فصل: تفسير الآية رقم (91):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (91):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بما أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بما أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بما وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} ظرف لقالوا والجملة عطف على {قَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88] ولا غرض يتعلق بالقائل، فلذا بني الفعل لما لم يسم فاعله، والظاهر أنه من جانب المؤمنين.
{ا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ} الجمهور على أنه القرآن، وقيل: سائر ما أنزل من الكتب الإلهية إجراء لما على العموم ومع هذا: جُلّ الغرض الأمر بالإيمان بالقرآن لكن سلك مسلك التعميم منه إشعارًا بتحتم الامتثال من حيث مشاركته لما آمنوا به فيما في حيز الصلة وموافقته له في المضمون، وتنبيهًا على أن الإيمان بما عداه من غير إيمان به ليس إيمانًا بما أنزل الله.
{قَالُواْ نُؤْمِنُ بما أُنزِلَ عَلَيْنَا} أي نستمر على الإيمان بالتوراة وما في حكمها مما أنزل لتقرير حكمها، وحذف الفاعل للعلم به إذ من المعلوم أنه لا ينزل الكتب إلا هو سبحانه، ولجريان ذكره في الخطاب ومرادهم بضمير المتكلم إما أنبياء بني إسرائيل وهو الظاهر وفيه إيماء إلى أن عدم إيمانهم بالقرآن كان بغيًا وحسدًا على نزوله على من ليس منهم وإما أنفسهم ومعنى الإنزال عليهم تكليفهم بما في المنزل من الأحكام، وذموا على هذه المقالة لما فيها من التعريض بشأن القرآن ودسائس اليهود مشهورة أو لأنهم تأولوا الأمر المطلق العام ونزلوه على خاص هو الإيمان بما أنزل عليهم كما هو ديدنهم في تأويل الكتاب بغير المراد منه.
{وَيَكْفُرونَ بما وَرَاءهُ} عطف على {قَالُواْ}؛ والتعبير بالمضارع لحكاية الحال استغرابًا للكفر بالشيء بعد العلم بحقيته أو للتنبيه على أن كفرهم مستمر إلى زمن الإخبار، وقيل: استئناف وعليه ابن الأنباري ويجوز أن يكون حالًا إما على مذهب من يجوز وقوع المضارع المثبت حالًا مع الواو، وإما على تقدير مبتدأ أي وهم يكفرون، والتقييد بالحال حينئذٍ لإفادة بيان شناعة حالهم بأنهم متناقضوا في إيمانهم لأن كفرهم بما وراءه حال الإيمان بالتوراة يستلزم عدم الإيمان به وهذا أدخل في رد مقالتهم ولهذا اختار هذا الوجه بعض الوجوه، ووراء في الأصل مصدر لاشتقاق المواراة والتواري منه، والمزيد فرع المجرد إلا أنه لم يستعمل فعله المجرد أصلًا ثم جعل ظرف مكان ويضاف إلى الفاعل فيراد به المفعول وإلى المفعول فيراد به الفاعل أعني الساتر، ولصدقه على الضدين الخلف، والأمام عد من الأضداد وليس موضوعًا لهما، وفي «الموازنة» للأموي تصريح بأنه ليس منها وإنما هو من المواراة والاستتار فما استتر عنك فهو وراء خلفًا كان أو قدامًا إذا لم تره فأما إذا رأيته فلا يكون وراءك.
والمراد هنا بما بعده قاله قتادة أو بما سواه وبه فسر {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وأريد به القرآن كما عليه الجمهور. وقال الواحدي: هو والإنجيل، واحتمال أن يراد بما وراءه باطن معاني ما أنزل عليهم التي هي وراء ألفاظها، وفيه إشعار بأن إيمانهم بظاهر اللفظ ليس بشيء إلا أن يراد بذلك الباطن القرآن ولا يخفى بعده.
{وَهُوَ الحق} الضمير عائد لما وراءه حال منه، وقيل: من فاعل {يكفرون} والجملة الحالية المقترنة بالواو لا يلزم أن يعود منها ضمير إلى ذي الحال كجاء زيد والشمس طالعة وعلى فرض اللزوم ينزل وجود الضمير فيما هو من تتمتها منزلة وجوده فيها، والمعنى وهم مقارنون لحقيته أي عالمون بها وهو أبلغ في الذم من كفرهم بما هو حق في نفسه، والأول أولى لظهوره ولا تفوت تلك الأبلغية عليه أيضًا إذ تعريف الحق للإشارة إلى أن المحكوم عليه مسلم الاتصاف به معروفه من قبيل والدك العبد فيفيد أن كفرهم به كان لمجرد العناد، وقيل: التعريف لزيادة التوبيخ والتجهيل عنى أنه خاصة الحق الذي يقارن تصديق كتابهم ولولا الحال أعني {مصدقًا} لم يستقم الحصر لأنه في مقابلة كتابهم وهو حق أيضًا، وفيه أنه لا يستقيم ولو لوحظ الحال بناءً على تخصيص ذي الضمير بالقرآن لأن الإنجيل حق مصدق للتوراة أيضًا، نعم لو أريد بالحق الثابت المقابل للمنسوخ لاستقام الحصر مطلقًا إلا أنه بعيد.
{مُصَدّقًا لّمَا مَعَهُمْ} حال مؤكدة لأن كتب الله تعالى يصدق بعضها بعضًا، فالتصديق لازم لا ينتقل، وقد قررت مضمون الخبر لأنها كالاستدلال عليه، ولهذا تضمنت رد قولهم: {نُؤْمِنُ بما أُنزِلَ عَلَيْنَا} حيث إن من لم يصدق بما وافق التوراة لم يصدق بها، واحتمال أن يراد مما معهم التوراة والإنجيل كما في البحر لأنهما أنزلا على بني إسرائيل وكلاهما غير مخالف للقرآن مخالف لما يقتضيه الذوق سباقًا وسياقًا.
{قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء الله مِن قَبْلُ} أمر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك تبكيتًا لهم حيث قتلوا الأنبياء مع ادعاء الإيمان بالتوراة وهي لا تسوّغه، ويحتمل أن يكون أمرًا لمن يريد جدالهم كائنًا من كان. والفاء جواب شرط مقدر أي: إن كنتم مؤمنين {فَلَمْ} إلخ، وما استفهامية حذفت ألفها لأجل لام الجر ويقف البزي في مثل ذلك بالهاء وغيره بغير هاء، وإيراد صيغة المضارع مع الظرف الدال على المضي للدلالة على استمرارهم على القتل في الأزمنة الماضية، وقيل: لحكاية تلك الحال، والمراد بالقتل معناه الحقيقي وإسناده إلى الأخلاف المعاصرين له صلى الله عليه وسلم مع أن صدوره من الأسلاف مجاز للملابسة بين الفاعل الحقيقي وما أسند إليه، وهذا كما يقال لأهل قبيلة أنتم قتلتم زيدًا إذا كان القاتل آباءهم، وقيل: القتل مجاز عن الرضا أو العزم عليه، ولا يخفى أن الاعتراض على الوجه الأول أقوى تبكيتًا منه على الآخرين فتدبر، وفي إضافة {أنبياء} إلى الاسم الكريم تشريف عظيم وإيذان بأنه كان ينبغي لمن جاء من عند الله تعالى أن يعظم وينصر لا أن يقتل.
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} تكرير للاعتراض لتأكيد الإلزام وتشديد التهويل أي: إن كنتم مؤمنين فلم تقتلونهم وقد حذف من كل واحدة من الشرطيتين ما حذف ثقة بما أثبت في الأخرى على طريق الاحتباك، وقيل: إن المذكور قبل جواب لهذا الشرط بناءً على جواز تقديمه وهو رأي الكوفيين وأبي زيد، واختاره في البحر، وقال الزجاج: إن هنا نافية ولا يخفى بعده.

.تفسير الآية رقم (92):

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)}
{وَلَقَدْ جَاءكُم موسى بالبينات} داخل تحت الأمر فهو من تمام التبكيت والتوبيخ وكذا ما يأتي بعد لا تكرير لما قص من قبل، والمراد بالبينات الدلائل الدالة على صدقه عليه السلام في دعوته والمعجزات المؤيدة لنبوته كالعصا واليد، وانفلاق البحر مثلًا؛ وقيل: الأظهر أن يراد بها الدلائل الدالة على الوحدانية فإنه أدخل في التقريع بما بعد، وعندي الحمل على العموم بحيث يشمل ذلك أيضًا أولى وأظهر.
{ثُمَّ اتخذتم العجل} أي الذي صنعه لكم السامري من حليكم إلهًا {مِن بَعْدِهِ} أي بعد مجيء موسى عليه السلام بها ومن عد التوراة وانفجار الماء منها لم يرد الجميع بل الجنس لأن ذلك كان بعد قصة العجل وكلمة ثم على هذا للاستبعاد لئلا يلغو القيد. وقد يقال: الضمير لمتقدم معنى وهو الذهاب إلى الطور فكلمة ثم على حقيقتها، وعد ما ذكرنا من البينات حينئذٍ ظاهر، ويشير هذا العطف على أنهم فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات وذلك أعظم ذنبًا وأكثر شناعة لحالهم، والتزم بعضهم رجوع الضمير إلى البينات بحذف المضاف أي من بعد تدبر الآيات ليظهر ذلك، وعود الضمير إلى العجل، والمراد بعد وجوده أي عبدتم الحادث الذي حدث حضركم ليكون فيه التوبيخ العظيم لا يخفى ما فيه من البعد العظيم المستغنى عنه بما أشرنا إليه.
