فصل: تفسير الآية رقم (30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (30):

{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)}
{كذلك} أي مثل ذلك الإرسال العظيم الشأن المصحوب بالمعجزة الباهرة، ويجوز أن يراد مثل إرسال الرسل قبلك {أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ} فيكون قد شبه إرساله صلى الله عليه وسلم بإرسال من قبله وإن لم يجر لهم ذكر لدلالة قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ} أي مضت {مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ} كثيرة قد أرسل إليهم رسل عليهم وروي هذا عن الحسن، وقيل: الكاف متعلقة بالمعنى الذي في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء} [الرعد: 27] إلخ أي كما أنفذنا ذلك أرسلناك ونقل نحوه عن الحوفي؛ وقال ابن عطية: الذي يظهر أن المعنى كما أجرينا العادة في الأمم السابقة بأن نضل ونهدي بوحي لا بالآيات المقترحة كذلك أيضًا فعلنا في هذه الأمة وأرسلناك إليهم بوحي لا بالآيات المقترحة فنضل من نشاء ونهدي من أناب، وقال أبو البقاء: التقدير الأمر كذلك، والحسن ما قدمناه وما روي عن الحسن. و{فِى} عنى إلى كما في قوله تعالى: {فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} [إبراهيم: 9] وقيل: هي على ظاهرها، وفيها إشارة إلى أنه من جملتهم وناشئ بينهم ولا تكون عنى إلى إذ لا حاجة لبيان من أرسل إليهم وفيه نظر ظاهر، وهي متعلقة بالفعل المذكور، وقول الزمخشري: في تفسير الآية يعني أرسلنا إرسالًا له شأن وفضل على الإرسالات ثم فسر كيف أرسله بقوله: {فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ} أي أرسلناك في أمة قد تقدمها أمم كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء لم يرد به أنها لا تتعلق بالمذكور بل أراد أن المشار إليه المبهم لما كان ما بعده تفخيمًا كان بيانه بصلة ذلك الفعل حتى يزول الإبهام، ويجوز أن يريد ذلك فيقدر أرسلناك ثانيًا ويكون قوله: أي أرسلناك في أمة إظهارًا للمحذوف أيضًا لا بيانًا لحاصل الآية وهو الذي آثره العلامة الطيبي، والتعلق بالمذكور هو الظاهر، وجملة {قَدْ خَلَتْ} إلخ في موضع الصفة لأمة وفائدة الوصف بذلك قيل: ما أشار إليه الزمخشري.
واعترض بأنه لا يلزم من تقدم أمم كثيرة قبل أن لا يكون أمة يرسل إليها بعد حتى يلزم أن يكون صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء عليهم السلام، وبحث فيه الشهاب بأن المراد بكون إرساله عليه الصلاة والسلام عجيبًا أن رسالته أعظم من كل رسالة فهي جامعة لكل ما يحتاج إليه فيلزم أن لا نسخ إذ النسخ إنما يكون للتكميل والكامل أتم كمال غير محتاج لتكميل كما قال تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] اه ولعمري أن الاعتراض قوي والبحث في غاية الضعف إذ لا يلزم من كون إرساله صلى الله عليه وسلم عجيبًا ما ادعاه، ولو سلمنا ذلك لا يلزم منه أيضًا كونه عليه الصلاة والسلام خاتمًا إذ بعثه مقرر دينه الكامل كما بعث كثير من أنبياء بني إسرائيل لتقرير دين موسى عليه السلام لا يأبى ما ذكر من جامعية رسالته عليه الصلاة والسلام ولزوم عدم النسخ لذلك كما لا يخفى، ولعله لهذا اختار بعضهم ما روي عن الحسن وقال: منبهًا على فائدة الوصف يعني مثل إرسال الرسل قبلك أرسلناك إلى أمم تقدمتها أمم أرسلوا إليهم فليس ببدع إرسالك إليها {لتَتْلُوَا} لتقرأ {لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أي الكتاب العظيم الشأن، ويشعر بهذا الوصف ذكر الموصول غير جار على موصوف، وإسناد الفعل في صلته إلى ضمير العظمة وكذا الإيصال إلى المخاطب المعظم بدليل سابقه على ما سمعت أولًا، وتقديم المجرور على المنصوب من قبيل الإبهام ثم البيان كما في قوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح: 2] وفيه ما لا يخفى من ترقب النفس إلى ما سيرد وحسن قبولها له عند وروده عليها، وضمير الجمع للأمة باعتبار معناها كما روعي في ضمير {خَلَتِ} لفظها.
{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} أي بالبليغ الرحمة الذي أحاطت بهم نعمته ووسعت كل شيء رحمته فلم يشكروا نعمه سبحانه لاسيما ما أنعم به عليهم بإرسالك إليهم وإنزال القرآن الذي هو مدار المنافع الدينية والدنيوية عليهم بل قابلوا رحمته ونعمه بالكفر ومقتضى العقل عكس ذلك، وكان الظاهر بنا إلا أنه التفت إلى الظاهر وأوثر هذا الاسم الدال على المبالغة في الرحمة للإشارة إلى أن الإرسال ناشيء منها كما قال سبحانه: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} [الأنبياء: 107] وضمير الجمع للأمة أيضًا، والجملة في موضع الحال من فاعل {أَرْسَلْنَا} لا من ضمير {عَلَيْهِمْ} إذ الإرسال ليس للتلاوة عليهم حال كفرهم، ومنهم من جوز ذلك والتلاوة عليهم حال الكفر ليقفوا على إعجازه فيصدقوا به لعلمهم بأفانين البلاغة ولا ينافي تلاوته عليهم بعد إسلامهم، وجوز في الجملة أن تكون مستأنفة الضمير حسا علمت، وقيل: أنه يعود على الذين قالوا: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ} [الرعد: 27] وقيل: يعود على {أُمَّةٍ} وعلى {أُمَمٌ} ويكون في الآية تسلية له صلى الله عليه وسلم، وعن قتادة. وابن جريج. ومقاتل أن الآية نزلت في مشركي مكة لما رأوا كتاب الصلح يوم الحديبية وقد كتب فيه علي كرم الله تعالى وجهه {بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم} فقال: سهيل بن عمرو: ما نعرف الرحمة إلا مسيلمة، وقيل: سمع أبو جهل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا الله يا رحمن فقال إن محمدًا ينهانا عن عبادة الآلهة وهو يدعو إليهن فنزلت، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما قيل لكفار قريش: {اسجدوا للرحمن قَالُواْ وَمَا الرحمن} [الفرقان: 60]؟ فنزلت، وضعف كل ذلك بأنه غير مناسب لأنه يقتضي أنهم يكفرون بهذا الاسم وإطلاقه عليه سبحانه وتعالى والظاهر أن كفره سماه {قُلْ} حين كفروا به سبحانه ولم يوحدوه {هُوَ} أي الرحمن الذي كفرتم به {رَبّى} خالقي ومتولي أمري ومبلغي إلى مراتب الكمال، وإيراد هذا قبل قوله تعالى: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أي لا مستحق للعبادة سواه تنبيه على أن استحقاق العبادة منوط بالربوبية، والجملة داخلة في حيز القول وهي خبر بعد خبر عند بعض، وقال بعض آخر: إنه تعالى بعد أن نعى على الكفرة حالهم وعكسهم مقتضى العقل أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن ينبههم على خاصة نفسه ووظيفته من الشكر ومآل أمره تأنيبًا لهم فقال: هو ربي الذي أرسلني إليكم وأيدني بما أيدني ولا رب لي سواه {عَلَيْهِ} لا على أحد سواه {تَوَكَّلْتُ} في جميع أموري لاسيما في النصرة عليكم {وَإِلَيْهِ} خاصة {مَتَابِ} أي مرجعي فيثيبني على مصابرتكم ومجاهدتكم، وقوله سبحانه: {لاَ إله إِلاَّ الله هُوَ} اعتراض أكد به اختصاص التوكل عليه سبحانه وتفويض الأمور عاجلًا وآجلًا إليه، ومثله قوله تعالى: {اتبع مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ لا إله إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} [الأنعام: 106] اه وإلى القول بالاعتراض ذهب صاحب الكشف حيث ذكر بعد {هُوَ رَبّى} الواحد المتعالي عن الشركاء فقال: جعله فائدة الاعتراض بلا إله إلا هو أي هذا البليغ الرحمة ولا إله إلا هو فهو بليغ الانتقام كما هو بليغ الرحمة يرحمني وينتقم لي منكم، وهو تمهيد أيضًا لقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} ولم يجعل خبرًا بعد خبر إذ ليس المقصود الأخبار بأنه تعالى متوحد بالإلهية بل المقصود أن المتوحد بها ربي وذلك يفيده الاعتراض؛ وأما أن المفهوم من كلامه أنه حال ولذلك أجرى مجرى الوصف فكلا إلا أن يجعل حالًا مؤكدة ولا يغاير الاعتراض إذًا كثير مغايرة لكن الأول أملأ بالفائدة اه ولا يخفى ما في توجيه كلام الكشاف بذلك من الخفاء، وفي كون المقصود أن المتوحد بالإلهية ربي دون الأخبار بأنه تعالى متوحد بها على ماقيل تأمل. ولعل مبناه أن ما أثبته أوفق بالغرض الذي يشير كلامه إلى اعتباره مساقًا للآية، وفيه من المبالغة في وصفه تعالى بالتوحد ما لا يخفى.
نعم قيل للقول بالاعتراض وجه وأنه حينئذ لا يبعد أن يقال: إنه تعالى بعد أن ذكر إرساله صلى الله عليه وسلم إليهم وأن حالهم أنهم يكفرون بالبليغ الرحمة ولا يقابلون رحمته بالشكر فيؤمنوا به ويوحدوه أمره بالإخبار بتخصيص توكله واعتماده على ذلك البليغ الرحمة ورجوعه في سائر أموره إليه إيماء إلى أن إصرارهم على الكفر لا يضره شيئًا وأن له عليه الصلاة والسلام عاقبة محمودة وأنه سبحانه سينصره عليهم، وفي ذلك من تسفيه رأيهم في الإصرار على الكفر واستنهاضهم إلى اتباعه ما فيه إلا أنه عز شأنه أمره أولًا أن يقول: {هُوَ رَبّى} توطئة لذلك وجيء بلا إله إلا هو اعتراضًا للتأكيد، والذي يميل إليه الطبع بعد التأمل وملاحظة الأسلوب القول بالاعتراض، ثم لا يخفى أن حمل {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} على إليه رجوعي في سائر أموري خلاف الظاهر وأنه على ذلك يكون كالتأكيد لما قبله، وقال شيخ الإسلام في تفسيره: أي إليه توبتي كقوله تعالى: {واستغفر لِذَنبِكَ} [غافر: 55] أمر عليه الصلاة والسلام بذلك إبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله تعالى وأنها صفة الأنبياء وبعثًا للكفرة على الرجوع عما هم عليه بأبلغ وجه وألطفه، فإنه عليه الصلاة والسلام حيث أمر بها وهو منزه عن شائبة اقتراف ما يوجبها من الذنب وإن قل فتوبتهم وهم عاكفون على أنواع الكفر والمعاصي مما لابد منه أصلًا اه. وفيه أن هذا إنما يصلح باعثًا للإقلاع عن الذنب على أبلغ وجهه وألطفه لو كان الكلام مع غير الكفرة الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ولعل ذلك ظاهر عند المنصف، وقال العلامة البيضاوي، في ذلك: أي إليه مرجعي ومرجعكم وكأنه أراد أيضًا فيرحمني وينتقم منكم، والانتقام من الرحمن أشد كما قيل: أعوذ بالله تعالى من غضب الحليم.
وتعقب بأنه إنما يتم لو كان المضاف إليه المحذوف ضمير المتكلم ومعه غيره أي متابنا إذ يكون حينئذ مرجعي ومرجعكم تفصيلًا لذلك ولا يكاد يقول به أحد مع قوله بكسر الباء فإنه يقتضي أن يكون المحذوف الياء على أن ذلك الضمير لا يناسب ما قبله، ولعل العلامة اعتبر أن في الآية اكتفاء على ما قيل: أي متابي ومتابكم أو أن الكلام دال عليه التزامًا وهذا أولى على ما قيل فتأمل.

.تفسير الآية رقم (31):

{وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بما صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)}
{وَلَوْ أَنَّ قُرْءانًا} أي قرآنًا ما، والمراد به المعنى اللغوي، وهو اسم أن والخبر قوله تعالى شأنه: {سُيّرَتْ بِهِ الجبال} وجواب {لَوْ} محذوف لانسياق الكلام إليه كما في قوله:
فأقسم لو شيء أتانا رسوله ** سواك ولكن لم نجد لك مدفعًا

والمقصود إما بيان عظم شأن القرآن العظيم وفساد رأي الكفرة حيث لم يقدروا قدره ولم يعدوه من قبيل الآيات واقترحوا غيره؛ وإما بيان غلوهم في المكابرة والعناد وتماديهم في الضلالة والفساد، والمعنى على الأول لو أن كتابًا سيرت بإنزاله أو بتلاوته الجبال وزعزعت عن مقارها كما فعل ذلك بالطور لموسى عليه السلام {أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرض} أي شققت وجعلت أنهارًا وعيونًا كما فعل بالحجر حين ضربه موسى عليه السلام بعصاه أو جعلت قطعًا متصدعة {أَوْ كُلّمَ بِهِ الموتى} أي كلم أحد به الموتى بأن أحياهم بقراءته فتكلم معهم بعد، بعد، وذلك كما وقع الأحياء لعيسى عليه السلام لكان ذلك هذا القرآن لكونه الغاية القصوى في الانطواء على عجائب آثار قدرة الله تعالى وهيبته عز وجل كقوله تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعًا مّنْ خَشْيَةِ الله} [الحشر: 21] قاله بعض المحققين، وقيل: في التعليل لكونه الغاية في الإعجاز والنهاية في التذكير والإنذار.
وتعقب بأنه لا مدخل للإعجاز في هذه الآثار والتذكير والإنذار مختصان بالعقلاء مع أنه لا علاقة لذلك بتكليم الموتى واعتبار فيض العقول ليها مخل بالمبالغة القصودة، وبحث فيه بأن ما ذكر أولًا من مزيد الانطواء على عجائب آثار قدرة الله تعالى أمر يرجع إلى الهيبة وهي أيضًا مما لا يترتب عليها تكليم الموتى بل لعلها مانعة من ذلك لأنها حيث اقتضت تزعزع الجبال وتقطع الأرض فلأن تقتضي موت الأحياء دون إحياء الأموات الذي يكون التكليم بعده من باب أولى وفيه نظر، والباء في المواضع الثلاثة للسببية وجوز في الثالث منها أن تكون صلة ما عندها وتقديم المجرور فيها على المرفوع لقصد الإبهام، ثم التفسير لزيادة التقرير على ما مر غير مرة. و{أَوْ} في الموضعين لمنع الخلو لا الجمع، والتذكير في {كلام} لتغليب المذكر من الموتى على غيره، واقتراحهم وإن كان متعلقًا جرد ظهور مثل هذه الأفاعيل العجيبة على يده صلى الله عليه وسلم لا بظهورها بواسطة القرآن لكن ذلك حيث كان مبنيًا على عدم اشتماله في زعمهم على الخوارق نيط ظهورها به مبالغة في شأن اشتماله عليها وأنه حقيق بأن يكون مصدرًا لكل خارق وإبانة لركاكة رأيهم في شأنه الرفيع كأنه قيل: لو أن ظهور أمثال ما اقترحوه من مقتضيات الحكمة لكان مظهرها هذا القرآن الذي لم يعدوه آية، وفيه من تفخيم شأنه العزيز ووصفهم بركاكة العقل ما لا يخفى كذا حققه بعض الأجلة وهو من الحسن كان، وعلى الثاني لو أن قرآنًا فعلت به هذه الأفاعيل العجيبة لما آمنوا به كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملئكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى} [الأنعام: 111] والكلام على ما استظهره الشهاب على التقديرين حقيقة على سبيل الفرض كقوله:
ولو طار ذو حافر قبلها ** لطارت ولكنه لم يطر

