فصل: تفسير الآية رقم (27):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (27):

{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)}
{يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت} الذي ثبت عندهم وتمكن في قلوبهم وهو الكلمة الطيبة التي ذكرت صفتها العجيبة، والظاهر أن الجار متعلق بيثبت وكذا قوله سبحانه: {وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم} أي يثبتهم بالبقاء على ذلك مدة حياتهم فلا يزالون إذا قيض لهم من يفتنهم ويحاول زللهم عنه كما جرى لأصحاب الاخدود. ولجرجيس. وشمسون وكما جرى لبلال وكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم {وَفِي الاخرة} أي بعد الموت وذلك في القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة وفي مواقف القيامة فلا يتعلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم هناك ولا تدهشهم الأهوال. وأخرج ابن أبي شيبة عن البراء بن عازب أنه قال في الآية: التثبيت في الحياة الدنيا إذا جاء الملكان إلى الرجل في القبر فقالا له: من ربك؟ قال: ربي الله. قالا. وما دينك؟ قال: ديني الإسلام: قال: ومن نبيك؟ قال: نبي محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالمراد من {الاخرة} يوم القيامة، وأخرج الطبراني في الأوسط. وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذه الآية: {يُثَبّتُ الله} إلخ في الآخرة القبر» وعلى هذا فالمراد بالحياة الدنيا مدة الحياة وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء واختاره الطبري. نعم اختار بعضهم أن الحياة الدنيا مدة حياتهم والآخرة يوم القيامة والعرض؛ وكأن الداعي لذلك عموم {الذين كَفَرُواْ} وشمولهم لمؤمني الأمم السابقة مع عدم عموم سؤال القبر، وجوز تعلق الجار الأول بآمنوا على معنى آمنوا بالتوحيد الخالص فوحدوه ونزهوه عما لا يليق بجنابه سبحانه، وكذا جوز تعلق الجار الثاني بالثابت ومن الناس من زعم أن الثبيت في الدنيا الفتح والنصر وفي الآخرة اجلنة والثواب لا يخفى أن هذا مما لا يكاد يقال، وأمر تعلق الجارين ما قدمنا وهذا عند بعضهم مثال إيتاء الشجرة أكلها كل حين {وَيُضِلُّ الله الظالمين} أي يخلق فيهم الضلال عن الحق الذي ثبت المؤمنين عليه حسب إرادتهم واختيارهم الناشئ عن سوء استعدادهم، والمراد بهم الكفرة بدليل مقابلتهم بالذين آمنوا ووصفهم بالظلم إما باعتبار وضعهم للشيء في غير موضعه، وإما باعتبار ظلمهم لأنفسهم حيث بدلوا فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها فلم يهتدوا إلى القول الثابت أو حيث قلدوا أهل الضلال وأعرضوا عن البينات الواضحة، واضلالهم على ما قيل في الدنيا أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أول شيء وهم في الآخرة أضل وأزل. وأخرج ابن جرير.
وابن أبي حاتم. والبيهقي من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الكافر إذا حضره الموت تنزل عليه الملائكة عليهم السلام يضربون وجهه ودبره فإذا دخل قبره أقعد فقيل له: من ربك؟ فلم يرجع إليهم شيئًا وأنساه الله تعالى ذكر ذلك، وإذا قيل له: من الرسول الذي بعث إليكم؟ لم يهتد له ولم يرجع إليهم شيئًا فذلك قوله تعالى: {وَيُضِلُّ الله الظالمين}: {وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاء} من تثبيت بعض واضلال بعض آخرين حسا توجبه مشيئته التابعة للحكم البالغة المقتضية لذلك، وفي إظهار الاسم الجليل في الموضعين من الفخامة وتربية المهابة ما لا يخفى مع ما فيه كما قيل من الإيذان بالتفاوت في مبادئ التثبيت والإضلال فإن مبدأ صدور كل منهما عنه سبحانه وتعالى من صفاته العلا غير ما هو مبدأ صدور الآخر، وفي ظاهر الآية من الرد على المعتزلة ما فيها.

.تفسير الآية رقم (28):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)}
{أَلَمْ تَرَ} تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد مما صنع الكفرة من الأباطيل أي ألم تنظر {إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله} أي شكر نعمته تعالى الواجب عليهم ووضعوا موضعه {كُفْرًا} عظيمًا وغمطًا لها، فالكلام على تقدير مضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه وهو المفعول الثاني و{كُفْرًا} المفعول الأول، وتوهم بعضهم عكس ذلك، وقد لا يحتاج إلى تقدير على معنى أنهم بدلوا النعمة نفسها كفرًا لأنهم لما كفروها سلبوها فبقوا مسلوبيها موصوفين بالكفر، وقد ذكر هذا كالأول الزمخشري، والوجهان كما في الكشف خلافًا لما قرره الطيبي وتابعه عليه غيره متفقان في أن التبديل هاهنا تغيير في الذات إلا أنه واقع بين الشكر والكفر أو بين النعمة نفسها والكفر، والمراد بهم أهل مكة فإن الله سبحانه أسكنهم حرمه وجعلهم قوام بيته وأكرمهم حمد صلى الله عليه وسلم فكفروا نعمة الله تعالى بدل ما ألزمهم من الشكر العظيم، أو أصابهم الله تعالى بالنعمة والسعة لإيلافهم الرحلتين فكفروا نعمته سبحانه فضربهم جل جلاله بالقحط سبه سنين وقتلوا وأسروا يوم بدر فحصل لهم الكفر بدل النعمة وبقي ذلك طوقافي أعناقهم.
وأخرج الحاكم وصححه. وابن جرير. والطبراني. وغيرهم من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في هؤلاء المبدلين: هما إلا فجران من قريش بنو أمية. وبنوا المغيرة فأما بنو المغيرة فقطع الله تعالى دابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين. وأخرج البخاري في تاريخه. وابن المنذر. وغيرهما عن عمر رضي الله تعالى عنه مثل ذلك.
وجاء في رواية كما في جامع الأصول هم والله كفار قريش. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: هم جبلة بن الأيهم والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم، ولعله رضي الله تعالى عنه لا يريد أنها نزلت في جبلة ومن معه لأن قصتهم كانت في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وإنما يريد أنها تخص من فعل جبلة إلى يوم القيامة {وَأَحَلُّواْ} أي أنزلوا {قعوْمَهُمْ} بدعوتهم إياهم لما هم فيه من الضلال، ولم يتعرض لحلولهم لدلالة الاحلال عليه إذ هو فرع الحلول كما قالوا في قوله تعالى في فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار} [هود: 98] {دَارَ البوار} أي الهلاك من باريبور بوارًا وبورًا، قال الشاعر:
فلم أر مثلهم أبطال حرب ** غداة الحرب إذ خيف البوار

وأصله كما قال الراغب فرط الكساد، ولما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل كسد حتى فسد عبر به عن الهلاك.

.تفسير الآية رقم (29):

{جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)}
{جَهَنَّمَ} عطف بيان للدار، وفي الإبهام ثم البيان ما لا يخفى من التهويل، وأعربه الحوفي وأبو البقاء بدلًا منها، وقوله تعالى: {يَصْلَوْنَهَا} أي يقاسون حرها حال من الدار أو من {جَهَنَّمَ} أو من {قَوْمَهُمْ} [إبراهيم: 28] أو استئناف لبيان كيفية الحلول، وجوز أبو البقاء كون {جَهَنَّمَ} منصوبًا على الاشتغال أي يصلون جهنم يصلونها وإليه ذهب ابن عطية، فالمراد بالاحلال حينئذ تعريضهم للهلاك بالقتل والاسر، وأيد بما روي عطاء أن الآية نزلت في قتلى بدر، وبقراءة ابن أبي عبلة {جَهَنَّمَ} بالرفع على الابتداء، ويحتمل أن يكون {جَهَنَّمَ} على هذه القراءة خبر مبتدأ محذوف واختاره أبو حيان معللا بأن النصب على الاشتغال مرجوح من حيث أنه لم يتقدم ما يرجحه ولا ما يجعله مساويًا، وجمهور القراء على النصب ولم يكونوا ليقرؤوا بغير الراجح أو المساوي، إذ زيد ضربته بالرفع أرجح من زيدًا ضربته فلذلك كان ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف في تلك القراءة راجحًا، وأنت تعلم أن قوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} [إبراهيم: 30] يرجح التفسير السابق {وَبِئْسَ القرار} على حذف المخصوص بالذم أي بئس القرار هي أن جهنم أو بئس القرار قرارهم فيها، وفيه بيان أن حلولهم وصليهم على وجه الدوام والاستمرار.

.تفسير الآية رقم (30):

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)}
{وَجَعَلُواْ} عطف على {أحلوا} [إبراهيم: 28] أو ما عطف عليه داخل معه في حيز الصلة وحكم التعجيب أي جعلوا في اعتقادهم وحكمهم {يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} الفرد الصمد الذي ليس كمثله شيء وهو الواحد القهار {أَندَادًا} أمثالًا في التسمية أو في العبادة، وقال الراغب: ند الشيء مشاركة في جوهره وذلك ضرب من المماثلة فإن المثل يقال في أي مشاركة كانت فكل ند مثل وليس كل مثل ندا، وليس كل مثل ندًا، ولعل المعول عليه هنا ما أشرنا إليه.
{لِيُضِلُّواْ} قومهم الذين يشايعونهم حسا ضلوا {عَن سَبِيلِهِ} القويم الذي هو التوحيد، وقيل: مقتضى ظاهر النظم الكريم أن يذكر كفرانهم نعمة الله تعالى ثم كفرانهم بذاته سبحانه باتخاذ الأنداد ثم إضلالهم لقومهم المؤدى إلى إحلالهم دار البوار، ولعل تغيير الترتيب لتثنية التعجيب وتكريره والإيذان بأن كل واحد من هذه الهنات يقضي منه العجب ولو سيق النظم على نسق الوجود لرا فهم التعجيب من الجموع، وله نظائر في الكتاب الجليل، وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو. ورويس عن يعقوب {لِيُضِلُّواْ} بفتح الياء، والظاهر أن اللام في القراءتين مثلها في قوله تعالى: {فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] وذلك أنه لما كان الاضلال أو الضلال نتيجة للجعل المذكور شبه بالغرض والعلة الباعثة فاستعمل له حرفه على سبيل الاستعارة التبعية قاله غير واحد؟ وقيل عليه: إن كون الضلال نتيجة للجعل لله سبحانه أندادًا غير ظاهر إذ هو متحد معه أو لازم لا ينفك عنه إلا أن يراد الحكم به أو دوامه. ورد بأنهم مشركون لا يعتقدون أنه ضلال بل يزعمون أنه اهتداء فقد ترتب على اعتقادهم ضده، على أن المراد بالنتيجة ما يترتب على الشيء أعم من أن يكون من لوازمه أولًا وفيه تأمل {قُلْ} لأولئك الضلال المتعجب منهم {تَمَتَّعُواْ} بما أنتم عليه من الشهوات التي من جملتها تبديل نعمة الله تعالى كفرًا واستتباع الناس في الضلال، وجعل ذلك متمتعًا به تشبيهًا له بالمشتهيات المعروفة لتلذذهم به كتلذذهم بها، وفي التعبير بالأمر كما قال الزمخشري إيذان بأنهم لانغماسهم بالتمتع بما هم عليه وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه مأمورون به قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه ولا يملكون لأنفسهم أمرًا دونه وهو آمر الشهوة؛ وعلى هذا يكون قوله تعالى: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى} جواب شرط ينسحب عليه الكلام على ما أشار إليه بقوله: والمعنى إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لآمر الشهوة فإن مصيركم إلى النار، ويجوز أن يكون الأمر مجازًا عن التخلية والخذلان وأن ذلك الآمر متسخط إلى غاية، ومثاله أن ترى الرجل قد عزم على أمر وعندك ذلك الأمر خطأ وأنه يؤدي إلى ضرر عظيم فتبالغ في نصحه واستنزاله عن رأيه فإذا لم تر منه إلا الآباء والتصميم حردت عليه وقلت: أنت وشأنك فافعل ما شئت فلا تريد بهذا حقيقة الأمر ولكنك كأنك تقول: فإذ قد أبيت قبول النصيحة فأنت أهل ليقال لك افعل ما شئت وتبعث عليه ليتبين لك إذا فعلت صحة رأي الناصح وفساد رأيك انتهى.
قال صاحب الكشف: إن الوجهين مشتركان في إفادة التهديد لكن الاداء إلى مختلف، والأول نظير ما إذا أطاع أحد عبيدك بعض من تنقم طريقته فتقول: اطع فلانًا، وهذا صحيح صدر من المنقوم أمر ومن العبد طاعة أو كان منه موافقة لبعض ما يهواه والقسم الأخير هو ما نحن فيه والثاني ظاهر انتهى.
وظاهر هذا أن التهديد على الوجهين مفهوم من صيغة الأمر، ويفهم من كلام بعض الأجلة أن ذلك على الوجه الأول من الشرطية وعلى الثاني من الأمر وما في حيز الفاء تعليل له، ولعل النظر الدقيق قاض بما أفتى به ظاهر ما في الكشف، وذكر غيرو احد أن هذا كقول الطبيب لمريض يأمره بالاحتماء فلا يحتمي: كل ما تريد فإن مصيرك إلى الموت؛ فإن المقصود كما قال صاحب الفرائد التهديد ليرتدع ويقبل ما يقول.
وجعل الطيبي ما قرر في المثال هو المراد من قول الزمخشري ان في {لَهُمْ تَمَتَّعُواْ} إيذانًا بأنهم لانغماسهم إلخ، وأنت تعلم أنه ظاهر في الوجه الثاني فافهم. والمصير مصدر صار التامة عنى رجع وهو اسم إن و{إِلَى النار} في موضع الخبر، ولا ينبغى أن يقال: إنه متعلق صير وهو من صار عنى انتقل ولذا عدى بإلى لأنه يدعو إلى القول بحذف خبر إن وحذفه في مثل هذا التركيب قليل، والكثير فيما إذا كان الاسم نكرة والخبر جار ومجرور. والحوفي جوز هذا التعلق فالخبر عنده محذوف أي فإن مصيركم إلى النار واقع أو كائن لا محالة.
ثم إنه تعالى لما هدد الكفار وأشار إلى أنهماكهم في اللذة الفانية أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر خلص عباده بالعبادة البدنية والمالية فقال سبحانه: