فصل: تفسير الآية رقم (37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (37):

{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)}
{إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ} خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والحرص فرط الإرادة. وقرأ النخعي {وَأَنْ} بزيادة واو وهو، والحسن، وأبو حيوة {تَحْرِصْ} بفتح الراء مضارع حرص بكسرها وهي لغة، والجمهور {تَحْرِصْ} بكسر الراء مضارح حرص بفتحها وهي لغة الحجاز {فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ} جواب الشرط على معنى فاعلم ذلك أو علة للجواب المحذوف أي أن تحرص على هداهم لم ينفع حرصك شيئًا فإن الله تعالى لا يهدي من يضل، والمراد بالموصولة قريش المعبر عنهم فيما مر بالذين أشركوا، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتنصيص على أنهم ممن حقت عليهم الضلال وللإشعار بعلة الحكم. ويجوز أن يراد به ما يشملهم ويدخلون فيه دخولًا أولياء، ومعنى الآية على ما قيل: أنه سبحانه لا يخلق الهداية جبرًا وقسرًا فيمن يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره ولابد من نحو هذا التأويل لأن الحكم بدون ذلك مما لا يكاد يجهل، و{مِنْ} على هذا مفعول {يَهْدِى} كما هو الظاهر، وقيل: إن يهدي مضارع هدى عنى اهتدى فهو لازم و{مِنْ} فاعله وضمير الفاعل في {يُضِلَّ} لله تعالى والعائد محذوف أي من يضله، وقد حكى مجيء هدى عنى اهتدى الفراء. وقرأ غير واحد من السبعة. والحسن. والإعرج. ومجاهد. وابن سيرين. والعطاردي. ومزاحم الخراساني. وغيرهم {لاَّ يَهِدِّى} بالبناء للمفعول فمن نائب الفاعل والعائد وضمير الفاعل كما مر، وهذه القراءة أبلغ من الأولى لأنها تدل على أن من أضله الله تعالى لا يهديه كل أخد بخلاف الأولى فإنها تدل على أن الله تعالى لا يهديه فقط وإن كان من لم يهد الله فلا هادي له، وهذا على ما قيل إن لم نقل بلزوم هدى وأما إذا قلنا به فهما عنى إلا أن هذه صريحة في عموم الفاعل بخلاف تلك مع أن المتعدي هو الأكثر. وقرأت فرقة منهم عبد الله {لاَّ يَهِدِّى} بفتح الياء وكسر الهاء والدال وتشديهدا، وأصله يهتدي فأدغم كقولك في يختصم يخصم.
وقرأت فرقة أخرى {لاَّ يَهِدِّى} بضم الياء وكسر الدال، قال ابن عطية: وهي ضعيفة، وتعقبه في البحر بأنه إذا ثبت هدى لازمًا عنى اهتدى لم تكن ضعيفة لأنه ادخل على اللازم همزة التعدية، فالمعنى لا يجعل مهتديًا من أضله.
وأجيب بأنه يحتمل أن وجه الضعف عنده عدم اشتهار أهدى المزيد. وقرئ {يُضِلَّ} بفتح الياء، وفي مصحف أبي {فَإِنَّ الله لاَ هَادِيَ لِمَنْ أَضَلَّ} {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} ينصرونهم في الهداية أو يدفعون العذاب عنه وهو تتميم بإبطال ظن أن آلهتهم تنفعهم شيئًا وضير لهم عائد على معنى من وصيغة الجمع في الناصرين باعتبار الجمعية في الضمير فإن مقابلة الجمع بالجمع تفيد إنقسام الآحاد على الآحاد لا لأن المراد نفي طائفة من الناصرين من كل منهم.
ثم إن أول هذه الآيات را يوهم نصرة مذهب الاعتزال كلن آخرها مشتمل على الوجوه الكثيرة كما قال الإمام الدالة على نصرة مذهب أهل الحق، ولعل الأمر غني عن البيان ولله تعالى الحمد على ذلك.

.تفسير الآية رقم (38):

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)}
{وَأَقْسَمُواْ بالله} شروع في بيان فن آخر من أباطيلهم وهو إنكارهم البعث، وهو على ما في الكشاف وغيره عطف على قوله تعالى: {وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ} [النحل: 35] قيل: ولتضمن الأول إنكار التوحيد وهذا إنكار البعث وهما أمران عظيمان من الكفر والجهل حسن العطف بينهما، والضمير لأهل مكة أيضًا أي حلفوا بالله {جَهْدَ أيمانهم} مصدر منصوب الحال أي جاهدين في أيمانهم {لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} وهو مبني على أن الميت يعدم ويفنى وأن البعث إعادة له وأنه يستحيل إعادة المعدوم، وقد ذهب إلى هذه الاستحالة الفلاسفة ولم يوافقهم في دعوة ذلك أحد من المتكلمين إلا الكرامية. وأبو الحسين البصري من المعتزلة، واحتجوا عليها بما رده المحققون، وبعضهم ادعى الضرورة في ذلك وأن ما يذكر في بيانه تنبيهات عليه، فقد نقل الإمام عن الشيخ أبي علي بن سينا أنه قال: كل من رجع إلى فطرته السليمة ورفض عن نفسه الميل والتعصب شهد عقله الصريح بأن إعادة المعدوم بعينه ممتنعة؛ وفي قسم هؤلاء الكفار على عدم البعث إشارة كما قال في «التفسير» إلى أنهم يدعون العلم الضروري بذلك.
وأنت تعلم أنه إذا جوز إعادة المعدوم بعينه كما هو رأى جمهور المتكلمين فلا إشكال في البعث أصلًا، وأما إن قلنا بعدم جواز الإعادة لقيام القاطع على طلك فقد قيل: نتلزم القول بعدم انعدام شيء من الأبدان حتى يلز في البعث إعادة المعدوم وإنما عرض لها التفرق ويعرض لها في البعث الاجتماع فلا إعادة لمعدوم، وفيه بحث وإن أيد بقصة إبراهيم عليه السلام ومن هنا قال المولى ميرزاجان: لا مخلص إلا بأن يقال ببقاء النفس المجردة وأن البدن المبعوث مثل البدن الذي كان في الدنيا وليس عينه بالشخص ولا ينافي هذا قانون العدالة إذ الفاعل هو النفس ليس إلا والبدن نزلة السكين بالنسبة إلى القطع فكما أن الأثر المترتب على القطع من المدح والذم والثواب والعقاب إنما هو للقاطع لا للسكين كذلك الأثر المترتب على أفعال الإنسان إنما هو للنفس وهي المتلذذة والمتألمة تلذذًا أو تألمًا عقليًا أو حسيًا فليس يلزم خلاف العدالة، وأما الظواهر الدالة على عود ذلك الشخص بعينه فمؤولة لفرض القاطع الدال على الامتناع، وذلك بأن يقال: المراد إعادة مادته مع صورة كانت أشبه الصور إلى الصورة الأولى دتبر؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة يس تحقيق هذا المطلق على أتم وجه.
ونقل عن ابن الجوزي. وأبي العالية أن هذه الآية نزلت لأن رجلًا من المسلمين تقاضى دينا على رجل من المشركين فكان فيما تكلم به المسلم والذي أرجوه بعد الموت فقال المشرك: وإنك لتبعث بعد الموت وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت فقص الله تعالى ذلك ورده أبلغ رد بقوله بحانه: {بلى} لإيجاب النفي أي بلى يبعثهم {وَعْدًا} مصدر مؤكد لما دل عليه {بلى} إذ لا معنى له سوى الوعد بالبعث والإخبار عنه، ويسمى نحو هذا مؤكدًا لنفسه وجوز أن كيون مصدرًا لمحذوف أي وعد ذلك وعدًا {عَلَيْهِ} صفة {وَعْدًا} والمراد وعدًا ثابتًا عليه إنجازه وإلا فنفس الوعد ليس ثابتًا عليه، وثبوت الإنجاز لامتناع الخلف في وعده أو لأن البعث من مقتضيات الحكمة.
{حَقًّا} صفة أخرى لوعدًا وهي مؤكدة إن كان عنى ثابتًا متحققًا ومؤسسة إن كان عنى غير باطل أو نصب على المصدرية حذوف أي حق حقًا {ولكن أَكْثَرَ الناس} لجهلهم بشؤون الله تعالى من العلم والقدرة والحكمة وغيرها من صفات الكمال وا يجوز عليه وما لا يجوز وعدم وقوفهم على سر التكوين والغاية القصوى منه وعلى البعث مما تقتضيه الحكمة {لاَّ يَعْلَمُونَ} أنه تعالى يبعثهم، ونعى عليهم عدم العلم بالبعث دون العلم بعدمه الذي يزعمونه على ما يقتضيه ظاهر قسمهم ليعلم منه نعي ذاك بالطريق.
وجوز أن يكون للإيذان بأن ما عندهم عزل عن أن يسمى علمًا بل هو توهم صرف وجهل محض، وتقدير مفعول {يَعْلَمُونَ} ما علمت هو الأنسب بالسياق، وجوز أن يكون التقدير لا يعلمون أنه وعد عليه حق يكذبونه قائلين: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هذا مِن قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين} [المؤمنون: 83].

.تفسير الآية رقم (39):

{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)}
{لِيُبَيّنَ لَهُمُ} متعلق بما دل عليه {بلى} [النحل: 38] وهو يبعثهم، والضمير لـ {من يموت} [النحل: 38] الشامل للمؤمنين والكافرين إذ التبيين يكون للمؤمنين أيضًا فإنهم وإ كانوا عالمين بذلك لكنه عند معاينة حقيقة الحال يتضح الأمر فيصل علمهم إلى مرتبة عين اليقين أي يبعثهم ليبين لهم بذلك وا يحصل لهم شاعدة الأحوال كما هي ومعاينتها بصورها الحقيقية الشأن {الذى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} من الحق الشامل لجميع ما خالفوه مما جاء به الرسل المبعوثون فيهم ويدخل فيه البعث دخولًا أوليًا والتعبير عن ذلك بالموصول للدلالة على فخامته وللإشعار بعلية ما ذكر في حيز الصلة للتبيين، وتقدير الجار والمجرور لرعاية رؤس الآي {وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ} بالله تعالى بالإشراك وإنكار البعث الجسماني وتكذيب الرسل عليهم السلام {أَنَّهُمْ كَانُواْ كاذبين} في كل ما يقولونه ويدخل فيه قولهم: {لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38] دخولًا أوليًا.
ونقل في البحر القول بتعلق {لِيُبَيّنَ} إلخ بقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولًا} [النحل: 36] أي بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه وأنهم كانوا على الضلالة قبل بعثه مفترين على الله سبحانه الكذب ولا يخفى بعد ذلك وتبادر ما تقدم، وجعل التبيين والعلم المذكورين غاية للبعث كما في إرشاد العقل السليم باعتبار وروده في معرض الرد على المخالفين وإبطال مقالة المعاندين المستدعى للتعرض لما يردعهم عن المخالفة ويأخذ بهم الإذعان للحق فإن الكفرة إذا علموا أن تحقق البعث إذا كان لتبيين أنه حق وليعلموا أنهم كاذبون في إنكاره كان أزجر لهم عن إنكاره وادعى إلى الاعتراف به ضرورة أنه يدل على صدق العزيمة على تحقيقة كما تقول لمن ينكر أنك تصلي لأصلين رغمًا لأنفك وإظهارًا لكذبك، ولأن تكرر الغايات أدل على وقوع المغيا بها وإلا فالغاية الأصلية للبعث باعتبار ذاته إنما هو الجزاء الذي هو الغاية القصوى للخلق المغيا عرفته عز وجل وعبادته، وإنما لم يذكر ذلك لتكرر ذكره في مواضع وضهرته، وفيه أنه إنما لم يدرج علم الكفار بكذبهم تحت التبيين بأن يقال مثلًا: وأن الذين كفروا كانوا كاذبين بل جيء بصيغة العلم لأن ذلك ليس مما يتعلق به التبين الذي هو عبارة عن إظهار ما كان مبهمًا قبل ذلك بأن يخبر به فيختلف فيه كالبعث الذي نطق به القرآن فاختلف فيه المختلفون، وأما كذب الكافرين فليس من هذا القبيل، ويستفاد من تحقيقه في نظير ما هنا أنه لما كان مدلول الخبر هو الصدق والكذب احتمال عقلي وكان معنى تبيين الصدق إظهار ذلك المدلول وقطع احتمال نقيضه بعدما كان محتملًا له احتمالًا عقليًا ناسب أن يعلق التبيين بالذي فيه يختلفون من الحق، وليس بين الصدق والحق كثير فرق، ولما كان الكذب أمرًا حادثًا لا دلالة الخبر عليه حتى يتعلق به التبيين والإظهار بل هو نقيض مدلوله فما يتعلق به يكون علمًا مستأنفًا ناسب أن يعلق العلم بأنهم كانوا كاذبين فليتدبر.
قيل: ولكون العلم بما ذكر من روادف ذلك التبيين قيل: {وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ} دون وليجعل الذين كفروا عالمين، وخص الإسناد بهم حيث لم يقل وليعلموا أن الذين كفروا كانوا كاذبين تنبيهًا على أن الأهم علمهم، وقيل: لم يقل ذلك لأن علم المؤمنين بما ذكر حاصل قبل ذلك أيضًا. وتعقب بأن حصول مرتبة من مراتب العلم لا يأبى حصول مرتبة أعلا منها فلم لم يقل ذلك إيذانًا بحصول هذه المرتبة من العلم لهم حينئذ، ولعل فيه غفلة عن مراد القائل. وجوز أن يراد من علم الكفرة بأنهم كانوا كاذبين تعذيبهم على كذبهم فكأنه قيل: ليظهر للمؤمنين والكافرين الحق وليعذب الكافرون على كذبهم فيما كانوا يقولونه من أنه تعالى لا يبعث من يموت ونحوه، وهذا كما يقال للجاني: غدًا تعلم جنايتك، وحينئذ وجه تخيص الإسناد بهم ظاهر، وهو كما ترى. وزعم بعض الشيعة أن الآية في علي كرم الله تعالى وجهه والأئمة من بنيه رضي الله تعالى عنهم وأنها من أدلة الرجعة التي قال بها أكثرهم، وهو زعم باطل، والقول بالرجعة محض سخافة لا يكاد يقول بها من يؤمن بالبعث، وقد بين ذلك على أتم وجه في التحفة الإثني عشرية، ولعل الوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى بيانه، وما أخرجه ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: أن قوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بالله} الآية [النحل: 38] نزلت في غير مسلم الصحة، وعلى فرض التسليم لا دليل فيه على ما يزعمونه من الرجعة بأن يقال: إنه رضي الله تعالى عنه أراد أنها نزلت بسببي، ويكون رضي الله تعالى عنه هو الرجل الذي تقاضى دينًا له على رجل من المشركين فقال ما قال كما مر عن ابن الجوزي. وأبي العالية، وأخرجه عن أبي العالية عبد بن حميد. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. واستنبط الشيخ بهاء الدين من الآية دليلًا على أن الكذب مخالفة الواقع ولا عبرة بالاعتقاد، وهو ظاهر فافهم.

.تفسير الآية رقم (40):

{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)}
{إِنَّمَا قَوْلُنَا} استئناف لبيان التكوين على الإطلاق ابتداء أو إعادة بعد التنبيه على أنية البعث ومنه يعلم كيفيته فما كافة و{قَوْلُنَا} مبتدأ، وقوله تعالى: {لِشَيْء} متعلق به واللام للتبليغ كما في قولك: قلت لزيد قم فقام، وقال الزجاج: هي لام السبب أي لأجل إيجاد شيء، وتعقب بأنه ليس بواضح والمتبادر من الشيء هنا المعدوم وهو أحد إطلاقاته، وقد برهن الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة على أن إطلاق الشيء على المعدوم حقيقة كإطلاقه على الموجود وألف ذلك رسالة جليلة سماها جلاء الفهوم، ويعلم منها أن القول بذلك الإطلاق ليس خاصًا بالمعتزلة كما هو المشهور، ولهذا أول هنا من لم يقف على التحقيق من الجماعة فقال: إن التعبير عنه بذلك باعتبار وجوده عند تعلق مشيئته تعالى به لا أنه كان شيئًا قبل ذلك.
وفي البحر نقلًا عن ابن عطية أن في قوله تعالى: {لِشَيْء} وجهين: أحدهما: أنه لما كان وجوده حتمًا جاز أن يسمى شيئًا وهو في حال العدم، والثاني: أن ذلك تنبيه على الأمثلة التي ينظر فيها وأن ما كان منها موجودًا كان مرادًا وقيل له كن فكان فصار مثالًا لما يتأخر من الأمور بما تقدم، وفي هذا مخلص من تسمية المعدوم شيئًا اه، وفيه من الخفاء ما فيه، وأيًا ما كان فالتنوين للتنكير أي لشيء أي شيء كان مما عز وهان {إِذَا} ظرف لقولنا أي وقت تعلق إرادتنا بإيجاده {أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ} في تأويل مصدر خبر للمبتدأ، والسلام في {لَهُ} كاللام في {لِشَيْء} {فَيَكُونُ} إما عطف على مقدر يفصح عنه الفاء وينسحب عليه الكلام أي فنقول ذلك فيكون، وإما جواب لشرط محذوف أي فإذا قلنا ذلك فهو يكون، وقيل: إنه بعد تقدير هو تكون الجملة خبرًا لمبتدأ محذوف أي ما أردناه فهو يكون، وكان في الموضعين تامة، والذي ذهب إليه أكثر المحققين وذكره مقتصرًا عليه شيخ الإسلام أنه ليس هناك قول ولا مقول له ولا أمر ولا مأمور حتى يقال: إنه يلزم أحد المحالين أما خطاب المعدوم أو تحصيل الحاصل؛ أو يقال: {إِنَّمَا} مستدعية انحصار قوله تعالى في قوله تعالى: {كُنَّ} وليس يلزم منه انحصار أسباب التكوين فيه كما يفيده قوله سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] فإن المراد بالأمر الشأن الشامل للقول والفعل ومن ضرورة انحصاره في كلمة كن انحصار أسبابه على الإطلاق في ذلك بل إنما هو تمثيل لسهولة تأتي المقدورات حسب تعلق مشيئته تعالى وتصوير لسرعة حدوثها بما هو علم في ذلك من طاعة المأمور المطيع لأمر الآمر المطاع، فالمعنى إنما إيجادنا لشيء عند تعلق مشيئتنا به أن نوجده في أسرع ما يكون، ولما عبر عنه بالأمر الذي هو قول مخصوص وجب أن يعبر عن مطلق الإيجاد بالقول المطلق.
وقيل: إن الكلام على حقيقته وبذلك جرت العادة الإلهية ونسب إلى السلف، وأجيب لهم عن حديث لزوم أحد المحذورين تارة بأن الخطاب تكويني ولا ضير في توجهه إلى المعدوم، وتعقب بأنه قول بالتمثيل وتارة بأن المعدوم ثابت في العلم ويكفي في صحة خطابه ذلك حتى أن بعضهم قال بأنه مرئي له تعالى في حال عدمه، وتعقب بما يطول، وأما حديث الانحصار فقالوا إن الأمر فيه هين، وقد مر بعض الكلام في هذا المقام.
واحتج بعض أهل السنة بالآية بناء على الحقيقة على قدم القرآن قال: إنها تدل على أنه تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له كن فلو كان كن حادثًا لزم التسلسل وهو محال فيكون قديمًا ومتى قيل بقدم البعض فليقل بقدم الكل، وتعقب بأن كلمة إذا لا تفيد التكرار ولذا إذا قال لامرأته: إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرات لا تطلق إلا طلقة واحدة فلا يلزم أن يكون كل محدث محدثًا بكلمة كن فلا يلزم التسلسل على أن القول بقدم {كُنَّ} ضروري البطلان لما فيه من ترتب الحروف، وكذا يقال في سائر الكلام اللفظي.
وقال الإمام: إن الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه: الأول: أن قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْء إِذَا أَرَدْنَاهُ} يقتضي كون القول واقعًا بالإرادة وما كان كذلك فهو محدث، والثاني: أنه علق القول بكلمة {إِذَا} ولا شك أنها تدخل للاستقبال، والثالث: أن قوله تعالى: {إِن نَّقُولُ} لا خلاف في أنه ينبئ عن الاستقبال. والرابع: أن قوله سبحانه: {كُنْ فَيَكُونُ} كن فيه مقدمة على حدوث المكون ولو بزمان واحد والمقدم على المحدث كذلك محدث فلابد من القول بحدوث الكلام. نعم إنها تشعر بحدوث الكلام اللفظي الذي يقول به الحنابلة ومن وافقهم ولا تشعر بحدوث الكلام النفسي. والأشاعرة في المشهور عنهم لا يدعون إلا قدم النفسي وينكرون قدم اللفظي، وهو بحث أطالوا الكلام فيه فليراجع، وما ذكر من دلالة {إِذَا} و{نَّقُولُ} على الاستقبال هو ما ذكره غير واحد، لكن نقل أبو حيان عن ابن عطية أنه قال: ما في ألفاظ هذه الآية من معنى الاستقبال والاستئناف إنما هو راجع إلى المراد لا إلى الإرادة، وذلك أن الأشياء المرادة المكونة في وجودها استئناف واستقبال لا في إرادة ذلك ولا في الأمر به لأن ذينك قديمان فمن أجل المراد عبر بإذا ونقول. وأنت تعلم أنه لا كلام في قدم الإرادة لكنهم اختلفوا في أنها هل لها تعلق حادث أم لا؛ فقال بعضهم بالأول، وقال آخرون: ليس لها إلا تعلق أزلي لكن بوجود الممكنات فيما لا يزال كل في وقته المقدر له.
فالله تعالى تعلقت إرادته في الأزل بوجود زيد مثلًا في يوم كذا وبوجود عمرو في يوم كذا وهكذا، ولا حاجة إلى تعلق حادث في ذلك اليوم، وأما الأمر فالنفسي منه قديم واللفظي حادث عن القائلين بحدوث الكلام اللفظي، وأما الزمان فكثيرًا ما لا يلاحظ في الأفعال المستندة إليه تعالى، واعتبر كان الله تعالى ولا شيء معه وخلق الله تعالى العالم ونحو ذلك ولا أرى هذا الحكم مخصوصًا فيما إذا فسر الزمان بما ذهب إليه الفلاسفة بل يطر في ذلك وفيما إذا فسر بما ذهب إليه المتكلمون فتأمل والله تعالى الهادي.
وجعل غير واحد الآية لبيان إمكان البعث، وتقريره أن تكوين الله تعالى حض قدرته ومشيئته لا توقف له على سبق المواد والمدد وإلا لزم التسلسل، وكما أمكن له تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة ومثال أمكن له تكيونها إعادة بعده، وظاهره أنه قول بإعادة المعدوم، وظواهر كثير من النصوص أن البعث بجمع الأجزاء المتفرقة، وسيأتي تحقيق ذلك كما وعدناك آنفًا إن شاء الله تعالى.
وقرأ ابن عامر. والكسائي هاهنا وفي يس (82) {فَيَكُونُ} بالنصب، وخرجه الزجاج على العطف على {نَّقُولُ} أي فإن يكون أو على أن يكون جواب {كُنَّ}، وقد رد هذا الرضي وغيره بأن النصب في جواب الأمر مشروط بسببية مصدر الأول للثاني وهو لا يمكن هنا لاتحادهما فلا يستقيم ذاك، ووجه بأن مراده أنه نصب لأنه مشابه لجواب الأمر لمجيئه بعده وليس بجواب له من حيث المعنى لأنه لا معنى لقولك: قلت لزيد اضرب تضرب.
وتعقب بأنه لا يخفى ضعفه وأنه يقتضي إلغاء الشرط المذكور، ثم قيل: والظاهر أن يوجه بأنه إذا صدر مثله عن البليغ على قصد التمثيل لسرعة التأثير بسرة مبادرة المأمور إلى الامتثال يكون المعنى إن أقل لك اضرب تسرع إلى الامتثال فيكون المصدر المسبب عنه مسبوكًا من الهيئة لا من المادة، ومصدر الثاني من المادة أو محصل المعنى وبه يحصل التغاير بين المصدرين ويتضح السببية والمسببية، وقال بعضهم: إن مراد من قال إن النصب للمشابهة لجواب الأمر أن {فَيَكُونُ} كما في قراءة الرفع معطوف على ما ينسحب عليه الكلام أو هو بتقدير فهو يكون خبر لمبتدأ محذوف إلا أنه نصب لهذه المشابهة، وفيه ما فيه.