فصل: تفسير الآية رقم (32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (32):

{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)}
{قَالَتْ فذلكن} الفاء فصيحة والخطاب للنسوة والإشارة حسا يقتضيه الظاهر إلى يوسف عليه السلام بالعنوان الذي وصفته به الآن من الخروج في الحسن والكمال عن المراب البشرية، والاقتصار على الملكية، أو بعنوان ما ذكر مع الاخبار وتقطيع الأيدي بسببه أيضًا، فاسم الإشارة مبتدأ والموصول خبره، والمعنى إن كان الأمر كما قلتن فذلكن الملك الكريم الخارج في الحسن عن المراتب البشرية، أو الذي قطعتن أيدين بسببه وأكبرتنه ووصفتنه بما وصفتنه هو {الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ} أي عيرتني في الافتنان فيه أو بالعنوان الذي وصفنه به فيما سبق بقولهن: امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني، فاسم الإشارة خبر لمبتدأ محذوف دخلت الفاء عليه بعد حذفه، والموصول صفة اسم الاشارة أي فهو ذلكن العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن وقلتن فهي وفيّ ما قلتن، فالآن قد علمتن من هو وما قولكن فينا، وقيل: أرادت هذا ذلك العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه على معنى أنكن لم تصورنه بحق صورته ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتتان به، والإشارة بما يشار به إلى البعيد مع قرب المشار إليه وحضوره قيل: رفعًا لمنزلته في الحسن واستبعادًا لمحله فيه، وإشارة إلى أنه لغرابته بعيد أن يوجد مثله.
وقيل: إن يوسف عليه السلام كان في وقت اللوم غير حاضر وهو عند هذا الكلام كان حاضرًا فإن جعلت الإشارة إليه باعتبار الزمان الأول كانت على أصلها، وإن لوحظ الثاني كان قريبًا، وكانت الإشارة بما ذكر لتنزيله لعلو منزلته منزلة البعيد، واحتمال أنه عليه السلام أبعد عنهن وقت هذا الكلام لئلا يزددن دهشة وفتنة ولذا أشير إليه بذلك بعيد. وجوز ابن عطية كون الإشارة إلى حب يوسف عليه السلام، وضمير {فيه} عائد إليه، وجعل الإشارة على هذا إلى غائب على بابها ويبعده على ما فيه.
{وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسه} وهو إباحة منها ببقية سرها بعد أن أقامت عليهن الحجة وأوضحت لديهن عذرها وقد أصابهن من قبله ما أصابها أي والله لقد راودته حسا قلتن وسمعتن {فَاسْتَعْصَمَ} قال ابن عطية: أي طلب العصمة وتمسك بها وعصاني. وفي الكشاف أن الاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد كأنه في عصمة وهو مجتهد في الاستزادة منها، ونحوه استمسك واستوسع الفتق واستجمع الرأي واستفحل الخطب اه. وفي البحر: والذي ذكره الصرفيون في {استعصم} أنه موافق لاعتصم، وأما استمسك واستوسع واستجمع فاستفعل فيه أيضًا موافقة لافتعل، والمعنى امتسك واتسع واجتمع، وأما استفحل فاستفعل فيه موافقة لتفعل أي تفحل نحو استكبر وتكبر. فالمعنى فامتنع عما أرادت منه؛ وبالامتناع فسرت العصمة على إرادة الطلب لأنه هو معناها لغة، قيل: وعنت بذلك فراره عليه السلام منها فإنه امتنع منها أولًا بالمقال ثم لما لم يفده طلب ما يمنعه منها بالفرار، وليس المراد بالعصمة ما أودعه الله تعالى في بعض أنبيائه عليهم السلام مما يمنع عن الميل للمعاصي فإنه معنى عرفي لم يكن قبل بل لو كان لم يكن مرادًا كما لا يخفى.
وتأكيد الجملة بالقسم مع أن مضمونها من مراودتها له عن نفسه مما تحدث به النسوة لإظهار ابتهاجها بذلك. وقيل: إنه باعتبار المعطوف وهو الاستعصام كأنها نظمته لقوة الداعي إلى خلافه من كونه عليه السلام في عنفوان الشباب ومزيد اختلاطه معها ومراودتها إياه مع ارتفاع الموانع فيما تظن في سلك ما ينكر ويكذب المخبر به فأكدته لذلك وهو كما ترى. وفي الآية دليل على أنه عليه السلام لم يصدر منه ما سود به القصاص وجوه الطروس، وليت السدي لو كان قد سد فاء عن قوله: فاستعصم بعد حل سراويله.
ثم إنها بعد أن اعترفت لهن بما سمعنه وتحدثهن به وأظهرت من إعراضه عنها واستعصامه ما أظهرت ذكرت أنها مستمرة على ما كانت عليه لا يلويها عنها لوم ولا إعراض فقالت {وَلَئن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءَامُرُهُ} أي الذي آمره به فيما سيأتي كما لم يفعل فيما مضى: فما: موصولة والجملة بعدها صلة والعائد الهاء، وقد حذف حرف الجر منه فاتصل بالفعل وهذا أمر شائع مع أمر كقوله:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

ومفعول آمر الأول إما متروك لأن مقصودها لزوم امتثال ما أمرت به مطلقًا كما قيل، وإما محذوف لدلالة {يفعل} عليه وهو ضمير يعود على يوسف أي ما آمره به. وجوز أن يكون الضمير الموجود هو العائد على يوسف والعائد على الموصول محذوف أي به، ويعتبر الحذف تدريجًا لاشتراطهم في حذف العائد المجرور بالحرف كونه مجرورًا ثل ما جرّ به الموصول لفظًا ومعنى ومتعلقًا، وإذا اعتبر التدريج في الحذف يكون المحذوف منصوبًا، وكذا يقال في أمثال ذلك. وقال ابن المنير في تفسيره: إن هذا الجار مما أنس حذفه فلا يقدر العائد إلا منصوبًا مفصولًا كأنه قيل: أمر يوسف إياه لتعذر اتصال ضميرين من جنس واحد، ويجوز أن تكون {ما} مصدرية فالضمير المذكور ليوسف أي لئن لم يفعل أمري غياه، ومعنى فعل الأمر فعل موجبه ومقتضاه فهو إما على الإسناد المجازي أو تقدير المضاف، وعبرت عن مراودتها بالأمر إظهار لجريان حكومتها عليه واقتضاءًا للامتثال لأمرها.
{لَيُسْجَنَنَّ} بالنون الثقيلة آثرت بناء الفعل للمفعول جريًا على رسم الملوك. وجوز أن يكون إيهامًا لسرعة ترتب ذلك على عدم امتثاله لأمرها كأنه لا يدخل بينهما فعل فاعل.
{وَلَيَكُونَا} بالمخففة {مِّنَ الصَّاغِرِينَ} أي الأذلاء المهانين، وهو من صغر كفرح، ومصدر صغر بفتحتين، وصغرًا بضم فسكون، وصغار بالفتح، وهذا في القدر، وأما في الجثة والجرم فالفعل صغر ككرم، ومصدره صغر كعنب، وجعل بعضهم الصغار مصدرًا لهذا أيضًا وكذا الصغربالتحريك، والمشهور الأول، وأكدت السجن بالنون الثقيلة قيل: لتحققه، وما بعده بالنون الخفيفة لأنه غير متحقق. وقيل: لأن ذلك الكون من توابع السجن ولوازمه، فاكتفت في تأكيده بالنون الخفيفة بعد أن أكدت الأول بالثقيلة، وقرأت فرقة بالتثقبل فيهما وهو مخالف لرسم المصحف لأن النون رسمت فيه بالألف كـ {نسفعًا} [العلق: 15] على حكم الوقف وهي يوقف عليها بالألف كما في قول الأعشى:
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

وذلك في الحقيقة لشبهها بالتنوين لفظًا لكونها نونًا ساكنة مفردة تلحق الآخر، واللام الداخلة على حرف الشرط موطئة للقسم وجوابه سادٌ مسدّ الجوابين، ولا يخفى شدة ما توعدت به كيف وأن للذل تأثيرًا عظيمًا في نفوس الأحرار وقد يقدمون الموت عليه وعلى ما يجرّ إليه. قيل: ولم تذكر العذاب الأليم الذي ذكرته في {ما جزاء من أراد بأهلك سواءًا} [يوسف: 25] إلخ لأنها إذ ذاك كانت في طراوة غيظها ومتنصلة من أنها هي التي راودته فناسب هناك التغليظ بالعقوبة، وأما هنا فإنها في طماعية ورجاء، وإقامة عذرها عند النسوة فرقت عليه فتوعدته بالسجن وما هونم فروعه ومستتبعاته. وقيل: إن قولها {ليكونا من الصاغرين} إنما أتت به بدل قولها هناك: {عذاب أليم} [يوسف: 25] ذله بالقيد أو بالضرب أو بغير ذلك، لكن يحتمل أنها أرادت بالذلوالعذاب الأليم ما يكون بالضرب بالسياط فقط أو ما يكون به أو بغيره، أو أرادت بالذل ما يكون بالضرب وبالعذاب الأليم ما يكون به أو بغيره أو بالعكس، وكيفما كان الأمر فما طلبته هنا أعظمم ما لوحت بطلبه هناك لمكان الواو هناو أو هناك، ولعلها إنما بالغت في ذلك حضر من تلك النسوة لمزيد غيظها بظهور كذبها وصدقه وإصراره على عدم بلّ غليلها، ولتعلم يوسف عليه السلام أنها ليست في أمرها على خيفة ولا خفية من أحد، فيضيق عليه الحيل ويعيى به العللوينصحن له ويرشدنه إلى موافقتها فتدبر.

.تفسير الآية رقم (33):

{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)}
{قَالَ} استئناف بياني كأن سائلًا يقول: فماذا صنع يوسف حينئذ؟ فقيل: قال مناجيًا لربه عز وجل: {رَبِّ السِّجْنُ} الذي وعدتني بالإلقاء فيه، وهو اسم للمحبس. وقرأ عثمان ومولاه طارق وزيد بن علي والزهري وابن أبي اسحق وابن هرمز ويعقوب {السجن} بفتح السين على أنه مصدر سجنه أي حبسه، وهو في القراءتين مبتدأ خبره ما بعده، وقرأ {رب} بالضم و{السجن} بكسر السين والجر على الإضافة: فرب: حينئذ مبتدأ والخبر هو الخبر. والمعنى على ما قيل: لقاء صاحب السجن أو مقاساة أمره {أَحَبُّ إلَيَّ} أي آثر عندي لأن فيه مشقة قليلة نافدة إثرها راحات كثيرة أبدية {ممَّا يَدْعُونَني إلَيْه} من مواتاتها التي تؤدي إلى الشقاوة والعذاب الأليم. وصيغة التفضيل ليست على بابها إذ ليس له عليه السلام شائبة محبة لما يدعونه إليه وإنما هو والسجن شران أهونهما وأقربهما إلى الإيثار السجن. والتعبير عن الإيثار بالمحبة لحسم مادة طمعها عن المساعدة لها على مطلوبها خوفًا من الحبس، والاقتصار على السجن لكون الصغار من مستتبعاته على ما قيل. وقيل: اكتفى عليه السلام بذكر السجن عن ذكره لوفائه بالغرض وهو قطع طمعها عن المساعدة خوفًا مما توعدته به لأنها تظن أن السجن أشد عليه من الصغار بناءًا على زعمها أنه فتاها حقيقة وأن الفتيان لا يشق عليهم ذلك مشقة السجن، ومتى كان الأشد أحب إليه مما يدعونه إليه كان غير الأشد أحب إليه من باب أولى، وفيه منع ظاهر. وإسناد الدعوة إليهن لأنهن خوفنه عن مخالفتها وزيّن له مطاوعتها، فقد روي أنهنّ قلن له: أطع مولاتك واقض حاجتها لتأمن من عقوبتها فإنها المظلومة وأنت الظالم، وروي أن كلًا منهنّ طلبت الخلوة لنصيحته فلما خلت به دعته إلى نفسها، وعن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أن كل واحدة منهن أرسلت إليه سرًا تسأله الزيارة، فإسناد ذلك إليهنّ لأنهن أيضًا دعونه إلى أنفسهن صريحًا أو إشارة. وفي أثر ذكره القرطبي أنه عليه السلام لما قال: {رب السجب أحب إليّ} إلخ أوحى الله تعالى إليه: يا يوسف أنت جنيت على نفسك ولو قلت: العافية أحب إليَّ عوفيت، ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسأل الصبر، فقد روى الترمذي عن معاذ بن جبل عنه عليه الصلاة والسلام أنه سمع رجلًاوهو يقول: «اللهم إني أسألك الصبر فقال صلى الله عليه وسلم: سألت الله تعالى البلاء فاسأله العافية».
{وَإلاَّ تَصْرِفْ} أي وإن لم تدفع {عَنِّي كَيْدَهُنَّ} في تحبيب ذلك إلي وتحسينه لدي بأن تثبتني على ما أنا عليه من العصمة والفعة {أَصْبُ إلَيْهِنَّ} أي أمل على قضية الطبيعة وحكم القوة الشهوية إلى إجابتهن واتاتها أو إلى أنفسهن وهو كناية عن مواتاتهن وهذا فزع منه عليه السلام إلى ألطاف الله تعالى جريًا على سنن الأنبياء عليهم السلام والصالحين في قصر نيل الخيرات والنجاة عن الشرور على جناب الله تعالى وسلب القوى والقدر عن أنفسهم ومبالغة في استدعاء لطفه سبحانه في صرف كيدهن بإظهار أنه لا طاقة له بالمدافعة كقول المستغيث: أدركني وإلا هلكت، لا انه عليه السلام يطلب الإجبار والإلجاء إلى العصمة والعفة وفي نفسه داعية تدعوه إلى السواء. كذا قرره المولى أبو السعود وهو معنى لطيف وقد أخذه من كلام الزمخشري لكن قال القطب وغيره: إنه فرار إلى الاعتزال وإشارة إلى جواب استدلال الأشاعرة بهذه الآية على أن العبد لا ينصرف عن المعصية إلا إذا صرفه الله تعالى، وقد قرر ذلك الإمام بما قرره فليراجع وليتأمل.
وأصل {إلا} إن لا فهي مركبة من إن الشرطية ولا النافية كما أشرنا إليه، وقد أدغمت فيه النون باللام و{أصب} من صبا يصبو صبوًا وصبوة إذا مال إلى الهوى، ومنه الصبا للريح المخصوصة لأن النفوس تميل إليها لطيب نسيمها وروحها مضارع مجزوم على أنه جواب الشرط، والجملة الشرطية عطف على قوله: {السجن أحب} وجيء بالأولى اسمية دون الثانية لأن أحببته السجن مما يدعونه إليه كانت ثابتة مستمرة ولا كذلك الصرف المطلوب. وقرئ {أصب} من صبيت صبابة إذا عشقت، وفي البحر الصبابة إفراط الشوق كأن صاحبها ينصب فيما يهوى، والفعل مضمن معنى الميل أيضًا ولذا عدي بإلى أي أصب مائلًا إليهن {وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} أي الذين لا يعملون بما يعلمون لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء، أو من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه من القبائح لأن الحكيم لا يفعل القبيح، فالجهل عنى السفاهة ضد الحكمة لا عنى عدم العلم، ومن ذلك قوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا ** فنجهل فوق جهل الجاهلينا