وجعله على الأول تمثيلًا كالآية المذكورة هناك على ما قال لا وجه له، وتمثيل الزمخشري بها لبيان أن القرآن يقتضي غاية الخشية، وصنيع كثير من المحققين ظاهر في ترجيح التقدير الأول، وفي الكشف لو تأملت في هذه السورة الكريمة حق التأمل وجدت بناء الكلام فيها على حقية الكتاب المجيد واشتماله على ما فيه صلاح الدارين وأن السعيد كل السعيد من تمسك بحبله والشقي كل الشقي من أعرض عنه إلى هواه حيث قال تعالى أولًا: {والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الحق} [الرعد: 1] ثم تعجب من إنكارهم ذلك بقوله سبحانه: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ ايَةٌ} [الرعد: 7] ثم قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الحق} [الرعد: 14] فأثبت حقيته بالحجة، ثم قال جلا وعلا: {أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء} [الرعد: 17] وهو مثل للحق الذي هو القرآن ومن انتفع به على ما فسره المحققون، ثم صرح تعالى بنتيجة ذلك كله بالبرهان النير في قوله سبحانه: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى} [الرعد: 19] ثم أعاد جل شأنه قوله: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ} [الرعد: 27] دلالة على إنكارهم أول ما أتاهم وبعد رصانة علمهم بحقيته فهم متمادون في الإنكار، ثم كر إلى بيان الحقية فيما نحن فيه وبالغ المبالغة التي ليس بعدها سواء جعل داخلًا في حيز القول أو جعل ابتداء كلام منه تعالى تذييلًا وهو الأبلغ ليكون مقصودًا بذاته في الإفادة المذكورة مؤكدًا لمجموع ما دل عليه قوله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ} [الرعد: 30] من تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام وما أنزل عليه وشدة إنكارهم وتصميمهم لا علاوة في أن لم يبق إلا التوكل والصبر على مجاهدتكم إذ لا وراء هذا القرآن حتى أجيء به لتسلموا ثم فخمه ونعى عليهم مكابرتهم بقوله تعالى: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّا} [الرعد: 37] وأيد حقية الكتاب فيمن أنزل عليه في خاتمة السورة بقوله جل وعلا: {كفى بالله} إلى قوله سبحانه: {عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43] تنبيهًا على أنه مع ظهور أمره في إفادة الحقائق العرفانية والخلائق الإيمانية لا يعلم حقيقة ما فيه إلا من تفرد به وبإنزاله تبارك وتعالى اه.
وفي سبب النزول وستعلمه قريبًا إن شاء الله تعالى ما يؤيد الثاني، والظاهر على حقيقة وأشرنا إليه أولًا أن الآية على الأول متعلقة بقوله تعالى: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ ايَةٌ}
[الرعد: 27] وهي على الثاني متعلقة بقوله سبحانه: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} [الرعد: 30] بيانًا لتصميمهم في كفرهم وإنكارهم الآيات ومن أتى بها لا بذلك لبعد المرمى من غير ضرورة، وقوله تعالى: {بَل للَّهِ الامر جَمِيعًا} أي له الأمر الذي يدور عليه فلك الأكوان وجودًا وعدمًا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد حسا تقتضيه الحكم البالغة، قيل: إضراب عما تقتضيه الشرطية من معنى النفي لا بحسب منطوقه بل باعتبار موجبه ومؤداه أي لو أن قرآنًا فعل به ما ذكر لكان ذلك هذا القرآن ولكن لم يفعل سبحانه بل فعل ما عليه الشأن الآن لأن الأمر كله له وحده، فالإضراب ليس توجه إلى كون الأمر لله تعالى بل إلى ما يؤدى إليه ذلك من كون الشأن على ما كان لما تقتضيه الحكمة، وقيل: إن حاصل ازضراب لا يكون تسيير الجبال مع ما ذكر بقرآن بل يكون بغيره مما أراده الله تعالى فإن الأمر له سبحانه جميعًا، وزعم بعضهم أن الأحسن العطف على مقدر أي ليس لك من الأمر شيء بل الأمر لله جميعًا، ومعنى قوله سبحانه: {أَفَلَمْ يَاْيْئَسِ الذين ءامَنُواْ} أفلم يعلموآ وهي كما قال القاسم بنمعن لغة هوازن، وقال: ابن الكلبي: هي لغة حي من النخع، وأنشدوا على ذلك قوله سحيم بن وثيل الرباحي:
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ** ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم

وقول رباح بن عدي:
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه ** وإن كنت عن رض العشيرة نائيًا

فإنكار الفراء ذلك وزعمه أنه لم يسمع أحد من العرب يقول يئست عنى علمت ليس في محله، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، والظاهر أن استعمال اليأس في ذلك حقيقة، وقيل: مجاز لأنه متضمن للعلم فإن الآيس عن الشيء عالم بأنه لا يكون، واعترض بأن اليأس حينئذ يقتضي حصول العلم بالعدم وهو مستعمل في العلم بالوجود، وأجيب بأنه لما تضمن العلم بالعدم تضمن مطلق العلم فاستعمل فيه، ويشهد لإرادة العلم هنا قراءة علي كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس. وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم. وعكرمة. وابن أبي مليكة. والجحدري. وأبي يزيد المدني. وجماعة {أَفَلَمْ يَتَبَيَّنَ} من تبينت كذا إذا علمته وهي قراءة مسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست مخالفة للسواد إذ كتبوا ييئس بغير صورة الهمزة وأما قول من قال: إنما كتبه الكاتب وهو ناعس فسوى اسنان السين فهو قول زنديق ابن ملحد على ما في البحر، وعليه فرواية ذلك كما في الدر المنثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما غير صحيحة، وزعم بعضهم أنها قراءة تفسير وليس بذاك، والفاء للعطف على مقدر أي أغفلوا عن كون الأمر جميعه لله تعالى فلم يعلموا {أَن لَّوْ يَشَاء الله} بتخفيف أن وجعل اسمها ضمير الشأن والجملة الامتناعية خبرها وأن وما بعدها ساد مسد مفعولي العلم {لَهَدَى الناس جَمِيعًا} أي بإظهار أمثال تلك الآثار العظيمة، والإنكار على هذا متوجه إلى المعطوفين جميعًا أو أعلموا كون الأمر جميعًا لله تعالى فلم يعلموا ما يوجبه ذلك العلم مما ذكر، وحينئذ هو متوجه إلى ترتب المعطوف على المعطوف عليه أي تخلف العلم الثاني عن العلم الأول، وأيًا كان فالإنكار إنكار الوقوع لا الواقع ومناط الإنكار ليس عدم علمهم ضمون الشرطية فقط بل عدم علمهم بعدم تحقق مقدمها كأنه قيل: ألم يعلموا أن الله تعالى لو شاء هدايتهم لهداهم وأنه سبحان لم يشأ ذلك، وذلك لما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الكفار لما سألوا الآيات ود المؤمنون أن يظهرها الله تعالى ليجتمعوا على الايمان هذا على التقدير الأول، وأما على التقدير الثاني فالإضراب متوجه إلى ما سلف من اقتراحهم مع كونهم في العناد على ما شرح، والمعنى فليس لهم ذلك بل لله تعالى الأمر إن شاء أتى بما اقترحوا وإن شاء سبحانه لم يأت به حسا تستدعيه حكمته الباهرة من غير أن يكون لأحد عليه جل جلاله حكم أو اقتراح، واليأس عنى القنوط كما هو الشائع في معناه أي ألم يعلم الذين آمنوا حالهم هذه فلم يقنطوا من إيمانهم حتى ودوا ظهور مقترحاتهم فالإنكار متوجه إلى المعطوفين أو أعلموا ذلك فلم يقنطوا من إيمانهم فهو متوجه إلى وقوع المعطوف بعد المعطوف عليه أي إلى تخلف القنوط عن العلم المذكور، والإنكار على هذين التقديرين إنكار الوقاع لا الوقوع فإن عدم قنوطهم من ذلك مما لا مرد له، وقوله تعالى: {أَن لَّوْ يَشَاء الله} إلى آخره مفعول به لعلمًا محذوف وقع مفعولًا له أي أفلم ييأسوا من إيمان الكفار علمًا منهم بأنه لو يشاء الله لهدي الناس جميعًا وأنه لم يشأ ذلك، وقد يجعل العلم في موضع الحال أي عالمين بذلك، ولم يعتبر التضمين لبعده، ويجوز أن يكون متعلقًا بآمنوا بتقدير الباء أي أفلم يقنط الذين آمنوا وصدقوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعًا على معنى أفلم ييأس من إيمان هؤلاء الكفرة المؤمنون ضمون هذه الشرطية وبعدم تحققها المنفهم من مكابرتهم حسا يحكيه كلمة {لَوْ} فالوصف المذكور من دواعي إنكار يأسهم، وا أشرنا إليه ينحل ما قيل: من أن تعلق الإيمان ضمون الشرطية وتخصيصه بالذكر يقتضي أن لذلك دخلا في اليأس من الايمان مع أن الأمر بالعكس لأن قدرة الله تعالى على هداية جميع الناس يقتضي رجاء إيمانهم لا اليأس منه وذلك لاعتبار العلم بعدم تحقق المضمون أيضًا.
وقال بعضهم في الجواب عن ذلك: إن وجه تخصيص الإيمان بذلك أن إيمان هؤلاء الكفرة المصممين كأنه محال متعلق بما لا يكون لتوقفه على مشيئة الله تعالى هداية جميع الناس وذلك ما لا يكون بالاتفاق وهو في معنى ما أشير إليه، وذكر أبو حيان احتمالًا آخر في الآية وهو أن الكلام قد تم عند قوله سبحانه: {أفلم ييأس الذين آمنوا} وهو تقرير أي قد يئس المؤمنون من إيمان هؤلاء المعاندين و{أَن لَّوْ يَشَاء} إلخ جواب قسم محذوف أي أقسم لو يشاء الله لهدى الناس جميعًا، ويدل على إضمار القسم وجود أن مع لو كقوله:
وقوله:
أما والله أن لو كنت حرا ** وما بالحر أنت ولا العتيق

فأقسم أن لو التقينا وأنتم ** لكان لنا يوم من الشر مظلم

وقد ذكر سيبويه أن أن تأتي بعد القسم، وجعلها ابن عصفور رابطة للقسم بالجملة المقسم عليها انتهى، وفيه من التكلف ما لا يخفى، ومن الناس من جعل الإضراب مطلقًا عما تضمنه {لَوْ} من معنى النفي على معنى بل الله تعالى قادر على الإتيان بما اقترحوا إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك لعلمه سبحانه بأنه لا تلين له شكيمتهم، ولا يخفى أنه ظاهر على التقدير الثاني. وأما على التقدير الأول فقد قيل: إن إرادة تعظيم شأن القرآن لا تنافي الرد على المقترحين، وأيد جانب الرد بما أخرجه ابن أبي شيبة. وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت نبيًا كما تزعم فباعد جبلي مكة أخشبيها هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة فإنها ضيقة حتى نزرع فيها ونرعى وابعث لنا آباءنا من الموتى حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبي أو احملنا إلى الشام أو إلى اليمن أو إلى الحيرة حتى نذهب ونجيء في ليلة كما زعمت أنك فعلته فنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن جرير. وأبو الشيخ عن ابن عباس أنهم قالوا: سير بالقرآن الجبال، قطع بالقرآن الأرض، أخرج به موتانا فنزلت، وعلى هذا لا حاجة إلى الاعتذار في إسناد الأفاعيل المذكورة إلى القرآن كما احتيج إليه فيما تقدم، وعلى خبر الشعبي يراد من تقطيع الأرض قطعها بالسير، ويشهد للتفسير بما قدمنا أولًا ما أخرجه أبو نعيم في الدلائل. وغيره من حديث الزبير بن العوام أنه لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين} [الشعراء: 214] صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي قبيس يا آل عبد مناف أني نذير فجاءته عليه الصلاة والسلام قريش فحذرهم وأنذرهم فقالوا، تزعم أنك نبي يوحي إليك وإن سليمان سخر له الريح والجبال وإن موسى سخر له البحر وإن عيسى كان يحيى الموتى فادع الله تعالى أن يسير عنا هذه الجبال ويفجر لنا الأرض أنهارًا فنتخذ محارث فنزرع ونأكل وإلا فادع الله تعالى أن يحيى لنا موتانا فنكلمهم ويكلمونا وإلا فادع الله تعالى أن يجعل هذه الصخرة التي تحتك ذهبًا فننحت منها وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف فإنك تزعم أنك كهيئتهم.
الخبر، وفيه فنزلت: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالايات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاولون} [الإسراء: 59] إلى تمام ثلاث آيات، ونزلت {وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا} الآية هذا.
وعن الفراء أن جواب {لَوْ} مقدم وهو قوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} [الرعد: 30] وما بينهما اعتراض وهو مبني كما قيل على جواز تقديم جواب الشرط عليه، ومن النحويين من يراه، ولا يخفى أن في اللفظ نبوة عن ذلك لكون تلك الجملة اسمية مقترنة بالواو، ولذا أشار السمين إلى أن مراده أن تلك الجملة دليل الجواب والتقدير ولو أن قرآنًا فعل به كذا وكذا لكفروا بالحرمن، وأنت تعلم أنه لا فرق بين هذا وتقدير لما آمنوا في المعنى، وجوز جعل {لَوْ} وصلية ولا جواب لها والجملة حالية أو معطوفة على مقدر.
{وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ} من أهل مكة على ما روى عن مقاتل {تُصِيبُهُم بما صَنَعُواْ} أي بسبب ما صنعوه من الكفر والتمادي فيه، وإبهامه إما لقصد تهويله أو استهجانه، وهو تصريح بما أشعر به بناء الحكم على الموصول من علية الصلة له مع ما في صيغة الصنع من الإيذان برسوخهم في ذلك {قَارِعَةٌ} من القرع وأصله ضرب شيء بشيء بقوة، ومنه قوله:
ولما قرعنا النبع بالنبع بعضه ** ببعض أبت عيدانه أن تكسرا

والمراد بها الرزية التي تقرع قلب صاحبها، وهي هنا ما كان يصيبهم من أنواع البلايا والمصائب من القتل والأسر والنهب والسلب، وتقديم المجرور على الفاعل لما مر غير مرة من إرادة التفسير إثر الإبهام لزيادة التقرير والأحكام مع ما فيه من بيان أن مدار الإصابة من جهتهم أثر ذي أثير {أَوْ تَحُلُّ} تلك القارعة {قَرِيبًا} مكانًا قريبًا {مّن دَارِهِمْ} فيفزعون منها ويتطاير إليهم شررها، شبه القارعة بالعدو المتوجه إليهم فأسند إليها الإصابة تارة والحلو أخرى ففيه استعارة بالكناية وتخييل وترشيح {حتى يَأْتِىَ وَعْدُ الله} أي موتهم أو القيامة فإن كلًا منهما وعد محتوم لا مرد له، وفيه دلالة على أن ما يصيبهم حينئذ من العذاب أشد، ثم حقق ذلك بقوله سبحانه: {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} أي الوعد كالميلاد والميثاق عنى الولادة والتوثقة، ولعل المراد به ما يندرج تحته الوعد الذي نسب إليه الإتيان لا هو فقط، قال القاضي: وهذه الآية تدل على بطلان من يجوز الخلف على الله تعالى في ميعاده وهي وإن كانت واردة في حق الكفار إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وعمومه يتناول كل وعيد ورد في حق الفساق، وأجاب الإمام بأن الخلف غير وتخصيص العمول غير، ونحن لا نقول بالخلف ولكنا نخصص عمومات الوعيد بالآيات الدالة على العفو، وأنت تعلم أن المشهور في الجواب أن آيات الوعد مطلقة وآيات الوعيد وإن وردت مطلقة لكنها مقيدة حذف قيدها لمزيد التخويف ومنشأ الأمرين عظم الرحمة وغاية الكرم، والفرق بين الوعد والوعيد أظهر من أن يذكر.
نعم قد يطلق الوعد على ما هو وعيد في نفس الأمر لنكتة وليتأمل فيما هنا على الوجه الذي تقرر.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالقارعة السرايا التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثها كانوا بين غارة واختطاف وتخويف بالهجوم عليهم في دارهم. فالإصابة والحلول حينئذ من أحوالهم، وجوز على هذا أن يكون قوله تعالى: {أَوْ تَحُلُّ} خطابًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مرادًا به حلول الحديبية، والمراد بوعد الله تعالى ما وعد به من فتح مكة. وعزا ذلك الطبري إلى ابن عباس. ومجاهد. وقتادة. وروى عن مقاتل. وعكرمة. وذهب ابن عطية إلى أن المراد بالذين كفروا كفار قريش. والعرب، وفسر القارعة بما ينزل بهم من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن الحسن. وابن السائب أن المراد بهم الكفار مطلقًا قالا: وذلك الأمر مستمر فيهم إلى يوم القيامة، ولا يتأتى على هذا أن يراد بالقارعة سرايا رسول الله عليه الصلاة والسلام فيراد بها حينئذ ما ذكر أولًا، وأنت تعلم أنه إذا أريد جنس الكفرة لا يلزم منه حلول ما تقدم بجميعهم. وقرأ مجاهد. وابن جبري {أَوْ يَحِلَّ} بالياء على الغيبة، وخرج ذلك على أن يكون الضمير عائدًا على القارعة باعتبارهم أنها عنى البلاء أو يجعل هائها للمبالغة أو على أن يكون عائدًا على الرسول عليه الصلاة والسلام. وقرءا أيضًا {مِن ديارهم} على الجمع.