فصل: تفسير الآية رقم (111):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (111):

{وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)}
{وَإِنَّ كُلًا} التنوين عوض عن المضاف إليه كما هو المعروف في تنوين كل عند قوم من النحاة، وقيل: إنه تنوين تمكين لكنه لا يمنع تقدير المضاف إليه أيضًا أي وإن كل المختلفين المؤمنين والكافرين.
وقال مقاتل: يعني به كفار هذه الأمة {لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أعمالهم} أي أجزية أعمالهم، ولام {لَيُوَفّيَنَّهُمْ} واقعة في جواب القسم أي والله ليوفينهم، و{لَّمًّا} بالتشديد وهو مع تشديد أن قراءة ابن عامر. وحمزة، وحفص. وأبي جعفر. وتخريج الآية على هذه القراءة مشكل حتى قال المبرد: إنها لحن وهو من الجسارة كان لتواتر القراءة وليته قال كما أدري ما وجه هذه القراءة، واختلفوا في تخريجها فقال أبو عبيدة: إن أصل {لَّمًّا} هذه لما منونا، وقد قرئ كذلك ثم بني على فعلى وهو مأخوذ من لممته إذا جمعته، ولا يقال: إنها {لَّمًّا} المنوتة وقف عليها بالألف، وأجري الوصل مجرى الموقف لأن ذلك على ما قال أبو حيان: إنما يكون في الشعر واستبعد هذا التخريج بأنه لا يعرف بناء فعلى من لمّ، وبأنه يلزم لمن أمال فعلى أن يميلها ولم يملها أحد بالإجماع وبأنه كان القياس أن تكتب بالياء ولم تكتب بها، وسيعلم إعراب الآية على هذا مما سيأتي إن شاى الله تعالى.
وقيل: {لَّمًّا} المخففة وشددت في الوقف ثم أجرى الوصل مجرى الوقف وحينئد فالإعراب ما ستعرفه أيضًا إن شاء الله تعالى وهو بعيد جدًا، وقيل: إنها عنى إلا، وإلا تقع زائدة كما في قوله:
حلفت يمينًا غير ذي مثنوية ** يمين امرئ إلا بها غير آثم

فلا يبعدأن {لَّمًّا} التي عناها زائدة وهو وجه ضعيف مبني على وجه ضعيف في إلا، وعن المازني أن أن المشددة هن نافية، و{لَّمًّا} عنى إلا غير زائدة وهو باطل لأنه لم يعهد تقثيل أنالنافية، ولنصب كل والنافية لا تنصب، وقال الحوفي: {ءانٍ} على ظاهرها. و{لَّمًّا} عنى إلا كما في قولك: نشدتك بالله إلا فعلت، وضعفه أبو علي بأن {لَّمًّا} هذه لا تفارق القسم قبلها وليس كما ذكر فقد تفارق؛ وإنما يضعف ذلك بل يبطله كما قال أبو حيان: إن الموضع ليس موضع دخول إلا ألا ترى أنك لو قلت: إن زيدًا إلا ضربت لم يكن تركيبًا عربيًا؛ وقيل: إن {لَّمًّا} هذه أصلها لمن ما فهي مركبة من اللام ومن الموصولة أو الموصوفة وما الزائدة فقلبت النون ميمًا للادغام فاجتمعت ثلاث ميمات فخذفت الوسطى منها ثم أدغم المثلان، وإلى هذا ذهب المهدوي، وقال الفراء.
