبل، وأيًا مّا كان فهذا النداء منه عليه السلام يقطر منه الاستعطاف، وجميل التوسل إلى من عهده منعًا مفضلًا في شأنه أولًا وآخرًا وهو على طريقة دعاء أيوب عليه السلام {إِذْ نادى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ} [الأنبياء: 83] فيكون ذلك قبل الغرق، والواو لا تقتضي الترتيب، وقيل: إن النداء إنما كان بعده والمقصود منه الاستفسار عن سبب عدم إنجائه مع سبق وعده تعالى بإنجاء أهله وهو منهم، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبًا تمام الكلام في ذلك.

.تفسير الآية رقم (46):

{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)}
{وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ} استئناف بياني كأنه قيل، ما قال له ربه سبحانه حين ناداه بذلك؟ فقيل: قال: {قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي ليس منهم أصلا لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية وقد انقطعت بالكفر فلا علاقة بين مسلم وكافر ولذا لم يتوارثا، وقد ذكروا أن قرابة الدين أقرب من قرابة النسب كما أشار إلى ذلك أبو فراس بقوله:
كانت مودة سلمان له نسبا ** ولم يكن بين نوح وابنه رحم

أو {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} الذين أمرتك بحملهم في الفلك لخروجه عنه بالاستثناء، وحكى هذا عن ابن جرير. وعكرمة، والأول عن ابن عباش رضي الله تعالى عنهما؛ وعلى القولين ليس هو من الذين وعد بإنجائهم، وكأنه لما كان دعاؤه عليه السلام بتذكير وعده جل ذكره مبنيًا على كون كنعان من أهله نفى أولا كونه منهم، ثم علل عدم كونه منهم على طريقة الاستئناف التحقيقي بقوله سبحانه: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح} وأصله إنه ذو عمل فاسد فحذف ذو للمبالغة بجعله عين عمله لمداومته عليه، ولا يقدر المضاف لأنه حينئذ تفوت المبالغة المقصودة منه، ونظير ذلك ما في قول الخنساء ترثي أخاها صخرًا:
ما أم سقب على بو تحن له ** قد ساعدتها على التحنان آظار

ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت ** فإنما هي إقبال وإدبار

يومًا بأوجع مني حين فارقني ** صخر وللعيش إحلاء وإمرار

وأبدل فاسد بغير صالح إما لأن الفاسد را يطلق على ما فسد ومن شأنه الصلاح فلا يكون نصًا فيما هو من قبيل الفاسد المحض كالمظالم، وإما للتلويح بأن نجاة من نجاة إنما هو لصلاحه.
وقرأ الكسائي. ويعقوب {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح} على صيغة الفعل الماضي، ونصب {غَيْرِ} وهي قراءة على كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس. وأنس. وعائشة، وقد روتها هي وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل عمل عملًا غير صالح، وبه قرء أيضًا كما روي عن عكرمة فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه، وذلك شائع مطرد عند انكشاف المعنى وزوال اللبس، وضعفه بعضهم هنا بأن العرب لا تكاد تقول: {عَمَلٌ غَيْرُ صالح} وإنما تقول عمل عملًا غير صالح، وليس بشيء، وأيد بهذه القراءة كون ضمير إنه في القراءة الأولى لابن نوح لأنه فيها له قطعًا فيضعف ما قيل: إنه في الأولى لترك الركوب معهم والتخلف عنهم أي إن ذلك الترك {عَمَلٌ غَيْرُ صالح} على أنه خلاف الظاهر في نفسه كما لا يخفى. ومثله في ذلك ما قيل: إنه لنداء نوح عليه السلام أي إن نداءك هذا {عَمَلٌ غَيْرُ صالح} وتخرج بذلك الجملة عن أن تكون تعليلًا لما تقدم ويفوتما في ذاك من الفائدة ولا يكون الكلام على مساق واحد، نعم روي عن ابن عباس ما يقتضيه فقد أخرج ابن أبي حاتم.
وأبو الشيخ عنه أنه قال: إن نساء الأنبياء عليهم السلام لا يزنين، ومعنى الآية مسألتك إياي يا نوح {عَمَلٌ غَيْرُ صالح} لا أرضاه لك.
وفي رواية ابن جرير عنه سؤال ما ليس لك به علم عمل غير صالح، ولعل ذلك لم يثبت عن هذا الحبر لأن الظاهر من الرواية الأولى أنه إنما جعل الضمير للمسألة دون ابن نوح لما في ذلك من نسبة الزنا إلى من لا ينسب إليه وهو رضي الله تعالى عنه أجل قدرًا من أن يخفى عليه أنه لا يلزم من ذلك هذا المحذور، ثم إنه لما كان دعاؤه عليه السلام مبنيًا على كون كنعان من أهله وقد نفى ذلك وحقق ببيان علته فرع على ذلك النهي عن سؤال إنجائه إلا أنه جيء بالنهي على وجه عام يندرج فيها ما ذكر اندراجًا أوليًا فقال سبحانه: {فَلا} أي إذا وقفت على جلية الحال فلا تطلب مني {تَسْأَلْنِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي مطلبًا لا تعلم يقينًا أن حصوله صواب وموافق للحكمة على تقدير كون {مَا} عبارة عن المسؤول الذي هو مفعول للسؤال أو طلبًا لا تعلم أنه صواب على تقدير كونه عبارة عن المصدر الذي هو مفعول مطلق فيكون انلهي واردًا بصريحه في كل من معلوم الفساد ومشتبه الحال قاله شيخ الإسلام، وجوز أن يكون ما ليس لك علم بأنه صواب أو غير صواب وهو الذي ذهب إليه القاضي فيكون النهي واردًا في مشتبه الحال ويفهم منه حال معلوم الفساد بالطريق الأولى، وأيًا مّا كان فهو عام يندرج تحته ما نحن فيه كما ذكرنا، وسمي النداء سؤال لتضمنه إياه وإن لم يصرح به كما لا يخفى، وبه على ما نقل عن أبي علي إما متعلق بما يدل عليه العلم المذكور وإن لم يتسلط عليه كقوله:
ربيته حتى إذا تمعددا ** كان جزائي بالعصا أن أجلدا