{وَأَنتُمْ ظالمون} أي واضعون الشيء في غير محله اللائق به أو مخلون بآيات الله تعالى، والجملة حال مؤكدة للتوبيخ والتهديد وهي جارية مجرى القرينة على إرادة العبادة من الاتخاذ، وفيها تعريض بأنهم صرفوا العبادة عن موضعها الأصلي إلى غير موضعها وإيهام المبالغة من حيث إن إطلاق الظلم يشعر بأن عبادة العجل كل الظلم وأن من ارتكبها لم يترك شيئًا من الظلم. واختار بعضهم كونها اعتراضًا لتأكيد الجملة بتمامها دون تعرض لبيان الهيئة الذي تقتضيه الحالية أي وأنتم قوم عادتكم الظلم واستمر منكم، ومنه عبادة العجل، والذي دعاه إلى ذلك زعم أنه يلزم على الحالية أن يكون تكرارًا محضًا فإن عبادة العجل لا تكون إلا ظلمًا بخلافه على هذا فإنه يكون بيانًا لرذيلة لهم تقتضي ذلك، وفيه غفلة عما ذكرنا، وإذا حمل الاتخاذ على الحقيقة نحو اتخذت خاتمًا تكون الحالية أولى بلا شبهة لأن الاتخاذ لا يتعين كونه ظلمًا إلا إذا قيد بعبادته كما لا يخفى.

.تفسير الآية رقم (93):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}
{وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} أي قلنا لهم خذوا ما أمرتكم به في التوراة بجد وعدم فتور {واسمعوا} أي سماع تقبل وطاعة إذ لا فائدة في الأمر بالمطلق بعد الأمر بالأخذ بقوة بخلافه على تقدير التقييد فإنه يؤكده ويقرره لاقتضائه كمال إبائهم عن قبول ما آتاهم إياه ولذا رفع الجبل عليهم، وكثيرًا ما يراد من السماع القبول ومن ذلك سمع الله لمن حمده وقوله:
دعوت الله حتى خفت أن لا ** يكون الله يسمع ما أقول

{قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} أي سمعنا قولك: خذوا واسمعوا وعصينا أمرك فلا نأخذ ولا نسمع سماع الطاعة، وليس هذا جوابًا لـ {اسمعوا} باعتبار تضمنه أمرين لأنه يبقى {خذوا} بلا جواب، وذهب الجم إلى ذلك وأوردوا هنا سؤالًا وجوابًا، حاصل الأول أن السماع في الأمر إن كان على ظاهره فقولهم سمعنا طاعة وعصينا مناقض وإن كان القبول فإن كان في الجواب كذلك كذب وتناقض وإلا لم يكن له تعلق بالسؤال، وزبدة الجواب أن السماع هناك مقيد والأمر مشتمل على أمرين سماع قوله وقبوله بالعمل فقالوا: نمتثل أحدهما دون الآخر، ومرجعه إلى القول بالموجب، ونظيره {يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} [التوبة: 61] وقيل: المعنى قالوا بلسان القال سمعنا وبلسان الحال عصينا، أو سمعنا أحكامًا قبل وعصينا فنخاف أن نعصي بعد سماع قولك هذا، وقيل: {سمعنا} جواب {اسمعوا} و{عصينا} جواب {خذوا} وقال أبو منصور: إن قولهم {عصينا} ليس على أثر قولهم: {سمعنا} بل بعد زمان كما في قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} [البقرة: 64] فلا حاجة إلى الدفع بما ذكر، وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى جميع ذلك بعدما سمعت كما لا يخفى.
{وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل} عطف على {قَالُواْ} أو مستأنف أو حال بتقدير قد أو بدونه. والعامل {قالوا} والإشراب مخالطة المائع الجامد، وتوسع فيه حتى صار في اللونين، ومنه بياض مشرب بحمرة، والكلام على حذف مضاف أي حب العجل، وجوز أن يكون العجل مجازًا عن صورته فلا يحتاج إلى الحذف، وذكر القلوب لبيان مكان الإشراب، وذكر المحل المتعين يفيد مبالغة في الإثبات؛ والمعنى داخلهم حب العجل ورسخ في قلوبهم صورته لفرط شغفهم به كما داخل الصبغ الثوب وأنشدوا:
إذا ما القلب أشرب حب شيء ** فلا تأمل له عنه انصرافًا

وقيل: أشربوا من أشربت البعير إذا شددت في عنقه حبلًا كأن العجل شد في قلوبهم لشغفهم به؛ وقيل: من الشراب ومن عادتهم أنهم إذا عبروا عن مخامرة حب أو بغض استعاروا له اسم الشراب إذ هو أبلغ منساغ في البدن، ولذا قال الأطباء: الماء مطية الأغذية والأدوية ومركبها الذي تسافر به إلى أقطار البدن، وقال الشاعر:
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ** ولا حزن ولم يبلغ سرور

وقيل: من الشرب حقيقة، وذلك أن السدي نقل أن موسى عليه السلام برد العجل بالمبرد ورماه في الماء وقال لهم: اشربوا فشربوا جميعهم فمن كان يحب العجل خرجت برادته على شفتيه، ولا يخفى أن قوله تعالى: {فِى قُلُوبِهِمْ} يبعد هذا القول جدًا على أن ما قص الله تعالى لنا في كتابه عما فعل موسى عليه السلام بالعجل يبعد ظاهر هذه الرواية أيضًا، وبناء أشربوا للمفعول يدل على أن ذلك فعل بهم ولا فاعل سواه تعالى. وقالت المعتزلة: هو على حد قول القائل أنسيت كذا ولم يرد أن غيره فعل ذلك به وإنما المراد نسيت وأن الفاعل من زين ذلك عندهم ودعاهم إليه كالسامري.
{بِكُفْرِهِمْ} أي بسبب كفرهم لأنهم كانوا مجسمة يجوزون أن يكون جسم من الأجسام إلهًا أو حلولية يجوزون حلوله فيه تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، ولم يروا جسمًا أعجب منه فتمكن في قلوبهم ما سول لهم، وثعبان العصا كان لا يبقى زمانًا ممتدًا ولا يبعد من أولئك أن يعتقدوا عجلًا صنعوه على هيئة البهائم إلهًا وإن شاهدوا ما شاهدوا من موسى عليه السلام لما ترى من عبدة الأصنام الذين كان أكثرهم أعقل من كثير من بني إسرائيل، وقيل: الباء عنى مع أي مصحوبًا بكفرهم فيكون ذلك كفرًا على كفر.
{قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانكم} أي بما أنزل عليكم من التوراة حسا تدعون، وإسناد الأمر إلى الإيمان وإضافته إلى ضميرهم للتهكم كما في قوله تعالى: {أصلواتك تَأْمُرُكَ} [هود: 87] والمخصوص بالذم محذوف أي قتل الأنبياء وكذا وكذا، وجوّز أن يكون المخصوص مخصوصًا بقولهم: عصينا أمرك، وأراه على القرب بعيدًا.
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} قدح في دعواهم الإيمان بالتوراة وإبطال لها، وجواب الشرط ما فهم من قوله تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ} [البقرة: 91] إلى آخر الآيات المذكورة في ردّ دعواهم الإيمان، أو الجملة الإنشائية السابقة إما بتأويل أو بلا تأويل وتقرير ذلك: إن كنتم مؤمنين ما رخص لكم إيمانكم بالقبائح التي فعلكم، بل منع عنها فتناقضتم في دعواكم له فتكون باطلًا، أو: إن كنتم مؤمنين بها فبئسما أمركم به إيمانكم بها أو فقد أمركم إيمانكم بالباطل، لكن الإيمان بها لا يأمر به فإذن لستم ؤمنين، والملازمة بين الشرط والجزاء على الأول: بالنظر إلى نفس الأمر، وإبطال الدعوى بلزوم التناقض وعلى الثاني: تكون الملازمة بالنظر إلى حالهم من تعاطي القبائح مع ادعائهم الإيمان، والمؤمن من شأنه أن لا يتعاطى إلا ما يرخصه إيمانه، وإبطال التالي بالنظر إلى نفس الأمر، واستظهر بعضهم في هذا ونظائره كون الجزاء معرفة السابق أي: إن كنتم مؤمنين تعرفون أنه بئس المأمور به، وقيل: إن نافية، وقيل: للتشكيك وإليه يشير كلام الكشاف وفيه أن المقصد إبطال دعوتهم بإبراز إيمانهم القطعي العدم منزلة ما لا قطع بعدمه للتبكيت والإلزام لا للتشكيك على أنه لم يعهد استعمال إن لتشكيك السامع كما نص عليه بعض المحققين وقرأ الحسن ومسلم بن جندب بهو إيمانكم بضم الهاء ووصلها بواو.