فصل: تفسير الآية رقم (26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (26):

{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)}
{الله يَبْسُطُ الرزق} أي يوسعه {لِمَن يَشَاء} من عباده {وَيَقْدِرُ} أي يضيق، وقيل: يعطي بقدر الكفاية، والمراد بالرزق الدنيوي لا ما يعم الأخروي لأنه على ما قيل غير مناسب للسياق، وقال صاحب الكشف: إنه شامل للرزقين الحسي والمعنوي الدنيوي والأخروي وذكر في بيان ربط الآية على ذلك ما ذكر، وهي كما روي عن ابن عباس نزلت في أهل مكة ثم إنها وإن كانت كذلك عامة وكأنها دفع لما يتوهم من أنه كيف يكونون مع ما هم عليه من الضلال في سعة من الرزق فبين سبحانه أن سعة رزقهم ليس تكريمًا لهم كما أن تضييق رزق بعض المؤمنين ليس لإهانة لهم وإنما كل من الأمرين صادر منه تعالى لحكم إلهية يعلمها سبحانه ورا وسع على الكافر إملاءً واستدراجًا له وضيق على المؤمن زيادة لأجره.
وتقديم المسند إليه في مثل هذه الآية للتقوى فقط عند السكاكي، والزمخشري يرى أنه لا مانع من أن يكون للتقوى والتخصيص ولذا قال: أي الله وحده هو يبسط ويقدر دون غيره سبحانه، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {وَيَقْدِرُ} بضم الدال حيث وقع {وَفَرِحُواْ} استئناف ناع قبح أفعالهم مع ما وسعه عليه.
والضمير قيل لأهل مكة وإن لم يسبق ذكرهم واختاره جماعة، وقال أبو حيان: للذين ينقضون، وزعم بعضهم أن الجملة معطوفة على صلة {الذين} وفي الآية تقديم وتأخير ومحل هذا بعد {يُفْسِدُونَ فِي الأرض} ولا يخفى بعده للاختلاف عمومًا وخصوصًا واستقبالًا ومضيًا أي فرحوا فرح أشر وبطر لا فرح سرور بفضل الله تعالى.
{ياأيها الذين} أي بما بسط لهم فيها من النعيم لأن فرحهم ليس بنفس الدنيا فنسبة الفرح إليها مجازية أو هناك تقدير أي ببسط الحياة أو الحياة الدنيا مجاز عما فيها {وَمَا الحياة الدنيا فِي الاخرة} أي كائنة في جنب نعيمها، فالجار والمجرور في موضع الحال وليس متعلقًا بالحياة ولا بالدنيا كما قال أبو البقاء لأنهما ليسا فيها. و{فِى} هذه معناها المقايسة وهي كثيرة في الكلام كما يقال: ذنوب العبد في رحمة الله تعالى كقطرة في بحر وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق وهي الظرفية المجازية لأن ما يقاس بشيء يوضع بجنبه، وإسناد {متاع} في قوله تعالى: {إِلاَّ متاع} إلى الحياة الدنيا يحتمل أن يكون مجازيًا ويحتمل أن يكون حقيقيًا، والمراد أنها ليست إلا شيئًا نزرًا يتمتع به كعجالة الراكب وزاد الراعي يزوده أهله الكف من التمر أو الشيء من الدقيق أو نحو ذلك، والمعنى أنهم رضوا بحظ الدنيا معرضين عن نعيم الآخرة والحال أن ما أشروا به في جنب ما أعرضوا عنه نزر النفع سريع النفاد، أخرج الترمذي وصححه عن عبد الله بن مسعود قال:
«نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك فقال: ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها»، وقيل: معنى الآية كالخبر «الدنيا مزرعة الآخرة» يعني كان ينبغي أن يكون ما بسط لهم في الدنيا وسيلة إلى الآخرة كمتاع تاجر يبيعه بما يهمه وينفقه في مقاصده لا أن يفرحوا بها ويعدوها مقاصد بالذات والأول أولى وأنسب.

.تفسير الآية رقم (27):

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)}
{وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ} أي أهل مكة عبد الله بن أبي أمية. وأصحابه، وإيثار هذه الطريقة على الإضمار مع ظهور إرادتهم عقيب ذكر فرحهم بناءًا على أن ضمير {فَرِحُواْ} [الرعد: 26] لهم لذمهم والتسجيل عليهم بالكفر فيما حكى عنهم من قولهم: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ} فإن ذلك في أقصى مراتب المكابرة والعناد كأن ما أنزل عليه عليه الصلاة والسلام من الآيات العظام الباهرة ليست عندهم بآية حتى اقترحوا ما لا تقتضيه الحكمة من الآيات كسقوط السماء عليهم كسفًا وسير الأخشبين وجعل البطاح محالرث ومفترسًا كالأردن وإحياء قضى لهم إلى غير ذلك {قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء} إضلاله مشيئة تابعة للحكمة الداعية إليها، وهو كلام جار مجرى التعجب من قولهم، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أويتها صلى الله عليه وسلم لم يؤتها نبي قبله، وكفى بالقرآن وحده آية فإذا جحدوها ولم يعتدوا بها كان ذلك موضعًا للتعجب والإنكار، وكان الظاهر أن يقال في الجواب: ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على الكفر ونحوه إلا أنه وضع هذا موضعه للإشارة إلى أن المتعجب منه يقول: {إِنَّ الله يُضِلُّ} إلخ أي أنه تعالى يخلق فيمن يشاء الضلال بصرف اختياره إلى تحصيله ويدعه منهمكًا فيه لعلمه بأنه لا ينجع فيه اللطف ولا ينفعه الإرشاد لسوء استعداده كمن كان على صفتكم في المكابرة والعناد وشدة الشكيمة والغلو في الفساد فلا سبيل له إلى الاهتداء ولو جاءته كل آية. {وَيَهْدِى إِلَيْهِ} أي إلى جانبه العلي الكبير.
وقال أبو حيان: أي إلى دينه وشرعه سبحانه هداية مواصلة إليه لا دلالة مطلقة إلى ما يوصل فإن ذلك غير مختص بالمهتدين وفيه من تشريفهم ما لا يوصف، وقيل: الضمير للقرآن أو للرسول عليه الصلاة والسلام وهو خلاف الظاهر جدًا {مَنْ أَنَابَ} أي أقبل إلى الحق وتأمل في تضاعيف ما نزل من دلائله الواضحة وحقيقة الإنابة الرجوع إلى نوبة الخير، وإيثارها في الصلة على إيراد المشيئة كما في الصلة الأولى على ما قال مولانا شيخ الإسلام للتنبيه على الداعي إلى الهداية بل إلى مشيئتها والإشعار بما دعا إلى المشيئة الأولى من المكابرة، وفيه حث للكفرة على الإقلاع عما هم عليه من العتو والعناد، وإيثار صيغة الماضي للإيماء إلى استدعاء الهداية السابقة كما أن إيثار صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على استمرار المشيئة حسب استمرار مكابرتهم، والآية صريحة في مذهب أهل السنة في نسبة الخير والشر إليه عز وجل وأولها المعتزلة فقال أبو علي الجبائي: المعنى يضل من يشاء عن ثوابه ورحمته عقوبة له على كفرة فلستم ممن يجيبه الله تعالى إلى ما يسأل لاستحقاقكم العذاب والإضلال عن الثواب ويهدي إلى جنته من تاب وآمن، ثم قال: وبهذا تبين أن الهدى هو الثواب من حيث علق بقوله تعالى: {مَنْ أَنَابَ} والهدى الذي يفعله سبحانه بالمؤمن هو الثواب لأنه يستحقه على إيمانه، وذلك يدل على أنه تعالى يضل عن الثواب بالعقاب لا عن الدين بالكفر على ما ذهب إليه من خالفنا اه ولا يخفى ما فيه.

.تفسير الآية رقم (28):

{الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)}
{الذين ءامَنُواْ} بدل من {مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27] بدل كل من كل فإن أريد بالهداية الهداية المستمرة فالأمر ظاهر لظهور كون الإيمان مؤديًا إليها، وإن أريد إحداثها فالمراد بالذين آمنوا الذين صار أمرهم إلى الإيمان كما قالوا في {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] أي الصائرين إلى التقوى وإلا فالإيمان لا يؤدي إلى الهداية نفسها، ويجوز أن يكون عطف بيان على ذلك أو منصوبًا على المدح أو خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين آمنوا {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ} أي تستقر وتسكن {بِذِكْرِ الله} أي بكلامه المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو المروى عن مقاتل، وإطلاق الذكر على ذلك شائع في الذكر، ومنه قوله تعالى: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} [الأنبياء: 50] و{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الحجر: 9] وسبب اطمئنان قلوبهم بذلك علمهم أن لا آية أعظم ومن ذلك لا يقترحون الآيات التي يقترحها غيرهم، والعدول إلى صيغة المضارع لإفادة دوام الاطمئنان وتجدده حسب تجدد المنزل من الذكر {أَلاَ بِذِكْرِ الله} وحده {تَطْمَئِنُّ القلوب} لله دون غيره من الأمور التي تميل إليها النفوس من الدنياويات، وإذا أريد سائر المعجزات فالقصر من حيث أنها ليست في إفادة الطمأنينة بالنسبة إلى من لم يشاهدها ثابة القرآن المجيد فإنه معجزة باقية إلى يوم القيامة يشاهدها كل أحد وتطمئن به القلوب كافة؛ وفيه إشعار بأن الكفرة لا قلوب لهم وأفئدتهم هواء حيث لم يطمئنوا به ولم يعدوه آية وهو أظهر الآيات وأبهرها، وقيل: في الكلام مضاف مقدر أي لتطمئن قلوبهم بذكر رحمته تعالى ومغفرته بعد القلق والاضطراب من خشيته تعالى كقوله تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} [الزمر: 23] وهذا مناسب على ما في الكشف للإنابة إليه تعالى، والمصدر عليه مضاف إلى الفاعل؛ وقيل: المراد بذكر الله دلائله سبحانه الدالة على وحدانيته عز وجل والاطمئنان عن قلق الشك والتردد، وهذا مناسب لذكر الكفر ووقوعه في مقابلته، وقيل: المراد بذكره تعالى أنسًا به وتبتلًا إليه سبحانه فالمراد بالهداية دوامها واستمرارها. قيل: وهذا مناسب أيضًا حديث الكفر لأن الكفرة إذا ذكر الله تعالى وحده اشمأزت قلوبهم، والمصدر على القولين مضاف إلى المفعول. والوجه الأول أشد ملاءمة للنظم لاسيما لقوله تعالى: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ} [الرعد: 27] والمصدر فيه عنى المفعول.
ومن الغريب ما نقل في تفسير الخازن أن هذا في الحلف بالله وذلك أن المؤمن إذا حلف له بالله تعالى سكن قلبه، وروي نحو ذلك أبو الشيخ عن السدي فإن الحمل عليه هنا مما لا يناسب المقام، وأما ما روي عن أنس من أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه حين نزلت هذه الآية:
«هل تدرون ما معنى ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: من أحب الله تعالى ورسوله وأحب أصحابي» ومثله ما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه من أنه عليه الصلاة والسلام قال حين نزلت: «ذاك من أحب الله تعالى ورسوله وأحب أهل بيتي صادقًا غير كاذب وأحب المؤمنين شاهدًا وغائبًا» فليس المراد منه تفسير المراد بذكر الله بل بيان أن الموصوفين بما ذكر من أحبه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إلخ، وهو كذلك إذ لا يكاد يتحقق الانفكاك بين هاتيك الصفات فليتأمل، ولا تنافي بين هذه الآية على سائر الأوجه وقوله تعالى: {إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] لأن المراد هناك وجلت من هيبته تعالى واستعظامه جلت عظمته. وذكر الإمام في بيان اطمئنان القلب بذكره تعالى وجوهًا فقال: إن الموجودات على ثلاثة أقسام: مؤثر لا يتأثر. ومتأثر لا يؤثر وموجود يؤثر ويتأثر فالأول: هو الله تعالى. والثاني: هو الجسم فإنه ليس له خاصية إلا القبول للآثار المتنافية والصفات المختلفة. والثالث: الموجودات الروحانية فإنها إذا توجهت إلى الحضرة الإلهية صارت قابلة للآثار الفائضة عليها منها وإذا توجهت إلى أعلام الأجسام اشتاقت إلى التصرف فيها لأن عالم الأرواح مدبر لعالم الأجسام فإذا عرف هذا فالقلب كلما توجه إلى مطالعة عالم الأجسام حصل فيه الاضطراب والقلق والميل الشديد إلى الاستيلاء عليه والتصرف فيه وإذا توجه إلى مطالعة الحضرة الإلهية وحصلت فيه الأنوار الصمدية فهناك يكون ساكنًا مطمئنًا، وأيضًا أن القلب كلما وصل إلى شيء فإنه يطلب الانتقال منه إلى أمر آخر أشرف منه لأنه لا سعادة في عالم الجسم إلا وفوقها مرتبة أخرى أما إذا انتهى إلى الاستسعاد بالمعارف الإلهية والأنوار القدسية ثبت واستقر فلم يقدر على الانتقال من ذلك ألبتة لأنه ليس هناك درجة أخرى في السعادة أعلى منه وأكمل، وأيضًا إن الإكسير إذا وقعت منه ذرة على الجسم النحاسي انقلب ذهبًا باقيًا على ممر الدهور صابرًا على الذوبان الحاصل بالنار فاكسير نور الله تعالى إذا وقع في القلب أولى أن يقلبه جوهرًا باقيًا صافيًا نورانيًا لا يقبل التغير والتبدل، ولهذه الأوجه قال سبحانه: {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} اه، والأولى أن يقال: إن سبب الطمأنينة نور يفيضه الله تعالى عن قلب المؤمنين بسبب ذكره فيذهب ما فيها من القلق والوحشة ونحو ذلك، وللمناقشة فيما ذكره مجال وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة ما يشبه ذلك.

.تفسير الآية رقم (29):

{الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ (29)}
{الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} بدل من {القلوب} [الرعد: 28] أي قلوب الذين آمنوا، والأظهر أنه بدل الكل لأن القلوب في الأول قلوب المؤمنين المطمئنين وكذلك لو عمم القلب على معنى أن قلوب هؤلاء الأجلاء كل القلوب لأن الكفار أفئدتهم هواء، وأما الحمل على بدل البعض ليعمم القلب من غير الملاحظة المذكورة واستنباط هذا المعنى من البدل فبعيد، وأما احتماله لبدل الاشتمال وإن استحسنه الطيبي فكلًا أو مبتدأ خبره الجملة الدعائية على التأويل أعني قوله سبحانه: {طوبى لَهُمْ} أي يقال لهم ذلك، أو لا حاجة إلى التأويل والجملة خبرية أو خبر مبتدأ مضمر أو نصب على المدح فطوبى لهم حال مقدرة والعامل فيها الفعلان.
وقال بعض المدققين: لعل الأشبه وجه آخر وهو أن يتم الكلام عند قوله تعالى: {مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27] ثم قيل: {الذين ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ} [الرعد: 28] في مقابلة {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ} [الرعد: 27] وقوله سبحانه: {أَلاَ بِذِكْرِ الله} [الرعد: 28] جملة اعتراضية تفيد كيف لا تطمئن قلوبهم به ولا اطمئنان للقلب بغيره، وقوله عز وجل: {الذين كَفَرُواْ} بدل من الأول، وفيه إشارة إلى أن ذكر الله تعالى أفضل الأعمال الصالحة بل هو كلها و{طوبى لَهُمْ} خبر الأول فيتم التقابل بين القرينتين {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ} [الرعد: 27] و{الذين ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ} [الرعد: 28] وبين جزئي التذييل: {يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27] ومن الناس من زعم أن الموصول الأول مبتدأ والموصول الثاني خبره و{أَلاَ بِذِكْرِ الله} [الرعد: 28] اعتراض و{طوبى لَهُمْ} دعاء وهو كما ترى، {وطوبى} قيل مصدر من طاب كبشرى وزلفى والواو منقلبة من الياء كموسر وموقن، وقرأ مكوزة الأعرابي {طيبي} ليسلم الياء، وقال أبو الحسن الهنائي: هي جمع طيبة كما قالوا في كيسة كوسى. وتعقبه أبو حيان بأن فعلى ليست من أبنية الجموع فلعله أراد أنه اسم جمع، وعلى الأول فلهم في المعنى المراد عبارات. فأخرج ابن جرير. وغيره عن ابن عباس أن المعنى فرح وقرة عين لهم، وعن الضحاك غبطة لهم، وعن قتادة حسنى لهم. وفي رواية أخرى عنه أصابوا خيرًا، وعن النخعي خير كثير لهم. وفي رواية أخرى عنه كرامة لهم، وعن سميط بن عجلان دوام الخير لهم ويرجع ذلك إلى معنى العيش الطيب لهم. وفي رواية عن ابن عباس. وابن جبير أن {الصالحات طوبى} اسم للجنة بالحبشية وقيل بالهندية، وقال القرطبي: الصحيح أنها علم لشجرة في الجنة، فقد أخرج أحمد. وابن جرير. وابن أبي حاتم. وابن حبان. والطبراني. والبيهقي في البعث والنشور، وصححه السهيلي. وغيره عن عتبة ابن عبد قال: «جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أفني الجنة فاكهة؟ قال: نعم فيها شجرة تدعى طوبى هي نطاق الفردوس قال: أي شجر أرضنا تشبه؟ قال: ليس تشبه شيئًا من شجر أرضك ولكن أتيت الشام؟ قال: لا قال: فإنها تشبه شجرة بالشام تدعى الجوزة تنبت على ساق واحد ثم ينتشر أعلاها قال: ما عظم أصلها؟ قال: لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتاها هرمًا قال: فهل فيها عنب؟ قال: نعم. قال: ما عظم العنقود منه؟ قال: مسيرة شهر للغراب إلا بقع».
والأخبار المصرحة بأنها شجرة في الجنة منتشرة جدًا، وحينئذٍ فلا كلام في جواز الابتداء بها وإن كانت نكرة فمسوغ الابتداء بها ما ذهب إليه سيبويه من أنه ذهب بها مذهب الدعاء كقولهم: سلام عليك إلا أنه ذهب ابن مالك إلى أنه التزم فيها الرفع على الابتداء، ورد عليه بأن عيسى الثقفي قرأ {وَحُسْنُ مَئَابٍ} بالنصب، وخرج ذلك ثعلب على أنه معطوف على طوبى وأنها في موضع نصب، وهي عنده مصدر معمول لمقدر أي طاب واللام للبيان كما في سقيا له، ومنهم من قدر جعل {طوبى لَهُمْ} وقال صاحب اللوامح: إن التقدير يا طوبى لهم ويا حسن مآب فحسن معطوف على المنادي وهو مضاف للضمير واللام مقحمة كما في قوله:
يا بؤس للجهل ضرار الأقوام

ولذلك سقط التنوين من بؤس وكأنه قيل: يا طوباهم ويا حسن مآبهم أي ما أطيبهم وأحسن مآبهم كما تقول: يا طيبها ليلة أي ما أطيبها ليلة ولا يخفى ما فيه من التكلف. وأجاب السفاقسي عن ابن مالك بأنه يجوز نصب {حُسْنُ} قدر أي ورزقهم حسن مآب وهو بعيد.
وقرئ {حُسْنُ مَئَابٍ} بفتح النون ورفع {مَئَابٍ} وخرج ذلك على أن {حُسْنُ} فعل ماض أصله حسن نقلت ضمة السين إلى الحاء ومثله جائز في فعل إذا كان للمدح أو الذم كما قالوا: حسن ذا أدبا.