فصل: تفسير الآية رقم (60):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (60):

{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)}
{وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ} تذكير لنعمة عظيمة كفروا بها وكان ذلك في التيه لما عطشوا ففي بعض الآثار أنهم قالوا فيه: من لنا بحر الشمس فظلل عليهم الغمام وقالوا: من لنا بالطعام فأنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى وقالوا: من لنا بالماء فأمر موسى بضرب الحجر وتغير الترتيب لقصد إبراز كل من الأمور المعدود في معرض أمر مستقل واجب التذكير والتذكر، ولو روعي الترتيب الوقوعي لفهم أن الكل أمر واحد أمر بذكره والاستسقاء طلب السقيا عند عدم الماء أو قلته. قيل: ومفعول استسقى محذوف أي ربه أو ماء وقد تعدى هذا الفعل في الفصيح إلى المستسقى منه تارة وإلى المستسقي أخرى كما في قوله تعالى: {وَإِذْ استسقاه قَوْمُهُ} [الأعراف: 160] وقوله:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

وتعديته إليهما مثل أن تقول: استسقى زيد ربه الماء لم نجدها في شيء من كلام العرب واللام متعلقة بالفعل، وهي سببية أي لأجل قومه.
{فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر} أي فأجبناه {فَقُلْنَا} إلخ والعصا مؤنث والألف منقلبة عن واو بدليل عصوان وعصوته أي ضربته بالعصا ويجمع على أفعل شذوذًا وعلى فعول قياسًا، فيقال: أعصى وعصى، وتتبع حركة العين حركة الصاد والحجر هو هذا الجسم المعروف، وجمعه أحجار وحجار، وقالوا: حجارة، واشتقوا منه فقالوا: استحجر الطين، والاشتقاق من الأعيان قليل جدًا. والمراد بهذه العصا المسؤول عنها في قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} [طه: 71] والمشهور أنها من آس الجنة طولها عشرة أذرع طول موسى عليه السلام لها شعبتان تتقدان في الظلمة، توارثها صاغر عن كابر حتى وصلت إلى شعيب ومنه إلى موسى عليهما السلام؛ وقيل: رفعها له ملك في طريق مدين، وفي المراد من الحجر خلاف، فقال الحسن: لم يكن حجرًا معينًا، بل أي حجر ضربه انفجر منه الماء، وهذا أبلغ في الإعجاز وأبين في القدرة، وقال وهب: كان يقرع لهم أقرب حجر فتنفجر، وعلى هذا اللام فيه للجنس، وقيل: للعهد، وهو حجر معين حمله معه من الطور مكعب له أربعة أوجه ينبع من كل وجه ثلاثة أعين، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمرت أن تسقيهم، وكانوا ستمائة ألف ما عدا دوابهم، وسعة المعسكر إثنا عشر ميلًا، وقيل: حجر كان عند آدم وصل مع العصا إلى شعيب فدفع إلى موسى، وقيل: هو الحجر الذي فر بثوبه، والقصة معروفة.
وقيل: حجر أخذ من قعر البحر خفيف يشبه رأس الآدمي كان يضعه في مخلاته، فإذا احتاج للماء ضربه. والروايات في ذلك كثيرة، وظاهر أكثرها التعارض، ولا ينبني على تعيين هذا الحجر أمر ديني، وإلا سلم تفويض علمه إلى الله تعالى.
{فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا} عطف على مقدر، أي فضرب فانفلق، ويدل على هذا المحذوف وجود الانفجار، ولو كان ينفجر دون ضرب لما كان للأمر فائدة، وبعضهم يسمي هذه الفاء الفصيحة ويقدر شرطًا أي فإن ضربت فقد انفجرت وفي المغني: إن هذا التقدير يقتضي تقدم الانفجار على الضرب، إلا أن يقال: المراد فقد حكمنا بترتب الانفجار على ضربك، وقال بعض المتأخرين: لا حذف، بل الفاء للعطف وإن مقدرة بعد الفاء كما هو القياس، بعد الأمر عند قصد السببية، والتركيب من قبيل زرني فأكرمك أي {اضرب بعصاك الحجر} فإن انفجرت فليكن منك الضرب فالانفجار ولا يخفى ما في كل حتى قال مولانا مفتي الديار الرومية في الأول: إنه غير لائق بجلالة شأن النظم الكريم. والثاني: أدهى وأمر والانفجار انصداع شيء من شيء، ومنه الفجر والفجور، وجاء هنا {انفجرت} وفي الأعراف (160): {فانبجست} فقيل: هما سواء. وقيل: بينهما فرق وهو أن الانبجاس أول خروج الماء، والانفجار اتساعه وكثرته، أو الانبجاس خروجه من الصلب، والآخر خروجه من اللين، والظاهر استعمالهما عنى واحد وعلى فرض المغايرة لا تعارض لاختلاف الأحوال، ومن لابتداء الغاية، والضمير عائد على الحجر المضروب وعوده إلى الضرب، ومن سببية مما لا ينبغي الإقدام عليه، والتاء في إثنتا للتأنيث ويقال: ثنتا إلا أن التاء فيها على ما في البحر للإلحاق، وهذا نظير أنبت، ونبت ولامها محذوفة، وهي ياء لأنها من ثنيت، وقرأ مجاهد وجماعة ورواه السعدي عن أبي عمرو عشرة بكسر الشين وهي لغة بني تميم، وقرأ الفضل الأنصاري بفتحها قال ابن عطية: وهي لغة ضعيفة، ونص بعضها النحاة على الشذوذ، ويفهم من بعض المتأخرين إن هذه اللغات في المركب لا في عشرة وحدها، وعبارات القوم لا تساعده، والعين منبع الماء وجمع على أعين شذوذًا وعيون قياسًا، وقالوا في أشراف الناس: أعيان، وجاء ذلك في الباصرة قليلًا كما في قوله:
أعيانًا لها ومآقيا

وهو منصوب على التمييز، وإفراده في مثل هذا الموضع لازم، وأجاز الفراء أن يكون جمعًا، وكان هذا العدد دون غيره لكونهم كانوا اثني عشر سبطًا وكان بينهم تضاغن وتنافس فأجرى الله تعالى لكل سبط عينًا يردها لا يشركه فيها أحد من السبط الآخر دفعًا لإثارة الشحناء، ويشير إلى حكمة الانقسام، قوله تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} وهي جملة مستأنفة مفهمة على أن كل سبط منهم قد صار له مشرب يعرفه فلا يتعدى لمشرب غيره، و{أناس} جمع لا واحد له من لفظه، وما ذكر من شذوذ إثبات همزته إنما هو مع الألف واللام، وأما بدونها فشائع صحيح، و{عَلِمَ} هنا متعدية لواحد أجريت مجرى عرف ووجد ذلك بكثرة والمشرب إما اسم مكان أي محل الشرب، أو مصدر ميمي عنى الشرب، وحمله بعضهم على المشروب وهو الماء، وحمله على المكان أولى عند أبي حيان، وإضافة المشرب إليهم لأنه لما تخصص كل مشرب بمن تخصص به صار كأنه ملك لهم وأعاد الضمير في مشربهم على معنى {كُلٌّ} ولا يجوز أن يعود على لفظها لأن كُلًا متى أضيف إلى نكرة وجب مراعاة المعنى كما في قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم} [الإسرار: 71] وقوله:
وكل أناس سوف تدخل بينهم ** دويهية تصفر منها الأنامل

ونص على المشرب تنبيهًا على المنفعة العظيمة التي هي سبب الحياة وإن كان سرد الكلام يقتضي قد علم كل أناس عينهم وفي الكلام حذف أي منها لأن {قَدْ عَلِمَ} صفة لاثنتا عشرة عينًا فلابد من رابط، وإنما وصفها به لأنه معجزة أخرى حيث يحدث مع حدوث الماء جداول يتميز بها مشرب كل من مشرب آخر، ويحتمل أن تكون الجملة حالية لا صفة لقوله تعالى: {اثنتا عَشْرَةَ} لئلا يحتاج إلى تقدير العائد وليفيد مقارنة العلم بالمشارب للانفجار، والمشرب حينئذٍ العين {كُلُواْ واشربوا مِن رّزْقِ الله} على إرادة القول، وبدأ بالأكل لأن قوام الجسد به، والاحتياج إلى الشرب حاصل عنه، ومن لابتداء الغاية، ويحتمل أن تكون للتبعيض، وفي ذكر الرزق مضافًا تعظيم للمنة، وإشارة إلى حصول ذلك لهم من غير تعب ولا تكلف، وفي هذا التفات إذ تقدم {فَقُلْنَا اضرب} ولو جرى على نظم واحد لقال من رزقنا، ولو جعل الإضمار قبل {كُلُواْ} مسندًا إلى موسى أي وقال موسى: كلوا واشربوا لا يكون فيه ذلك، والرزق هنا عنى المرزوق وهو الطعام المتقدم من المنّ والسلوى، والمشروب من ماء العيون، وقيل: المراد به الماء وحده لأنه يشرب ويؤكل مما ينبت منه ويضعفه أنه لم يكن أكلهم في التيه من زروع ذلك الماء كما يشير إليه قوله تعالى: {يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض} [البقرة: 61] و{لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد} [البقرة: 61] ويلزم عليه أيضًا الجمع بين الحقيقة والمجاز إذ يؤول إلى كلوا واشربوا من الماء، ويكون نسبة الشرب إليه بإرادة ذاته، والأكل بإرادة ما هو سبب عنه، أو القول بحذف متعلق أحد الفعلين أي كلوا من رزق الله واشربوا من رزق الله، وقول بعض المتأخرين إن رزق الله عبارة عن الماء، وفي الآية إشارة إلى إعجاز آخر وهو أن هذا الماء كما يروي العطشان يشبع الجوعان فهو طعام وشراب بعيد غاية البعد، وأقرب منه أن لا يكون {كُلُواْ واشربوا} بتقدير القول من تتمة ما يحكى عنهم بل يجعل أمرًا مرتبًا على ذكرهم ما وقع وقت الاستسقاء على وجه الشكر والتذكير بقدرة الله تعالى فهو أمر المخاطبين بهذه الحكاية بأكلهم وشربهم مما يرزقهم الله تعالى، وعدم الإفساد بإضلال الخلق، وجمع عرض الدنيا ويكون فصله عما سبق لأنه بيان للشكر المأمور أو نتيجة للمذكور.
واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال لأن أقل درجات هذا الأمر أن يكون للإباحة فاقتضى أن يكون الرزق مباحًا فلو وجد رزق حرام لكان الرزق مباحًا وحرامًا، وأنه غير جائز، والجواب أن الرزق هنا ليس بعام إذا أريد المنّ والسلوى والماء المنفجر من الحجر، ولا يلزم من حلية معين مّا من أنواع الرزق حلية جميع الرزق وعلى تسليم العموم يلتزم التبعيض.
{وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} لما أمروا بالأكل والشرب من رزق الله تعالى ولم يقيد ذلك عليهم بزمان ولا مكان ولا مقدار كان ذلك إنعامًا وإحسانًا جزيلًا إليهم، واستدعى ذلك التبسط في المأكل والمشرب نهاهم عما يمكن أن ينشأ عن ذلك وهو الفساد حتى لا يقابلوا تلك النعم بالكفران، والعثي عند بعض المحققين مجاوزة الحد مطلقًا فسادًا كان أولًا فهو كالاعتداء، ثم غلب في الفساد، و{مفسدين} على هذا حال غير مؤكدة وهو الأصل فيها كما يدل عليه تعريفها، وذكر أبو البقاء أن العُثِيّ الفساد والحال مؤكدة، وفيه أن مجيء الحال المؤكدة بعد الفعلية خلاف مذهب الجمهور.
وذهب الزمخشري أن معناه أشد الفساد والمعنى لا تتمادوا في الفساد حال إفسادكم، والمقصد النهي عما كانوا عليه من التمادي في الفساد وهو من أسلوب {لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة} [آل عمران: 130] وإلا فالفساد أيضًا منكر منهي عنه، وفيه أنه تكلف مستغنى عنه بما ذكرنا، والمراد من {الأرض} عند الجمهور أرض التيه. ويجوز أن يريدها وغيرها مما قدروا أن يصلوا إليها فينالها فسادهم، وجوز أن يريد الأرضين كلها، وأل لاستغراق الجنس، ويكون فسادهم فيها من جهة أن كثرة العصيان والإصرار على المخالفات والبطر يؤذن بانقطاع الغيث وقحط البلاد ونزع البركات، وذلك انتقام يعم الأرضين، هذا ثم إن ظاهر القرآن لا يدل على تكرر هذا الاستسقاء ولا الضرب ولا الانفجار فيحتمل أن يكون ذلك متكررًا، ويحتمل أن يكون ذلك مرة واحدة والواحدة هي المتحققة.
والحكايات في هذا الأمر كثيرة وأكثرها لا صحة له، وقد أنكر بعض الطبيعيين هذه الواقعة وقال: كيف يعقل خروج الماء العظيم الكثير من الحجر الصغير، وهذا المنكر مع أنه لم يتصور قدرة الله تعالى في تغيير الطبائع والاستحالات فقد ترك النظر على طريقتهم إذ قد تقرر عندهم أن حجر المغناطيس يجذب الحديد والحجر الحلاق يحلق الشعر والحجر الباغض للخل ينفر منه، وذلك كله من أسرار الطبيعة وإذا لم يكن مثل ذلك منكرًا عندهم فليس يمتنع أن يخلق في حجر آخر قوة جذب الماء من تحت الأرض، ويكون خلق تلك القوة عند ضرب العصا أو عند أمر موسى عليه السلام على ما ورد أنه كان بعد ذلك يأمره، فينفجر ولا ينافيه انفصاله عن الأرض كما وهم، ويحتمل أيضًا أن يقلب الله تعالى بواسطة قوة أودعها في الحجر الهواء ماء بإزالة اليبوسة عن أجزائه وخلق الرطوبة فيها. والله تعالى على كل شيء قدير، وحظ العارف من الآية أن يعرف الروح الإنسانية وصفاتها في عالم القلب ثابة موسى وقومه وهو مستسق ربه لإروائها اء الحكمة والمعرفة وهو مأمور بضرب عصا لا إله إلا الله ولها شعبتان من النفي والإثبات تتقدان نورًا عند استيلاء ظلمات النفس، وقد حملت من حضرة العزة على حجر القلب الذي هو كالحجارة أو أشد قسوة {فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا} من مياه الحكمة لأن كلمة لا إله إلا الله اثنتا عشرة حرفًا فانفجر من كل حرف عين قد عَلِمَ كل سبط من أسباط صفات الإنسان. وهي اثنا عشر سبطًا من الحواس الظاهرة والباطنة، واثنان من القلب والنفس، ولكل واحد منهم مشرب من عين جرت من حرف من حروف الكلمة، و{قد عَلِمَ} مشربه ومشرب كل واحد حيث ساقه رائده وقاده قائده فمن مشرب عذب فرات. ومشرب ملح أجاج، والنفوس ترد مناهل التقى والطاعات. والأرواح تشرب من زلال الكشوف والمشاهدات، والأسرار تروى من عيون الحقائق بكأس تجلي الصفات عن ساقي {وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] للاضمحلال في حقيقة الذات {كُلُواْ واشربوا مِن رّزْقِ الله} بأمره ورضاه {وَلاَ تَعْثَوْاْ} في هذا القالب {مُفْسِدِينَ} بترك الأمر واختيار الوزر وبيع الدين بالدنيا وإيثار الأولى على العقبى وتقديمهما على المولى.

.تفسير الآية رقم (61):

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بما عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)}
{وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد} الظاهر أنه داخل في تعداد النعم وتفصيلها وهو إجابة سؤالهم بقوله تعالى: {اهبطوا} إلخ مع استحقاقهم كمال السخط لأنهم كفروا نعمة إنزال الطعام اللذيذ عليهم وهم في التيه من غير كدّ وتعب حيث سألوا بـ {لَن نَّصْبِرَ} فإنه يدل على كراهيتهم إياه إذ الصبر حبس النفس في المضيق، ولذا أنكر عليه بقوله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ} إلخ، فالآية في الأسلوب مثل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى موسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} [البقرة: 55] إلخ، حيث عاندوا بعد سماع الكلام وأهلكوا، ثم أفاض عليهم نعمة الحياة، قال مولانا الساليكوتي: ومن هذا ظهر ضعف ما قال الإمام الرازي لو كان سؤالهم معصية لما أجابهم، لأن الإجابة إلى المعصية معصية وهي غير جائزة على الأنبياء وإن قوله تعالى: {كُلُواْ واشربوا} [البقرة: 60] أمر إباحة لا إيجاب، فلا يكون سؤالهم غير ذلك الطعام معصية، ووصف الطعام بواحد وإن كانا طعامين {المنّ والسلوى} اللذين رزقوهما في التيه، إما باعتبار كونه على نهج واحد كما يقال: طعام مائدة الأمير واحد ولو كان ألوانًا شتى عنى أنه لا يتبدل ولا يختلف بحسب الأوقات، أو باعتبار كونه ضربًا واحدًا لأن المنّ والسلوى من طعام أهل التلذذ والسرف، وكأن القوم كانوا فلاحة فما أرادوا إلا ما ألفوه، وقيل: إنهم كانوا يطبخونهما معًا فيصير طعامًا واحدًا، والقول بأن هذا القول كان قبل نزول السلوى نازل من القول، وأهون منه القول بأنهم أرادوا بالطعام الواحد السلوى لأن المنّ كان شرابًا، أو شيئًا يتحلون به، فلم يعدوه طعامًا آخر، وإلا نزل القول بأنه عبر بالواحد عن الاثنين كما عبر بالاثنين عن الواحد في نحو {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرَحمن: 22] وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب.
{فادع لَنَا رَبَّكَ} أي سله لأجلنا بدعائك إياه بأن يخرج لنا كذا وكذا والفاء لسببية عدم الصبر للدعاء، ولغة بني عامر {فادع} بكسر العين جعلوا دعا من ذوات الياء كرمى، وإنما سألوا من موسى أن يدعو لهم، لأن دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أقرب للإجابة من دعاء غيرهم، على أن دعاء الغير للغير مطلقًا أقرب إليها فما ظنك بدعاء الأنبياء لأممهم؟ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه: «أشركنا في دعائك» وفي الأثر: «ادعوني بألسنة لم تعصوني فيها» وحملت على ألسنة الغير، والتعرض لعنوان الربوبية لتمهيد مبادئ الإجابة، وقالوا: {ربك} ولم يقولوا: ربنا، لأن في ذلك من الاختصاص به ما ليس فيهم من مناجاته وتكليمه وإيتائه التوراة، فكأنهم قالوا: ادع لنا المحسن إليك بما لم يحسن به إلينا، فكما أحسن إليك من قبل نرجو أن يحسن إليك في إجابة دعائك.
{يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} المراد بالإخراج المعنى المجازي اللازم للمعنى الحقيقي، وهو الإظهار بطريق الإيجاد لا بطريق إزالة الخفاء والحمل على المعنى الحقيق يقتضي مخرجًا عنه، وما يصلح له هاهنا هو {الأرض} وبتقديره يصير الكلام سخيفًا، و{يَخْرُجُ} مجزوم لأنه جواب الأمر، وجزمه بلام الطلب محذوفة لا يجوز عند البصريين، ومن الأولى تبعيضية أي مأكولًا بعض ما {تنبت} وادعى الأخفش زيادتها وليس بشيء وما موصولة والعائد محذوف، أي تنبته، وجعلها مصدرية لم يجوّزه أبو البقاء لأن المقدر جوهر ونسبة الإنبات إلى {الأرض} مجاز من باب النسبة إلى القابل. وقد أودع الله تعالى في الطبقة الطينية من الأرض أو فيها قوة قابلة لذلك، وكون القوة القابلة مودعة في الحب دون التراب را يفضي إلى القول بقدم الحب بالنوع، ومن الثانية بيانية، فالظرف مستقر واقع موقع الحال، أي كائنًا من {بقلها}. وقال أبو حيان: تبعيضية واقعة موقع البدل من كلمة ما فالظرف لغو متعلق بـ {يُخرجْ} وعلى التقديرين كما قال الساليكوتي: يفيد أن المطلوب إخراج بعض هؤلاء، ولو جعل بيانًا لما أفاده من التبعيضية كما قاله المولى عصام الدين لخلا الكلام عن الإفادة المذكورة، وأوهمَ أن المطلوب إخراج جميع هؤلاء لعدم العهد والبقل جنس يندرج فيه النبات الرطب مما يأكله الناس والأنعام، والمراد به هنا أطاييب البقول التي يأكلها الناس والقثاء هو هذا المعروف، وقال الخليل: هو الخيار، وقرأ يحيى بن وثاب وغيره بضم القاف وهو لغة والفوم الحنطة وعليه أكثر الناس حتى قال الزجاج: لا خلاف عند أهل اللغة أن الفوم الحنطة، وسائر الحبوب التي تختبز يلحقها اسم الفوم وقال الكسائي وجماعة: هو الثوم، وقد أبدلت ثاؤه فاء كما في جدث وجدف وهو بالبصل والعدس أوفق وبه قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ونفس شيخنا عليه الرحمة إليه تميل، والقول بأنه الخبز يبعده الإنبات من {الأرض} وذكره مع البقل وغيره. وما في المعالم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن الفوم الخبز يمكن توجيهه بأن معناه إنه يقال عليه، ووجه ترتيب النظم أنه ذكر أولًا ما هو جامع للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وهو البقل إذ منه ما هو بارد رطب كالهندبا ومنه ما هو حار يابس كالكرفس والسذاب ومنه ما هو حار وفيه رطوبة، كالنعناع وثانيًا: ما هو بارد رطب وهو القثاء وثالثًا: ما هو حار يابس وهو الثوم ورابعًا: ما هو بارد يابس وهو العدس وخامسًا: ما هو حار رطب وهو البصل وإذا طبخ صار باردًا رطبًا عند بعضهم، أو يقال: إنه ذكر أولًا ما يؤكل من غير علاج نار، وذكر بعده ما يعالج به مع ما ينبغي فيه ذلك ويقبله.
{قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذى هُوَ خَيْرٌ} استئناف وقع جوابًا عن سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال لهم؟ فقيل قال: {أَتَسْتَبْدِلُونَ} إلخ، والقائل إما الله تعالى على لسان موسى عليه السلام، ويرجحه كون المقام مقام تعداد النعم، أو موسى نفسه وهو الأنسب بسياق النظم والاستفهام للإنكار، والاستبدال الاعتياض.
فإن قلت كونهم لا يصبرون على طعام واحد أفهم طلب ضم ذلك إليه لا استبداله به أجيب بأن قولهم: {لَن نَّصْبِرَ} يدل على كراهتهم ذلك الطعام؛ وعدم الشكر على النعمة دليل الزوال، فكأنهم طلبوا زوالها ومجيء غيرها، وقيل: إنهم طلبوا ذلك، وخطابهم بهذا إشارة إلى أنه تعالى إذا أعطاهم ما سألوا منع عنهم المنّ والسلوى فلا يجتمعان، وقيل: الاستبدال في المعدة وهو كما ترى وقرأ أبيّ: أتبدلون وهو مجاز، لأن التبديل ليس لهم إنما ذلك إلى الله تعالى لكنهم لما كانوا يحصل التبديل بسؤالهم جعلوا مبدلين، وكان المعنى أتسألون تبديل الذي إلخ، و{الذى} مفعول {تستبدلون} وهو الحاصل؛ و{فَلْيُؤَدّ الذى} دخلت عليه الباء هو الزائل، وهو {أدنى} صلة {الذى} وهو هنا واجب الإثبات عند البصريين إذ لا طول، و{أدنى} إما من الدنو أو مقلوب من الدون، وهو على الثاني ظاهر، وعلى الأول مجاز استعير فيه الدنو عنى القرب المكاني للخسة كما استعير البعد للشرف، فقيل: بعيد المحل بعيد الهمة، ويحتمل أن يكون مهموزًا من الدناءة، وأبدلت فيه الهمزة ألفًا ويؤيده قراءة زهير والكسائي {أدنأ} بالهمزة، وأريد بالذي هو خير المنّ والسلوى ومعنى خيرية هذا المأكول بالنسبة إلى ذلك غلاء قيمته وطيب لذته، والنفع الجليل في تناوله، وعدم الكلفة في تحصيله، وخلوّه عن الشبهة في حله.
{خَيْرٌ اهبطوا مِصْرًا} جملة محكية بالقول كالأولى، وإنما لم يعطف إحداهما على الأخرى في المحكي لأن الأولى خبر معنى، وهذه ليست كذلك، ولكونها كالمبينة لها فإن الإهباط طريق الاستبدال، هذا إذا جعل الجملتان من كلام الله تعالى أو كلام موسى، وإن جعل إحداهما من موسى والأخرى من الله تعالى، فوجه الفصل ظاهر، والوقف على {خير} كاف على الأول: وتام على الثاني: والهبوط يجوز أن يكون مكانيًا بأن يكون التيه أرفع من المصر، وأن يكون رتبيًا، وهو الأنسب بالمقام، وقرئ {اهبطوا} بضم الهمزة والباء والمصر البلد العظيم وأصله الحد والحاجز بين الشيئين، قال:
وجاعل الشمس مصرًا لا خفاء به ** بين النهار وبين الليل قد فصلا

وإطلاقه على البلد لأنه ممصور أي محدود، وأخذه من مصرت الشاة أمصرها إذا حلبت كل شيء في ضرعها بعيد، وحكي عن أشهب أنه قال: قال لي مالك: هي مصر قريتك مسكن فرعون فهو إذًا عَلَمٌ وأسماء المواضع قد تعتبر من حيث المكانية فتذَكر، وقد تعتبر من حيث الأرضية فتؤنث، فهو إن جعل علمًا فإما باعتبار كونه بلدة، فالصرف مع العلمية، والتأنيث لسكون الوسط، وإما باعتبار كونه بلدًا فالصرف على بابه، إذ الفرعية الواحدة لا تكفي في منعه، ويؤيد ما قاله الإمام مالك رضي الله تعالى عنه: أنه في مصحف ابن مسعود {مصر} بلا ألف بعد الراء ويبعده أن الظاهر من التنوين التنكير، وأن قوله تعالى: {ادْخُلُوا الأرض المُقَدَّسَةَ} [المائدة: 21] يعني الشام التي كتب الله تعالى لكم للوجوب كما يدل عليه عطف النهي وذلك يقتضي المنع من دخول أرض أخرى، وأن يكون الأمر بالهبوط مقصورًا على بلاد التيه وهو ما بين بيت المقدس إلى قنسرين ومن الناس من جعل {مصر} معرب مصرائيم كإسرائيل اسم لأحد أولاد نوح عليه السلام وهو أول من اختطها فسميت باسمه، وإنما جاز الصرف حينئذٍ لعدم الاعتداد بالعجمة لوجود التعريب والتصرف فيه فافهم وتدبر.
{فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ} تعليل للأمر بالهبوط، وفي البحر أنها جواب للأمر وكما يجاب بالفعل يجاب بالجملة وفي ذلك محذوفان فإن ما يربط الجملة بما قبلها، والضمير العائد على {مَا} والتقدير: فإن لكم فيها ما سألتموه، والتعبير عن الأشياء المسؤولة بما للاستهجان بذكرها، وقرأ النخعي ويحيى: {سَأَلْتُمْ} بكسر السين.
{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} أي جعل ذلك محيطًا بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه، أو ألصق بهم من ضرب الطين على الحائط ففي الكلام استعارة بالكناية حيث شبه ذلك بالقبة أو بالطين، و{ضربت} استعارة تبعية تحقيقية لمعنى الإحاطة والشمول أو اللزوم واللصوق بهم، وعلى الوجهين فالكلام كناية عن كونهم أذلاء متصاغرين، وذلك بما ضرب عليهم من الجزية التي يؤدونها عن يَد وهم صاغرون، وا ألزموه من إظهار الزي ليعلم أنهم يهود ولا يلتبسوا بالمسلمين وا طبعوا عليه من فقر النفس وشحها فلا ترى ملة من الملل أحرص منهم، وا تعودوا عليه من إظهار سوء الحال مخافة أن تضاعف عليهم الجزية إلى غير ذلك مما تراه في اليهود اليوم، وهذا الضرب مجازاة لهم على كفران تلك النعمة، وبهذا ارتبطت الآية بما قبلها، وإنما أورد ضمير الغائب للإشارة إلى أن ذلك راجع إلى جميع اليهود، وشامل للمخاطبين، بقوله تعالى: {فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ} ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة فليس من قبيل الالتفات على ما وهم.
{وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله} أي نزلوا وتمكنوا بما حل بهم من البلاء والنقم في الدنيا، أو بما تحقق لهم من العذاب في العقبى؛ أو بما كتب عليهم من المكاره فيهما أو رجعوا بغضب أي صار عليهم، ولذا لم يحتج إلى اعتبار المرجوع إليه، أو صاروا أحقاء به، أو استحقوا العذاب بسببه وهو بعيد وأصل البواء بالفتح والضم مساواة الأجزاء ثم استعمل في كل مساواة فيقال: هو بواء فلان أي كفؤه، ومنه بؤ لشسع نعل كليب وحديث:
«فليتبوأ مقعده من النار» وفي وصف الغضب بكونه من الله تعالى تعظيم لشأنه بعد تعظيم وتفخيم بعد تفخيم.
{ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق} أشار بذلك إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم، وإنما بَعّدهُ لبعد بعضه حتى لو كان إشارة إلى البوء لم يكن على لفظ البعيد، أو للإشارة إلى أنهم أدركتهم هذه الأمور مع بعدهم عنها لكونهم أهل الكتاب، أو للإيماء إلى بعدها في الفظاعة، والباء للسببية وهي داخلة على المصدر المؤل ولم يعبر به، وعبر بما عبر تنبيهًا على تجدد الكفر والقتل منهم حينًا بعد حين واستمرارهم عليهما فيما مضى، أو لاستحضار قبيح صنعهم، و{الآيات} إما المعجزات مطلقًا أو التسع التي أتى بها موسى عليه السلام، أو ما جاء به من التسع وغيرها، أو آيات الكتب المتلوة مطلقًا، أو التوراة أو آيات منها كالآيات التي فيها صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو التي فيها الرجم أو القرآن، وفي إضافة الآيات إلى اسمه تعالى زيادة تشنيع عليهم، وبدأ سبحانه بكفرهم بآياته لأنه أعظم كل عظيم، وأردفه بقتلهم النبيين لأنه كالمنشأ له، وأتى بالنبيين الظاهر في القلة دون الأنبياء الظاهر في الكثرة إذ الفرق بين الجمعين إذا كانا نكرتين وأما إذا دخلت عليهما أل فيتساويان كما في البحر فلا يرد أنهم قتلوا ثلثمائة نبي في أول النهار، وأقاموا سوقهم في آخره، وقيد القتل بغير الحق مع أن قتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ذلك بغير الحق عندهم إذ لم يكن أحد معتقدًا حقية قتل أحد منهم عليهم السلام، وإنما حملهم عليه حب الدنيا، واتباع الهوى والغلو في العصيان، والاعتداء فاللام في الحق على هذا للعهد، وقيل: الأظهر أنها للجنس، والمراد بغير حق أصلًا إذ لام الجنس المبهم كالنكرة، ويؤيده ما في آل عمران (12): {بِغَيْرِ حَقّ} فيفيد أنه لم يكن حقًا باعتقادهم أيضًا، ويمكن أن يكون فائدة التقييد إظهار معايب صنيعهم فإنه قتل النبي ثم جماعة منهم ثم كونه بغير الحق، وهذا أوفق بما هو الظاهر من كون المنهي القتل بغير الحق في نفس الأمر سواء كان حقًا عند القاتل أو لا إلا أن الاقتصار على القتل بغير الحق عندهم أنسب للتعريض بما هم فيه على ما قيل، والقول: بأنه يمكن أن يقال لو لم يقيد بغير الحق لأفاد أن من خواص النبوة أنه لو قتل أحدًا بغير حق لا يقتص، ففائدة التقييد أن يكون النظم مفيدًا لما هو الحكم الشرعي بعيد كما لا يخفى، قال بعض المتأخرين: هذا كله إذا كان الغير عنى النفي أي بلا حق، أما إذا كان عناه أي بسبب أمر مغاير للحق أي الباطل فالتقييد مفيد لأن قتلهم النبيين بسبب الباطل وحمايته، وقريب من هذا ما قاله القفال من إنهم كانوا يقولون: إنهم كاذبون وأن معجزاتهم تمويهات ويقتلونهم بهذا السبب، وبأنهم يريدون إبطال ما هم عليه من الحق بزعمهم، ولعل ذلك غالب أحوالهم وإلا فشعياء، ويحيى وزكريا عليهم السلام لم يقتلوا لذلك، وإنما قتل شعياء لأن ملكًا من بني إسرائيل لما مات مرج أمر بني إسرائيل، وتنافسوا الملك، وقتل بعضهم بعضًا فنهاهم عليه السلام فبغوا عليه وقتلوه، ويحيى عليه السلام إنما قتل لقصة تلك الامرأة لعنها الله تعالى، وكذلك زكريا لأنه لما قتل ابنه انطلق هاربًا فأرسل الملك في طلبه غضبًا لما حصل لامرأته من قتل ابنه فوجد في جوف شجرة ففلقوا الشجرة معه فلقتين طولًا نشار، ثم الظاهر أن الجار والمجرور مما تنازع فيه الكفر والقتل، وفي البحر أنه متعلق بما عنده، وزعم بعض الملحدين أن بين هذه الآية وما أشبهها، وقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51] تناقضًا وأجيب بأن المقتولين من الأنبياء والموعود بنصرهم الرسل ورد بأن قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ} إلى قوله سبحانه: {ففَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87] يدل على أن المقتول رسل أيضًا، وأجاب بعضهم بأن المراد النصرة بغلبة الحجة أو الأخذ بالثأر كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى قدر أن يقتل بكل نبي سبعين ألفًا، وبكل خليفة خمسًا وثلاثين ألفًا ولا يخفى ما فيه، فالأحسن أن المراد بالرسل المأمورون بالقتال كما أجاب به بعض المحققين لأن أمرهم بالقتال وعدم عصمتهم لا يليق بحكمة العزيز الحكيم، وقرأ علي رضي الله تعالى عنه: {يقتلون} بالتشديد، والحسن في رواية عنه {وتقتلون} بالتاء فيكون ذلك من الالتفات، وقرأ نافع بهمز النبيين وكذا النبي والنبوة، واستشكل بما روي أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
«يا نبيء الله بالهمزة فقال: لست بنبيء الله يعني مهموزًا ولكن نبي الله» بغير همزة فأنكر عليه ذلك. ولهذا منع بعضهم من إطلاقه عليه عليه الصلاة والسلام على أنه استشكل أيضًا جمع النبي على نبيين وهو فعيل عنى مفعول، وقد صرحوا بأنه لا يجمع جمع مذكر سالم وأجيب عن الأول بأن أبا زيد حكى نبأت من الأرض إذا خرجت منها فمنع لوهم أن معناه يا طريد الله تعالى فنهاه عن ذلك لإيهامه، ولا يلزم من صحة استعمال الله تعالى له في حق نبيه صلى الله عليه وسلم الذي برأه من كل نقص جوازه من البشر، وقيل: إن النهي كان خاصًا في صدر الإسلام حيث دسائس اليهود كانت فاشية وهذا كما نهى عن قول: {راعنا} إلى قول: {انظرنا} [البقرة: 104] انتبه أيها المخرج وعن الثاني بأنه ليس تفق عليه إذ قيل: إنه عنى فاعل ولو سلم فقد خرج عن معناه الأصل، ولم يلاحظ فيه هذا إذ يطلقه عليه من لا يعرف ذلك، فصح جمعه باعتبار المعنى الغالب عليه فتدبر.
{ذلك بما عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} إشارة إلى الكفر والقتل الواقعين سببًا لما تقدم، وجازت الإشارة بالمفرد إلى متعدد للتأويل بالمذكور، ونحوه مما هو مفرد لفظًا متعدد معنى، وقد يجري مثل ذلك في الضمير حملًا عليه، والباء للسببية، وما بعدها سبب للسبب، والمعنى: إن الذي حملهم على الكفر بآيات الله تعالى، وقتلهم الأنبياء إنما هو تقدم عصيانهم واعتدائهم ومجاوزتهم الحدود، والذنب يجر الذنب، وأكد الأول لأنه مظنة الاستبعاد بخلاف مطلق العصيان، وقيل: الباء عنى مع؛ وقيل: الإشارة بذلك إلى ما أشير إليه بالأول، وترك العاطف للدلالة على أن كل واحد منهما مستقل في استحقاق الضرب فكيف إذا اجتمعا. وضعف هذا الوجه بأن التكرار خلاف الأصل مع فوات معنى لطيف حصل بالأول وسابقه بأنه لا يظهر حينئذٍ لإيراد كلمة ذلك فائدة إذ الظاهر {ا عَصَواْ} إلخ ويفوت أيضًا ما يفوت، وحظ العارف من هذه الآيات الاعتبار بحال هؤلاء الذين لم يرضوا بالقضاء ولم يشكروا على النعماء ولم يصبروا على البلواء كيف ضرب عليهم ذل الطغيان قبل وجود الأكوان، وقهرهم بلطمة المسكنة في بيداء الخذلان وألبس قلوبهم حب الدنيا وأهبطهم من الدرجة العليا.
ومن باب الإشارة: الطعام الواحد هو الغذاء الروحاني من الحكمة والمعرفة، وما تنبته الأرض هو الشهوات الخبيثة واللذات الخسيسة والتفكهات الباردة الناشئة من أرض النفوس المبتذلة في مصر البدن الموجبة للذلة لمن ذاقها والمسكنة لمن لاكها والهلاك لمن ابتلعها، وسبب طلب ذلك الاحتجاب عن آيات الله تعالى وتجلياته وتسويد القلوب بدرن الذنوب، وقطع وريدها بقطع واردها، والذي يجر إلى هذا الغفلة عن المحبوب، والاعتياض بالأغيار عن ذلك المطلوب نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية.