فصل: تفسير الآية رقم (76):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (76):

{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)}
{وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا} جملة مستأنفة سيقت إثر بيان ما صدر عن أسلافهم لبيان ما صدر عنهم بالذات من الشنائع المؤيسة عن إيمانهم من نفاق بعض وعتاب آخرين عليهم، ويحتمل أن تكون معطوفة على {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ} [البقرة: 75] إلخ، وقيل: معطوف على {يَسْمَعُونَ} [البقرة: 75] وقيل: على قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} [البقرة: 72] عطف القصة على القصة وضمير {لَقُواْ} لليهود على طبق {أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} [البقرة: 75] وضمير {قَالُواْ} للاقين لكن لا يتصدى الكل للقول حقيقة، بل باشرة منافقيهم وسكوت الباقين، فهو إسناد ما للبعض للكل ومثله أكثر من أن يحصى وهذا أدخل، كما قال مولانا مفتي الديار الرومية في تقبيح حال الساكتين أولًا: العاتبين ثانيًا لما فيه من الدلالة على نفاقهم واختلاف أحوالهم وتناقض آرائهم من إسناد القول إلى المباشرين خاصة بتقدير المضاف، أي قال منافقوهم كما فعله البعض وقيل: الضمير الأول لمنافقي اليهود كالثاني ليتحد فاعل الشرط والجزاء مراعاة لحق النظم ويؤيده ما روي عن ابن عباس والحسن وقتادة في تفسير {وَإِذَا لَقُواْ} يعني منافقي اليهود المؤمنين الخلّص قالوا: إلا أن السباق واللحاق كما رأيت وسترى يبعدان ذلك، وقرأ ابن السميقع {لاقوا}.
{ءامَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} أي إذا انفرد بعض المذكورين وهم الساكتون منهم بعد فراغهم عن الاشتغال بالمؤمنين متوجهين منضمين إلى بعض آخر منهم وهم من نافق، وهذا كالنص على اشتراك الساكتين في لقاء المؤمنين، إذ الخلو إنما يكون بعد الاشتغال، ولأن عتابهم معلق حض الخلو ولولا إنهم حاضرون عند المقاولة لوجب أن يجعل سماعهم من تمام الشرط، ولأن فيه زيادة تشنيع لهم على ما أوتوا من السكوت ثم العتاب {قَالُواْ} أي أولئك البعض الخالي موبخين لمنافقيهم على ما صنعوا بحضرتهم.
{أَتُحَدّثُونَهُم بما فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} أي تخبرون المؤمنين بما بينه الله تعالى لكم خاصة من نعت نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أو من أخذ العهود على أنبيائكم بتصديقه صلى الله عليه وسلم ونصرته، والتعبير عند بالفتح للإيذان بأنه سر مكتوم وباب مغلق، وفي الآية إشارة إلى أنهم لم يكتفوا بقولهم: {مِنَ} بل عللوه بما ذكر، وإنما لم يصرح به تعويلًا على شهادة التوبيخ، ومن الناس من جوّز كون هذا التوبيخ من جهة المنافقين لأعقابهم وبقاياهم الذين لم ينافقوا، وحينئذ يكون البعض الذي هو فاعل خلا عبارة عن المنافقين، وفيه وضع المظهر موضع المضمر تكثيرًا للمعنى والاستفهام إنكار ونهي عن التحديث في الزمان المستقبل وليس بشيء وإن جل قائله اللهم إلا أن يكون فيه رواية صحيحة، ودون ذلك خرط القتاد.
{لِيُحَاجُّوكُم بِهِ} متعلق بالتحديث دون الفتح خلافًا لمن تكلف له، والمراد تأكيد النكير وتشديد التوبيخ، فإن التحديث وإن كان منكرًا في نفسه لكنه لهذا الغرض مما لا يكاد يصدر عن العاقل، والمفاعلة هنا غير مرادة، والمراد ليحتجوا به عليكم، إلا أنه إنما أتى بها للمبالغة، وذكر ابن تمجيد أنه لو ذهب أحد إلى المشاركة بين المحتج والمحتج عليه بأن يكون من جانب احتجاج ومن جانب آخر سماع لكان له وجه كما في بايعت زيدًا وقد تقدم ما ينفعك هنا فتذكر. والكلام هذه لام كي والنصب بأن مضمرة بعدها أو بها، وهي مفيدة للتعليل ولعله هنا مجاز لأن المحدثين لم يحوموا حول ذلك الغرض، لكن فعلهم ذلك لما كان مستتبعًا له ألبتة جعلوا كأنهم فاعلون له إظهارًا لكمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم، وضمير {بِهِ} راجع إلى {ا فَتَحَ الله} على ما يقتضيه الظاهر.
{عِندَ رَبّكُمْ} أي في كتابه وحكمه وهو عند عصابة بدل من {بِهِ}، ومعنى كونه بدلًا منه أن عامله الذي هو نائب عنه بدل منه إما بدل الكل إن قدر صيغة اسم الفاعل أو بدل اشتمال إن قدر مصدرًا، وفائدته بيان جهة الاحتجاج بما فتح الله تعالى، فإن الاحتجاج به يتصور على وجوه شتى، كأنه قيل: ليحاجوكم به بكونه في كتابه، أي يقولوا: إنه مذكور في كتابه الذي آمنتم به، وا ذكر يظهر وجه الجمع بين قوله تعالى: {بِهِ} أي {بما فتح الله عليكم} وقوله تعالى: {عِندَ رَبّكُمْ} واندفع ما قيل لا يصح جعله بدلًا لوجوب اتحاد البدل والمبدل منه في الإعراب، وههنا ليس كذلك لكون الثاني ظرفًا والأول مفعولًا به بالواسطة، وقيل: المعنى بما عند ربكم فيكون الظرف حالًا من ضمير {بِهِ} وفائدته التصريح بكون الاحتجاج بأمر ثابت عنده تعالى وإن كان ذلك مستفادًا من كونه بما فتح الله تعالى، وقيل: عند ذكر ربكم، فالكلام على حذف مضاف، والمراد من الذكر الكتاب وجعل المحاجة بما فتح الله تعالى باعتبار أنه في الكتاب محاجة عنده توسعًا وهذه الأقوال مبنية على أن المراد بالمحاجة في الدنيا وهو ظاهر لأنها دار المحاجة والتأويل في قوله تعالى: {عِندَ رَبّكُمْ} وقيل: عند ربكم على ظاهره والمحاجة يوم القيامة واعترض بأن الإخفاء لا يدفع هذه المحاجة لأنه إما لأجل أن لا يطلع المؤمنون على ما يحتجون به وهو حاصل لهم بالوحي أو ليكون للمحتج عليهم طريق إلى الإنكار، وذا لا يمكن عنده تعالى يوم القيامة ولا يظن بأهل الكتاب أنهم يعتقدون أن إخفاء ما في الكتاب في الدنيا يدفع المحاجة بكونه فيه في العقبى لأنه اعتقاد منهم بأنه تعالى لا يعلم ما أنزل في كتابه وهم برآء منه، والقول بأن المراد: ليحاجوكم يوم القيامة وعند المسائل، فيكون زائدًا في ظهور فضيحتكم وتوبيخكم على رؤس الأشهاد في الموقف العظيم، فكان القوم يعتقدون أن ظهور ذلك في الدنيا يزيد ذلك في الآخرة للفرق بين من اعترف وكتم، وبين من ثبت على الإنكار، أو بأن المحاجة بأنكم بلغتم وخالفتم تندفع بالإخفاء يرد عليه أن الإخفاء حينئذ إنما يدفع الاحتجاج بإقرارهم لا بما فتح الله عليهم على أن المدفوع في الوجه الأول زيادة التوبيخ والفضيحة لا المحاجة وقيل: {عِندَ رَبّكُمْ} بتقدير من عند ربكم وهو معمول لقوله تعالى: {ا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} وهو مما لا ينبغي أن يرتكب في فصيح الكلام، وجوّز الدامغاني أن يكون {عِندَ} للزلفى أي: ليحاجوكم به متقربين إلى الله تعالى وهو بعيد أيضًا كقول بعض المتأخرين: إنه يمكن أن تجعل المحاجة به عند الرب عبارة عن المباهلة في تحقق ما يحدثونه، وعليه تكون المحاجة على مقتضى المفاعلة وعندي أن رجوع ضمير به لما فتح الله من حيث إنه محدث {بِهِ} وجعل القيد هو المقصود، أو للتحديث المفهوم من {أَتُحَدّثُونَهُم} وحمل {عِندَ رَبّكُمْ} على يوم القيامة، والتزام أن الإخفاء يدفع هذا الاحتجاج ليس بالبعيد إلا أن أحدًا لم يصرح به ولعله أولى من بعض الوجوه فتدبر.
{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} عطف إما على {أَتُحَدّثُونَهُم} والفاء لإفادة ترتب عدم عقلهم على تحديثهم، وإما على مقدر أي ألا تتأملون فلا تعقلون، والجملة مؤكدة لإنكار التحديث، وهو من تمام كلام اللائمين، ومفعوله إما ما ذكر أولًا، أو لا: مفعول له وهو أبلغ وقيل: هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين متصل بقوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ} [البقرة: 75] والمعنى: أفلا تعقلون حال هؤلاء اليهود وأن لا مطمع في إيمانهم، وهم على هذه الصفات الذميمة والأخلاق القبيحة ويبعده قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (77):

{أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)}
{أَوَلاَ يَعْلَمُونَ} فإنه تجهيل لهم منه تعالى فيما حكى عنهم فيكون توسيط خطاب المؤمنين في أثنائه من قبيص الفصل بين الشجرة ولحائها على أن في تخصيص الخطاب بالمؤمنين تعسفًا ما، وفي تعميمه للنبي صلى الله عليه وسلم سوء أدب كما لا يخفى والاستفهام فيه للإنكار مع التقريع لأن أهل الكتاب كانوا عالمين بإحاطة علمه تعالى والمقصود بيان شناعة فعلهم بأنهم يفعلون ما ذكر مع علمهم.
{أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} وفيه إشارة إلى أن الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية أعظم وزرًا والواو للعطف على مقدر ينساق إليه الذهن والضمير للموبخين أي أيلومونهم على التحديث المذكور مخافة المحاجة ولا يعلمون ما ذكر، وقيل: الضمير للمنافقين فقط، أولهم وللموبخين، أو لآبائهم المحرفين، والظاهر حمل ما في الموضعين على العموم ويدخل فيه الكفر الذي أسرّوه، والإيمان الذي أعلنوه، واقتصر بعض المفسرين عليهما، وقيل: العداوة والصداقة، وقيل: صفته صلى الله عليه وسلم التي في التوراة المنزلة والصفة التي أظهروها افتراءً على الله تعالى؛ وقدم سبحانه الإسرار على الإعلان، إما لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر في القلب يتعلق به الإسرار غالبًا، فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية، وإما للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر، وإما للمبالغة في بيان شمول علمه المحيط بجميع الأشياء كان علمه بما يسرون أقدم منه بما يعلنونه مع كونهما في الحقيقة على السوية، فإن علمه تعالى ليس بطريق حصول الصورة، بل وجود كل شيء في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى، وفي هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة ولا الكامنة، وعكس الأمر في قوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} [البقرة: 284] لأن الأصل فيما تتعلق المحاسبة به هو الأمور البادية دون الخافية، وقرأ ابن محيصن: {أَوَلاَ تَعْلَمُونَ} بالتاء فيحتمل أن يكون ذلك خطابًا للمؤمنين أو خطابًا لهم، ثم إنه تعالى أعرض عن خطابهم وأعاد الضمير إلى الغيبة إهمالًا لهم، ويكون ذلك من باب الالتفات.

.تفسير الآية رقم (78):

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)}
{وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب} مستأنفة مسوقة لبيان قبائح جهلة اليهود أثر بيان شنائع الطوائف السالفة، وقيل: عطف على {قَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمُ} [البقرة: 75] وعليه الجمع، وقيل: على {وَإِذَا لَقُواْ} [البقرة: 76] واختار بعض المتأخرين أنه وهذا الذي عطف عليه اعتراض وقع في البين لبيان أصناف اليهود استطرادًا لأولئك المحرفين، والأميون جمع أمي وهو كما في المغرب مَن لا يكتب ولا يقرأ منسوب إلى أمة العرب الذين كانوا لا يكتبون ولا يقرءون، أو إلى الأم عنى أنه كما ولدته أمه، أو إلى أم القرى لأن أهلها لا يكتبون غالبًا، والمراد أنهم جهلة، و{الكتاب} التوراة كما يقتضيه سباق النظم وسياقه فاللام فيه إما للعهد أو أنه من الأعلام الغالبة، وجعله مصدر كتب كتابًا واللام للجنس بعيد، وقرأ ابن أبي عبلة: {أُمّيُّونَ} بالتخفيف.
{إِلاَّ أَمَانِىَّ} جمع أمنية وأصلها أمنونة، أفعولة وهو في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه من منى إذا قدر، ولذلك تطلق على الكذب وعلى ما يتمنى وما يقرأ، والمروى عن ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهم أن الأماني هنا الأكاذيب أي إلا أكاذيب أخذوها تقليدًا من شياطينهم المحرفين، وقيل: إلا ما هم عليه من أمانيهم أن الله تعالى يعفو عنهم ويرحمهم، ولا يؤاخذهم بخطاياهم وأن آبائهم الأنبياء يشفعون لهم، وقيل إلا مواعيد مجردة سمعوها من أحبارهم من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودًا، وأن النار لا تمسهم إلا أيامًا معدودة واختاره أبو مسلم والاستثناء على ذلك منقطع لأن ما هم عليه من الأباطيل، أو سمعوه من الأكاذيب ليس من الكتاب، وقيل: إلا ما يقرؤن قراءة عادية عن معرفة المعنى وتدبره، فالاستثناء حينئذٍ متصل بحسب الظاهر، وقيل: منقطع أيضًا إذ ليس ما يتلى من جنس علم الكتاب، واعترض هذا الوجه بأنه لا يناسب تفسير الآتي بما في «المغرب»، وأجيب بأن معناه أنه لا يقرأ من الكتاب ولا يعلم الخط؛ وإما على سبيل الأخذ من الغير فكثيرًا ما يقرؤن من غير علم بالمعاني، ولا بصور الحروف، وفيه تكلف إذ لا يقال للحافظ الأعمى: إنه أمي، نعم إذا فسر الأمي بمن لا يحسن الكتابة والقراءة على ما ذهب إليه جمع لا ينافي أن يكتب ويقرأ في الجملة واستدل على ذلك بما روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية أخذ الكتاب وليس يحسن الكتب فكتب: «هذا ما قضى عليه محمد بن عبد الله» إلخ، ومن فسر الأمي بما تقدم أول الحديث بأن كتب فيه عنى أمر بالكتابة، وأطال بعض شراح الحديث الكلام في هذا المقام وليس هذا محله.
وقرأ أبو جعفر والأعرج وابن جماز عن نافع، وهارون عن أبي عمرو {أَمَانِىّ} بالتخفيف.
{وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} الاستثناء مفرغ والمستثنى محذوف أقيمت صفته مقامه، أي ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن من غير أن يصلوا إلى مرتبة العلم فأنى يرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين وقد يطلق الظن على ما يقابل العلم اليقيني عن دليل قاطع سواء قطع بغير دليل، أو بدليل غير صحيح، أو لم يقطع، فلا ينافي نسبة الظن إليهم إن كانوا جازمين.