فصل: تفسير الآية رقم (93):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (93):

{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)}
{اذهبوا بِقَمِيصِى هذا} هو القميص الذي كان عليه حينئذٍ كما هو الظاهر؛ وعن ابن عباس وغيره أنه القميص الذي كساه الله تعالى إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وكان من قمص الجنة جعله يعقوب حين وصل إليه في قصبة فضة وعلقه في عنق يوسف وكان لا يقع على عاهة من عاهات الدنيا إلا أبرأها بإذن الله تعالى. وضعف هذا بأن قوله: {إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94] يدل على أنه عليه السلام كان لابسًا له في تعويذته كما تشهد به الإضافة إلى ضميره وهو تضعيف ضعيف كما لا يخفى، وقيل: هو القميص الذي قد من دبر وأرسله ليعلم يعقوب أنه عصم من الفاحشة ولا يخفى بعده، وأيًا ما كان فالباء إما للمصاحبة أو للملابسة أي اذهبوا مصحوبين أو ملتبسين به أو للتعدية على ما قيل أي اذهبوا قميصي هذا {فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا} أي يصر بصيرًا ويشهد له {فارتد بَصِيرًا} [يوسف: 96] أو يأت إلي وهو بصير وينصره قوله: {وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} من النساء والذراري وغيرهم مما ينتظمه لفظ الأهل كذا قالوا.
وحاصل الوجهين كما قال بعض المدققين أن الإتيان في الأول مجاز عن الصيرورة ولم يذكر إتيان الأب إليه لا لكونه داخلًا في الأهل فإنه يجل عن التابعية بل تفاديًا عن أمر الإخوة بالإتيان لأنه نوع إجبار على من يؤتى به فهو إلى اختياره، وفي الثاني على الحقيقة وفيه التفادي المذكور، والجزم بأنه من الآتين لا محالة وثوقًا حبته وإن فائدة الإلقاء إتيانه على ما أحب من كونه معافى سليم البصر، وفيه أن صيرورته بصير أمر مفروع عنه مقطوع إنما الكلام في تسبب الإلقاء لإتيانه كذلك فهذا الوجه أرجح وإن كان الأول من الخلافة بالقبول نزل، وفيه دلالة على أنه عليه السلام قد ذهب بصره، وعلم يوسف عليه السلام بذلك يحتمل أن يكون بإعلامهم ويحتمل أن يكون بالوحي، وكذا علمه بما يترتب على الإلقاء يحتمل أن يكون عن وحي أيضًا أو عن وقوف من قبل على خواص ذلك القميص بالتجربة أو نحوها إن كان المراد بالقميص الذي كان في التعويذة ويتعين الاحتمال الأول إن كان المراد غيره على ما هو الظاهر. وقال الإمام: يمكن أن يقال: لعل يوسف عليه السلام علم أن أباه ما عرا بصره ما عراه إلا من كثرة البكاء وضيق القلب فإذا ألقى عليه قميصه فلابد وأن ينشرح صدره وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد وذلك يقوى الروح ويزيل الضعف عن القوى فحينئذٍ يقوى بصره ويزول عنه ذلك النقصان فهذا القدر مما يمكن معرفته بالعقل فإن القوانين الطبية تدل على صحته وأنا لا أرى ذلك، قال الكلبي: وكان أولئك الأهل نحوًا من سبعين إنسانًا وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أنهم اثنان وسبعون من ولده وولد ولده، وقيل: ثمانون، وقيل: تسعون وأخرج ابن المنذر. وغيره عن ابن مسعود أنهم ثلاثة وتسعون. وقيل: ست وتسعون وقد نموا في مصر فخرجوا منها مع موسى عليه السلام وهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعون رجلًا سوى الذرية والهرمى وكانت الذرية ألف ألف ومائتي ألف على ما قيل.

.تفسير الآية رقم (94):

{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)}
{وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} خرجت من عريش مصر قاصدة مكان يعقوب عليه السلام وكان قريبًا من بيت المقدس والقول بأنه كان بالجزيرة لا يعول عليه، يقال: فصل من البلد يفصل فصولًا إذا انفصل منه وجاوز حيطانه وهو لازم وفصل الشيء فصلًا إذا فرقه وهو متعد. وقرأ ابن عباس {وَلَمَّا أَيَّتُهَا العير} {قَالَ أَبُوهُمْ} يعقوب عليه السلام لمن عنده {إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} أي لأشم فهو وجود حاسة الشم أشمه الله تعالى ما عبق بالقميص من ريح يوسف عليه السلام من مسيرة ثمانية أيام على ما روي عن ابن عباس، وقال الحسن. وابن جريج. من ثمانين فرسخًا، وفي رواية عن الحسن أخرى من مسيرة ثلاثين يومًا. وفي أخرى عنه من مسيرة عشر ليال، وقد استأذنت الريح على ما روي عن أبي أيوب الهروي في إيصال عرف يوسف عليه السلام فأذن الله تعالى لها، وقال مجاهد: صفقت الريح القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب عليه السلام فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريحها إلا ما كان من ذلك القميص فقال ما قاله، ويبعد ذلك الإضافة فإنها حينئذٍ لأدنى ملابسة وهي فيما قبل وإن كانت كذلك أيضًا إلا أنها أقوى بكثير منها على هذا كما لا يخفى {لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ} أي تنسبوني إلى الفند بفتحتين ويستعمل عنى الفساد كما في قوله:
إلا سليمان إذ قال الإله له ** قم في البرية فاحددها عن الفند

وعنى ضعف الرأي والعقل من الهرم وكبر السن ويقال: فند الرجل إذا نسبه إلى الفند، وهو على ما قيل مأخوذ من الفند وهو الحجر كأنه جعل حجرًا لقلة فهمه كما قيل:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ** فكن حجرًا من يابس الصخر جلمد

ثم اتسع فيه فقيل فنده إذا ضعف رأيه ولامه على ما فعل؛ قال الشاعر:
يا عاذلي دعا لومي وتفنيدي ** فليس ما قلت من أمر بمردود

وجاء أفند الدهر فلانًا أفسده، قال ابن مقتل:
دع الدهر يفعل ما أراد فإنه ** إذا كلف الإفناد بالناس أفندا

ويقال: شيخ مفند إذا فسد رأيه، ولا يقال: عجوز مفندة لأنها لا رأي لها في شبيبتها حتى يضعف قاله الجوهري وغيره من أهل اللغة، وذكره الزمخشري في الكشاف وغيره، واستغربه السمين ولعل وجهه أن لها عقلًا وإن كان ناقصًا يشتد نقصه بكبر السن فتأمل، وجواب {لَوْلاَ} محذوف أي لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني أو لقلت: إن يوسف قريب مكانه أو لقاؤه أو نحو ذلك، والمخاطب قيل: من بقي من ولده غير الذين ذهبوا يمتارون وهم كثير، وقيل: ولد ولده ومن كان بحضرته من ذوي قرابته وهو المشهور.

.تفسير الآية رقم (95):

{قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)}
{قَالُواْ} أي أولئك المخاطبون {تالله إِنَّكَ لَفِى ضلالك القديم} أي لفي ذهابك عن الصواب قدمًا بالإفراط في محبة يوسف والإكثار من ذكره والتوقع للقائه وجعله فيه لتمكنه ودوامه عليه، وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن الضلال هنا عنى الحب، وقال مقاتل: هو الشقاء والعناء، وقيل: الهلاك والذهاب من قولهم: ضل الماء في اللبن أي ذهب فيه وهلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير تفسيره بالجنون وهو مما لا يليق وكأنه لتفسير ثل ذلك قال قتادة: لقد قالوا كلمة غليظة لا ينبغي أن يقولها مثلهم لمثله عليه السلام ولعلهم إنما قالوا ذلك لظنهم أنه مات.

.تفسير الآية رقم (96):

{فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)}
{فَلَمَّا أَن جَاء البشير} قال مجاهد. هو يهوذا. روي أنه قال لإخوته قد علمتم أني ذهبت إلى أبي بقميص الترحة فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة فتركوه. وفي رواية عن ابن عباس أنه مالك بن ذعر والرواية الشهيرة عنه ما تقدم، و{ءانٍ} صلة وقد أطردت زيادتها بعد لما. وقرأ ابن مسعود وعد ذلك قراءة تفسير {وَجَاء البشير مِن بَيْنِ يَدَيْهِ العير} {ألقيااه} أي ألقى البشير القميص {مُكِبًّا على وَجْهِهِ} أي وجه يعقوب عليه السلام، وقيل: فاعل {ألقى} ضمير يعقوب عليه السلام أيضًا والأول أوفق بقوله: {فَأَلْقُوهُ على وجه أبي} [يوسف: 93] وهو يبعد كون البشير مالكًا كما لا يخفى، والثاني قيل: هو الأنسب بالأدب ونسب ذلك إلى فرقد قال: إنه عليه السلام أخذه فشمه ثم وضعه على بصره {فارتد بَصِيرًا} والظاهر أنه أريد بالوجه كله، وقد جرت العادة أنه متى وجد الإنسان شيئًا يعتقد فيه البركة مسح به وجهه، وقيل: عبر بالوجه عن العينين لأنهما فيه، وقيل: عبر بالكل عن البعض {وارتد} عند بعضهم من أخوات كان وهي عنى صار فبصيرًا خبرها وصحح أبو حيان أنها ليست من أخواتها فبصيرا حال، والمعنى أنه رجع إلى حالته الأولى من سلامة البصر.
وزعم بعضهم أن في الكلام ما يشعر بأن بصره صار أقوى مما كان عليه لأن فعيلًا من صيغ المبالغة وما عدل من يفعل إليه إلا لهذا المعنى. وتعقب بأن فعيلًا هنا ليس للمبالغة إذ ما يكون لها هو المعدول عن فاعل وأما {تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} هنا فهو اسم فاعل من بصر بالشيء فهو جار على قياس فعل نحو ظرف فهو طريف ولو كان كما زعم عنى مبصر لم يكن للمبالغة أيضًا لأن فعيلًا عنى مفعل ليس للمبالغة نحو أليم وسميع، وأيًا ما كان فالظاهر أن عوده عليه السلام بصيرًا بإلقاء القميص على وجهه ليس إلا من باب خرق العادة وليس الخارق بدعًا في هذه القصة، وقيل: إن ذاك لما أنه عليه السلام انتعش حتى قوي قلبه وحرارته الغريزية فأوصل نوره إلى الدماغ وأداه إلى البصر، ومن هذا الباب استشفاء العشاق بما يهب عليهم من جهة أرض المعشوق كما قال:
وإني لأستشفي بكل غمامة ** يهب بها من نحو أرضك ريح

وقال آخر:
ألا يا نسيم الصبح مالك كلما ** تقربت منا فاح نشرك طيبا

كأن سليمى نبئت بسقامنا ** فأعطتك رياها فجئت طبيبا

إلى غير ذلك مما لا يحصى وهو قريب مما سمعته آنفًا عن الإمام هذا، وجاء في بعض الأخبار أنه عليه السلام سأل البشير كيف يوسف؟ قال: ملك مصر فقال: ما أصنع بالملك على أي دين تركته؟ قال: على الإسلام قال: الآن تمت النعمة.
وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال: لما جاء البشير إليه عليه السلام قال: ما وجدت عندنا شيئًا وما اختبزنا منذ سبعة أيام ولكن هون الله تعالى عليك سكرات الموت، وجاء في رواية أنه قال له: ما أدري ما أثيبك اليوم ثم دعا له بذلك {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ} يحتمل أن يكون خطابًا لمن كان عنده من قبل أي ألم أقل لكم إني لأجد ريح يوسف، ويحتمل أن يكون خطابًا لبنيه القادمين أي ألم أقل لكم. لا تيأسوا من رحمة الله وهو الأنسب بقوله: {إِنّى أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فإن مدار النهي العلم الذي أوتيه عليه السلام من جهة الله سبحانه، والجملة على الاحتمالين مستأنفة وعلى الأخير يجوز أن تكون مقول القول أي ألم أقل لكم حين أرسلتكم إلى مصر وأمرتكم بالتحسس ونهيتكم عن اليأس من روح الله تعالى إني أعلم من الله ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه السلام، واستظهر في البحر كونها مقول القول وهو كذلك.

.تفسير الآية رقم (97):

{قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)}
{قَالُواْ يأَبَانَا أَبَانَا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} طلبوا منه عليه السلام الاستغفار، ونادوه بعنوان الأبوة تحريكًا للعطف والشفقة وعللوا ذلك بقولهم: {إِنَّا كُنَّا خاطئين} أي ومن حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه ويستغفر له، وكأنهم كانوا على ثقة من عفوه ولذلك اقتصروا على طلب الاستغفار وأدرجوا ذلك في الاستغفار، وقيل: حيث نادوه بذلك أرادوا ومن حق شفقتك علينا أن تستغفر لنا فإنه لولا ذلك لكنا هالكين لتعمد الإثم فمن ذا يرحمنا إذا لم ترحمنا وليس بذاك.

.تفسير الآية رقم (98):

{قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)}
{قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} روي عن ابن عباس مرفوعًا أنه عليه السلام أخر الاستغفار لهم إلى السحر لأن الدعاء فيه مستجاب، وروي عنه أيضًا كذلك أنه أخره إلى ليلة الجمعة وجاء ذلك في حديث طويل رواه الترمذي وحسنه، وقيل: سوفهم إلى قيام الليل، وقال ابن جبير. وفرقة: إلى الليالي البيض فإن الدعاء فيها يستجاب، وقال الشعبي: أخره حتى يسأل يوسف عليه السلام فإن عفا عنهم استغفر لهم، وقيل أخر ليعلم حالهم في صدق التوبة وتعقب بعضهم بعض هذه الأقوال بأن سوف تأبى ذلك لأنها أبلغ من السين في التنفيس فكان حقه على ذلك السين ورد بما في المغني من أن ما ذكر مذهب البصريين وغيرهم يسوى بينهما، وقال بعض المحققين: هذا غير وارد حتى يحتاج إلى الدفع لأن التنفيس التأخير مطلقًا ولو أقل من ساعة فتأخيره إلى السحر مثلًا ومضى ذلك اليوم محل للتنفيس بسوف، وقيل: أراد عليه السلام الدوام على الاستغفار لهم وهو مبني على أن السين وسوف يدلان على الاستمرار في المستقبل وفيه كلام للنحويين. نعم جاء في بعض الأخبار ما يدل على أنه عليه السلام استمر برهة من الزمان يستغفر لهم. أخرج ابن جرير عن أنس بن مالك قال: إن الله تعالى لما جمع شمله ببنيه وأقر عينه خلا ولده نجيًا فقال بعضهم لبعض: لستم قد علمتم ما صنعتم وما لقي منكم الشيخ وما لقى منكم يوسف قالوا بلى قال فيغركم عفوهما عنكم فكيف لكم بربكم واستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جنبه فقالوا يا أبانا أتيناك في أمر لم نأتك في مثله قط ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله حتى حركوه والأنبياء عليهم السلام أرحم البرية فقال: ما لكم يا بني؟ قالوا ألست قد علمت ما كان منا إليك وما كان منا إلى أخينا يوسف؟ قالا بلى قالوا أفلستما قد عفوتما؟ قالا بلى قالوا فإن عفوكما لا يغني عنا شيئًا إن كان الله تعالى لم يعف عنا قال فما تريدون يا بني؟ قالوا: نريد أن تدعو الله سبحانه فإذا جاءك الوحي من عند الله تعالى بأنه قد عفا عما صنعنا قرت أعيننا واطمأنت قلوبنا وإلا فلا قرة عين في الدنيا لنا أبدًا قال فقام الشيخ فاستقبل القبلة وقام يوسف عليه السلام خلفه وقاموا خلفهما أذلة خاشعين فدعا وأمن يوسف فلم يجب فيهم عشرين سنة حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبريل على يعقوب عليهما السلام فقال: إن الله تعالى بعثني أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك وأنه قد عفا عما صنعوا وأنه قد عقد مواثيقهم من بعدك على النبوة، قيل: وهذا إن صح دليل على نبوتهم وإن ما صدر منهم كان قبل استنبائهم، والحق عدم الصحة وقد مر تحقيق المقام بما فيه كفاية فتذكر.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عائشة قال: ما تيب على ولد يعقوب إلا بعد عشرين سنة وكان أبوهم بين يديهم فما تيب عليهم حتى نزل جبريل عليه السلام فعلمه هذا الدعاء «يا رجاء المؤمنين لا تقطع رجاءنا يا غياث المؤمنين أغثنا يا معين المؤمنين أعنا يا محب التوابين تب علينا» فأخره إلى السحر فدعا به فتيب عليهم، وأخرج أبو عبيد. وغيره عن ابن جريج أن ما سيأتي إن شاء الله متعلق بهذا وهو من تقديم القرآن وتأخيره والأصل سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله. وأنت تعلم أن هذا مما لا ينبغي الالتفات إليه فإن ذاك من كلام يوسف عليه السلام بلا مرية ولا أدري ما الداعي إلى ارتكابه ولعله محض الجهل.
واعلم أنه ذكر بعض المتأخرين في الكلام على هذه الآية أن الصحيح أن {أَسْتَغْفِرُ} متعد إلى مفعولين يقال: استغفرت الله الذنب، وقد نص على ذلك ابن هشام وقد حذف من {استغفر لَنَا} أولهما، وذكر ثانيهما وعكس الأمر في {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ} ولعل السر والله سبحانه أعلم أن حذف الأول من الأول لإرادة التعميم أي استغفر لنا كل من أذنبنا في حقه ليشمله سبحانه وتعالى ويشمل يوسف وبنيامين وغيرهما ولم يحذف الثاني أيضًا تسجيلًا على أنفسهم باقتراف الذنوب لأن المقام مقام الاعتراف بالخطأ والاستعطاف لما سلف فالمناسب هو التصريح، وأما إثباته في الثاني فلأنه الأصل مع التنبيه على أن الأهم الذي ينبغي أن يصرف إليه الهم ويمحض له الوجه هو استغفار الرب واستجلاب رضاه فإنه سبحانه إذا رضي أرضى، على أن يوسف وأخاه قد ظهرت منهما مخايل العفو وأدركتهما رقة الأخوة، وأما حذف الثاني منه فللإيجاز لكونه معلومًا من الأول مع قرب العهد بذكره اه، ولعل التسويف على هذا ليزداد انقطاعهم إلى الله تعالى فيكون ذلك أرجى لحصول المقصود فتأمل.