فصل: تفسير الآية رقم (93):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (93):

{وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)}
{وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} أي غاية تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، وهو مصدر مكن يقال: مكن مكانة إذا تمكن أبلغ تمكن، والميم على هذا أصلية، وفي البحر يقال: المكان والمكانة مفعل ومفعلة من الكون والميم حينئذٍ زائدة، وفسر ابن زيد المكانة بالحال يقال: على مكانتك افلان إذا أمرته أن يثبت على حاله كأنك قلت: اثبت على حالك التي أنت عليها لا تنحرف، وهو من استعارة العين للمعنى كما نص عليه غير واحد، وحاصل المعنى هاهنا اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقة لي وسائر ما لا خير فيه.
وقرأ أبو بكر مكاناتكم على الجمع وهو باعتبار جمع المخاطبين كما أن الأفراد باعتبار الجنس، والجار والمجرور كما قال بعضهم: يحتمل أن يكون متعلقًا بما عنده على تضمين الفعل على معنى البناء ونحوه كما تقول: عمل على الجد وعلى القوة ونحوهما، وأن يكون في موضع الحال أي اعملوا قارين وثابتين على مكانتكم.
{إِنّى عامل} على مكانتي حسا يؤيدني الله تعالى ويوفقني بأنواع التأييد والتوفيق، وكأنه حذف على مكانتي للاختصار ولما فيه من زيادة الوعيد، وقوله سبحانه: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} استئناف وقع جواب سؤال مقدرنا شيء من تهديده عليه السلام إياهم بقوله: {اعملوا} إلخ كأن سائلًا منهم سأال فماذا يكون بعد ذلك؟ فقيل: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ولذا سقطت الفاء وذكرت في آية الأنعام للتصريح بأن الوعيد ناشئ ومتفرع على إصرارهم على ما هم عليه والتمكن فيه، وما هنا أبلغ في التهويل للإشعار بأن ذلك مما يسئل عنه ويعتنى به، والسؤال المقدر يدل على ما دلت عليه الفاء مع ما في ذلك من تكثير المعنى بتقليل اللفظ، وكأن الداعي إلى الإتيان بالأبلغ هنا دون ما تقدم أن القوم قاتلهم الله تعالى بالغوا في الاستهانة به عليه السلام وبلغوا الغاية في ذلك فناسب أن يبالغ لهم في التهديد ويبلغ فيه الغاية وإن كانوا في عدم الانتفاع كالأنعام، وما فيها نحو ذلك.
وقال بعض أجلة الفضلاء: إن اختيار إحدى الطريقين ثمة والأخرى هنا وإن كان مثله لا يسئل عنه لأنه دوري لأن أول الذكرين يقتضي التصريح فيناسب في الثاني خلافه انتهى، وهو دون ما قلناه، و{مِنْ} في قوله سبحانه: {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} قيل: موصولة مفعول العلم وهو عنى العرفان، وجملة {يَأْتِيهِ عَذَابٌ} صلة الموصول، وجملة {يُخْزِيهِ} صفة {عَذَابِ} ووصفه بالإخزاء تعريضًا بما أوعدوه عليه السلام من الرجم فإنه مع كونه عذابًا فيه خزي ظاهر، وقوله تعالى: {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} عطف على {مَن يَأْتِيهِ} و{مِنْ} أيضًا موصولة، وجوز أن تكون {مِنْ} في الموضعين استفهامية، والعلم على بابه وهي معلقة له عن العمل.
واستظهر أبو حيان الموصولية، وليس هذا العطف من عطف القسيم على قسيمه كما في سيعلم الصادق. والكاذب إذ ليس القصد إلى ذكر الفريقين، وإنما القصد إلى الرد على القوم في العزم على تعذيبه بقولهم: {لرجمناك} [هود: 91] والتصميم على تكذيبه بقولهم: {أصلواتك تَأْمُرُكَ} [هود: 87] إلخ فكأنه قيل: سيظهر لكم من المعذب أنتم أم نحن ومن الكاذب في دعواه أنا أم أنتم؛ وفيه إدراج حال الفريقين أيضًا.
وفي الإرشاد أن فيه تعريضًا بكذبهم في ادعائهم القوة والقدرة على رجمه عليه السلام، وفي نسبته إلى الضعف والهوان وفي ادعائهم الإبقاء عليه لرعاية جانب الرهط، وقال الزمخشري: إنه كان القياس، ومن هو صادر بدل هذا المعطوف لأنه قد ذكر عملهم على مكانتهم. وعمله على مكانته، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم فحينئذٍ ينصرف {مَن يَأْتِيهِ} إلخ إلى الجاحدين ومن هو صادق إلى النبي المبعوث ولكنهم لما كانوا يدعونه عليه السلام كاذبًا قال: ومن هو كاذب عنى في زعمكم ودعواكم تجهيلًا لهم يعني أنه عليه السلام جرى في الذكر على ما اعتادوه في تسميته كاذبًا تجهيلًا لهم، والمعنى ستعلمون حالكم وحال الصادق الذي سميتموه كاذبًا لجهلكم، وليس المراد ستعلمون أنه كاذب في زعمكم فلا يرد ما توهم من أن كذبه في زعمهم واقع معلوم لهم الآن فلا معنى لتعليق علمه على المستقبل، وقال ابن المنير: الظاهر أن الكلامين جميعًا لهم فمن يأتيه إلخ متضمن ذكر جزائهم، {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} متضمن ذكر جرمهم الذي يجازون به وهو الكذب، وهو من عطف الصفة على الصفة والموصوف واحد كما تقول لمن تهدده: ستعلم من يهان ومن يعاقب، وأنت تعني المخاطب في الكلامين فيكون في ذكر كذبهم تعريض لصدقه وهو أبلغ وأوقع من التصريح، ولذلك لم يذكر عاقبة شعيب عليه السلام استغناءًا بذكر عاقبتهم، وقد مر مثل ذلك أول السورة في قوله سبحانه: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [هود: 39] حيث اكتفى بذلك عن أن يقول: ومن هو على خلاف ذلك، ونظيره {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار} [الأنعام: 135] حيث ذكر فيه إحدى العاقبتين لأن المراد بهذه العاقبة عاقبة الخير لأنها متى أطلقت لا يعن إلا ذلك نحو {والعاقبة للمتقين} [الأعراف: 128] ولأن اللام في {لَهُ} يدل على أنها ليست عليه، واستغنى عن ذكر مقابلها انتهى، وتعقبه الطيبي بما رده عليه الفاضل الجلبي {وارتقبوا} أي انتظروا ما أقول لكم من حلول ما أعدكم به وظهور صدقه {إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ} أي منتظر ذلك، وقيل: المعنى انتظروا العذاب إني منتظر النصرة والرحمة، وروي ذلك عن ابن عباس، و{رَقِيبٌ} إما عنى مرتقب كالرفيع عنى المرتفع. أو راقب كالصريم عنى الصارم. أو مراقب كعشير عنى معاشر، والأنسب على ما قيل بقوله: {ارتقبوا}: الأول وإن كان مجيء فعيل عنى اسم الفاعل المزيد غير كثير وفي زيادة {طائركم مَّعَكُمْ} إظهار منه عليه السلام لكمال الوثوق بأمره.

.تفسير الآية رقم (94):

{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)}
{وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} أي عذابنا كما ينبئ عنه قوله سبحانه: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [هود: 93] إلخ أو وقته فإن الارتقاب يؤذن بذلك {نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا} وهو الإيمان الذي وفقناهم له. أو رحمة كائنة منالهم وإنما جيء بالفاء في قصتي ثمود. ولوط حيث قيل: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} [هود: 82] وبالواو هاهنا وفي قصة عاد حيث قيل: {وَلَمَّا جَاء} [هود: 66] إلخ لأنه قد سبق هناك سابقة الوعد بقوله سبحانه: {ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65] وقوله تعالى: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح} [هود: 81] وهو يجري مجرى السبب المقتضى لدخول الفاء في معلوله، وأما هاهنا. وفي قصة عاد فلم يسبق مثل ذلك بل ذكر مجيء العذاب على أنه قصة بنفسه وما قبله قصة أخرى لكنهما متعلقان بقوم واحد فهما متشاركان من وجه مفترقان من آخر، وذلك مقام الواو كذا قيل.
وتعقب بأن في الكلام هاهنا ذكر الوعد أيضًا، وهو قوله سبحانه: {لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} إلى قوله عز وجل: {رَقِيبٌ} [هود: 93] غاية الأمر أنه لم يذكر بلفظ الوعد ومثله لا يكفي الفرق، وقيل: إن ذكر الفاء في الموضعين لقرب عذاب قوم صالح. ولوط للوعد المذكور فإن بين الأولين والعذاب ثلاثة أيام. وبين الآخرين وبينه ما بين قول الملائكة: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح} [هود: 81] والصبح: وهي سويعات يسيرة. ولا كذلك عذاب قومي شعيب. وهود عليهما السلام بل في قصة قوم شعيب عليه السلام ما يشعر بعدم تضييق زمان مجيء العذاب بناءًا على الشائع في استعمال {سَوْفَ} على أن من أنصف من نفسه لم يشك في الفرق بين الوعد في قصتي صالح. ولوط عليهما السلام. والوعد في غيرهما، فإن الإشعار بالمجيء فيهما ظاهر فحسن تفريعه بالفاء ولا كذلك في غيرهما كذا قيل، وفيه ما لا يخفى، ولعل الاقتصار على التفرقة بالقرب وعدمه أقل غائلة مما قيل، وكذا مما يقال: من أن الإتيان بالفاء لتقدم الوعد وتركها وإن كان هناك وعد للإشارة إلى سوء حال أولئك القومين ومزيد فظاعته حتى أن العذاب حل بهم لا لسبب سبق الوعد بل لمجرد ظلمهم وكأن وجه اعتبار ذلك فيهم دون قومي لوط. وصالح عليهما السلام أنهم امتازوا عنهم برمي ذينك النبيين بالجنون ومشافهتهما بما لم يشافه به كل من قومي صالح. ولوط نبيه فيما قص عنهما في هذه السورة الكريمة فإن في ذلك ما لا يكاد يخفى عليك فتدبر {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ} عدل عن الضمير تسجيلًا عليهم بالظلم وإشعارًا بالعلية أي وأخذت أولئك الظالمين بسبب ظلمهم الذي فصل {الصيحة} قيل: صاح بهم جبريل عليه السلام فهلكوا وكانت صيحة على الحقيقة، وجوز البلخي أن يكون المراد بها نوعًا من العذاب، والعرب تقول: صاح بهم الزمان إذا هلكوا، وقال امرؤ القيس:
فدع عنك نهبًا صيح في حجراته ** ولكن حديث ما حديث الرواحل

والمعول عليه الأول، وقد سبق في الأعراف {الرجفة} [الأعراف: 78، 91] أي الزلزلة بدلها، ولعلها كانت من مباديها فلا منافاة، وقيل: غير ذلك فتذكر {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جاثمين} أي ميتين من جثم الطائر إذا ألصق بطنه بالأرض، ولذا خص الجثمان بشخص الإنسان قاعدًا، ثم توسعوا فاستعملوا الجثوم عنى الإقامة، ثم استعير من هذا الجاثم للميت لأنه لا يبرح مكانه، ولما لم يجعل متعلق العلم في قوله سبحانه: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ} [هود: 93] إلخ نفس مجيء العذاب بل من يجيئه ذلك جعل مجيئه بعد أمرًا مسلم الوقوع غنيًا عن الاخبار به حيث جعل شرطًا، وجعل تنجية شعيب عليه السلام والمؤمنين وإهلاك الكفرة الظالمين جوابًا له ومقصود الإفادة، وإنما قدم التنجية اهتمامًا بشأنها وإيذانًا بسبق الرحمة على الغضب قاله شيخ الإسلام، وأصبح إما ناقصة. أو تامة أي صاروا جاثمين. أو دخلوا في الصباح حال كونهم جاثمين.

.تفسير الآية رقم (95):

{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)}
{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ} أي لم يقيموا {فِيهَا} متصرفين في أطرافها متقلبين في أكنافها، والجملة إما خبر بعد خبر. أو حال بعد حال.
{أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} العدول عن الإضمار إلى الإظهار للمبالغة في تفظيع حالهم وليكون أنسب بمن شبه هلاكهم بهلاكهم، وإنما شبه هلاكهم بهلاكهم لأن عذاب كل كان بالصيحة غير أنه روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن صيحة ثمود كانت من تحتهم. وصيحة مدين كانت من فوقهم.
وقرأ السلمي. وأبو حيوة {بعدت} بضم العين، والجمهور بكسرها على أنه من بعد يبعد بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع عنى هلك، ومنه قوله:
يقولون لا تبعد وهم يدفونني ** وأين مكان البعد إلا مكانيًا

وأما بعد يبعد بالضم فهو البعد ضد القرب قاله ابن قتيبة، قيل: أرادت العرب بهذا التغيير الفرق بين المعنيين، وقال ابن الأنباري: من العرب من يسوي بين الهلاك وبعد الذي هو ضد القرب، وفي القاموس البعد المعروف والموت، وفعلهما ككرم. وفرح بعدًا وبعدًا بفتحتين، وقال المهدوي: إن بعد بالضم يستعمل في الخير والشر. وبعد بالكسر في الشر خاصة، وكيفما كان الأمر فالمراد ببعدت على تلك القراءة أيضًا هلكت غاية الأمر أنه في ذلك إماحقيقة أو مجاز، ومن هلك فقد بعد ونأى كما قال الشاعر:
من كان بينك في التراب وبينه ** شهران فهو في غاية البعد

وفي الآية ما يسمى الاستطراد، قيل: ولم يرد في القرآن من هذا النوع إلا ما في هذا الموضع وقد استعملته العرب في أشعارها، ومن ذلك قول حساب رضي الله عنه تعالى عنه:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني ** فنجوت منجى الحرث بن هشام

ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ** ونجا برأس طمرّة ولجام

هذا ومن باب الإشارة في الآيات: قوله سبحانه في قصة هود عليه السلام: {مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 56] فيه إشارة إلى أن كل ذي نفس تحت قهره سبحانه وسلطانه أسير في يد تصرفه وملكته عاجز عن الفعل إلا بإذنه وأنه عز وجل لا يسلط أحدًا على أحد إلا عن استحقاق ذنب أو رفع درجة وإعلاء منزلة لأنه تبارك وتعالى على طريق العدل الذي لا إعوجاج فيه، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره في فصوصه: إن كل ما سوى الحق فهو دابة فإنه ذو روح وما ثم من يدب بنفسه وإنما يدب بغيره بحكم التبعية للذي هو على صراط مستقيم فكل ماش فهو على الصراط المستقيم وحينئذ فلا مغضوب عليه ولا ضال من هذا الوجه، نعم إن الناس على قسمين: أهل الكشف.
وأهل الحجاب، فالأولون يمشون على طريق يعرفونها ويعرفون غايتها فهي في حقهم صراط مستقيم كما أنها في نفس الأمر كذلك، والآخرون يمشرون على طريق يجهلونها ولا يعرفون غايتها وأنها تنتهي إلى الحق فهي في حقهم ليست صراطًا مستقيمًا وإن كانت عند العارف ونفس الأمر صراطًا مستقيمًا، واستنبط قدس سره من الآية أن مآل الخلق كلهم إلى الرحمة التي وسعت كل شيء، وهي الرحمة السابقة على الغضب، وادعى أن فيها بشارة للخلق أي بشارة.
وقال القيصري في تفسيرها: أي ما من شيء موجود إلا هو سبحانه آخذ بناصيته وإنما جعل دابة لأن الكل عند صاحب الشهود وأهل الوجود حي، فالمعنى مامن حي إلا والحق آخذ بناصيته ومتصرف فيه بحسب أسمائه يسلك به أي طريق شاء من طرقه وهو على صراط مستقيم؛ وأشار بقوله سبحانه: {أَخَذَ} إلى هوية الحق الذي مع كل من الأسماء ومظاهرها، وإنما قال: {إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ} بإضافة الرب إلى نفسه، وتنكير الصراط تنبيهًا على أن كل رب على صراطه المستقيم الذي عين له من الحضرة الآلهية، والصراط المستقيم الجامع للطرق هو المخصوص بالاسم الإلهي ومظهره لذلك قال في الفاتحة المختصة بنبينا صلى الله عليه وسلم: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] بلام العهد. أو الماهية التي منها تتفرع جزئياتها، فلا يقال: إذا كان كل أحد على الصراط المستقيم فما فائدة الدعوة؟ لأنا نقول: الدعوة إلى الهادي من المضل. وإلى العدل من الجائر كما قال سبحانه: {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا} [مريم: 85] انتهى بحروفه، وأعظم من هذا إشكالًا التكليف مع القول بالوحدة وكذا التنعيم والتعذيب فإن الظاهر من التقرير لكلام المحققين من الصوفية أن المكلف عبارة عن موجود هو حصة من الوجود المطلق المفاض على حقائق الممكنات المتعين بتعينات مختلفة اقتضتها الاستعدادات الذاتية للحقائق التي هي المعدومات المتميزة في نفس الأمر المستعدة باستعدادات ذاتية غير مجعولة، فالمكلف مقيد من مقيدات الوجود المطلق المفاض، والمقيد لا يوجد بدون المطلق لأنه قيومه، والمطلق من حيث الإطلاق عين الحق، ولا شك أن قاعدة التكليف تقتضي أن يكون بينهما مغايرة ومباينة حقيقية ذاتية حتى يصح التكليف وما يترتب عليه من التعذيب والتنعيم.
وأجيب بأن حقيقة الممكن أمر معدوم متميز في نفسه بتميز ذاتي غير مجعول ووجوده خاص مقيد بخصوصية ما اقتضاها استعداده الذاتي لماهيته العدمية فهو مركب من الوجود والعدم وحقيقته مغايرة لوجوده تعقلًا لتمايزهما ذهنا، ولا ينافي ذلك قول الأشعري: وجود كل شيء عين حقيقته لما بين في محله وحقيقة الحق تعالى لا تغاير وجوده ووجوده سبحانه هو الوجود المطلق بالإطلاق الحقيقي حسا حققه محققو الصوفية، فالمغايرة الذاتية بين المكلف والمكلف في غاية الظهور لأن المكلف هو المعدوم اللابس لحصة من الوجود المتعين قتضى حقيقته، والمكلف سبحانه هو الحق عز وجل الذي هو عين الوجود المطلق الغير المقترن اهية عدمية، وبعبارة أخرى: إن حقيقة الممكن أمر معدوم.
وحقيقة الواجب سبحانه الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق وقد وقع في البين تجلى الهوية في العبد وذلك التجلي هو الجامع للقدرة وغيرها من الكمالات التي يتوقف عليها التلكيف قتضى الحكمة ومحقق للمغايرة.
وحاصل ذلك أن حقيقة المزج بين تجلي الهوية والصورة الخلقية المتعينة قتضى الحقيقة العدمية هي التي أحدثت ما به يصح التكليف وما يترتب عليه، وكون الحق سبحانه قيومًا للوجود المقيد غير قادح في ذلك بل القيومية هي المصححة له لما تبين من النصوص أنه لا تكليف إلا بالوسع ولا وسع للممكن إلا بقيوميته تعالى بنص {مَا شَاء الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله} [الكهف: 39] وما هو بالله فهو لله تعالى، والبحث في ذلك طويل، وبعض كلماتهم يتراءى منها عدم المغايرة بين المكلف والمكلف من ذلك ما قيل:
لقد كنت دهرًا قبل أن يكشف الغطا ** إخالك أني ذاكر لك شاكر

فلما أضاء الليل أصبحت شاهدا ** بأنك مذكور وذكر وذاكر

لكن ينبغي أن لا يبادر سمعها بالإنكار، ويرجع في المراد منها إلى العارفين بدقائق الأسرار، هذا وقد تقدم الكلام في ناقة صالح عليه السلام، وفيما قص الله تعالى هاهنا عن إبراهيم عليه السلام إشارة إلى بعض آداب الفتوة، فقد قالوا: إن من آدابها إذا نزل الضيف أن يبدأ بالكرامة في الإنزال؛ ثم يثني بالكرامة بالطعام، وإنما أوجس عليه السلام في نفسه خيفة لأنه ظن الغضب، والخليل يخشى غضب خليله ومناه رضاه، ولله در من قال:
لعلك غضبان ولست بعالم ** سلام على الدارين إن كنت راضيًا

وفي هذه القصة دليل على أنه قد ينسد باب الفراسة على الكاملين لحكم يريدها الله تعالى، ومن ذلك لم يعرف إبراهيم وكذا لوط عليهما السلام الملائكة عليهم السلام في أول الأمر، وكانت مجادلته عليه السلام من آثار مقام الإدلال على ما قيل، وقوله تعالى عن لوط عليه السلام: {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} [هود: 80] قيل: يشير بالقوة إلى الهمة وهي عندهم القوة المؤثرة في النفوس لأن القوة منها جسمانية. ومنها روحانية وهذه المسماة بالهمة وهي أقوى تأثيرًا لأنها قد تؤثر في أكثر العالم. أوكله بخلاف الجسمانية، وقصد عليه السلام بالركن الشديد القبيلة لأنه يعلم أن أفعال الله تعالى لا تظهر في الخارج إلا على أيدي المظاهر فتوجه إلى الله سبحانه وطلب منه أن يجعل له أنصارًا ينصرونه على أعداء الله تعالى، وردد الأمر بين ذلك وأن يجعل له همة مؤثرة من نفسه ليقاوم بها الأعداء، وقد علمت ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله:
«يرحم الله تعالى أخي لوطًا» الخبرة.
وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أنه عليه الصلاة والسلام نبه بذلك الخبر أن لوطًا كان مع الله تعالى من أنه سبحانه: {ركن شديد} والإشارة في قصة شعيب عليه السلام إلى أنه ينبغي لمن كان في حيز أن لا يعصى الله تعالى، وللواعظ أن لا يخالف فعله قوله:
لا تنه عن خُلق وتأتي مثله ** عار عليك إذا فعلت عظيم

وأنه لا ينبغي أن يكون شيء عند العبد أعز عليه من الله تعالى إلى غير ذلك، والله تعالى الهادي إلى سبيل الرشاد.