وإما أن يتعلق بالمستقر في ذلك وكذا الكلام فيما سيأتي إن شاء الله تعالى، والآية ظاهرة في أن نداءه عليه السلام لم يكن استفسارًا عن سبب عدم إنجائه مع تحقق سبب الإنجاء فيما عنده كما جوزه القاضي بناءًا على أنه كان بعد الفرق بل هو دعاء منه عليه السلام لانجاء ابنه حين حال الموج بينهما ولم يعلم بهلاكه بعد إما بتقريبه إلى الفلك بتلاطم الأمواج مثلًا أو بتقريبها إليه، وقيل: أو بإنجائه بسبب آخر ويأباه تذكير الوعد في الدعاء فإنه مخصوص بالإنجاء في الفلك، ومجرد حيلولة الموج لا يستوجب الهلاك فضلًا عن العلم به لظهور إمكان عصمة لله تعالى عليه إياه برحمته، وقد وعده بإنجاء أهله ولم يعتقد أن فيه مانعًا من الانتظام في سلكهم لمكان النفاق وعدم المجاهرة بالكفر لما في ذلك لفظًا من الاحتياج إلى القول بالحذف والايصال، ومعنى من أن النهي عن الاستفسار عما لا يعلم غير موافق للحكمة إذ عدم العلم بالشيء داع إلى الاستفسار عنه لا إلى تركه.
وقيل: إن السؤال عن موجب عدم النجاة مع ما فيه من الجرأة، وشبه الاعتراض فيه أنه تعين له عليه السلام أنه من المستثنين بهلاكه فهو غير سديد كيف ونداؤه ذاك مما يقطر منه الاستعطاف.
وقيل: إن النهي إنما هو عن سؤال ما لا حاجة إليه إما لأنه لا يهمّ أو لأنه قامت القرائن على حاله لا عن السؤال للاسترشاد فلا ضير إذن في كلام القاضي وهو كما ترى.
ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر

فالحق أن ذلك مسألة الانجاء، وكان قبل تحقق الغرق عند رؤية المشارفة عليها ولم يكن عالمًا بكفره إذ ذاك لأنه لم يكن مجاهرًا به وإلا لم يدع له بل لم يدعه أيضًا {وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} [هود: 24] لا يدل على أنه كافر عنده بل هو نهي عن الدخول في غمارهم، وقطع بأن ذلك يوجب الغرق على الطريق البرهاني كما قدمنا، وكأنه عليه السلام حمل مقاولته على غير المكابرة والتعنت لغلبة المحبة وذهوله عن إعطاء التأمل حقه فلذلك طلب ما طلب، فعوتب بأن مثله في معرض الإرشاد والقيام بأعباء الدعوة تلك المدة المتطاولة لا ينبغي أن يشتبه عليه كلام المسترشد والمعاند، ويرجع هذا إلى ترك الأولى، وهو المراد بقوله سبحانه: {إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين}.
وذكر شيخ الإسلام أن اعتزاله قصده الالتجاء إلى الجبل ليس بنص في الإصرار على الكفر لظهور جواز أن يكون ذلك لجهله بانحصار النجاة في الفلك، وزعمه أن الجبل أيضًا يجري مجراه أو لكراهة الاحتباس في الفلك بل قوله: {سَاوِى إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الماء} [هود: 43] بعد ما قال له نوح {وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} را يطمعه عليه السلام في إيمانه حيث لم يقل أكون معهم أو سنأوي أو يعصمنا فإن إفراد نفسه بنسبة الفعلين المذكورين را يشعر بانفراده من الكافرين واعتزاله عنهم وامتثاله ببعض ما أمره به نوح عليه السلام إلا أنه عليه السلام لو تأمل في شأنه حق التأمل وتفحص عن أحواله في كل ما يأتي وما يذر لما اشتبه عليه أنه ليس ؤمن وأنه مستثنى من أهله ولذلك قيل له: {إِنّى} إلخ، وهو ظاهر في أن مدار العتاب الاستباه كما ذكرنا، وإليه ذهب الزمخشري قال: إن الله تعالى قدم إليه عليه السلام الوعد بانجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم فكان عليه أن يعتقد أن في الجملة من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح وأن كلهم ليسوا بناجين وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثني منهم فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه، وكأنه أراد أن الاستثناء دل على أن المعنى المعتبر الصلاح لا القرابة فكان ينبغي أن يجعله الأصل ويتفحص في الأهل عن وجوده، وأن يجعل كلهم سواسية في استحقاق العذاب إلا من علم صلاحه وإيمانه لا أن يجعل كونه من الأهل أصلًا فيسأل إنجاءه مع الشك في إيمانه فقد قصر فيما كان عليه بعض التقصير وأولى العزم مؤاخذون بالنقير والقطمير وحسنات الأبرار سيئات المقربين، وابن المنير لم يرض كون ذلك عتابًا قال: وفي كلام الزمخشري ما يدل على أنه يعتقد أن نوحًا عليه السلام صدر منه ما أوجب نسبة الجهل إليه ومعاتبته على ذلك وليس الأمر كما تخيله، ثم قال: ونحن نوضح أن الحق في الآية منزلًا على نصها مع تبرئة نوح عليه السلام مما توهم الزمخشري نسبته إليه فنقول: لما وعد عليه السلام بتنجية أهله إلا من سبق عليه القول منهم ولم يكن كاشفًا لحال ابنه ولا مطلعًا على باطن أمره بل كان معتقدًا بظاهر الحال أنه مؤمن بقي على التمسك بصيغة العموم للأهلية الثابتة ولم يعارضها يقين في كفر ابنه حتى يخرج من الأهل ويدخل في المستثنين فسأل الله تعالى فيه بناءًا على ذلك فبين له أنه في علمه من المستثنين وأنه هو لا علم له بذلك فلذلك سأل فيه، وهذا بأن يكون إقامة عذر أولى منه من أن يكون عتبا فإن نوحًا عليه السلام لا يكلفه الله تعالى علم ما استأثر به غيبًا؛ وأما قوله سبحانه: {إِنّى أَعِظُكَ} إلخ فالمراد النهي عن وقوع السؤال في المستقبل بعد أن أعلمه سبحانه باطن أمره وأنه إن وقع في المستقبل في السؤال كان من الجاهلين، والغرض من ذلك تقديم ما يبقيه عليه السلام على سمت العصمة، والموعظة لا تستدعي وقوع ذنب بل المقصد منها أن لا يقع الذنب في الاستقبال ولذلك امتثل عليه السلام ذلك واستعاذ بالله سبحانه أن يقع منه ما نهى عنه كما يدل عليه قوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (47):

{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)}
{قَالَ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ} ولا يخفي سقوطه على ما علمت وهو خلاف الظاهر جدًا، وقد جاء عن الفضيل بن عياض أنه قال: بلغني أن نوحًا عليه السلام بكى عن قول الله تعالى له ما قال أربعين يومًا، وأخرج أحمد في الزهد عن وهيب بن الورد الحضرمي قال: لما عاتب الله تعالى نوحًا في ابنه وأنزل عليه {إِنّى أَعِظُكَ} [هود: 46] بكى ثلثمائة عام حتى صار تحت عينيه مثل الجدول من البكاء.
وزعم الواحدي أن السؤال قبل الغرق ومع العلم بكفره، وذلك أن نوحًا عليه السلام لم يعلم أن سؤاله ربه نجاة ولده محظور عليه مع إصراره على الكفر حتى أعلمه الله تعالى ذلك، واعترض بأنه إذا كان عالمًا بكفره مع التصريح بأن في أهله من يستحق العذاب كان طلب النجاة منكرًا من المناكير فتدبر، والظاهر على ما قررنا أن قوله: {رَبّ} إلخ توبة مما وقع منه عليه السلام وما هنا أيضًا عبارة إما عن المسؤول أو عن السؤال أي أعوذ بك أن أطلب منك من بعد مطلوبًا لا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة أو طلبًا لا أعلم أنه صواب سواء كان معلوم الفساد أو مشتبه الحال، أولا أعلم أنه صواب أو غير صواب، ولم يقل أعوذ بك منك أو من ذلك مبالغة في التوبة وإظهارًا للرغبة والنشاط فيها وتبركا بذكر ما لقنه الله تعالى وهو أبلغ من أن يقول: أتوب إليك أن أسألك لما فيه من الدلالة على كون ذلك أمرًا هائلًا محذورًا لا محيص منه إلا بالعوذ بالله تعالى وأن قدرته عليه السلام قاصرة عن النجاة من المكاره إلا بذلك كما في إرشاد العقل السليم، واحتمال أن يكون فيه رد وإنكار نظير ما في [البقرة: 67] من قول موسى عليه السلام {أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين} مما لا يكاد يمر بفكر أحد من الجاهلين.
هذا وفي مصحف ابن مسعود {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح} أن تسألني، ورجح به كون ضمير {أَنَّهُ} في القراءة المتواترة للنداء المتضمن للسؤال، وقرأ ابن كثير {فَلاَ تَسْأَلْنى} بفتح اللام وتشديد النون مفتوحة وهي قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكذا قرأ نافع. وابن عامر غير أنهما كسرا النون على أن أصله تسألنني فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت الشديدة للياء ثم حذفت الياء اكتفاءًا بالكسرة، وقرأ أبو جعفر. وشيبة. وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما كذلك إلا أنهم أثبتوا الياء بعد النون وأمره ظاهر، وقرأ الحسن. وابن أبي مليكة {تَسْأَلْنى} من غير همز من سال يسال فهما يساولان، وهي لغة سائرة، وقرأ باقي السبعة بالهمز وإسكان اللام وكسر النون وتخفيفها.
وأثبت الياء في الوصل ورش. وأبو عمرو، وحذفها الباقون {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى} ما صدر عني من السؤال المذكور {وَتَرْحَمْنِى} بقبول توبتي {أَكُن مّنَ الخاسرين} أعمالًا بسبب ذلك وتأخير ذكر هذا عن حكاية الأمر الوارد على الأرض والسماء وما يتلوه مع أن حقه أن يذكر عقيب قوله سبحانه: {فَكَانَ مِنَ المغرقين} [هود: 43] حسا وقع في الخارج على ما علمت من أن النداء كان لطلب الإنجاء قبل العلم بالهلاك قيل: ليكون على أسلوب قصة البقرة في سورتها دلالة على استقلال هذا المعنى بالغرض لما فيه من النكت من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب وأن لا يقدم في الأمور الدينية الأصولية إلا بعد اليقين، وتعقب بالفرق بين ما هنا وما هناك عند من كان ذا قلب، وما ذكر من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب إلخ لا يفوت على تقديرسوق الكلام على ترتيب الوقوع أيضًا.
واختار بعض المحققين أن ذلك لأن ذكر هذا النداء كما ترى مستدع لما مر من الجواب المستدعي لذكر توبته عليه السلام المؤدي إلى ذكر قبولها في ضمن الأمر بهبوطه عليه السلام من الفلك بالسلام والبركات الفائضة عليه وعلى المؤمنين حسا يجيء إن شاء الله تعالى، ولا ريب أن هذه المعاني آخذ بعضها بحجرة بعض بحيث لا تكاد تفرق الآيات الكريمة المنطوية عليها بعضها من بعض وأن ذلك إنما يتم بتمام القصة، وذلك إنما يكون بتمام الطوفان فلا جرم اقتضى الحال ذكر تمامها قبل هذا النداء وهو إنما يكون عند ذكر كون كنعان من المغرقين، ولهذه النكتة ازداد حسن موقع الإيجاز البليغ، وفيه فائدة أخرى هي التصريح بهلاكه من أول الأمر ولو ذكر النداء بعد {فَكَانَ مِنَ المغرقين} [هود: 43] لرا توهم من أول الأمر إلى أن يرد أنه ليس من أهلك إلخ أنه ينجو بدعائه فنص على هلاكه، ثم ذكر القصة على وجه أفحم مصاقع البلغاء، ثم تعرض لما وقع في تضاعيف ذلك مما جرى بين نوح عليه السلام ورب العزة جلت حكمته وعلت كلمته، ثم ذكر بعد توبته عليه السلام قبولها بقوله عز وجل: