فصل: تفسير الآية رقم (50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (50):

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)}
{وإلى عَادٍ} متعلق حذوف معطوف على قوله سبحانه: {أَرْسَلْنَا} [هود: 25] في قصة نوح وهو الناصب لقوله تعالى: {أخاهم} أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم أي واحدًا منهم في النسب كقولهم: يا أخا العرب، وقدم المجرور ليعود الضمير عليه، وقيل: إن {إلى عَادٍ أَخَاهُمْ} عطف على قوله تعالى: {نُوحًا إلى قَوْمِهِ} [هود: 25] المنصوب على المنصوب. والجار والمجرور على الجار والمجرور، وهو من العطف على معمولي عامل واحد وليس من المسألة المختلف فيها، نعم الأول أقرب كما في البحر لطول الفصل بالجمل الكثيرة بين المفردات المتعاطفة، وقوله سبحانه: {هُودًا} عطف بيان لأخاهم وجوز أن يكون بدلًا منه وكان عليه السلام ابن عم أبي عاد وأرسل إليه من هو منهم ليكون ذلك أدعى إلى اتباعه {قَالَ} استئناف بياني حيث كان إرساله عليه السلام مظنة للسؤال عما قال لهم ودعاهم كأنه قيل: فما قال لهم حين أرسل إليهم؟ فقيل: قال: {عَلَيْهِ قَوْمٌ} ناداهم بذلك استعطافًا لهم، وقرأ ابن محيصن {عَلَيْهِ قَوْمٌ} بالضم وهي لغة في المنادى المضاف إلى الياء حكاها سيبويه. وغيره {اعبدوا الله} أي وحده وكانوا مشركين يعبدون الأصنام؛ ويدل على أن المراد ذلك قوله تعالى: {مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ} فإنه استئناف يجري مجرى البيان للعبادة المأمور بها، والتعليل للأمر بها كأنه قيل: أفردوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئًا إذ ليس لكم إله غيره سبحانه على أنه لا اعتداد بالعبادة مع الإشراك، فالأمر بها يستلزم الأمر بإفراده سبحانه بها و{غَيْرُهُ} بالرفع صفة لإله باعتبار محله لأنه فاعل للظرف لاعتماده على النفي، وقرأ الكسائي بالجر على أنه صفة له جار على لفظه {إِنْ أَنتُمْ} ما أنتم بجعلكم الألوهية لغيره تعالى كما قال الحسن أو بقولكم: إن الله تعالى أمرنا بعبادة الأصنام {إِلاَّ مُفْتَرُونَ} عليه تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.

.تفسير الآية رقم (51):

{يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)}
{مُفْتَرُونَ ياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الذي فَطَرَنِى} خاطب به كل رسول قومه إزاحة لما عسى أن يتوهموه وتمحيضًا للنصيحة فإنها ما دامت مشوبة بالمطامع عزل عن التأثير؛ وإيراد الموصول للتفخيم، وجعل الصلة فعل الفطر الذي هو الإيجاد والإبداع لكونه أبعد من أن يتوهم نسبته إلى شركائهم {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] مع كونه أقدم النعم الفائضة من جناب الله تعالى المستوجبة للشكر الذي لا يتأتى إلا بالجريان على موجب أمره سبحانه الغالب معرضًا عن المطالب الدنيوية التي من جملتها الأجر، ولعل فيه إشارة إلى أنه عليه السلام غني عن أجرهم الذي إنما يرغب فيه للاستعانة به على تدبير الحال وقوام العيش بالله تعالى الذي أوجده بعد أن لم يكن وتكفل له بالرزق كما تكفل لسائر من أوجده من الحيوانات {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي أتغفلون عن ذلك فلا تعقلون نصيحة من لا يطلب عليها أجرًا إلا من الله تعالى ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك فتنقادون لما يدعوكم إليه؛ أو تجهلون كل شيء فلا تعقلون شيئًا أصلًا فإن الأمر مما لا ينبغي أن يخفى على أحد من العقلاء.

.تفسير الآية رقم (52):

{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)}
{إِسْرَارًا فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ} من الشرك {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} أي ارجعوا إليه تعالى بالطاعة أو توبوا إليه سبحانه وأخلصوا التوبة واستقيموا عليها، وقيل: الاستغفار كناية عن الإيمان لأنه من روادفه، وحيث أن الإيمان بالله سبحانه لا يستدعي الكفر بغيره لغة قيل: {ثُمَّ تُوبُواْ} فكأنه قيل: آمنوا به ثم توبوا إليه تعالى من عبادة غيره، وتعقب بأن قوله سبحانه: {اعْبُدُواْ الله} [هود: 50] دل على اختصاصه تعالى بالعبادة فلو حمل {استغفروا} على ما ذكر لم يفد فائدة زائدة سوى ما علق عليه، وقد كان يمكن تعليقه بالأول، والحمل على غير الظاهر مع قلة الفائدة مما يجب الاحتراز عنه في كلام الله تعالى المعجز، وقيل: المراد بالاستغفار التوبة عن الشرك وبالتوبة التوبة عما صدر منهم غير الشرك، وأورد عليه أيضًا أن الإيمان يحبّ ما قبله، وقيل: المراد بالأول طلب المغفرة بالإيمان. وبالثاني التوسل إليه سبحانه بالتوبة عن الشرك، وأورد عليه أن التوسل المذكور لا ينفك عن طلب المغفرة بالإيمان لأنه من لوازمه فلا يكون بعده كما تؤذن به {ثُمَّ} وقيل: وقيل وقد تقدم بعض الكلام في ذلك أول السورة.
{يُرْسِلِ السماء} أي المطر كما في قوله:
إذا نزل السماء بأرض قوم ** رعيناه وإن كانوا غضابا

{عَلَيْكُمْ مُّدْرَارًا} كثير الدر متتابعة من غير إضرار فمفعال للمبالغة كمعطار. ومقدام.
{وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ} أي عزًا مضمومًا إلى عزكم أو مع عزكم ويرجع هذا إلى قوله تعالى: {وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ} [نوح: 12] لأن العز الدنيوي بذلك، وعن الضحاك تفسير القوة بالخصب، وعن عكرمة تفسيرها بولد الولد، وقيل: المراد بها قوة الجسم، ورغبهم عليه السلام بكثرة المطر وزيادة القوة لأنهم كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمارات، وقيل: حبس الله تعالى عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين فوعدهم هود عليه السلام على الاستغفار والتوبة كثرة الأمطار وتضاعف القوة بالتناسل، وقيل: القوة الأولى في الإيمان. والثانية في الأبدان أي يزدكم قوة في إيمانكم إلى قوة في أبدانكم {وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ} أي لا تعرضوا عما دعوتكم إليه {مُّجْرِمِينَ} مصرين على ما أنتم عليه من الإجرام، وقيل: مجرمين بالتولي وهو تكلف.

.تفسير الآية رقم (53):

{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ ؤْمِنِينَ (53)}
{قَالُواْ يأَبَانَا هُودٍ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ} أي بحجة واضحة تدل على صحة دعواك، وإنما قالوه لفرط عنادهم أو لشدة عماهم عن الحق وعدم نظرهم في الآيات فاعتقدوا أن ما هو آية ليس بآية وإلا فهو وغيره من الأنبياء عليهم السلام جاؤوا بالبينات الظاهرة والمعجزات الباهرة وإن لم يعين لنا بعضها، ففي الخبر «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا} أي بتاركي عبادتها {عَن قَوْلِكَ} أي بسبب قولك المجرد عن البينة فعن للتعليل كما قيل في قوله تعالى: {إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] وإلى هذا يشير كلام ابن عطية. وغيره، فالجار والمجرور متعلق {بِتَارِكِى}.
وذهب بعض المحققين إلى أنه متعلق حذوف وقع حالًا من الضمير المستتر فيه أي صادرين وهو من الصدر مقابل الورد عنى الرجوع عن الماء، وقد شاع في كلامهم استعمال الصدر والورد كناية عن العمل والتصرف، ومنه قوله:
ما أمس الزمان حاجًا إلى من ** يتولى الإيراد والإصدارا

أي يتصرف في الأمور بصائب رأيه، وقد يكتفي بالصدر في ذلك لاستلزامه للورد فيقولون: لا يصدر إلا عن رأيه، والمعنى هنا حينئذٍ ما نحن {قَالُواْ ياهود} عاملين بقولك، والنفي فيه راجع إلى القيد والمقيد جميعًا لأنهم لا يتركون آلهتهم ولا يعملون بقوله عليه السلام، وقيل: إن صادرين عنى معرضين وهو قيد للنفي، والمعنى انتفى تركنا عبادة آلهتنا معرضين {عَن قَوْلِكَ} ويكون هذا جوابًا لقوله: {لاَ تَتَوَلَّوْاْ} [هود: 52] وجعل بعضهم إرادة ذلك من باب التضمين لا من باب تقدير المتعلق بقرينة {عَنْ} وجعله كناية كما علمت، وكلام الزمخشري ظاهر في هذا كما يكشف عنه كلام الكشف {وَمَا نَحْنُ لَكَ ؤْمِنِينَ} أي صدقين فيما جئت به أو في كل ما تأتي وتذر، ويندرج فيه ذلك، وقد بالغوا في الإباء عن الإجابة فأنكروا الدليل على نبوته عليه السلام، ثم قالوا مؤكدين لذلك {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى} إلخ، ثم كرروا ما دل عليه الكلام السابق من عدم إيمانهم بالجملة الاسمية مع زيادة الباء، وتقديم المسند إليه المفيد للتقوى دلالة على أنهم لا يرجى منهم ذلك بوجه من الوجوه، وفي ذلك من الدلالة على الإقناط ما فيه.

.تفسير الآية رقم (54):

{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)}
{إِن نَّقُولُ إِلاَّ} أي أصابك من عراه يعروه، وأصله من اعتراه عنى قصد عراه أي محله وناحيته {اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء} أرادوا به قاتلهم الله تعالى الجنون، والباء للتعدية والتنكير فيه قيل: للتقليل كأنهم لم يبالغوا في العتو كما ينبئ عنه نسبة ذلك إلى بعض آلهتهم دون كلها، وقيل: للتكثير إشارة إلى أن ما قاله لا يصدر إلا عمن أصيب بكثير سوء مبالغة في خروجه عن قانون العقل، وذكر البعض تعظيمًا لأمر آلهتهم وأن البعض منها له من التأثير ما له، والجملة مقول القول وإلا لغو لأن الاستثناء مفرغ، وأصله أن نقول قولًا إلا قولنا هذا فحذف المستثنى منه وحذف القول المستثنى وأقيم مقوله مقامه، أو {اعتراك} هو المستثنى لأنه أريد به لفظه فلا حاجة إلى تقدير قول بعد {إِلا} وليس مما استثنى فيه الجملة، ومعنى هذا أنه أفسد عقلك بعض آلهتنا لسبك إياها وصدك عن عبادتها وحطك لها عن رتبة الألوهية بما مر من قولك: {مَا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} [هود: 50] وغرضهم من هذا على ما قيل: بيان سبب ما صدر عن هود عليه السلام بعد ما ذكروا من عدم التفاتهم لقوله عليه السلام، وقيل: هو مقرر لما مر من قولهم: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى} إلخ {وَمَا نَحْنُ لَكَ} [هود: 53] إلخ فإن اعتقادهم بكونه عليه السلام كما قالوا وحاشاه عن ذلك يوجب عدم الاعتداد بقوله، وعده من قبيل الخرافات فضلًا عن التصديق والعمل قتضاه يعنون أنا لا نعتقد كلامك إلا ما لا يحتمل الصدق من الهذيانات الصادرة عن المجانين فكيف نؤمن به ونعمل وجبه؟ا ولقد سلكوا طريق المخالفة والعناد إلى سبيل الترقي من السيء إلى الأسوأ حيث أخبروا أولًا عن عدم مجيئه بالبينة مع احتمال كون ما جاء به حجة في نفسه وإن لم تكن واضحة الدلالة على المراد. وثانيًا عن ترك الامتثال لقوله عليه السلام: بقولهم: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} [هود: 53] مع إمكان تحقق ذلك بتصديقهم له في كلامه. ثم نفوا عنه تصديقهم له عليه السلام بقولهم: {وَمَا نَحْنُ لَكَ ؤْمِنِينَ} [هود: 53] مع كونه كلامه عليه السلام مما يقبل التصديق، ثم نفوا عنه تلك المرتبة أيضًا حيث قالوا ما قالوا قاتلهم الله أنى يؤفكون انتهى.
وللبحث فيه مجال، ولعل الإتيان بهذه الجملة غير مقترنة بالعاطف كالجملتين الأوليين يؤيد كونها ليست مسوقة للتأكيد مثلهما، نعم تضمنها لتقرير ما تقدم مما لا يكاد ينكر فتدبر.
{قَالَ إِنِي أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنّي بَرِيء مّمَّا تُشْرِكُونَ}.

.تفسير الآية رقم (55):

{مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)}
{مِن دُونِهِ} أي مما أنتم تجعلونه شريكًا وهو سبحانه لم يجعله شريكًا ولم ينزل به سلطانًا فما موصولة، و{مِن دُونِهِ} متعلق بتشركون لا حال من فاعله أي تشركون مجاوزين الله تعالى في هذا الحكم إذ لا فائدة في التقييد به، وجوز أن تكون مصدرية أيضًا أي من إشراككم، وقد جوز كلا الاحتمالين الزمشري فقال: أي من إشراككم آلهة من دونه أو مما تشركونه آلهة من دونه وأمر تعلق الجار فيهما واح، وتقدير آلهة لإيضاح المعنى والإشارة إلى أن المفعول مراد لسوق الكلام ولا يصلح أن يكون الظرف صفة له على الوجهين لأن بيانه حاصلهما بنحو ما ذكرناه في بيان حاصل الأول إنما يستقيم إذا تعلق بالفعل المذكور وليس المعنى على آلهة غير الله على ذلك التفسير، وللطيبي ما يخالف ذلك وليس بذاك، {وَإِنّي بَرِيء} [هود: 54] متنازع فيه للفعلين قبله وقد يتنازع المختلفان في التعدي الاسم الذي يكون صالحًا لأن يعملا فيه تقول: أعطيت ووهبت لعمرو درهمًا كما يتنازع اللازم والمتعدي نحو قام وضربت زيدًا.
وقد أجاب عليه السلام بهذا عن مقالتهم الشنعاء المبنية على اعتقاد كون آلهتهم تضر وتنفع، ولما كان ما وقع أولًا منه عليه السلام في حقها من كونها عزل عن الألوهية إنما وقع إنما وقع في ضمن الأمر بعبادة الله تعالى واختصاصه بها وقد شق ذلك عليهم وعدّوه مما يورث شينًا حتى زعموا ما زعموا صرح عليه السلام بالحق وصدع به حيث أخبر ببراءته القديمة عنها بالجملة الاسمية المصدرة بأن وأكد ذلك بأشهد الله فإنه كالقسم في إفادة التأكيد وأمرهم بأن يسمعوا ذلك ويشهدوا به، والمقصود منه الاستهانة والاستهزاء كما يقول الرجل لخصمه إذا لم يبال به: أشهد على أني قائل لك كذا، وكأنه غاير بين الشهادتين لذلك، وعطف الإنشاء على الأخبار جائز عند بعض، ومن لم يجوزه قدر قولًا أي وأقول: {اشهدوا} ويحتمل أن يكون إشهاد الله تعالى إنشاء أيضًا وإن كان في صورة الخبر، وحينئذٍ لا قيل ولا قال، وجوز أن يكون إشهاده عليه السلام لهم حقيقة إقامة للحجة عليهم.
وعدل عن الخبر فيه تمييزًا بين الخطابين فهو خبر في المعنى كما هو المشهور في الأول لكن الأولى الحمل على المجاز، ثم أمرهم بالاجتماع والاحتشاد مع آلهتهم جميعًا دون بعض منها حسا يشعر به قولهم {بَعْضُ ءالِهَتِنَا} [هود: 54] والتعاون في إيصال الكيد إليه عليه السلام، ونهاهم عن الإنظار والإمهال في ذلك فقال: {فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} أي إن صح ما لو حتم به من كون آلهتكم مما يقدرون على إضرار من ينال منها ويصد عن عبادتها ولو بطريق ضمني فإني بريء منها فكونوا أنتم معها جميعًا وباشروا كيدي ثم لا تمهلوني ولا تسامحوني في ذلك، فالفاء لتفريع الأمر على زعمهم من قدرة آلهتهم على ما قالوا وعلى البراءة كليهما، والخطاب للقوم وآلهتهم، ويفهم من كلام بعض أنه للقوم فقط، وفيه نفي قدرة آلهتهم على ضره بطريق برهاني فإن الأقوياء الأشداء إذا لم يقدروا مع اجتماعهم واحتشادهم على الضر كان عدم قدرة الجمادات عليه معلومًا من باب أولى، وأيًا مّا كان فذاك من أعظم المعجزات بناءًا على ما قيل: إنه كان عليه السلام مفردًا بين جمع عتاة جبابرة عطاش إلى إراقة دمه يرمونه عن قوس واحدة، وقد خاطبهم بما خاطبهم وحقرهم وآلهتهم وهيجهم على ما هيجهم فلم يقدروا على مباشرة شيء مما كلفوه، وظهر عجزهم عن ذلك ظهورًا بينًا، وفي ذلك دلالة على مزيد ثقته بالله سبحانه وكمال عنايته به وعصمته له، وقد قرر ذلك بإظهار التوكل على من كفاه ضرهم في قوله: