فصل: تفسير الآية رقم (86):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (86):

{بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)}
{بَقِيَّتُ الله} قال ابن عباس: أي ما أبقاه سبحانه من الحلال بعد الإيفاء {خَيْرٌ لَّكُمْ} مما تجمعون بالبخس. فإن ذلك هباء منثور بل هو شر محض وإن زعمتم أنه خير {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي بشرط أن تؤمنوا إذ مع الكفر لا خير في شيء أصلًا، أو إن كنتم مصدقين بي في مقالتي لكم، وفي رواية أخرى عن الحبر أنه فسر البقية بالرزق.
وقال الربيع هي وصيته تعالى، وقال مقاتل: ثوابه في الآخرة، وقال الفراء: مراقبته عز وجل، وقال قتادة: ذخيرته، وقال الحسن: فرائضه سبحانه.
وزعم ابن عطية أن كل هذا لا يعطيه لفظ الآية وإنما معناه الإبقاء وهو مأخوذ مما روي عن ابن جريج أنه قال: المعنى إبقاء الله تعالى النعيم عليكم خير لكم مما يحصل من النقص بالتطفيف، وأيًا مّا كان فجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله على ما ذهب إليه جمهور البصريين وهو الصحيح، وقرأ إسماعيل بن جعفر عن أهل المدينة {بَقِيَّتُ} بتخفيف الياء قال ابن عطية: وهي لغة، قال أبو حيان: إن حق وصف فعل اللازم أن يكون على وزن فاعل نحو شجيت المرأة فهي شجية فإذا شددت الياء كان على وزن فعيل للمبالغة، وقرأ الحسن تقية الله بالتاء والمراد تقواه سبحانه ومراقبته الصارفة عن المعاصي {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أحفظكم من القبائح. أو أحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم بها وإنما أنا ناصح مبلغ وقد أعذرت إذ أنذرت ولم آل جهدًا. وأو ما أنا بحافظ عليكم نعم الله تعالى لو لم تتركوا سوء صنيعكم.

.تفسير الآية رقم (87):

{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)}
{قَالُواْ ياشعيب أصلواتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا} من الأصنام أجابوا بذلك أمره عليه السلام إياهم بعبادة الله تعالى وحده المتضمن لنهيهم عن عبادة الأصنام وغرضهم منه إنكار الوحي الآملا لكنهم بالغوا في ذلك إلى حيث أنكروا أن يكون هناك آمر من العقل وزعموا أن ذلك من أحكام الوسوسة والجنون قاتلهم الله أني يؤفكون، وعلى هذا بنوا استفهامهم وأخرجوا كلامهم وقالوا بطريق الاستهزاء: {أصلاتك} التي هي من نتائج الوسوسة وأفاعيل المجانين تأمرك بأن نترك ما استمر على عبادته آباؤنا جيلًا بعد جيل من الأوثان والتماثيل. وإنما جعلوه عليه السلام لم يكن يأمرهم من تلقاء نفسه بل من جهة الوحي وأنه كان يعلمهم بأنه مأمور بتبليغه إليهم، وتخصيصهم إسناد الأمر إلى الصلاة من بين سائر أحكام النبوة لأنه عليه السلام كان كثير الصلاة معروفًا بذلك، بل أخرج ابن عساكر عن الأحنف أنه عليه السلام كان أكثر الأنبياء صلاة، وكانوا إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكوم فكانت هي من بين شعائر الدين ضحكة لهم، وقيل: إن ذلك لأنه عليه السلام كان يصلي ويقول لهم: إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإلى الأول ذهب غير واحد، وهذا الإسناد حقيقي لا مجازي غاية ما في الباب أنهم قصدوا الحقيقة تهكمًا، واختيار المضارع ليدل على العموم بحسب الزمان، وقوله سبحانه: {تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ} على تقدير بتكليف أن نترك فحذف المضاف وهو تكليف، فدخل الجار على {ءانٍ} ثم حذف وحذفه قبلها مطرد، وعرف التخاطب في مثله يقتضي ذلك، وقيل: إن الداعي إليه أن الشخص لا يكلف بفعل غيره لأنه غير مقدور له أصلًا، وقيل: لا تقدير، والمعنى أصلاتك تأمرك بما ليس في وسعك وعهدتك من أفاعيل غيرك وغرضهم من ذلك التعريض بركاكة رأيه وحاشاه عليه السلام، والاستهزاء به من تلك الجهة، وتعقب بأنه يأباه دخول الهمزة على الصلاة دون الأمر، ويستدعي أن يصدر عنه عليه السلام في أثناء الدعوة ما يدل على ذلك أو يوهمه، وأني ذلك؟ فتأمل، وقرأ أكثر السبعة أصلواتك بالجمع، وأمر الجمع بين القراءتين سهل، وقوله تعالى: {أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أموالنا *مَا نَشَؤُا} أجابوا به أمره عليه السلام بإيفاء الحقوق ونهيه عن البخس والنقص وهو عطف على {مَا} وأو عنى الواو أي وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا من التطفيف وغيره، ولا يصح عطفه على {أَن نَّتْرُكَ} لاستحالة المعنى إذ يصير حينئذ تأمرك بفعلنا في أموالنا ما نشاء من التطفيف وغيره وهم منهيون عن ذلك لا مأمورون به، وحمل {مَا} على ما أشرنا إليه هو الظاهر، وقيل: كانوا يقرضون الدراهم والدنانير ويجرونها مع الصحيحة على جهة التدليس فنهوا عن ذلك فقالوا ما قالوا، وروي هذا عن محمد بن كعب، وأدخل بعضهم ذلك الفعل في العثى في الأرض فيكون انلهي عنه نهيًا عنه.
ولا مانع من اندراجه في عموم {مَا}، وقرأ الضحاك بن قيس. وابن أبي عبلة. وزيد بن علي بالتاء في الفعلين على الخطاب فعالعطف على مفعول {تَأْمُرُكَ} أي أصلاتك تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء أي من إيفاء المكيال والميزان كما هو الظاهر، وقيل: من الزكاة، فقد كان عليه السلام يأمرهم بها كما روي عن سفيان الثوري، قيل: وفي الآية على هذا مع حمل الصلاة على ما يتبادر منها دليل على أنه كان في شريعته عليه السلام صلاة وزكاة، وأيد بما روي عن الحسن أنه قال: لم يبعث الله تعالى نبيًا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة، وأنت تعلم أن حمل {مَا تَشَاء} على الزكاة غير متعين بل هو خلاف ظاهر السوق، وحمل الصلاة على ذلك وإن كان ظاهرًا إلا أنه روى ابن المنذر. وغيره عن الأعمش تفسيرها بالقراءة، ونقل عن غيره تفسيرها بالدعاء الذي هو المعنى اللغوي لها.
وعن أبي مسلم تفسيرها بالدين لأنها من أجل أموره، وعلى تقدير أن يراد منها الصلاة بالمعنى الآخر لا تدل الآية على أكثر من أن يكون له عليه السلام صلاة، ولا تدل على أنها من الأمور المكلف بها أحد من أمته فيمكن أن يكون ذلك من خصوصياته عليه السلام، وما وري عن الحسن ليس نصًا في الغرض كما لا يخفى، هذا وجوز أن يكون العطف على هذه القراءة على {مَا} وتعقب بأنه يستدعي أن يحمل الترك على معنيين مختلفين ولا يترك على ما يتبادر منه.
وقرأ أبو عبد الرحمن. وطلحة بالنون في الأول والتاء في الثاني، والعطف على مفعول {تَأْمُرُكَ} والمعنى ظاهر مما تقدم {إِنَّكَ لاَنتَ الحليم الرشيد} وصفوه عليه السلام بهذين الوصفين الجليلين على طريقة الاستعارة التهكمية، فالمراد بهما ضد معناهما، وهذا هو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإليه ذهب قتادة. والمبرد.
وجوز أن يكونوا وصفوه بذلك بناءًا على الزعم، والجملة تعليل لما سبق من استبعاد ما ذكروه كأنهم قالوا: كيف تكلفنا بما تكلفنا مع أنك أنت الحليم الرشيد بزعمك؛ وقيل: يجوز أن يكون تعليلًا باقيًا على ظاهره بناءًا على أنه عليه السلام كان موصوفًا عندهم بالحلم والرشد، وكان ذلك بزعمهم مانعًا من صدور ما صدر منه عليه السلام، ورجح الأول بأنه الأنسب بما قبله لأنه تهكم أيضًا، ورجح الأخير بأنه يكون الكلام عليه نظير ما مر في قصة صالح عليه السلام من قوله له: {قَدْ كَانَتْ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هذا} [هود: 62] وتعقيبه ثل ما عقب به ذلك حسا تضمنه قوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (88):

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)}
{قَالَ ياقوم أَرَءيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةً} حجة ظاهرة {مّن رَّبّى} ومالك أموري {وَرَزَقَنِى مِنْهُ} من لدنه سبحانه: {رِزْقًا حَسَنًا} هو النبوة والحكمة يدل على ذلك، والجواب عليه من باب إرخاء العنان. والكلام المنصف كأنه عليه السلام قال: صدقتم فيما قلتم إني لم أزل مرشدًا لكم حليمًا فيما بينكم لكن ما جئت به ليس غير الإرشاد والنصيحة بكم، أنظروا بعين الانصاف وأنتم ألباء إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وكنت نبيًا على الحقيقة أيصح لي وأنا مرشدكم والناصح لكم أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك؟ ثم إنه عليه السلام أكد معنى الإرشاد، وأدرج معنى الحلم فيما سيأتي من كلامه صلى الله عليه وسلم كذا قرره العلامة الطيبي.
واختار شيخ الإسلام عدم كونه باقيًا على الظاهر لما أن مقام الاستهزاء آب عنه، وذكر قدس سره أن المراد بالبينة والرزق الحسن النبوة والحكمة، وأن التعبير عنهما بذلك للتنبيه على أنهما مع كونهما بينة رزق حسن كيف لا وذلك مناط الحياة الأبدية له عليه السلام ولأمته؟ وأن هذا الكلام منه عليه السلام رد على مقالتهم الشنعاء المتضمنة زعم عدم استناد أمره ونهيه إلى سند، ثم قال: وجواب الشرط محذوف يدل عليه فحوى الكلام أي أتقولون. والمعنى أنكم عددتم ما صدر عني من الأوامر والنواهي من قبيل ما لا يصح أن يتفوه به عاقبل وجعلتموه من أحكام الوسوسة والجنون واستهزأتم بي وبأفعالي وقلتم، فأخبروني إن كنت من جهة ربي ومالك أموري ثابتًا على النبوة والحكمة التي ليس وراءها غاية للكمال ولا مطمح لطامح ورزقني لذلك رزقًا حسنًا أتقولون في شأني وشأن أفعالي ما تقولون مما لا خير فيه ولا شر وراءه؟ا وادّعى أن هذا هو الجواب الذي يستدعيه السياق ويساعده النظم الكريم.
وفسر القاضي الرزق الحسن بما آتاه الله تعالى من المال الحلال، ومعنى كون ذلك منه تعالى أنه من عنده سبحانه وباعانته بلا كد في تحصيله، وقدر جواب الشرط فهل يسع لي مع هذا الانعام الجامع للسعادة الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره ونهيه، وذكر أن هذا الكلام منه عليه السلاماعتذارا عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء، وقدر بعضهم ما قدره العلامة الطيبي.
وزعم شيخ الإسلام أن ذينك التقديرين عزل عما يستدعيه السياق، وأنهما إنما يناسبان إن حمل كلامهم على الحقيقة؛ وأريد بالصلاة الدين حسا نقل عن أبي مسلم. وعطاء، ويكون المراد بالرزق الحسن على ذلك ما آتاه الله تعالى من الحلال فقط كما روي عن الضحاك.
ويكون المعنى حينئذ أخبروني إن كنت نبيا من عند الله تعالى ورزقني مالًا حلالًا أستغني به عن العالمين أيصح أن أخالف أمره أو أوافقكم فيما تأتون وما تذرون انتهى.
وأقول: لا يخفى أن المناسب للمقام حمل الرزق الحسن على ما آتاه الله تعالى من الحلال الخالي عن التطفيف والبخس، وتقدير جواب الشرط نحو ما قدره القاضي ليس في الكلام ما يأبى عنه، ولا يتوقف على حمل الكلام على الحقيقة والصلاة على الدين بل يتأتى تقدير ذلك، ولو كان الكلام على سبيل التهكم والصلاة بالمعنى المتابدر بأن يقال: إنهم قاتلهم الله تعالى لما قالوا في ظلال الضلال وقالوا ما قالوا في حق نبيهم وما صدر منه من الأفعال لم يكن لهم مقصود إلا ترك الدعوة وتركهم وما يفعلون، ولم يتعرض عليه السلام صريحًا لرد قولهم المتضمن لرميه وحاشاه بالوسوسة. والجنون. والسفه. والغواية إيذانًا بأن ذلك مما لا يستحق جوابًا لظهور بطلانه وتعرض لجوابهم عما قصدوه بكلامهم ذلك بما يكون فيه قطع أطماعهم من أول الأمر مع الإشارة إلى رد ما تضمنته مقالتهم الشنعاء فكأنه عليه السلام قال لهم: يا قوم إنكم اجترأتم على هذه المقالة الشنيعة وضمنتموها ما هو ظاهر البطلان لقصد أن أترككم وشأنكم من عبادة الأوثان ونقص المكيال والميزان فأخبروني إن كنت نبيًا من عند الله تعالى ومستتنيا بما رزقني من المال الحلال عنكم وعن غيركم أيصح أن أخالف وحيه وأوافق هواكم لا يكون ذلك من أصلا فإذن لا فائدة لكم في هذا الكلام الشنيع، ورا يقال: إن في هذا الجواب إشارة إلى وصفهم بنحو ما وصفوه به عليه السلام كأنه قال: إن طلبكم مني ترك الدعوة وموافقة الهوى مع أني مأمور بدعوتكم وغنى عنكم مما لا يصدر عن عاقل ولا يرتكبه إلا سفيه غاو، وكأن التعرض لذكر الرزق مع الكون على بينة للإشارة إلى وجود المقتضى وارتفاع ما يظن مانعًا، ولا يخفى ما في إخراج الجواب على هذا الوجه من الحسن فتأمل.
بقي أن الذي ذكره النحاة على ما قال أبو حيان في مثل هذا الكلام أعني {أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ} إلخ أن تقدر الجملة الاستفهامية على أنها في موضع المفعول الثاني لأرأيتم المتضمنة معنى أخبروني المتعدية إلى مفعولين والغالب في الثاني أن يكون جملة استفهامية، وجواب الشرط ما يدل عليه الجملة السابقة مع متعلقها، والتقدير إن كنت على بينة من ربي فأخبروني هل يسع لي إلخ فافهم ولا تغفل {وَمَا أُرِيدُ} بنهي إياكم عما أنهاكم عنه من البخس والتطفيف {أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ} أي أقصده بعد ما وليتم عنه فأستبد به دونكم كما هو شأن بعض الناس في المنع عن بعض الأمور يقال: خالفني فلأن إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده.
قال في البحر: والظاهر على ما ذكروه أن {أَنْ أُخَالِفَكُمْ} في موضع المفعول به لأريد أي وما أريد مخلفتكم، ويكون خالف عنى خلف نحو جاوز وجاز، ويكون المعنى وما أريد أن أكون خلفًا منكم، و{إلى} متعلقة بأخالف أو حذوف أي مائلًا إلى ما أنهاكم عنه، وقيل: في الكلام فعل محذوف معطوف على المذكور أي وأميل إلى إلخ، ويجوز أن يبقى أخالف على ظاهره من املخالفة، ويكون {ءانٍ} وما بعدها في موضع المفعول به لأريد ويقدر مائلًا إلى كما تقدم، أو يكون {ءانٍ} وما بعدها في موضع المفعول له، و{إلى مَا} متعلقًا بأريد أي وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه، وقال الزجاج في معنى ذلك: أي ما أقد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه {إِنْ أُرِيدُ} أي ما أريد بما أقول لكم {إِلاَّ الإصلاح} أي إلا أن أصلحكم بالنصيحة والموعظة {مَا استطعت} أي مدة استطاعتي ذلك وتمكني منه لا آلو فيه جهدًا فما مصدرية ظرفية.
وجوز فيها أن تكون موصولة بدلًا من الإصلاح أي المقدار الذي استطعته أو {إِلاَّ الإصلاح} إصلاح ما استطعت، وهي إما بدل بعض أو كل لأن المتبادر من الإصلاح ما يقدر عليه، وقيل: بدل اشتمال، وعليه وعلى الأول يقدر ضمير أي منه لأنه في مثل ذلك لابد منه؛ وجوز أيضًا أن تكون مفعولًا به للمصدر المذكور كقوله:
ضعيف النكاية أعداءه ** يخال الفرار يراخي الأجل

أي ما أريد إلا أن أصلح ما استذعت إصلاحه من فاسدكم، والأبلغ الأظهر ما قدمناه لأن في احتمال البدلية إضمارًا وفوات المبالغة؛ وفي الاحتمال الأخير إعمال المصدر المعروف في المفعول به، وفيه مع أنه لا يجوز عند الكوفيين. ويقل عند البصريين فواتها، وزيادة إضمار مفعول {استطعت} {وَمَا تَوْفِيقِى} أي ما كوني موفقًا لتحقيق ما أتوخاه من إصلاحكم {إِلاَّ بالله} أي بتأييده سبحانه ومعونته.
واختار بعضهم أن يكون المراد وما توفيقي لإصابة الحق والصواب في كل ما آتي وأذر إلا بهدايته تعالى ومعونته والظاهر أن المراد وما كل فرد من أفراد توفيقي لما صرحوا به من أن المصدر المضاف من صيغ العموم، ويؤول إلى هذا ما قيل: إن المعنى ما جنس توفيقي لأن انحصار الجنس يقتضي انحصار أفراده لكن على الأول بطريق المفهوم. وعلى الثاني بطريق المنطوق، وتقدير المضاف بعد الباء مما التزمه كثير، وفيه على ما قيل: دفع الاستشكال بأن فاعل التوفيق هو الله تعالى، وأهل العربية يستقبحون نسبة الفعل إلى الفاعل بالباء لأنها تدخل على الآلة فلا يحسن ضربي بزيد، وإنما يقال: من زيد، فالاستعمال الفصيح بناءًا على هذا وما توفيقي إلا من عند الله ووجه الدفع بذلك التقدير ظاهر لأن الدخول ليس على الفاعل حينئذ.
وجوز أن يكون ذلك التقدير لما أن التوفيق وهو كون فعل العبد موافقًا لما يحبه الله تعالى ويرضاه لا يكون إلا بدلالة الله تعالى عليه، ومجرد الدلالة لا يجدي بدون المعونة منه عز شأنه {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في ذلك، أو في جميع أمور لا على غيره فإنه سبحانه القادر المتمكن من كل شيء، وغيره سبحانه عاجز في حد ذاته بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار كما أشار إليه الكتاب وعاينه أولو البصائر والألباب {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي أرجع فيما أنا بصدده، أو أقبل بشراشرى في مجامع أموري لا إلى غيره، والجملة معطوفة على ما قبلها، وكأن إيثار صيغة الاستقبال فيها على الماضي الأنسب للتقرر والتحقق كما في التوكل لاستحضار الصورة والدلالة على الاستمرار، ولا يخفى ما في جوابه عليه السلام مما لا يكاد يوجد في كلام خطيب إلا أن يكون نبيًا.
وفي أنوار التنزيل أن لأجوبته عليه السلام الثلاثة يعني {يَسْتَقْدِمُونَ قُلْ أَرَءيْتُمْ} إلخ {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ} إلخ و{إِنْ أُرِيدُ} إلخ على هذا النسق شأنًا، وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعى في كل ما يأته ويذره ثلاثة حقوق أهمها وأعلاها حق الله تعالى، فإن الجواب الأول: متضمن بيان حق الله تعالى من شكر نعمته والاجتهاد في خدمته. وثانيها: حق النفس، فإن الجواب الثاني متضمن بيان حق نفسه من كفها عما ينبغي أن ينتهي عنه غيره. وثالثها: حق الناس فإن الجواب الثالث متضمن للإشارة إلى أن حق الغير عليه إصلاحه وإرشاده؛ وإنما لم يعطف قوله: {إِنْ أُرِيدُ} إلخ على ما قبله لكونه مؤكدًا ومقررًا له لأنه لو أراد الاستئثار بما نهى عنه لم يكن مريدًا للإصلاح، ولا ينافي هذا كونه متضمنًا لجواب آخر، وكأن قوله: {وَمَا تَوْفِيقِى} إلخ إزاحة لما عسى أن يوهمه إسناد الاستطاعة إليه بإرادته من استبداده بذلك، ونظير ذلك {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وفيه مع ما بعده إشارة إلى محض التوحيد، وقال غير واحد: إنه قد اشتمل كلامه عليه السلام على مراعاة لطف المراجعة ورفق الاستنزال والمحافظة على حسن المجاراة والمحاورة، وتمهيد معاقد الحق بطلب التوفيق من جانبه تعالى والاستعانة به عز شأنه في أموره وحسم أطماع الكفار وإظهار الفراغ عنهم وعدم المبالاة عاداتهم، قيل: وفيه أيضًا تهديدهم بالرجوع إلى الله تعالى للجزاء، وذلك من قوله: {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} لأن الرجوع إليه سبحانه يكنى به عن الجزاء وهو وإن كان هنا مخصوصًا به لاقتضاء المقام له لكنه لا فرق فيه بينه وبين غيره، وفيه مع خفاء وجه الإشارة أن الإنابة إنما هي الرجوع الاختياري بالفعل إليه سبحانه لا الرجوع الاضطراري للجزاء وما يعمه، وقد يقال: إن في قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} إشارة أيضًا إلى تهديدهم لأنه عز وجل الكافي المعين لمن توكل عليه لكن لا يتعين أن يكون ذلك تهديدًا بالجزاء يوم القيامة.