فصل: تفسير الآية رقم (44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (44):

{بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)}
{بالبينات والزبر} أي بالمعجزات والكتب، والأولى للدلالة على الصدق، والثانية لبيان الشرائع والتكاليف.
وانحرف عن الحق من فسرهما بما هو مصطلح أهل الحرف. والجار والمجرور متعلق قدر يدل عليه ما قبله وقع جوابًا عن سؤال من قال: أرسلوا؟ فقيل: أرسلوا «بالبينات والزبر».
وجوز الزمخشري. والحوفي تعلقه بأرسلنا السابق داخلًا تحت حكم الاستثناء مع {رِجَالًا} [النحل: 43] أي وما أرسلنا إلا رجالًا بالبينات وهو في معنى قولك: ما أرسلنا جماعة من الجماعات بشيء من الأشياء إلا رجالًا بالبينات، ومثله ما ضربت إلا زيدًا بسوط، وهو مبني على ما جوزه بعض النحاة من جواز أن يستثنى بأداة واحدة شيآن دون عطف وأنه يجري في الاستثناء المفرغ، وأكثر النحاة على منعه كما صرح به صاحب التسهيل وغيره.
وقال في الكشف: والحق أنه لا يجوز لأن إلا من تتمة ما دخلت عليه كالجزء منه وللزوم الإلباس. أو وجوب أن يكون جميع ما يقع بعد إلا محصورًا وأن يجب نحو ما ضرب إلا زيدًا عمرًا إذا أريد الحصر فيهما ولا يكون فرق بين هذا وذاك، وكل ذلك ظاهر الانتفاء. والزمخشري جوز ذلك وصرح به في مواضع من كشافه، واستدل عليه بأن أصل ما ضربت إلا زيدًا بسوط ضربت زيدًا بسوط وأراد أن زيادة ما وإلا ليست إلا تأكيدًا فلتؤكد لما كان أصل الكلام عليه، وهو حسن لولا أن الاستعمال والقياس آبيان، وقال بعضهم: إنه متعلق به من غير دخوله مع {رجالًا} [النحل: 43] تحت حكم الاستثناء على أن أصله وما أرسلنا بالبينات والزبر إلا رجالًا.
وتعقب بأنه لا يجوز على مذهب البصريين حيث لا يجيزون أن يقع بعد إلا إلا مستثنى أو مستثنى منه أو تابعًا وما ظن من غير الثلاثة معمولًا لما قبل إلا قدر له عامل، وأجاز الكسائي أن يقع معمولًا لما قبلها منصوب كما ضرب إلا زيد عمرًا، ومخفوض كما مر إلا زيد بعمرو ولا يعذب إلا الله بالنار، ومرفوع كما ضرب إلا زيدًا عمرو، ووافقه ابن الأنباري في المرفوع، والأخفش في الظرف والجار والحال، فما ذكر مبني على مذهب الكسائي. والأخفش، لكن قال الشهاب: إنه خلاف ظاهر الكلام وإخراج له عن سنن الانتظام وأكثر النحاة على أنه ممنوع، وجوز أن يكون متعلقًا بما رفع صفة لرجالًا أي رجالًا ملتبسين بالبينات ولم يقع حالًا منه، قيل: لأنه نكرة متقدمة، نعم قيل: بجواز وقوعه حالًا من ضمير الرجال في {إِلَيْهِمُ} [النحل: 43] وقيل: يجوز كونه حالًا من {رِجَالًا} [النحل: 43] لأنه نكرة موصوفة، واختار أبو حيان مجيء الحال من النكرة بلا مسوغ كثيرًا قياسًا ونقله عن سيبويه وإن كان دون الاتباع في القوة.
وجوز أيضًا تعلقه بنو حي وقوله سبحانه: {فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذكر} [النحل: 43] اعتراض على الوجوه المتقدمة أو غير الأول، وتصدير الجملة المعترضة بالفاء صرح به في التسهيل وغيره، وما نقل من منعه ليس بثبت، ثم إذا كان اعتراضًا متخللًا بين مقصوري حرف الاستثناء معناه فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون أنا أرسلنا رجالًا بالبينات وعلى الوصفية إن كنتم لا تعلمون أنهم رجال متلبسون بالبينات، وعلى هذا يقدر الاعتراض مناسبًا لما تخلل بينهما، وأشبه الأوجه أن يكون على كلامين ليقع الاعتراض موقعه اللائق به لفظًا ومعنى قاله في الكشف.
وجوز أن يتعلق بتعلمون فلا اعتراض، وفي الشرط معنى التبكيت والإلزام كما في قول الأجير: إن كنت عملت لك فأعطني حقي، فإن الأجير لا يشك في أنه عمل وإنما أخرج الكلام مخرج الشك لأن ما يعامل به من التسويف معاملة من يظن بأجيره أنه لم يعمل، فهو في ذلك يلزمه مقتضى ما اعترف به من العمل ويبكته بالتقصير مجهلًا إياه، فكذا ما هنا لا يشك أن قريشًا لم يكونوا من علم البينات والزبر في شيء فيقول: إن كون الرسل عليهم السلام رجالًا أمر مكشوف لا شبهة فيه فاسألوا أهل الذكر إن لم تكونوا من أهله يبين لكم يريد أن إنكاركم وأنتم لا تعلمون ليس بسديد وإنما السبيل أن تسألوا من أهل الذكر لا أن تنكروا قولهم، فإنكاركم مناف لما تقتضيه حالكم من السؤال فهو تبكيت من حيث الاعتراف بعدم العلم وسبيل الجاهل سؤال من يعلم لا إنكاره، قاله في الكشف أيضًا، ثم قال: ولا أخص أهل الذكر بأهل الكتابين ليشمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولو خص لجاز لأنهم موافقون في ذلك فإنكارهم إنكارهم، ثم التبكيت متوجه إلى العدول عن السؤال إلى الإنكار سألوا أولًا انتهى. ومنه يعلم جواز أن يراد بأهل الذكر أهل القرآن، وما ذكره أبو حيان في تضعيفه من أنه لا حجة في إخبارهم ولا إلزام ناشئ من عدم الوقوف على هذا التحقيق الأنيق، وهذا ظاهر على تقدير تعلق {بالبينات} بيعلمون والباء على هذا التقدير سببية والمفعول محذوف عند بعض، وزعم آخر أنها زائدة والبينات هي المفعول، فافهم ذاك، والله تعالى يتولى هداك {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر} أي القرآن وهو من التذكير إما عنى الوعظ أو عنى الإيقاظ من سنة الغفلة وإطلاقه على القرآن إما لاشتماله على ما ذكر أو لأنه سبب له، ومنه يعلم وجه تسمية التوراة ونحوها ذكرًا، وقيل: المراد بالذكر العلم وليس بذاك {لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ} كافة ويدخل فيهم أهل مكة دخولًا أوليًا {مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ} في ذلك الذكر من الأحكام والشرائع وغير ذلك من أحوال القرون المهلكة بأفانين العذاب حسب أعمالهم مع أنبيائهم عليهم السلام الموجبة لذلك على وجه التفصيل بيانًا شافيًا كما ينبئ عنه صيغة التفعيل في الفعلين لاسيما بعد ورود الثاني أولًا على صيغة الأفعال، وعن مجاهد أن المراد بهذا التبيين تفسير المجمل وشرح ما أشكل إذ هما المحتاجان للتبيين، وأما النص الظاهر فلا يحتاجان إليه.
وقيل: المراد به إيقافهم على حسب استعداداتهم المتفاوتة على ما خفي عليهم من أسرار القرآن وعلومه التي لا تكاد تحصى، ولا يختص ذلك بتبيين الحرام والحلال وأحوال القرون الخالية والأمم الماضية، واستأنس له بما أخرجه الحاكم وصححه عن حذيفة قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامًا أخبرنا فيه بما يكون إلى يوم القيامة عقله منا من عقله ونسيه من نسيه» وهذا في معنى ما ذكره غير واحد أن التبيين أعم من التصريح بالمقصود ومن الإرشاد إلى ما يدل عليه، ويدخل فيه القياس وإشارة النص ودلالته وما يستنبط منه من العقائد والحقائق والأسرار الإلهية، ولعل قوله عز وجل: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} إشارة إلى ذلك أي وطلب أن يتأملوا فينتبهوا للحقائق وما فيه من العبر ويحترز عما يؤدي إلى ما أصاب الأولين من العذاب، وقال بعض المعتزلة: أي وإرادة أن يتفكروا في ذلك فيعلموا الحق ثم قال، وفيه دلالة على أن الله تعالى أراد من جميع الناس التفكر والنظر المؤدي إلى المعرفة بخلاف ما يقول أهل الجبر، ونحن في غنى عن تقدير الإرادة بتقدير الطلب، ومن قدرها منا أراده منها، وإلا ورد عليه عدم تأمل البعض ولعله الأكثر، وهي لا ينفك المراد عنها على المذهب الحق فلابد من العدول عنه إلى مقابله، وقيل: أراد تعلقها بالبعض وهو المتأمل لا بالكل، وأيد بعضهم إرادة الصحابة أو ما يشملهم والنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذكر فيما تقدم بذكر هذه الآية بعده وليس بذي أيد.

.تفسير الآية رقم (45):

{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)}
{أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات} هم عند أكثر المفسرين أهل مكة الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وراموا صد أصحابه رضي الله تعالى عنهم عن الإيمان، وأخرج ابن أبي شيبة. وابن جرير. وغيرهما عن مجاهد أنهم نمروذ بن كنعان وقومه، وعمم بعضهم فقال: هم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء عليهم السلام، وتعقب بأن المراد تحذير أهل مكة عن إصابة مثل ما أصاب الأولين من فنون العذاب المعدودة فالمعول عليه ما عند الأكثر، و{السيآت} نعت لمصدر محذوف أي مكروا المكرات السيئات التي قصت عنهم أو مفعول به للفعل المذكور على تضمينه معنى فعل متعد كعمل أي عملوا السيئات ماكرين فقوله تعالى: {السيئات أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض} مفعول لأمن أو {السيآت} مفعول لأمن بتقدير مضاف أو تجوز أي عقاب السيئات أو على أن {السيآت} عنى العقوبات التي تسوءهم، و{السيئات أَن يَخْسِفَ} بدل من ذلك وعلى كل حال فالفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم أي أنزلنا إليك الذكر لتبين لهم مضمونه الذي من جملته أنباء الأمم المهلكة بفنون العذاب ويتفكروا في ذلك ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا السيئات إلخ على توجيه الإنكار إلى المعطوفين أو أتفكروا فأمنوا على توجيهه إلى المعطوف، وقيل: هو للعطف على مقدر ينبئ عنه الصلة أي أمركوا فأمن الذين مكروا السيئات إلخ، وخسف يستعمل لازمًا ومتعديًا يقال: كما قال الراغب خسفه الله تعالى وخسف هو وكلا الاستعمالين محتمل هنا، فالباء إما للتعدية أو للملابسة و{الأرض} إما مفعول به أو نصب بنزع الخافض أي فأمن الذين مكروا السيئات أن يغيبهم الله تعالى في الأرض أو يغيبها بهم كما فعل بقارون {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} أي من الجهة التي لا شعور لهم جيء العذاب منها كجهة مأمنهم أو الجهة التي يرجون إتيان ما يشتهون منها، وقال البيضاوي: أي بغتة من جانب السماء كما فعل بقوم لوط، وكأن التخصيص بجانب السماء لأن ما يجيء منه لا يشعر به غالبًا بخلاف ما يجيء من الأرض فإنه محسوس في الأكثر، ولعل اعتباره أوفق بالمقابلة، ويحتمل أن يكون مراده بما من جانب السماء ما لا يكون على يد مخلوق سواء نشأ من الأرض أو السماء كما قيل:
دعها سماوية تجري على قدر

فيكون مجازًا، لكن قيل عليه: إنه لا يلائم المئال وإن كان لا يخصص.

.تفسير الآية رقم (46):

{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ عْجِزِينَ (46)}
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ} أي العذاب أو الله تعالى ورجح الأول بالقرب والثاني بكثرة إسناد الأخذ إليه تعالى في القرآن العظيم مع أنه جل شأنه هو الفاعل الحقيقي له.
{فِى تَقَلُّبِهِمْ} أي حركتهم إقبالًا وإدبارًا، والمراد على ما أخرجه ابن جرير. وغيره عن قتادة، وروي عن ابن عباس في أسفارهم، وحمله على ذلك قال الإمام: مأخوذ من قوله تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد} [آل عمران: 196] أو المراد في حال ما يتقلبون في قضاء مكرهم والسعي في تنفيذه، وقيل: المراد في حال تقلبهم على الفرش يمينًا وشمالًا، وهو في معنى ما جاء في رواية عن ابن عباس أيضًا في منامهم، ولا أراه يصح.
وقال الزجاج: المراد ما يعم سائر حركاتهم في أمورهم ليلًا أو نهارًا والجمهور على الأول والأخذ في الأصل حوز الشيء وتحصيله، والمراد به القهر والإهلاك، والجار والمجرور إما في موضع الحال أو متعلق بالفعل قبله والأول أولى نظرًا إلى أنه الظاهر في نظيره الآتي إن شاء الله تعالى لكن الظاهر فيما قبله الثاني {فَمَا هُم عْجِزِينَ} بفائتين الله تعالى بالهرب والفرار على ما يوهمه حال التقلب والسير أو ما هم متنعين كما يوهمه مكرهم وتقلبهم فيه، والفاء قيل: لتعليل الأخذ أو لترتيب عدم الإعجاز عليه دلالة على شدته وفظاعته حسا قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» والجملة الاسمية للدلالة على دوام النفي والتأكيد يعود إليه أيضًا.

.تفسير الآية رقم (47):

{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)}
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} أي مخافة وحذر من الهلاك والعذاب بأن يهلك قومًا قبلهم أو يحدث حالات يخاف منها غير ذلك كالرياح الشديدة والصواعق والزلازل فيتخوفوا فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون ويروى نحوه عن الضحاك، وهو على ما قال الزمخشري ويقتضيه كلام ابن بحر خلاف قوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} [النحل: 45].
وقال غير واحد من الأجلة: على أن ينقصهم شيئًا فشيئًا في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا من تخوفته إذا تنقصته، وروي تفسيره بذلك عن ابن عباس. ومجاهد. والضحاك أيضًا.
وذكر الهيثم بن عدي أن التنقص بهذا المعنى لغة أزدشنوءة، ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه قال على المنبر ما تقولون فيها أي الآية والتخوف منها؟ فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا التخوف التنقص فقال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ فقال: نعم قال شاعرنا أبو كبير يصف ناقته:
تخوف الرحل منها تامكا قردا ** كما تخوف عود النبعة السفن

فقال عمر رضي الله تعالى عنه: عليكم بديوانكم لا تضلوا قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم، والجار والمجرور قال أبو البقاء: في موضع الحال من الفاعل أو المفعول في يأخذهم.
وقال الخفاجي: الظاهر أنه حال من المفعول وكأنه أراد على تفسيري التخوف ويتخوف من الجزم به على التفسير الثاني، والمراد من ذكر هذه المتعاطفات بيان قدرة الله تعالى على إهلاكهم بأي وجه كان لا الحصر، ثم إن بعضهم اعتبر في التقابل بينهما أن المراد بخسف الأرض بهم إهلاكهم من تحتهم وبإتيان العذاب من حيث لا يشعرون إهلاكهم من فوقهم وحيث قوبلا بإهلاكهم في تقلبهم وأسفارهم كان المعتبر فيهما سكونهم في مساكنهم وأوطانهم والمقابلة بين أخذهم على تخوف على المعنى الأولى والأخذ بغتة المشعر به من حيث لا يشعرون ظاهرة، واعتبر عدم الشعور في الأخذ في التقلب والخسف لقرينة الأخذ على تخوف على ذلك المعنى وحمل سائرها على عذاب الاستئصال دون الأخذ على تخوف على المعنى الثاني ومجمل القول في ذلك أنه اعتبر في كل اثنين من الأربعة منع الجمع لكن بعد أن يراد بالعام منهما للمقابلة ما عدا الخاص سواء كان بين الاثنين عموم من وجه أو مطلقًا.
وذكر الإمام، وابن الخازن في حاصل الآية أنه تعالى خوفهم بخوف يحصل في الأرض أو بعذاب ينزل من السماء أو بآفات تحدث دفعة أو بآفات تأتي قليلًا قليلًا إلى أن يأتي الهلاك على آخرهم، وكان الظاهر في الآية أن يقال: أو يعذبهم من حيث لا يشعرون ليناسب ما قبله وما بعده بناءً على أن إسناد الفعل فيهما إليه تعالى وما قبله فقط بناءً على أن إسناد الفعل فيما بعد إلى العذاب مع كونه أخصر مما في النظم الجليل لكنه عدل عنه إلى ذلك لكونه أبلغ في التخويف وأدل على استحقاق العذاب من حيث أن فيه إشعارًا بأن هناك عذابًا موجودًا مهيئًا لا يحتاج إلا إلى الإتيان دون الإحداث وليس في يعذبهم إشعار كذلك على أن ما في النظم الجليل أبعد من أن يتوهم فيه معنى غير صحيح كما يتوهم في البدل المفروض حيث يتوهم فيه أنه سبحانه يعذبهم من حيث لا يشعرون بالعذاب وهو كما ترى.
وحيث كانت حالتا التقلب والتخوف مظنة للهرب عبر عن إصابة العذاب فيهما بالأخذ وعن إصابته حالة الغفلة المنبئة عن السكون بالإتيان وجيء بفي مع التقلب وبعلى مع التخوف قيل: لأن في التقلب حركتين فكان الشخص المتقلب بينهما ولا كذلك التخوف، وقيل: لما كان التقلب شاغلًا الإنسان بسائر جوارحه حتى كأنه محيط به وهو مظروف فيه جيء بفي معه، والتخوف أي المخافة إنما يقوم بعضو من أعضائه فقط وهو القلب المحيط به بدن الإنسان فلذا جيء بعلي معه، وقيل: إن علي عنى مع كما في قوله تعالى: {وَءاتَى المال على حُبّهِ} [البقرة: 117] أي يأخذهم مصاحبين لذلك ولما كان التخوف نفسه نوعًا من العذاب لما فيه من تألم القلب ومشغولية الذهن وكان الأخذ مشيرًا إلى نوع آخر من العذاب أيضًا جيء بعلي التي عنى مع ليكون المعنى يعذبهم مع عذابهم ولم يعتبر ذلك مع التقلب مرادًا به الإقبال والإدبار في الأسفار والمتاجر مع أنه جاء {السفر قطعة من العذاب} لأنهم لا يعدون ذلك عذابًا وفي القلب من هذا شيء فتدبر وتأمل فأسرار كتاب الله تعالى لا تحصى {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ} جعله ابن بحر تعليلًا للأخذ على تخوف بناء على أن المراد به أخذهم على حدوث حالات يخاف منها كالرياح الشديدة والصواعق والزلازل لا بغتة فإن في ذلك امتداد وقت ومهلة يمكن فيها التلافي فكأنه قيل: أو يأخذهم على تخوف ولا يفاجئهم لأنه سبحانه رؤوف رحيم وذلك أنسب برأفته ورحمته جل وعلا، وجوز أن يكون تعليلًا لذلك على المعنى الأخير فإن في تنقصهم شيئًا بعد شيء دون أخذهم دفعة إمهالًا في الجملة وهو مطلقًا من آثار الرحمة، وقيل: هو تعليل لما يفهم من الآية من أنه سبحانه قادر على إهلاكهم بأي وجه كان لكنه تعالى لم يفعل، وقيل: هو كالتعليل للأمن المستفهم عنه، والتعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير الخطاب من آثار رحمته جل شأنه.