فصل: تفسير الآية رقم (76):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (76):

{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)}
{فَبَدَأَ} قيل المؤذن ورجح بقرب سبق ذكره، وقيل: يوسف عليه السلام فقد روى أن إخوته لما قالوا ما قالوا قال لهم أصحابه: لابد من تفتيش رحالكم فردوهم بعد أن ساروا منزلًا أو بعد أن خرجوا من العبارة إليه عليه السلام فبدأ {بِأَوْعِيَتِهِمْ} أي بتفتيش أوعية الإخوة العشرة ورجح ذلك قاولة يوسف عليه السلام فإنها تقتضي ظاهرًا وقوع ما ذكر بعد ردهم إليه ولا يخفى أن الظاهر أن إسناد التفتيش إليه عليه السلام مجازي والمفتش حقيقة أصحابه بأمره بذلك {قَبْلُ} تفتيش {وِعَاء أَخِيهِ} بنيامين لنفي التهمة.
روى أنه لما بلغت النوبة إلى وعائه قال: ما أظن هذا أخذ شيئًا فقالوا: والله لا تتركه حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا ففعل {ثُمَّ استخرجها} أي السقاية أو الصواع لأنه كما علمت مما يؤنث ويذكر عند الحفاظ، وقيل: الضمير للسرقة المفهومة من الكلام أي ثم استخرج السرقة {مِن وِعَاء أَخِيهِ} لم يقل منه على رجع الضمير إلى الوعاء أو من وعائه على رجعه إلى أخيه قصدًا إلى زيادة كشف وبيان، والوعاء الظرف الذي يحفظ فيه الشيء وكأن المراد به هنا ما يشمل الرحل وغيره لأنه الأنسب قام التفتيش ولذا لم يعبر بالرحال على ما قيل، وعليه يكون عليه السلام قد فتش كل ما يمكن أن يحفظ الصواع فيه مما كان معهم من رحل وغيره.
وقولهم: مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد كما قال المدقق أبو القاسم السمرقندي لا يقتضي أن يلزم في كل مقابلة مقارنة الواحد للواحد لأن انقسام الآحاد على الآحاد كما يجوز أن يكون على السواء كما في ركب القوم دوابهم يجوز أن يكون على التفاوت كما في باع القوم دوابهم فإنه يفهم معه أن كلًا منهم باع ما له من دابة وقد مر التنبيه على هذا فيما سبق وحينئذٍ يحتمل أن يراد من وعاء أخيه الواحد والمتعدد.
وقرأ الحسن {وِعَاء} بضم الواو وجاء كذلك عن نافع. وقرأ ابن جبير {إعاء} بإبدال الواو المكسورة همزة كما قالوا في وشاح إشاح وفي وسادة إسادة وقلب الواو المكسورة في أول الكلمة همزة مطرد في لغة هذيل {قَالَ كذلك} أي مثل ذلك الكيد العجيب وهو إرشاد الأخوة إلى الإفتاء المذكور بإجرائه على ألسنتهم وحملهم عليه بواسطة المستفتين من حيث لم يحتسبوا {كِدْنَا لِيُوسُفَ} أي صنعنا ودبرنا لأجل تحصيل غرضه من المقدمات التي رتبها من دس السقاية وما يتلوه فالكيد مجاز لغوي في ذلك وإلا فحقيقته وهي أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه وتريده على ما قالوا محال عليه تعالى، وقيل: إن ذلك محمول على التمثيل، وقيل: إن في الكيد إسنادين بالفحوى إلى يوسف عليه السلام وبالتصريح إليه سبحانه والأول حقيقي والثاني مجازي، والمعنى فعلنا كيد يوسف وليس بذاك، وفي درر المرتضى إن كدنا عنى أردنا وأنشد:
كادت وكدت وتلك خير إرادة ** لو عاد من لهو الصبابة ما مضى

واللام للنفع لا كاللام في قوله تعالى: {فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] فإنها للضرر على ما هو الاستعمال الشائع.
{مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك} أي في سلطانه على ما روي عن ابن عباس أو في حكمه وقضائه كما روي عن قتادة، والكلام استئناف وتعليل لذلك الميد كأنه قيل: لماذا فعل ذلك؟ فقيل: لأنه لم يكن ليأخذ أخاه جزاء وجود الصواع عنده في دين الملك في أمر السارق إلا بذلك الكيد لأن جزاء السارق في دينه على ما روي عن الكلبي. وغيره أن يضاعف عليه الغرم. وفي رواية ويضرب دون أن يؤخذ ويسترق كما هو شريعة يعقوب عليه السلام فلم يكن يتمكن بما صنعه من أخذ أخيه بما نسب إليه من السرقة بحال من الأحوال.
{إِلاَّ أَن يَشَاء الله} أي إلا حال مشيئته تعالى التي هي عبارة عن ذلك الكيد أو الا حال مشيئته تعالى للأخذ بذلك الوجه، وجوز أن يكون المراد من ذلك الكيد الإرشاد المذكور ومباديه المؤديه إليه جميعًا من إرشاد يوسف عليه السلام وقومه إلى ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال حسا شرح مرتبًا، وأمر التعليل كما هو بيد أن المعنى على هذا الاحتمال مثل ذلك الكيد البالغ إلى هذا الحد كدنا ليوسف عليه السلام ولم نكتف ببعض من ذلك لأنه لم يكن يأخذ أخاه في دين الملك به إلا حال مشيئتنا له بإيجاد ما يرجي مجرى الجزاء الصوري من العلة التامة وهو إرشاد إخوته إلى الإفتاء المذكور فالقصر المستفاد من تقديم المجرور مأخوذ بالنسبة إلى البعض، وكذا يقال في تفسير من فسر {كِدْنَا لِيُوسُفَ} بقوله علمنا إياه وأوحينا به إليه أي مثل ذلك التعليم المستتبع لما شرح علمناه دون بعض من ذلك فقط إلخ، والاستثناء على كل حال من أعم الأحوال وجوز أن يكون من أعم العلل والأسباب أي لم يكن ليأخذ أخاه في دين الملك لعلة من العلل وسبب من الأسباب إلا لعلة مشيئته تعالى، وأيًا ما كان فهو متصل لأن أخذ السارق إذا كان ممن يرى ذلك ويعتقده دينًا لاسيما عند رضاه وإفتائه به ليس مخالفًا لدين الملك فلذلك لم ينازعه الملك وأصحابه في مخالفة دينهم بل لم يعدوه مخالفة.
وقيل: إن جملة ما كان إلخ في موضع البيان والتفسير للكيد وأن معنى الاستثناء إلا أن يشاء الله تعالى أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك وفيه بحث، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعًا أي لكن أخذه شيئة الله سبحانه وإذنه في دين غير دين الملك {نَرْفَعُ درجات} أي رتبًا كثيرًا عالية من العلم، وانتصابها على ما نقل عن أبي البقاء على الظرفية أو على نزع الخافض أي إلى درجات، وجوز غير واحد النصب على المصدرية، وأيًا ما كان فالمفعول به قوله تعالى: {مَّن نَّشَاء} أي نشاء رفعه حسا تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة كما رفعنا يوسف عليه السلام، وإيثار صيغة الاستقبال للإشعار بأن ذلك سنة مستمرة غير مختصة بهذه المادة والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب {وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ} من أولئك المرفوعين {عَلِيمٌ} لا ينالون شأوه.
قال المولى المحقق شيخ الإسلام قدس سره في بيان ربط الآية بما قبل: إنه إن جعل الكيد عبارة عن إرشاد الإخوة إلى الإفتاء وحملهم عليه أو عبارة عن ذلك مع مباديه المؤديه إليه فالمراد برفع يوسف عليه السلام ما اعتبر فيه بالشرطية أو الشطرية من إرشاده عليه السلام إلى ما يتم من قبله من المبادئ المفضية إلى استبقاء أخيه، والمعنى أرشدنا إخوته إلى الإفتاء لأنه لم يكن متمكنًا من غرضه بدونه أو أرشدنا كلًا منهم ومن يوسف وأصحابه إلى ما صدر عنهم ولم نكتف بما تم من قبل يوسف لأنه لم يكن متمكنًا من غرضه جرد ذلك.
وحينئذٍ يكون قوله تعالى: {نَرْفَعُ} إلى {عَلِيمٌ} توضيحًا لذلك على معنى أن الرفع المذكور لا يوجب تمام مرامه إذ ليس ذلك بحيث لا يغيب عن علمه شيء بل إنما نرفع كل من نرفع حسب استعداد وفوق كل واحد منهم عليم لا يقادر قدره يرفع كلًا منهم إلى ما يليق به من معارج العلم وقد رفع يوسف إلى ذلك وعلم أن ما حواه دائرة علمه لا يفي رامه فأرشد إخوته إلى الإفتاء المذكور فكان ما كان وكأنه عليه السلام لم يكن على يقين من صدوره ذلك منهم وإن كان على طمع منه فإن ذلك إلى الله تعالى شأنه وجودًا وعدمًا، والتعرض لوصف العلم لتعيين جهة الفوقية، وفي صيغة المبالغة مع التنكير والالتفات إلى الغيبة من الدلالة على فخامة شأنه عز شأنه وجلالة مقدار علمه المحيط جل جلاله ما لا يخفى. وإن جعل عبارة عن التعليم المستتبع للإفتاء فالرفع عبارة عن ذلك التعليم، والإفتاء وإن كان لم يكن داخلًا تحت قدرته عليه السلام لكنه كان داخلًا تحت علمه بواسطة الوحي والتعليم، والمعنى مثل ذلك التعليم البالغ إلى هذا الحد علمناه ولم نقتصر على تعليم ما عدا الإفتاء الذي سيصدر عن إخوته إذ لم يكن متمكنًا من غرضه في أخيه إلا بذلك، وحينئذٍ يكون قوله تعالى: {نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء} توضيحًا لقوله سبحانه: {كِدْنَا} وبيانًا لأن ذلك من باب الرفع إلى الدرجات العالية من العلم ومدحًا ليوسف عليه السلام برفعه إليها {وَفَوْقَ} إلخ تذييلًا له أي نرفع درجات عالية من نشاء رفعه وفوق كل منهم عليم هو أعلى درجة، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى، والمعنى أن إخوة يوسف كانوا علماء إلا أن يوسف أفضل منهم اه والذي اختاره الزمخشري على ما قيل حديث التذييل إلا أنه أوجز في كلامه حتى خفي مغزاه وعد ذلك من المداحض حيث قال: وفوق كل ذي علم عليم فوقه أرفع درجة منه في علمه أو فوق العلماء كلهم عليم هم دونه في العلم وهو الله عز وعلا، وبيان ذلك على ما في الكشف أن غرضه أن يبين وجه التذييل بهذه الجملة فأفاد أنه إما على وجه التأكيد لرفع درجة يوسف عليه السلام على إخوته في العلم أي فاقهم علمًا لأن فوق كل ذي علم عليم أرفع درجة منه، وفيه مدح له بأن الذين فاقهم علماء أيضًا وإما على تحقيق أن الله تعالى رفعه درجات وهو إليه لا منازع له فيه فقال: وفوق العلماء كلهم عليم هم دونه يرفع من يشاء يقربه إليه بالعلم كما رفع يوسف عليه السلام، وذكر أن ما يقال: من أن الكل على الثاني مجموعى وعلى الأول عنى كل واحد كلام غير محصل لأن الداخل على النكرة لا يكون مجموعيًا، وأصل النكتة في الترديد أنه لو نظر إلى العلم ولا تناهيه كان الأول فيرتقي إلى ما لا نهاية لعلمه بل جل عن النهاية من كل الوجوه، ولابد من تخصيص في لفظ {كُلٌّ} والمعنى وفوق كل واحد من العلماء عالم وهكذا إلى أن ينتهي، ولو نظر إلى العالم وإفادته إياه كان الثاني، والمعنى وفوق كل واحد واحد عالم واحد فأولى أن يكون فوق كلهم لأن الثاني معلول الأول، ولظهور المعنى عليه قدر وفوق العلماء كلهم وكلا الوجهين يناسب المقام اه.
ولعل اعتبار كون الجملة الأولى مدحًا ليوسف عليه السلام وتعظيمًا لشأن الكيد وكون الثانية تذييلًا هو الأظهر فتأمل. وقد استدل بالآية من ذهب إلى أنه تعالى شأنه عالم بذاته لا بصفة علم زائدة على ذلك، وحاصل استدلالهم أنه لو كان له سبحانه صفة علم زائدة على ذاته كان ذا علم لاتصافه به وكل ذي علم فوق عليم للآية فيلزم أن يكون فوقه وأعلم منه جل وعلا عليم آخر وهو من البطلان كان. وأجيب بأن المراد بكل ذي علم المخلوقات ذوو العلم لأن الكلام في الخلق ولأن العليم صيغة مبالغة معناه أعلم من كل ذي علم فيتعين أن يكون المراد به الله تعالى فما يقابله يلزم كونه من الخلائق لئلا يدخل فيما يقابله، وكون المراد من العليم ذلك هو إحدى روايتين عن الحبر، فقد أخرج عبد الرزاق.
وجماعة عن سعيد بن جبير قال: كنا عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فحدث بحديث فقال رجل عنده: {وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} فقال ابن عباس: بئسما قلت الله العليم وهو فوق كل عالم، وإلى ذلك ذهب الضحاك، فقد أخرج أبو الشيخ عنه أنه قال بعد أن تلا الآية يعني الله تعالى بذلك نفسه، على أنه لو صح ما ذكره المستدل لم يكن الله تعالى عالمًا بناءًا على أن الظاهر اتفاقه معنا في صحة قولنا فوق كل العلماء عليم، وذلك أنه يلزم على تسليم دليله إذا كان الله تعالى عالمًا أن يكون فوقه من هو أعلم منه، فإن أجاب بالتخصيص في المثال فالآية مثله.
وقرأ غير واحد من السبعة {درجات مَّن نَّشَاء} بالإضافة، قيل: والقراءة الأولى أنسب بالتذييل حيث نسب فيها الرفع إلى من نسب إليه الفوقية لا إلى درجته والأمر في ذلك هين. وقرأ يعقوب بالياء في {يَرْفَعُ} و{يَشَاء}. وقرأ عيسى البصرة {نَرْفَعُ} بالنون و{درجات} منونًا و{مَن يَشَآء} بالياء، قال صاحب اللوامح: وهذه قراءة مرغوب عنها ولا يمكن إنكارها. وقرأ عبد الله الحبر {وَفَوْقَ كُلّ ذِى عالم عَلِيمٌ} فخرجت كما في البحر على زيادة ذي أو على أن {عالم} مصدر عنى علم كالباطل أو على أن التقدير كل ذي شخص عالم، والذي في الدر المنثور أنه رضي الله تعالى عنه قرأ {وَفَوْقَ كُلّ عالم عَلِيمٌ} بدون {ذِى} ولعله إلا ثبت والله تعالى العليم.

.تفسير الآية رقم (77):

{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بما تَصِفُونَ (77)}
{قَالُواْ} أي الإخوة {إِن يَسْرِقْ} يعنون بنيامين {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} يريدون به يوسف عليه السلام وما جرى عليه من جهة عمته، فقد أخرج ابن إسحق. وابن جرير. وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كان أول ما دخل على يوسف عليه السلام من البلاء فيما بلغني أن عمته كانت تحضنه وكانت أكبر ولد إسحق عليه السلام وكانت إليها منطقة أبيها وكانوا يتوارثونها بالكبر فكانت لا تحب أحدًا كحبها إياه حتى إذا ترعرع وقعت نفس يعقوب إليه فأتاها فقال: يا أختاه سلمي إلى يوسف فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة فقالت، والله ما أنا بتاركته فدعه عندي أيامًا أنظر إليه لعل ذلك يسليني، فلما خرج يعقوب عليه السلام من عندها عمدت إلى تلك المنطقة فحزمتها على يوسف عليه السلام من تحت ثيابه ثم قالت: فقدت منطقة أبي إسحق فانظروا من أخذها فالتمست ثم قالت: اكشفوا أهل البيت فكشفوهم فوجودها مع يوسف عليه السلام فقالت: والله إنه لسلم لي أصنع فيه ما شئت فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر فقال لها: أنت وذاك إن كان فعل فأمسكته فما قدر عليه حتى ماتت.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الآية: «سرق يوسف عليه السلام صنمًا لجده أبي أمه من ذهب وفضة فكسره وألقاه على الطريق فعيره إخوته بذلك، وأخرج غير واحد عن زيد بن أسلم قال: كان يوسف عليه السلام غلامًا صغيرًا مع أمه عند خال له وهو يلعب مع الغلمان فدخل كنيسة لهم فوجد تمثالًا صغيرًا من ذهب فأخذه وذلك الذي عنوه بسرقته. وقال مجاهد: إن سائلًا جاءه يومًا فأخذ بيضة فناولها إياه: وقال سفيان بن عيينة: أخذ دجاجة فأعطاها السائل. وقال وهب: كان عليه السلام يخبئ الطعام من المائدة للفقراء وقيل وقيل. وعن ابن المنير أن ذلك تصلف لا يسوغ نسبة مثله إلى بيت النبوة بل ولا إلى أحد من الأشراف فالواجب تركه وإليه ذهب مكي. وقال بعضهم: المعنى إن يسرق فقد سرق مثله من بني آدم وذكر له نظائر في الحديث، قيل: وهو كلام حقيق بالقبول.
وأنت تعلم أن في عد كل ما قيل في بيان المراد من سرقة الأخ تصلفًا تصلف فإن فيه ما لا بأس في نسبته إلى بيت النبوة، وإن ادعى أن دعوى نسبتهم السرقة إلى يوسف عليه السلام مما لا يليق نسبة مثله إليهم لأن ذلك كذب إذ لا سرقة في الحقيقة وهم أهل بيت النبوة الذين لا يكذبون جاء حديث أكله الذئب وهم غير معصومين أولًا وآخرًا وما قاله البعض.
وقيل: إنه كلام حقيق بالقبول مما يأباه ما بعد كما لا يخفى على من له ذوق، على أن ذلك في نفسه بعيد ذوقًا وأتوا بكلمة {ءانٍ} لعدم جزمهم بسرقته جرد خروج السقاية من رحله، فقد وجدوا من قبل بضاعتهم في رحالهم ولم يكونوا سارقين. وفي بعض الروايات أنهم لما رأوا إخراج السقاية من رحله خجلوا فقالوا: يا ابن راحيل كيف سرقت هذه السقاية؟ فرفع يده إلى السماء فقال: والله ما فعلت فقالوا: فمن وضعها في رحلك؟ قال: الذي وضع البضاعة في رحالكم، فإن كان قولهم: {إِن يَسْرِقْ} إلخ بعد هذه المقاولة فالظاهر أنها هي التي دعتهم {لاِنْ} وأما قولهم: {إِنَّ ابنك سَرَقَ} [يوسف: 81] فبناءً على الظاهر ومدعي القوم وكذا علمهم مبني على ذلك؛ وقيل: إنهم جزموا بذلك {وَأَنْ} لمجرد الشرط ولعله الأولى لظاهر ما يأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه {ويسرق} لحكاية الحال الماضية، والمعنى إن كان سرق فليس يبدع لسبق مثله من أخيه وكأنهم أرادوا بذلك دفع المعرة عنهم واختصاصها بالشقيقين، وتنكير {وَلَهُ أَخٌ} لأن الحاضرين لا علم لهم به. وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي. وابن أبي سريج عن الكسائي. والوليد بن حسان. وغيرهم {فَقَدْ سَرَقَ} بالتشديد مبنيًا للمفعول أي نسب إلى السرقة {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ} الضمير لما يفهم من الكلام والمقام أي أضمر الحزازة التي حصلت له عليه السلام مما قالوا، وقيل: أضمر مقالتهم أو نسبة السرقة إليه فلم يجبهم عنها {فِى نَفْسِهِ} لا أنه أسرها لبعض أصحابه كما في قوله تعالى: {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح: 9] {وَلَمْ يُبْدِهَا} أي يظهرها {لَهُمْ} لا قولًا ولا فعلًا صفحًا لهم وحلمًا وهو تأكيد لما سبق {قَالَ} أي في نفسه، وهو استئناف مبني على سؤال نشأ من الأخبار بالأسرار المذكور كأنه قيل: فماذا قال في نفسه في تضاعيف ذلك؟ فقيل: قال: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا} أي منزلة في السرق، وحاصله أنكم أثبت في الاتصاف بهذا الوصف وأقوى فيه حيث سرقتم أخاكم من أبيكم ثم طفقتم تفترون على البريء، وقال الزجاج: إن الإضمار هنا على شريطة التفسير لأن: {قَالَ أَنْتُمْ} إلخ بدل من الضمير، والمعنى فأسر يوسف في نفسه قوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا} والتأنيث باعتبار أنه جملة أو كلمة. وتعقب ذلك أبو علي بأن الإضمار على شريطة التفسير على ضربين. أحدهما: أن يفسر فرد نحو نعم رجلًا زيد وربه رجلًا. وثانيهما: أن يفسر بجملة كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الصمد: 1] وأصل هذا أن يقع في الإبتداء ثم يدخل عليه النواسخ نحو: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} [طه: 74] {فَإِنَّهَا لاَ لاِوْلِى الابصار} [الحج: 46] وليس منها شفاء النفس مبذول وغير ذلك، وتفسير المضمر في كلا الموضعين متصل بالجملة التي قبلها المتضمنة لذلك المضمر ومتعلق بها ولا يكون منقطعًا عنها والذي ذكره الزجاج منقطع فلا يكون من الإضمار على شريطة التفسير.
وفي «أنوار التنزيل» أن المفسر بالجملة لا يكون إلا ضمير الشأن، واعترض عليه بالمنع. وفي الكشف أن هذا ليس من التفسير بالجمل في شيء حتى يعترض بأنه من خواص ضمير الشأن الواجب التصدير وإنما هو نظير {ووصى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يابنى} [البقرة: 132] إلخ.
وتعقب بأن في تلك الآية تفسير جملة وهذه فيها تفسير ضمير بجملة. وفي الكشاف جعل {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا} هو المفسر وفيه خفاء لأن ذلك مقول القول. واستدل بعضهم بالآية على إثبات الكلام النفسي بجعل {قَالَ} بدلًا من أسر ولعل الأمر لا يتوقف على ذلك لما أشرنا إليه من أن المراد قال في نفسه، نعم قال أبو حيان: إن الظاهر أنه عليه السلام خاطبهم وواجههم به بعد أن أسر كراهية مقالتهم في نفسه وغرضه توبيخهم وتكذيبهم، ويقويه أنهم تركوا أن يشفعوا بأنفسهم وعدلوا إلى الشفاعة له بأبيه وفيه نظر. وقرأ عبد الله. وابن أبي عبلة {فأسره} بتذكير الضمير {مَّكَانًا والله أَعْلَمْ بما تَصِفُونَ} أي عالم علمًا بالغًا إلى أقصى المراتب بإن الأمر ليس كما تصفون من صدور السرقة منا، فصيغة أفعل لمجرد المبالغة لا لتفضيل علمه تعالى على علمهم كيف لا وليس لهم بذلك من علم قاله غير واحد. وقال أبو حيان: إن المعنى أعلم بما تصفون به منكم لأنه سبحانه عالم بحقائق الأمور وكيف كانت سرقة أخيه الذي أحلتم سرقته عليه فأفعل حينئذ على ظاهره. واعترض بأنه لم يكن فيهم علم والتفضيل يقتضي الشركة، وأجيب بأنه تكفي الشركة بحسب زعمهم فإنهم كانوا يدعون العلم لأنفسهم، ألا ترى قولهم: {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} جزمًا.