وتبعه جماعة منهم نصر الشيرازي: إن أصلها لمن ما بمن الجارة وما الموصولة أو الموصوفة وهي على الاحتمالين واقعة على من يعقل فعمل بذلك نحو ما عمل على الوجه الذي قبله، وقد جاء هذا الأصل في قوله:
وأنا لمن ما تضرب الكبش ضربة ** على رأسه تلقى اللسان من الفم

واللام على هذين الوجهين قيل: موطئة للقسم، ونقل عن الفارسي وهو مخالف لما اشتهر عن النحاة من أن الموطئة هي الداخلة على شرط مقدم على جواب قسم تقدم لفطًا أو تقديرًا لتؤذن بأن الجواب له نحو والله لئن أكرمتني لأكرمتك وليس ما دخلت عليه جواب القسم بل ما يأتي بعدها وكان مذهبه كمذهب الأخفش أنه لا يجب دخولها على الشرط، وإنما هي ما دلت على أن ما بعدها صالح لأن يكون جوابًا للقسم مطلقًا، وقيل: إنها اللام الداخلة في خبر إن، ومن موصولًا أو موصوفًا على الوجه الأول من الوجهين هو الخبر والقسم وجوابه صلة أو صفة، والمعنى وإن كلا للذين أو الخلق والله ليوفينهم ربك، ومن ومجرورها على الوجه الثاني في موضع الخبر لأن، الجملة القسمية وجوابها صلة أو صفة أيضًا لكن لما، والمعنى وإن كلا لمن الذين أو لمن خلق والله ليوفينهم ربك، قال في البحر: وهذان الوجهان ضعيفان جدًا ولم يعهد حذف نون من وكذا حذف نون من الجارة إلا في الشعر إذا لقيت لام التعريف أو شبهها غر المدغمة نحو قولهم: ملمال يريدون من المال، وفي تفسير القاضي. وغيره إن الأصل لمن ما بمن الجارة قلبت النون ميمًا فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت أولاهن، وفيه أيضًا ما فيه. ففي المعنى إن حذف هذه الميم استقالا لم يثبت انتهى، وقال الدماميني: كيف يستقيم تعليل الحدف بالاستقثال وقد اجتمعت في قوله تعالى: {على أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ} [هود: 48] ثماني ميمات انتهى، وأنشد الفراء على ما ذهب إليه قول الشاعر:
وإني لما أصدر الأمر وجهه ** إذا هو أعيا بالسبيل مصادره

وزعم بعضهم أن لما عنى حين وف الكلام حدف أي لما عملوا ما عملوا أو نحو ذلك والحذف في الكلام كثير نحو قوله:
إذا قلت سيروا إن ليلى لعلها ** جرى دون ليلى مائل القرن أعضب

أراد لعلها تلقاني أو تصلني أو نحو ذلك وو كما ترى، وقال أبو حيان بعد أن ذكر أن هذه التخريجات مما تنزه ساحة التنزيل عن مثلها: كنت قد ظهر لي وجه جار على قواعد العربية عار من التكلف وهو أن {لَّمًّا} هذه هي الجازمة حذف فعلها المجزوم لدلالة المعنى عليه كما حذفوه في قولهم: قاربت المدينة ولما يريدون ولما أدخلها، والتقدير هنا وإن كلا لما ينقص من جزاء عمله ويدل عليه ليوفينهم ربك أعمالهم، وكنت أعتقد أني ما سبقت إلى ذلك حتى تحققت أن ابن الحاجب وفق لذلك فرأيت في كتاب التحرير نقلًا عنه أنه قال: {لَّمًّا} هذه هي الجازمة حدف فعلها للدلالة عليه، وقد ثبت الحذف في قولهم: خرجت ولما.
وسافرت ولما ونحوه. وهو سائغ فصيح فيكون التقدير ولما يتركوا أو لما يهملوا ويدل عليه تفصيل المجموعين ونجازاتهم، ثم قال: وما أعرف وجهًا أشبه من هذا وإن كانت النفوس تستبعده من جهة بمن مثله لم يقع في القرآن انتهى، ولا يخفى عليك أن الأولى أن يقدر لما يوفوا أعمالهم أي إلى الآن لم يوفوها وسيوفونها، وإلى ذلك ذهب ابن هشام لما يلزم على التقديرات السابقة على ما هو المشهور في معنى لما أنهم سينقصون من جزاء أعمالهم وأنهم سيتركون ويهملون، وذلك عنزل عن أن يراد وهو ظاهر، وهذا وجه النظر عناه ابن هشام في قوله معترضًا على ابن الحاجب: وفي هذا التقدير نظر.
قال الجلبي: وجهه أن الدال على المحذوف سابق عليه بكثير من أن ذلك المحذوف ليس من لفظ هذا الذي قيل: إنه دال عليه وليس بذاك، ثم المرجح عند كثير من المفسرين ما ذهب إليه الفراء، وقرأ نافع. وابن كثير أن. ولما بالتخفيف وخرجت هذه القراءة على أن أن عاملة وإن خففت اعتبارًا للأصل في لعمل وهو شبه الفعل ولا يضر زوال الشبه اللفظي، وإلى ذلك ذهب البصريون، وذكر أبو حيان أن مذهبهم جواز أعمالها إذا خففت لكن على قلة إلا مع المضمر فلا يجوز إلا إن ورد في شعر، ونقل عن سيبويه منهم أنه قال: أخبرني الثقة أنه سمع يعض العرب يقول: إن عمرًا لمنطلق.
وزعم بعض من النحويين أن المكسورة إذا خففت لا تعمل، وتأول الآية بجعل {كَلاَّ} منصوبًا بفعل مقدر أي إن أرى كلا مثلا وليس بشيء، وجعل هذا في البحر مذهب الكوفيين، وفي الارتشاف إن الكوفيين لا يجوزون تخفيف المسكورة لا مهملة ولا معملة، وذكر بعضهم مثله وأن ما يعدّها البصريون مخففة يعدها الكوفيون نافية، واستثنى منهم الكسائي فإنه وافق البصريين ومذهبهم في ذلك هو الحق، و{كَلاَّ} اسمها واللام هي الداخلة على خبر إن وما موصولة خبر إن، والجملة القسمية وجوابها صلة، وإلى هذا ذهب الفراء، واختار الطبري في اللام مذهبه، وفي {مَا} كونها نكرة موصوفة، والجملة صفتها أي وإن كلا لخلق أو لفريق موفى عمله، واختار أبو علي في اللام ما اختاراه؛ وجعل الجملة القسمية خبرًا وما مزيدة بين اللامين وقد عهدت زيادتها في غير ما موضع، وقرأ أبوز بكر عن عاصم بتخفيف إن وتشديد لما، وقرأ الكسائي. وأبو عمرو بعكس ذلك وتخريج القراءتين لا يخفى على من أحاط خبرًا بما ذكر في تخريج القراءتين قبل، وقرأ أبى.
والحسن بخلاف عنه. وأبان بن تغلب، وأن بالتخفيف كل بالرفع لما بالتشديد، وخرجت على أن ان نافية وكل مبتدأ والجملة القسمية وجوابها خبره، و{لَّمًّا} عنى إلا أي ما كل إلا أقسم والله ليوفينهم، وأنكر أبو عبيدة مجيء {لَّمًّا} عنى إلا في كلام العرب، وقل الفراء: إن جعلها هن عنى الأوجه لا نعرفه، وقد قالت العرب مع اليمين بالله: لما قمت عنا وإلا قمت عنا، وأما في غير ذلك فلم نسمع مجيئها عنى إلا لا في نثر ولا في شعر؛ ويلزم القائل أن يجوز قام الناس لما زيدًا على معنى إلا زيدًا ولا التفات إلى إنكارهما، والقراءة المتواترة في {وإن كل لما جميع لدينا محضرون} [يس: 32] {إن كل نفس لما عليها حافظ} [الطارق: 4] تثبت ما أنكراه.
وقد نص الخليل. وسيبويه. والكسائي على مجيء ذلك، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وكون العرب خصصت مجيئها كذلك ببعض التراكيب لا يضر شيئًا فكم من شيء خص بتركيب دون ما أشبه.
وقرأ الزهري. وسليمان بن أرقم {وَإِنَّ كُلًا لَّمَّا} بتشديد الميم والتنوين ولم يتعرضوا في النقل عنهما لتشديد أن ولا لتخفيفها، وهي في هذه القراءة مصدر من قولهم: لممت الشيء إذا جمعته كما مر ونصبها على الحالية من ضمير المفعول في {لَيُوَفّيَنَّهُمْ} عند أبي البقاء وضعفه.
وقال أبو علي: إنها صفة لكل ويقدر مضافًا إلى نكرة ليصح وصفه بالنكرة، وكان المصدر حينئد عنى اسم المفعول، وذكر الزمخشري في معنى الآية على هذه القراءة أنه وإن كلا ملمومين عنى مجموعين كأنه قيل: وآن كلا جميعًا كقوله تعالى: {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] وجعل ذلك الطيبي منه ميلا إلى القول بالتأكيد.
وقال ابن جنى: إنها منصوبة بليوفينهم على حد قولهم: قياماف لا أقومن، والتقدير توفية جامعة لا عمالهم {لَيُوَفّيَنَّهُمْ وَخَيْرٌ إِنَّ فِي ذَلِكَ} جملة القيم وجوابه، وروي أبو حاتم أن في مصحف أبي وإن من كل إلا ليوفينهم وخرج على أن أن نافية ومن زائدة.
وقرأ الأعمس نحو ذلك إلا أنه أسقط من هو حرف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه والوجه ظاهر، قيل: وقد تضمنت هذه الجملة عدة مؤكدات من أن واللام وما إذا كانت زائدة والقسم ونون التأكيد وذلك للمبالغة في وعد الطائعين ووعيد العاصين {إِنَّهُ بما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي أنه سبحانه بما يعمله كل فرد من المختلفين من الخير والشر عليم على أتم وجه بحيث لا يخفى عليه شيء من جلائله ودقائقه، والجملة قيل: توكيد للوعد والوعيد فانه سبحانه لما كان عالمًا بجميع المعلومات كان عالمًا قادير الطاعات والمعاصي وما يقتضيه كل فرد منها من الجزاء قتضى الحكمة وحينئد تتأتى توفية كل ذي حق حقه إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
وقرأ ابن هرمز {وتعلمون} على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.

.تفسير الآية رقم (112):

{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)}
{خَبِيرٌ فاستقم كَمَا أُمِرْتَ} لما بين أمر المختلفين في التوحيد والنبوة، وأطنب سبحانه في شرح الوعد والوعيد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة مثل الاستقامة التي أمر بها وهذا يقتضي أمره صلى الله عليه وسلم بوحي أخر ولو غير متلو كما قاله غير واحد، والظاهر أن هذا أمر بالدوام على الاستقامة وهي لزوم المنهم المستقيم وهو المتوسط بين الافراط والتفريط وهي كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل وسائر الأخلاق فتشمل العقائد والأعمال المشتركة بينه صلى الله عليه وسلم وبين سائر المؤمنين والأمور الخاصة به عليه الصلاة والسلام من تبليغ الأحكام والقيام بوظائف النبوة وتحمل أعباء الرسالة وغير ذلك، وقد قالوا: إن التوسط بين الافراط والتفريط بحيث لا يكون ميل إلى أحد الجانبين قيد عرض شعرة مما لا يحصل إلا بالافتقار إلى الله تعالى ونفى الحول والقوة بالكلية، ومثلوا الأمر المتوسط بين ذينك الطرفين بخط يكون بين الشمس والظل لس بشمس ولا ظل بل هو أمر فاصل بينهما ولعمري إن ذلك لدقيق، ولهذا قالوا: لا يطيق الاستقامة إلا من أيد بالمشاهدات القوية والأنوار السنية ثم عصم بالتشبث بالحق {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئًا قليلًا} [الإسراء: 74] وجعل بعض العارفين الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف إشارة إلى هذا المنهج المتوسط. ومما يدل على شدة هذا الأمر ما أخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال: لما نزلت هذه الآية صلى الله عليه وسلم: «شمروا شمروا» وما رؤى بعدها ضاحكًا.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية ؤشد من هذه الآية ولا أشق، وأستدل بعض المفسرين على عسر الاستقامة بما شاع من قوله صلى الله عليه وسلم: «شيبتني هود» وأنت تعلم أن الأخبار متضافرة بضم سور أخرى إليها وإن اختلفت في تعيين المضموم كما مر أول السوءة، وحينئذ لا يخفى ما في الاستدلال من الخفاء، ومن هنا قال صاحب الكشف: التخصيص بهود لهذه الآية غير لائح إذ ليس في الأخوات ذكر الاستقامة.
وذكر في قوت القلوب أنه لما كان القريب الحبيب صلى الله عليه وسلم شيبه ذكر البعد وأهله ثم قال: ولعل الأظهر أنه عليه الصلاة والسلام شبيه ذكر أهوال القيامة، وكأنه بأبي هو أمي شاهد منه يومًا يجعل الوالدان شيبًا انتهى.
وبعضهم استدل للتخصيص برؤيا أبي علي الشترى السابقة وفيه بعد تسليم صحة الرواية إن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت حقًا حيث أن الشيظان لا يتمثل به عليه الصلاة والسلام إلا أنه من أين يجزم بضبط الرائي وتحقيقه ما رأى على أن مما يوهن أمر هذه الرؤيا ويقوي ظن عدم ثبوتها ما أخرجه ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«شيبتني هود وأخواتها وما فعل بالأمم قبلي» وذكر الشهاب ما يقوي اعتراض صاحب الكشف من أنه ليس في الطرق المروية في هذا الباب الاقتصار على هود بل ذكر معها أخواتها وليس فيها الأمر المذكور مع أنه وقع في غيرها من آل حميم، ثم ذكر أنه لاح له ما يدفع الاشكال؛ وذلك أن مبنى هذه السورة الكريمة على إشارة تعالى شأنه نبيه صلى الله عليه وسلم إلى كيفية الدعوة من مفتتحها إلى مختتمها وإلى ما يعتري من تصدي لهذه المرتبة السنية من الشدائد واحتماله لما يترتب عليه من الفوائد لا على التسلية إذ لا يطابق المقام حسا تقدم لك عن صاحب الكشف، ولما كانت هذه السورة جامعة لارشاده من أول أمره إلى آخره وهذه الآية فذلكة لها فحينما نزلت هذه السورة هاله ما فيها من الشدائد وخاف من عدم القيام بأعبائها حتى إذا لقى الله تعالى في يوم الجزاء را مسه نصب من السؤال عنها فذكر القيامة في تلك السور يخوفه هولها لاحتمال تفريطه فيما أرشده الله تعالى له في هذه، وهذا لا ينافي عصمته عليه الصلاة والسلام وقربه لكونه الأعلم بالله تعالى والأخوف منه، فالخوف منها يذكره بما تضمنته هذه السورة فكأنها هي المشيبة صلى الله عليه وسلم من بينها ولذا بدأ بها في جميع الروايات، ولما كانت تلك الآية فذلكة لها كانت هي المشيبة في الحقيقة فلا منافاة بين نسبة التشييب لتلك السور ولا لهذه السورة وحدها كما فعله من فعله ولا لتلك الآية كما وقع في تلك الرؤيا انتهى، وسيأتي إن شاء الله تعالى وجه آخر لنسبة التشييب لهذه السورة فليتأمل، وذهب بعض المحققين إلى كون الكاف في {كَمَا} عنى على كما في قولهم: كن كما أنت عليه أي على ما أنت عليه، ومن هنا قال ابن عطية. وجماعة: المعنى استقم على القرآن، وقال مقاتل: امض على التوحيد، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: استقم على الأخبار عن الله تعالى بصحة العزم، والأظهر إبقا ما على العموم أي استقم على جميع ما أمرتبه، والكلام في حذف مثل هذا الضمير أمر ائع، وقد مر التنبيه عليه، ومال بعضهم إلى كون الكاف للتشبيه حسا هو الظاهر منها إلا أنه قال: إنها في حكم مثل في قولهم: مثلك لا يبخل فكأنه قيل: استقم الاستقامة التي أمرت بها فرارًا من تشبيه الشيء بنفسه، ولا يخفى أنه ليس بلازم، ومن الغريب ما نقل عن أبي حيان أنه قال في تذكرته: فإن قلت: كيف جاء هذا التشبيه للاستقامة بالأمر؟ قلت: هو على حذف مضاف تقديره مثل مطلوب الأمر أي مدلوله، فإن قلت: الاستقامة المأمور بها هي مطلوب الأمر فكيف يكون مثلا لها؟ قلت ملوب الأمر كلى والمأمور جزئي فحصلت المغايرة وصح التشبيه كقولك: صل ركعتين كما أمرت، وأبعد بعضهم فجعل الكاف عنى على واستفعل للطلب كاستغفر الله تعالى أي اطلب الغفران منه، وقال: المعنى اطلب الإقامة على الدين.
{وَمَن تَابَ مَعَكَ} أي تاب من الشرك وآمن معك فالمعية باعتبار اللازم من غير نظر إلى ما تقدمه وغيره، وقد يقال: يكفي الاشتراك في التوبة والمعية فيها مع قطع النظر عن المثوب عنه، وقد كان صلى الله عليه وسلم يستغفر الله تعالى في اليوم أكثر من سبعين مرة، واستظهر ذلك الجلبي، و{مِنْ} على ما اختاره أبو حيان. وجماعة عطف على الضمير المستكن في {واستقم} وأغني الفصل بالجار والمجرور عن تأكيده بضمير منفصل لحصول الغرض به، وفي الكلام تغليب لحكم الخطاب على الغيبة في لفظ الأمر، واختار كثير أنه فاعل لفعل محذوف أي وليستقم من إلخ لأن الأمر لا يرفع الظاهر، وحينئذ فالجملة معطوفة على الجملة الأولى، ومن ذهب إلى الأول رجحه بعدم احتياجه إلى التقدير ودفع المحذور بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع.
وجوز أبو البقاء كونه منصوبًا على أنه مفعول معه، والمعنى استقم مصاحبًا لمن تاب، قيل: وهو في المعنى أتم وإن كان في اللفظ نوع نبوة عنه.
وقيل: إنه مبتدأ والخبر محذوف أي فليستقم، وجوز كون الخبر {مَعَكَ} {وَلاَ تَطْغَوْاْ} أي لا تنحرفوا عما حدّ لكم بافراط أو تفريط فإن كلا طرفي قصد الأمور ذميم، وسمي ذلك طغيانًا وهو مجاوزة الحدّ تغليظًا أو تغليبًا لحال سائر المؤمنين على حاله صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس أن المعنى لا تطغوا في القرآن فتحلوا وتحرموا ما لم تأمروا به.
وقال ابن زيد: لا تعصوا ربكم، وقال مقاتل: لا تخلطوا التوحيد بالشرك، ولعل الأول أولى.
{إِنَّهُ بما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم على ذلك وهو تعليل للأمر والنهي السابقين كأنه قيل: استقيموا ولا تطغوا لأن الله تعالى ناظر لأعمالكم فيجازيكم عليها، وقيل: إنه تتميم للأمر بالاستقامة، والأول أحسن وأتم فائدة، وقرأ الحسن. والأعمس يعملون بياء الغيبة، وروي ذلك عن عيسى الثقفي أيضًا، وفي الآية على ما قال غير واحد دليل على وجوب اتباع المنصوص عليه من غير انحراف جرد التشهي وإعمال العقل الصرف فإن ذلك طغيان وضلال، وأما العمل قتضى الاجتهاد التابع لعلل النصوص فذلك من باب الاستقامة كما أمر على موجب النصوص الآمرة بالاجتهاد، وقل الإمام: وعند لا يجوز تخصيص النص بالقياس لأنه لما دل عموم النص على حكم وجب الحكم قتضاه لقوله تعالى: {فاستقم كَمَا أُمِرْتَ} والعمل بالقياس انحراف عنه، ولذا لما ورد القرآن بالامر بالوضوء وجيء بالاعضاء مرتبة في اللفظ وجب الترتيب فيها، ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل.
والبقر من البقر وجب اعتبارها، وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به كل ذلك للأمر بالاستقامة كما أمر انتهى.
وأنت تعلم أن إيجاب الترتيب في الوضوء لذلك ليس بشيء ويلزمه أن يوجب الترتيب في الأوامر المتعاطفة بالواو مثل {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [البقرة: 43] وكذا في نحو {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] بعين ما ذكر في الوضوء وهو كما ترى، وكأنه عفا الله تعالى عنه يجزم بأن الحنفية الذين لا يوجبون الترتيب في أعمال الوضوء طاغون خارجون عما حد الله تعالى احتمال للقول بأنهم مستقيمون وهو من الظلم كان.