فصل: تفسير الآية رقم (104):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (104):

{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)}
{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ} أي هذا الانباء أو جنسه أو القرآن، وأيامًا كان فالضمير عائد على ما يفهم مما قبله والمعنى ما تطلب منهم على تبليغه {مِنْ أَجْرٍ} أي جعل ما كما يفعله حملة الأخبار {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ} أي ما هو إلا تذكير وعظة من الله تعالى: {للعالمين} كافة، والجملة كالتعليل لما قبلها لأن الوعظ العام ينافي أخذ الأجرة من البعض لأنه لا يختص بهم. وقيل: اريدانه ليس إلا عظة من الله سبحانه امرت أن أبلغها فوجب على ذلك فكيف أسأل أجرًا على أداء الواجب وهو خلاف الظاهر، وعليه تكون الآية دليلًا على حرمة أخذ الأجرة على أدار الواجبات. وقرأ مبشر بن عبيد {وَمَا} بالنون.

.تفسير الآية رقم (105):

{وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)}
{للعالمين وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ} أي وكم من آية قال الجلال السيوطي: إن {كأي} اسم ككم التكثيرية الخبرية في المعنى مركب من كاف التشبيه وأي الاستفهامية المنونة وحكيت، ولهذا جاز الوقف عليها بالنون لأن التنوين لما دخل في التركيب أشبه النون الأصلية ولذا رسم في المصحف نونًا، ومن وقف عليها بحذفه اعتبر حكمه في الأصل، وقيل: الكاف فيها هي الزائدة قال ابن عصفور: ألا ترى أنك لا تريد بها معنى التشبيه وهي مع ذا لازمة وغير متعلقة بشيء وأي مجرورها، وقيل: هي اسم بسيط واختاره أبو حيان قال: ويدل على ذلك تلاعب العرب بها في اللغات، وإفادتها للاستفهام نادر حتى أنكره الجمهور، ومنه قول أبي لابن مسعود: كأين تقرأ سورة الأحزاب آية؟ فقال: ثلاثًا وسبعين، والغالب وقوعها خبرية ويلزمها الصدر فلا تجر خلافًا لابن قتيبة. وابن عصفور ولا يحتاج إلى سماع، والقياس على كم يقتضي أن يضاف إليها ولا يحفظ ولا يخبر عنها إلا بجملة فعلية مصدرة اض أو مضارع كما هنا، قال أبو حيان: والقياس أن تكون في موضع نصب على المصدر أو الظرف أو خبر كان كما كان ذلك في كم. وفي البسيط أنها تكون مبتدأ وخبرًا ومفعولًا ويقوال فيها: كائن بالمدّ بوزن اسم الفاعل من كان ساكنة النون وبذلك، قرأ ابن كثير {وكأ} بالقصر بوزن {يُؤْمِنُونَ عَمَّ} {وكأي} بوزن رمي وبه، قرأ ابن محيصن وكيئ بتقديم الياء على الهمزة. وذكر صاحب اللوامح أن الحسن قرأ {وكي} بياء مكسورة من غيره مز ولا ألف ولا تشديد و{سُوء ءايَةً} في موضع التمييز و{مِنْ} زائدة، وجر تمييز كأين بها دائمي أو أكثري، وقيل: هي مبينة للتمييز المقدر، والمراد من الآية الدليل الدال على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته، وهي وإن كانت مفردة لفظًا لكنها في معنى الجمع أي آيات لمكان كائن، والمعنى وكاي عدد شئت من الآيات الدالة على صدق ما جئت به غير هذه الآية {فِي السماوات والأرض} أي كائنة فيهما من الإجرام الفلكية وما فيها من النجوم وتغير أحوالها ومن الجبال والبحار وسائر ما في الأرض العجائب الفائتة للحصر:
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد

{يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} يشاهدونها {وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} غير متفكرين فيها ولا معتبرين بها، وفي هذا من تأكيد تعزيه صلى الله عليه وسلم وذم القوم ما فيه، والظاهر أن {فِي السموات والأرض} في موضع الصفة لآية وجملة {يَمُرُّونَ} خبر {كأين} كما أشرنا إليه سابقًا وجوز العكس، وقرأ عكرمة. وعمرو بن قائد {السماء والأرض} بالرفع على أن في السموات هو الخبر لكأين {والأرض} مبتدأ خبره الجملة بعده ويكون ضمير {عَلَيْهَا} للأرض لا للآيات كما في القراءة المشهورة، وقرأ السدى {والأرض} بالنصب على أنه مفعول بفعل محذوف يفسره {يَمُرُّونَ} وهو من الاشتغال المفسر بما يوافقه في المعنى وضمير {عَلَيْهَا} كما هو فيما قبل أي ويطؤون الأرض يمرون عليها، وجوز أن يقدر يطؤن ناصبًا للأرض وجملة {يَمُرُّونَ} حال منها أو من ضمير عاملها. وقرأ عبد الله {والأرض} بالرفع و{يَمْشُونَ} بدل يمرون والمعنى على القراآت الثلاث أنهم يجيئون ويذهبون في الأرض ويرون آثار الأمم الهالكة وما فيها من الآيات والعبر ولا يتفكرون في ذلك.

.تفسير الآية رقم (106):

{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)}
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله} في إقرارهم بوجوده تعالى وخالقيته {إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} به سبحانه، والجملة في موضع الحال من الأكثر أي ما يؤمن أكثرهم إلا في حال إشراكهم. قال ابن عباس. ومجاهد. وعكرمة. والشعبي. وقتادة: هم أهل مكة آمنوا وأشركوا كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملك، ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع أحدهم يقول: لبيك لا شريك لك يقول له: قط قط أي يكفيك ذلك ولا تزد إلا شريكًا إلخ. وقيل: هم أولئك آمنوا لما غشيهم الدخان في سنى القحط وعادوا إلى الشرك بعد كشفه. وعن ابن زيد. وعكرمة. وقتادة. ومجاهد أيضًا أن هؤلاء كفار العرب مطلقًا أقروا بالخالق الرازق المميت وأشركوا بعبادة الأوثان والأصنام، وقيل: أشركوا بقولهم: الملائكة بنات الله سبحانه. وعن ابن عباس أيضًا أنهم أهل اكلتاب أقروا بالله تعالى وأشركوا به من حيث كفروا بنبيه صلى الله عليه وسلم أو من حيث عبدوا عزيزًا والمسيح عليهما السلام.
وقيل: أشركوا بالتبني واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابًا. وقيل: هم الكفار الذين يخلصون في الدعاء عند الشدة ويشركون إذا نجوا منها وروي ذلك عن عطاء، وقيل: هم الثنوية قالوا بالنور والظلمة. وقيل: هم المنافقون جهروا بالإيمان واخفوا الكفر ونسب ذلك للبلخي، وعن الحبر أنهم المشبهة آمنوا مجملًا وكفروا مفصلًا. وعن الحسن أنهم المراؤون بأعمالهم والرياء شرك خفي، وقيل: هم المناظرون إلى الأسباب المعتمدون عليها، وقيل: هم الذين يطيعون الخلق عصية الخالق، وقد يقال نظرًا إلى مفهوم الآية: إنهم من يندرج فيهم كل من أقر بالله تعالى وخالقيته مثلًا وكان مرتكبًا ما يعد شركًا كيفما كان، ومن أولئك عبدة القبور الناذرون لها المعتقدون للنفع والضر ممن الله تعالى أعلم بحاله فيها وهم اليوم أكثر من الدود، واحتجت الكرامية بالآية على أن الأيمان مجرد الإقرار باللسان وفيه نظر.

.تفسير الآية رقم (107):

{أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)}
{أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مّنْ عَذَابِ الله} أي عقوبة تغشاهم وتشملهم، والاستفهام إنكار فيه معنى التوبيخ والتهديد كما في البحر، والكلام في العطف ومحل الاستفهام في الحقية مشهور وقد مر غير مرة، والمراد بهذه العقوبة ما يعم الدنيوية والأخروية على ما قيل. وفي البحر ما هو صريح في الدنيوية للمقابلة بقوله سبحانه: {أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً} فجأة من غير سابقة علامة وهو الظاهر {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بإتيانها غير مستعدين لها.

.تفسير الآية رقم (108):

{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)}
{قُلْ هذه سَبِيلِى} أي هذه السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان والوتحيد سبيلي كذا قالوا، والظاهر أنهم أخذوا الدعوة إلى الإيمان من قوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ ؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] لافادة أنه يدعوهم إلى الإيمان بجد وحرص وان لم ينفع فيهم، والدعوة إلى التوحيد من قوله سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ} [يوسف: 106] لدلالته على أن كونه ذكرًا لهم لاشتماله على التوحيد لكنهم لا يرفعون له رأسًا كسائر آيات الآفاق والانفس الدالة على توحده تعالى ذاتًا وصفات، وفسر ذلك بقوله تعالى: {ادعوا إِلَى الله} أي أدعو الناس إلى معرفته سبحانه بصفات كماله ونعوت جلاله ومن جملتها التوحيد فالجملة لا محل لها من الإعراب، وقيل: إن الجملة في موضع الحال من الياء والعامل فيها معنى الإشارة. وتعقب بأن الحال في مثله من المضاف إليه مخالفة للقواعد ظاهرًا وليس ذلك مثل {أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا} [النحل: 123] واعترض أيضًا بأن فيه تقييد الشيء بنفسه وليس ذاك {على بَصِيرَةٍ} أي بيان وحجة واضحة غير عمياء، والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير {أَدْعُو} وزعم أبو حيان أن الظاهر تعلقه بأدعو وقوله تعالى: {أَنَاْ} تأكيد لذلك الضمير أو للضمير الذي في الحال، وقوله تعالى: {وَمَنِ اتبعنى} عطف على ذي الحال، ونسبة {أَدْعُو} إليه من باب التغليب كما قرر في قوله تعالى: {اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة} [البقرة: 35] ومنهم من قدر في مثله فعلا عاملًا في المعطوف ولم يعول عليه المحققون، ومنع عطفه على {أَنَاْ} لكونه تأكيدًا ولا يصح في المعطوف كونه تأكيدًا كالمعطوف عليه. واعترض بأن ذلك غير لازم كما يقتضيه كلام المحققين، وجوز كون {مِنْ} مبتدأ خبره محذوف أي ومن اتبعني كذلك أي داع وأن يكون {على بَصِيرَةٍ} خبرًا مقدمًا {وَأَنَا} مبتدأ {وَمِنْ} عطف عليه، وقوله تعالى: {وسبحان الله} أي وأنزهه سبحانه وتعالى تنزيهًا من الشركاء، وهو داخل تحت القول وكذا {وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين} في وقت من الأوقات، والكلام مؤكد لما سبق من الدعوة إلى الله تعالى. وقرأ عبد الله {قُلْ هذا سَبِيلِى} على التذكير والسبيل تؤنث وقد تذكر.

.تفسير الآية رقم (109):

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)}
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا} رد لقولهم: {لَوْ شَاء رَبُّنَا لاَنزَلَ ملائكة} [فصلت: 14] نفي له، وقيل: المراد نفي استنباء النساء ونسب ذلك إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وزعم بعضهم أن الآية نزلت في سجاح بنت المنذر المنبئة التي يقول فيها الشاعر:
أمست نبيتنا أنثى نطوف بها ** ولم تزل أنبياء الله ذكرانا

فلعنة الله والاقوام كلهم ** على سجاح ومن بالافك أغرانا

أعني مسيلمة الكذاب لاسقيت ** اصداؤه ماء مزن أينما كانا

وهو مما لا صحة له لأن ادعاءها النبوة كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكونه اخبارًا بالغيب لا قرينة عليه {نُّوحِى إِلَيْهِمْ} كما أوحينا إليك. وقرأ أكثر السبعة {يُوحَى} بالياء وفتح الحاء مبنيًا للمفعول، وقراءة النون وهي قراءة حفص. وطلحة. وأبي عبد الرحمن موافقة لأرسلنا {مّنْ أَهْلِ القرى} لأن أهلها كما قال ابن زيد. وغيره: وهو مما لا شبهة فيه أعلم وأحلم من أهل البادية ولذا يقال: لأهل البادية أهل الجفاء، وذكروا ان التبدي مكروه إلا في الفتن، وفي الحديث: «من بدا جفا» قال قتادة: ما نعلم أن الله تعالى أرسل رسولًا قط إلا من أهل القرى، ونقل عن الحسن أنه قال: لم يبعث رسول من أهل البادية ولا من النساء ولا من الجن، وقوله تعالى: {وَجَاء بِكُمْ مّنَ البدو} [يوسف: 100] قد مر الكلام فيه آنفًا.
{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ} من المكذبين بالرسل والآيات من قوم نوح، وقوم لوط. وقوم صالح وسائر من عذبه الله تعالى فيحذروا تكذيبك وروى هذا عن الحسن، وجوز أن يكون المراد عاقبة الذين من قبلهم من المشغوفين بالدنيا المتهالكين عليها فيقلعوا ويكفوا عن حبها وكأنه لاحظ المجوز ما سيذكر، والاستفهام على ما في البحر للتقريع والتوبيخ {وَلَدَارُ الاخرة} من إضافة الصفة إلى الموصوف عند الكوفية أي ولا الدار الآخرة وقدر البصرى موصوفًا أي ولدار الحال أو الساعة أو الحياة الآخرة وهو المختار عند الكثير في مثل ذلك {خَيْرٌ لّلَّذِينَ اتقوا} الشرك والمعاصي: {أفَلا تَعْقِلُونَ} فتستعملوا عقولكم لتعرفوا خيرية دار الآخرة فتتوسلوا إليها بالاتقاء، قيل: إن هذا من مقول: {قُلْ} [يوسف: 108] أي قل لهم مخاطبًا أفلا تعقلون فالخطاب على ظاهره، وقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} إلى {مِن قَبْلِهِمُ} أو {اتقوا} اعتراض بين مقول القول، واستظهر بعضهم كون هذا التفاتًا. وقرأ جماعة {يَعْقِلُونَ} بالياء رعيا لقوله سبحانه: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ}.

.تفسير الآية رقم (110):

{حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)}
{حتى إِذَا استيئس الرسل} غاية لمحذوف دل عليه السباق والتقدير عند بعضهم لا يغرنهم تماديهم فيما هم فيه من الدعة والرخاء فإن من قبلهم قد أمهلوا حتى يئس الرسل من النصر عليهم في الدنيا أو من إيمانهم لانهماكهم في الكفر وتماديهم في الطغيان من غير وازع، وقال أبو الفرج بن الجوزي: التقدير وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا فدعوا قومهم فكذبوهم وصبروا وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم حتى إذا استيأس إلخ، وقال القرطبي: التقدير وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا ثم لم نعاقب أممهم حتى إذا استيأس إلخ، وقال الزمخشري: التقدير وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا فتراخى النصر حتى إذا إلخ، ولعل الأول أولى وإن كان فيه كثرة حذف، والاستفعال عنى المجرد كما أشرنا إليه وقد مر الكلام في ذلك {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} بالتخفيف والبناء للمفعول، وهي قراءة علي كرم الله تعالى وجهه. وأبى. وابن مسعود. وابن عباس. ومجاهد. وطلحة والأعمش. والكوفيين، واختلف في توجيه الآية على ذلك فقيل: الضمائر الثلاثة للرسل والظن عنى التوهم لا عناه الأصلي ولا عناه المجازي أعني اليقين وفاعل {كَذَّبُواْ} المقدر إما أنفسهم أو رجاؤهم فإنه يوصف بالصدق والكذب أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون أو كذبهم رجاؤهم النصر، والمعنى أن مدة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله تعالى قد تطاولت وتمادت حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا {جَاءهُمْ نَصْرُنَا} فجأة؛ وقيل: الضمائر كلها للرسل والظن عناه وفاعل {كَذَّبُواْ} المقدر من أخبرهم عن الله تعالى وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج الطبراني. وغيره عن عبد الله بن أبي مليكة قال: إن ابن عباس قرأ {قَدْ كُذِبُواْ} مخففة ثم قال: يقول أخلفوا وكانوا بشرا وتلا {حتى يَقُولَ الرسول والذين ءامَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله} [البقرة: 214] قال ابن أبي مليكة: فذهب ابن عباس إلى أنهم يئسوا وضعفوا فظنوا أنهم قد أخلفوا وروى ذلك عنه البخاري في الصحيح، واستشكل هذا بأن فيه ما لا يليق نسبته إلى الأنبياء عليهم السلام بل إلى صالحي الأمة ولذا نقل عن عائشة رضي الله تعالى عنها ذلك، فقد أخرج البخاري. والنسائي. وغيرهما من طريق عروة أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن هذه الآية قال: قلت أكذبوا أم كذبوا فقالت عائشة بل كذبوا يعني بالتشديد قلت: والله لقد استيقنوا ان قومهم كذبوهم فما هو بالظن قالت: أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك فقلت: لعله {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} مخففة قالت: معاذ الله تعالى لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم وطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاء نصر الله تعالى عند ذلك.
وأجاب بعضهم بأنه يمكن أن يكون اراد رضي الله تعالى عنه بالظن ما يخطر بالبال ويهجس بالقلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية، وذهب المجد بن تيمية إلى رجوع الضمائر جميعها إيضًا إلى الرسل مائلا إلى ما روي عن ابن عباس مدعيا أنه الظاهر وأن الآية على حد قوله تعالى: {إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِي نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله} [الحج: 52] فإن الالقاء في قلبه وفي لسانه وفي عمله من باب واحد والله تعالى ينسخ ما يلقي الشيطان، ثم قال: والظن لا يراد به في الكتاب والسنة الاعتقاد الراجح كما هو في اصطلاح طائفة من أهل العلم ويسمون الاعتقاد المرجوح وهما فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» وقال سبحانه: {إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى عَنْ الحق شَيْئًا} [النجم: 28] فالاعتقاد المرجوح هو ظن وهو وهم، وهذا قد يكون ذنبًا يضعف الإيمان ولا يزيله وقد يكون حديث النفس المعفو عنه كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل» وقد يكون من باب الوسوسة التي هي صريح الإيمان كما ثبت في الصحيح أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يحرق حتى يصير حمما أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به قال صلى الله عليه وسلم: «أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذلك صريح الإيمان» وفي حديث آخر «إن أحدنا ليجد ما يتعاظم أن يتكلم به قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة» ونظير هذا ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم عليه السلام إذ قال له ربه: أو لم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي» فسمى النبي صلى الله عليه وسلم التفاوت بين الإيمان والإطمئنان شكا باحياء الموتى، وعلى هذا يقال: الوعد بالنصر في الدنيا لشخص قد يكون الشخص مؤمنًا بإنجازه ولكن قد يضطرب قلبه فيه فلا يطمئن فيكون فوات الاطمئنان ظنًا أنه كذب، فالشك وظن أنه كذب من باب واحد وهذه الأمور لا تقدح في الإيمان الواجب وإن كان فيها ما هو ذنب، فالأنبياء عليهم السلام معصومون من الإقرار على ذلك كما في أفعالهم على ما عرف من أصول السنة والحديث، وفي قص مثل ذلك عبرة للمؤمنين بهم عليهم السلام فانهم لابد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك فلا ييأسوا إذا ابتلوا ويعلمون أنه قد ابتلى من هو خير منهم وكانت العاقبة إلى خير فيتيقن المرتاب ويتوب المذنب ويقوي إيمان المؤمن وبذلك يصح الاتساء بالأنبياء، ومن هنا قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [يوسف: 111] ولو كان المتبوع معصومًا مطلقًا لا يتأتى الاتساء فإنه التابع أنا لست من جنسه فإنه لا يذكر بذنب فإذا أذنب استيأس من المتابعة والاقتدار لما أتى به من الذنب الذي يفسد المتابعة على القول بالعصمة بخلاف ما إذا علم أنه قد وقع شيء وجبر بالتوبة فإنه يصح حينئذ أمر المتابعة كما قيل: أول من أذنب وأجرم ثم تاب وندم أبو البشر آدم. ومن يشابه أبه فما ظلم. ولا يلزم الاقتداء بهم فيما نهوا عنه ووقع منهم ثم تابوا عنه لتحقق الأمر بالاقتداء بهم فيما أقروا عليه ولم ينهوا عنه ووقع منهم ولم يتوبوا منه، وما ذكر ليس بدون المنسوخ من أفعالهم وإذا كان ما أمروا به وأبيح لهم ثم نسخ تنقطع فيه المتابعة فما لم يؤمروا به ووقع منهم وتابوا عنه أحرى وأولى بانقطاع المتابعة فيه اه.
ولا يخفى أن ما ذكره مستلزم لجواز وقوع الكبائر من الأنبياء عليهم السلام وحاشاهم من غير أن يقرواعلى ذلك والقول به جل عظيم ولا يقدم عليه ذو قلب سليم، على أن في كلامه بعدما فيه؛ وليته اكتفى بجعل الضمائر للرسل وتفسير الظن بالتوهم كما فعل غيره فانه ما لا بأس به، وكذا لا بأس في حمل كلام ابن عباس على أنه أراد بالظن فيه ما هو على طريق الوسوسة ومثالها من حديث النفس فإن ذلك غير الوسوسة المنزه عنها الأنبياء عليهم السلام أو على أنه أراد بذلك المبالغة في التراخي وطول المدة على طريق الاستعارة التمثيلية بأن شبه المبالغة في التراخي بظن الكذب باعتبار استلزام كل منهما لعدم ترتب المطلوب فاستعمل ما لأحدهما في الآخر، وقيل: ان الضمائر الثلاثة للمرسل إليهم لأن ذكر الرسل متقاض ذاك، ونظير ذلك قوله:
أمنك البرق ارقبه فهاجا ** وبت اخاله دهما خلاجا

فإن ضمير اخاله للرعد ولم يصرح به بل اكتفى بوميض البرق عنه، وان شئت قلت: ان ذكرهم قد جرى في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ} [يوسف: 109] فيكون الضمير للذين من قبلهم ممن كذب الرسل عليهم السلام، والمعنى ظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما ادعوه من النبوة وفيما وعدوا به من لم يؤمن من العقاب وروي ذلك عن ابن عباس أيضًا، فقد أخرج أبو عبيد.
وسعيد بن منصور. والنسائي. وابن جرير. وغيرهم من طرق عنه رضي الله تعالى عنه أنه كان يقرأ {كَذَّبُواْ} مخففة ويقول: حتى إذا يئس الرسل من قومهم أن يستجيوا لهم وظن قومهم ان الرسل قد كذبوهم فيما جاؤوا به جاء الرسل نصرنا، وروي ذلك أيضا عن سعيد بن جبير. أخرج ابن جرير. وأبو الشيخ عن ربيعة بن كلثوم قال: حدثني أبي أن مسلم بن يسار سأل سعيد بن جبير فقال: يا أبا عبد الله آية قد بلغت منى كل مبلغ {حتى إِذَا استيئس الرسل وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} فإن الموت أن تظن الرسل أنهم قد كذبوا مثقلة أو تظن أنهم قد كذبوا مخففة فقال سعيد: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم وظن قومهم أن الرسل كذبتهم جاءهم نصرنا فقام مسلم إليه فاعتنقه وقال: فرج الله تعالى عنك كما فرجت عني، وروي أنه قال. ذلك حضر من الضحاك فقال له: لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلًا، وقيل: ضمير {ظَنُّواْ} للمرسل إليهم وضمير {أَنَّهُمْ} و{وَكَذَّبُواْ} للرسل عليهم السلام وظنوا أن الرسل عليهم السلام اخلفوا فيما وعد لهم من النصر وخلط الأمر عليهم. وقرأ غير واحد من السبعة. والحسن. وقتادة. ومحمد بن كعب. وأبو رجاء. وابن أبي مليكة. والأعرج. وعائشة في المشهور {كَذَّبُواْ} بالتشديد والبناء للمفعول، والضمائر على هذا للرسل عليهم السلام أي ظن الرسل أن اممهم كذبوهم فيما جاؤوا به لطول البلاء عليهم فجاءهم نصر الله تعالى عند ذلك وهو تفسير عائشة رضي الله تعالى عنها الذي رواه البخاري عليه الرحمة، والظن عناه أو عنى اليقين أو التوهم، وعن ابن عباس. ومجاهد. والضحاك أنهم قرؤوا {كَذَّبُواْ} مخففًا مبنيًا للفاعل فضمير {ظَنُّواْ} للأمم وضمير {أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} للرسل أي ظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوهم به من النصر أو العقاب، وجوز أن يكون ضمير {ظَنُّواْ} للرسل وضمير {أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} للمرسل إليهم أي ظن الرسل عليهم السلام أن الأمم كذبتهم فيما وعدوهم به من أنهم يؤمنون، والظن الظاهر كما قيل: إنه عنى اليقين، وقرئ كما قال أبو البقاء: {كَذَّبُواْ} بالتشديد والبناء للفاعل، وأول ذلك بأن الرسل عليهم السلام ظنوا أن الأمم قد كذبوهم في وعدهم هذا، والمشهور استشكال الآية من جهة أنها متضمنة ظاهرًا على القراءة الأولى، نسبة ما لا يليق من الظن إلى الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام، واستشكل بعضهم نسبة الاستياس إليهم عليهم السلام أيضًا بناء على أن الظاهر أنهم استيأسوا مما وعدوا به وأخبروا بكونه فإن ذلك أيضًا مما لا يليق نسبته إليهم. وأجيب بأنه لا يراد ذلك وإنما يراد أنهم استيأسوا من إيمان قومهم.
واعترض بأنه يبعده عطف {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} الظاهر في أنهم ظنوا كونهم مكذوبين فيما وعدوا به عليه.
وذكر المجد في هذا المقام تحقيقًا غير ما ذكره أولا وهو أن الاستيآس وظن أنهم مكذوبين كليهما متعلقان بما ضم للموعود به اجتهادًا، وذلك أن الخبر عن استيآسهم مطلق وليس في الآية ما يدل على تقييده بما وعدوا به وأخبروا بكونه وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن الله تعالى إذا وعد الرسل بنصر مطلق كما هو غالب اخباراته لم يعين زمانه ولا مكانه ولا صفته، فكثيرًا ما يعتقد الناس في الموعود به صفات أخرى لم يدل عليها خطاب الحق تعالى بل اعتقدوها بأسباب أخرى كما اعتقد طائفة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم إخبار النبي صلى الله عليه وسلم لهم أنهم يدخلون المسجد الحرام ويطوفون به أن ذلك يكون عام الحديبية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج معتمرًا ورجا أن يدخل مكة ذلك العام ويطوف ويسعى فلما استيئسوا من ذلك ذلك العام لما صدهم المشركون حتى قاضاهم عليه الصلاة والسلام على الصلح المشهور بقي في قلب بعضهم شيء حتى قال عمر رضي الله تعالى عنه مع أنه كان من المحدثين: ألم تخبرنا يا رسول الله انا ندخل البيت ونطوف؟ قال: بلى أفاخبرتك إنك تدخله هذا العام؟ قال: لا. قال: إنك داخله ومطوف به، وكذلك قال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه فبين له أن الوعد منه عليه الصلاة والسلام كان مطلقًا غير مقيد بوقت، وكونه صلى الله عليه وسلم سعى في ذلك العام إلى مكة وقددها لا يوجب تخصيصًا لوعده تعالى بالدخول في تلك السنة، ولعله عله الصلاة والسلام إنما سعى بناء على ظن أن يكون الأمر كذلك فلم يكن، ولا محذور في ذلك فليس من شرط النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون كل ما قصده، بل من تمام نعمة الله تعالى عليه أن يأخذ به عما يقصده إلى أمر آخر هو أنفع مما قصده إن كان كما كان في عام الحديبية، ولا يضر أيضًا خروج الأمر على خلاف ما يظنه عليه الصلاة والسلام، فقد روى مسلم في صحيحه أنه عليه الصلاة والسلام قال في تأبير النخل: «إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله تعالى شيئًا فخذوا به فإني لن أكذب على الله تعالى» ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين: «ما قصرت الصلاة ولا نسيت ثم تبين النسيان» وفي قصة الوليد بن عقبة النازل فيها {إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ} [الحجر: 6] الآية وقصة بني أبيرق النازل فيها:
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بما أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] ما فيه كفاية في العلم بأنه صلى الله عليه وسلم قد يظن الشيء فيبينه الله تعالى على وجه آخر، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو هو هكذا فما ظنك بغيره من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، ومما يزيد هذا قوة أن جمهور المحدثين والفقهاء على أنه يجوز للأنبياء عليهم السلام الاجتهاد في الأحكام الشرعية ويجوز عليهم الخطأ في ذلك لكن لا يقرون عليه فإنه لا شك أن هذا دون الخطأ في ظن ما ليس من الأحكام الشرعية في شيء، وإذا تحقق ذلك فلا يبعد أن يقال: إن أولئك الرسل عليهم السلام أخبروا بعذاب قومهم ولم يعين لهم وقت له فاجتهدوا وعينوا لذلك وقتًا حسا ظهر لهم كما عين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية لدخول مكة فلما طالت المدة استيأسوا وظنوا كذب أنفسهم وغلط اجتهادهم وليس في ذلك ظن بكذب وعده تعالى ولا مستلزمًا له أصلًا فلا محذور. وأنت تعلم أن الأوفق بتعظيم الرسل عليهم السلام والأبعد عن الحوم حول حمى ما لا يليق بهم القول بنسبة الظن إلى غيرهم صلى الله عليه وسلم والله تعالى أعلم، والظاهر أن ضمير {جَاءهُمُ} على سائر القراآت والوجوه للرسل، وقيل: إنه راجع إليهم وإلى المؤمنين جاء الرسل ومن آمن بهم نصرنا {فَنُجّىَ مَن نَّشَاء} انجاءه وهم الرسل والمؤمنون بهم، وإنما لم يعينوا للإشارة إلى أنهم الذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم ولا يشاركهم فيه غيرهم.
وقرأ عاصم. وابن عامر. ويعقوب {فَنُجّىَ} بنون واحدة وجيم مشددة وياء مفتوحة على أنه ماض مبني للمفعول و{مِنْ} نائب الفاعل. وقرأ مجاهد. والحسن. والجحدري. وطلحة. وابن هرمز كذلك إلا أنهم سكنوا الياء، وخرجت على أن الفعل ماض أيضًا كما في القراءة التي قبلها إلا أنه سكنت الياء على لغة من يستثقل الحركة على الياء مطلقًا، ومنه قراءة من قرأ {مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] بسكون الياء، وقيل: الأصل ننجي بنونين فأدغم النون في الجيم. ورده أبو حيان بأنها لا تدغم فيها، وتعقب بأن بعضهم قد ذهب إلى جواز ادغامها ورويت هذه القراءة عن الكسائي. ونافع، وقرأت فرقة كما قرأ باقي السبعة بنونين مضارع أنجى إلا أنهم فتحوا اليا، ورواها هبيرة عن حفص عن عاصم، وزعم ابن عطية أن ذلك غلط من هبيرة إذ لا وجه للفتح، وفيه أن الوجه ظاهر، فقد ذكروا أن الشرط والجزاء يجوز أن يأتي بعدهما المضارع منصوبًا بإضمار أن بعد الفاء كقراءة من قرأ {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله فَيَغْفِرُ} [البقرة: 284] بنصب يغفر، ولا فرق في ذلك بين أن تكون أداة الشرط جازمة أو غير جازمة.
وقرأ نصر بن عاصم. وأبو حيوة. وابن السميقع. وعيسى البصرة. وابن محيصن. وكذا الحسن. ومجاهد في رواية {فنجا} ماضيًا مخففًا و{صَلَحَ مِنْ} فاعله. وروي عن ابن محيصن أنه قرأ كذلك إلا أنه شدد الجيم، والفاعل حينئذٍ ضمير النصر و{مِنْ} مفعوله. وقد رجحت قراءة عاصم ومن معه بأن المصاحف اتفقت على رسمها بنون واحدة. وقال مكي: أكثر المصاحف عليه فأشعر بوقوع خلاف في الرسم، وحكاية الاتفاق نقلت عن الجعبري. وابن الجزري. وغيرهما، وعن الجعبري أن قراءة من قرأ بنونين توافق الرسم تقديرًا لأن النون الثانية ساكنة مخفاة عند الجيم كما هي مخفاة عند الصاد والظاء في لننصر ولننظر والإخفاء لكونه سترًا يشبه الإدغام لكونه تغييبًا فكما يحذف عند الإدغام يحذف عند الإخفاء بل هو عنده أولى لمكان الاتصال. وعن أبي حيوة أنه قرأ {فَنُجّىَ مَن يَشَاء} بيا الغيبة أي من يشاء الله تعالى نجاته {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا} عذابنا {عَنِ القوم المجرمين} إذا نزل بهم، وفيه بيان لمن تعلق بهم المشيئة لأنه يعلم من المقابلة أنهم من ليسوا جرمين. وقرأ الحسن {بَأْسُهُ} بضمير الغائب أي بأس الله تعالى، ولا يخفى ما في الجملة من التهديد والوعيد لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم.