فصل: تفسير الآية رقم (54):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (54):

{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)}
{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ} أي رفع ما مسكم من الضر {إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ} أي يتجدد إشراكهم به تعالى بعبادة غيره سبحانه، والخطاب في الآية ان كان عامًا فمن للتبعيض والفريق الكفرة، وإن كان خاصًا بالمشركين كما استظهره في الكشف فمن للبيان على سبيل التجريد ليحسن وإلا فليس من مواقعه كما قيل، والمعنى إذا فريق هم أنتم يشركون؛ وجوز على هذا الاحتمال في الخطاب كون من تبعيضية أيضًا لأن من المشركين من يرجع عن شركه إذا شاهد ضرًا شديدًا كما يدل عليه قوله تعالى: {فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} [لقمان: 32] على تقدير أن يفسر الاقتصاد بالتوحيد لا بعدم الغلو في الكفر، و{إِذَا} الأولى شرطية والثانية فجائية والجلمة بعدها جواب الشرط، واستدل أبو حيان باقترانها باذا الفجائية على أن إذا الشرطية ليس العامل فيها الجواب لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها، و{بِرَبّهِمْ} متعلق بيشركون والتقديم لمراعاة رؤوس الآي، والتعرض لوصف الربوبية للإيذان بكمال قبح ما ارتكبوه من الاشراك الذي هو غاية في الكفران. و{ثُمَّ} قال في إرشاد العقل السلم ليست لتمادي زمان مساس الضر ووقوع الكشف بعد برهة مديدة بل للدلالة على تراخي رتبة ما يترتب عليه من مفاجآت الاشراك فإن ترتبها على ذلك في أبعد غاية من الضلال.
وفي الكشف متعقبًا صاحب الكشاف بأنه لم يذكر وجه الكلام في قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ} وهو على وجهين والله تعالى أعلم. أحدهما أن يكون قوله سبحانه: {وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله} [النحل: 53] من تتمة السابق على معنى إنكار إتقاء غير الله تعالى وقد علموا أن كل ما يتقلبون فيه من نعمته فهو سبحانه القادر على سلبها، ثم أنكر عليهم تخصيصهم بالجؤار عند الضر في مقابلة تخصيص غيره بالاتقاء ثم اشراكهم به تعالى كفرانًا لتلك النعمة وجيء بثم لتفاوت الانكارين فإن اتقاء غير المنعم أقرب من الاعراض عنه وهو متقلب في نعمه ثم اللجأ إلى هذا المكفور به وحده عند الحاجة، وأبعد منه الأعراض ولم يجف قدمه من ندى النجاة.
والثاني أن يكون جملة مستقلة واردة للتقريع و{ثُمَّ} في الأول لتراخي الزمان اشعارًا بأنهم غمطوا تلك النعم ولم يزالوا عليه إلى وقت الإلجاء، وفيه الأشعار بتراخي الرتبة أيضًا على سبيل الإشارة وفي الثاني لتراخي الرتبة وحده، اه وهو كلام نفيس، وللطيبي كلام طويل في هذا المقام ان أردته فارجع إليه.
وقرأ الزهري {ثُمَّ إِذَا كاشف} وفاعل هنا عنى فعل، وفي الآية ما يدل على أن صنيع أكثر العوام اليوم من الجؤار إلى غيره تعالى ممن لا يملك لهم بل ولا لنفسه نفعًا ولا ضرًا عند إصابة الضر لهم واعراضهم عن دعائه تعالى عند ذلك بالكلية سفه عظيم وضلال جديد لكنه أشد من الضلال القديم، ومما تقشعر منه الجلود وتصعر له الخدود الكفرة أصحاب الأخدود فضلًا عن المؤمنين باليوم الموعود ان بعض المتشيخين قال لي وأنا صغير: إياك ثم إياك أن تستغيث بالله تعالى إذا خطب دهاك فإن الله تعالى لا يعجل في اغاثتك ولا يهمه سوء حالتك وعليك بالاستغاثة بالأولياء السالفين فأنهم يعجلون في تفريج كربك ويهمهم سوء ما حل بك فمج ذلك سمعي وهمي دمعي وسألت الله تعالى أن يعصمني والمسلمين من أمثال هذا الضلال المبين، ولكثير من المتشيخين اليوم كلمات مثل ذلك.

.تفسير الآية رقم (55):

{لِيَكْفُرُوا بما آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)}
{لِيَكْفُرُواْ بما ءاتيناهم} من نعمة الكشف عنهم، فالكفر عنى كفران النعمة واللام لام العاقبة والصيرورة، وهي استعارة تبعية فإنه لما لم ينتج كفرهم واشراكهم غير كفران ما أنعم الله تعالى به عليهم جعل كأنه علة غائية له مقصودة منه، وجوز أن يكون الكفر عنى الجحود أي انكار كون تلك النعمة من الله تعالى واللام هي اللام، والمعنيان متقاربان {فَتَمَتَّعُواْ} أمر تهديد كما هو أحد معاني الأمر المجازية عند الجمهور كما يقول السيد لعبده افعل ما تريد، والالتفات إلى الخطاب للإيذان بتناهي السخط.
وقرأ أبو العالية {فيمتعوا} بضم الياء التحتية ساكن الميم مفتوح التاء مضارع متع مخففًا مبنيًا للمفعول وروى ذلك مكحول الشامي عن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معطوف {أَن يَكْفُرُواْ} على أن يكون الأمران عرضًا لهم من الاشراك، ويجوز أن يكون لام {لِيَكْفُرُواْ} لام الأمر والمقصود منه التهديد بتخليتهم وما هم فيه لخذلانهم، فالفاء واقعة في جواب الأمر وما بعدها منصوب باسقاط النون، ويجوز جزمه بالعطفأيضًا كما ينصب بالعطف إذا كانت اللام جارة {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب، وفيه وعيد شديد حيث لم يذكر المفعول اشعارًا بأنه لا يوصف. وقرأ أبو العالية أيضًا {يَعْلَمُونَ} بالياء التحتية وروي ذلك مكحول عن أبي رافع أيضًا.

.تفسير الآية رقم (56):

{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)}
{وَيَجْعَلُونَ} قيل معطوف على {يُشْرِكُونَ} [النحل: 54] وليس بشيء، وقيل: لعله عطف على ما سبق بحسب المعنى تعدادًا لجناياتهم أي يفعلون مما قص عليك ويجعلون {لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} أي لآلهتهم التي لا يعلمون أحوالها وأنها لا تضر ولا تنفع على أن {مَا} موصولة والعائد محذوف وضمير الجمع للكفار أو لآلهتهم التي لا علم لها بشيء لأنها جماد على أن {ما} موصولة أيضًا عبارة عن الآلهة، وضمير {يَعْلَمُونَ} عائد عليه، ومفعول {يَعْلَمُونَ} مترك لقصد العموم، وجوز أن ينزل منزلة اللازم أي ليس من شأنهم العلم، وصيغة جمع العقلاء لوصفهم الآلهة بصفاتهم، ويجوز أن تكون {مَا} مصدرية وضمير الجمع للمشركين واللام تعليلة لا صلة الجعل كام في الوجهين الأولين، وصلته محذوفة للعلم بها أي يجعلون لآلهتهم لأجل جعلهم {نَصِيبًا مّمّا رزقناهم} من الحرث والانعام وغيرهما مما ذرأ تقربا إليها {تالله لَتُسْئَلُنَّ} سؤال توبيخ وتقريع في الآخرة، وقيل: عند عذاب القبر، وقيل: عند القرب من الموت {عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} من قبل بأنها آلهة حقيقة بأن يتقرب إليها، وفيتصدير الجملة بالقسم وصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب المنبئ عن كمال الغضب من شدة الوعيد ما لا يخفى.

.تفسير الآية رقم (57):

{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)}
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات} هم خزاعة وكنانة كانوا يقولون: الملائكة بنات الله تعالى وكأنهم لجهلهم زعموا تأنيثها وبنوتها، وقال الإمام: أظن أنهم أطلقوا عليها البنات لاستتارها عن العيون كالنساء؛ ولهذا لما كان قرص الشمس يجري مجرى المستتر عن العيون بسبب ضوئه الباهر ونوره القاهر أطلقوا عليه لفظ التأنيث.
ولا يرد على ذلك أن الجن كذلك لأنه لا يلزم في مثله الاطراد، وقيل: أطلقوا عليها ذلك للاستتار مع كونها في محل لا تصل إليه الأغبار فهي كبنات الرجل اللاتي يغار عليهن فيسكنهن في محل أمين ومكان مكين، والجن وإن كانوا مستترين لكن لا على هذه الصورة، وهذا أولى مما ذكره الإمام، وإما عدم التوالد فلا يناسب ذلك.
{سبحانه} تنزيه وتقديس له تعالى شأنه عن مضمون قولهم ذلك أو تعجيب من جراءتهم على التفوه ثل تلك العظيمة، وهو في المعنى الأول حقيقة وفي الثاني مجاز.
{وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} يعني البنين و{مَا} مرفوع المحل على أنه مبتدأ والظرف المقدم خبره والجملة حالية وسبحانه اعتراض في حاق موقعه؛ وجوز الفراء. والحوفي أنه في محل نصب معطوف على {البنات} كأنه قيل: ويجعلون لهم ما يشتهون. واعترض عليه الزجاج وغيره بأنه مخالف للقاعدة النحوية وهي أنه لا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل المرفوع بالفاعلية وكذا الظاهر إلى ضميره المتصل سواء كان تعديه بنفسه أو بحرف الجر إلا في باب ظن وما ألحق به من فقد وعدم فلا يجوز زيد ضربه عنى ضرب نفسه ولا زيد مر به أن مر هو بنفسه ويجوز زيد ظنه قائمًا وزيد فقده وعدمه فلو كان مكان الضمير إسمًا ظاهرًا كالنفس نحو زيد ضرب نفسه أو ضميرًا منفصلًا نحو زيد ما ضرب إلا إياه وما ضرب زيد إلا إياه جاز، فإذا عطف {مَا} على {البنات} أدى إلى تعدية فعل المضمر المتصل وهو واو {يَجْعَلُونَ} إلى ضميره المتصل وهو {هُمْ} المجرور باللام في غير ما استثنى وهو ممنوع عند البصريين ضعيف عند غيرهم فكان حقه أن يقال لأنفسهم وأجيب بأن الممتنع إنما هو تعدي الفعل عنى وقوعه عليه أو على ما جر بالحرف نحو زيد مر به فإن المرور واقع بزيد وما نحن فيه ليس من هذا القبيل فإن الجعل ليس واقعًا بالجاعلين بل بما يشتهون، ومحصله كما قال الخفاجي المنع في المتعدي بنفسه مطلقًا والتفصيل في المتعدي بالحرف بين ما قصد الإيقاع عليه وغيره فيمتنع في الأول دون الثاني لعدم ألف إيقاع المرء بنفسه. وأبو حيان اعترض القاعدة بقوله تعالى: {وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} [مريم: 25] {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: 32] والعلامة البيضاوي أجاب بوجه آخر وهو أن الامتناع إنما هو إذا تعدى الفعل أولًا لا ثانيًا وتبعًا فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، ومنهم من خص ذلك بالمتعدي بنفسه وجوز في المتعدي بالحرف كما هنا وارتضاه الشاطبي في شرح الألفية، وقال الخفاجي: هو قوي عندي لكن لا يخفى أن العطف هنا بعد هذا القيل والقال يؤدي إلى جعل الجعل عنى يعم الزعم والاختيار.

.تفسير الآية رقم (58):

{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)}
{وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بالانثى} أي أخبر بولادتها، واصل البشارة الأخبار بما يسر لكن لما كانت ولادة الأنثى تسوءهم حملت على مطلق الأخبار، وجوز أن يكون ذلك بشارة باعتبار الولادة بقطع النظر عن كونها أنثى وقيل: إنه بشارة حقيقة بالنظر إلى حال المبشر به في نفس الأمر، وأيامًا كان فالكلام على تقدير مضاف كما أشرنا إليه {ظَلَّ وَجْهُهُ} أي صار {مُسْوَدّا} من الكآبة والحياء من الناس، وأصل معنى ظل أقام نهارًا على الصفة التي تسند إلى الاسم، ولما كان التبشير قد يكون في الليل وقد يكون في النهار فسر بما ذكر وقد تلحظ الحالة الغالبة بناء على أن أكثر الولادات يكون بالليل ويتأخر اخبار المولود له إلى النهار خصوصًا بالأنثى فيكون ظلوله على ذلك الوصف طول النهار واسوداد الوجه كناية عن العبوس والغم والفكر والنفرة التي لحقته بولادة الأنثى، قيل: إذا قوى الفرح انبسط روح القلب من داخله ووصل إلى الأطراف لاسيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغ من التعلق الشديد فيرى الوجه مشرقًا متلألئًا، وإذا قوى الغم انحصر الروح إلى باطن القلب ولم يبق له أثر قوي في ظاهر الوجه فيربد ويتغير ويصفر ويسود ويظهر فيه أثر الأرضية، فمن لوازم الفرح استنارة الوجه وإشراقه ومن لوازم الغم والحزن اربداده واسوداده فلذلك كنى عن الفرح بالاستنارة وعن الغم بالاسوداد، ولو قيل بالمجاز لم يبعد بل قال بعضهم: {أَنَّهُ} والظاهر أن {يُسْلِمْ وَجْهَهُ} اسم ظل {ومسودا} خبره، وجوز كون الاسم ضمير الأحد ووجهه بدلًا منه ولو رفع {وَجْهُهُ مُسْوَدّا} على أن {وَجْهَهُ} مبتدأ وهو خبر له والجملة خبر {ظِلّ} صح لكنه لم يقرأ بذلك هنا {وَهُوَ كَظِيمٌ} أي مملوء غيظًا وأصل الكظم مخرج النفس يقال: أخذ بكظمه إذا أخذ خرج نفسه، ومنه كظم الغيظ لا خفائه وحبسه عن الوصول إلى مخرجه.
وفعل اما عنى مفعول كما أشير إليه أو صيغة مبالغة، والظاهر أن ذلك الغيظ على المرأة حيث ولدت أنثى ولم تلد ذكرًا، ويؤيده ما روي الأصمعي أن امرأة ولدت بنتًا سمتها الذلقاء فهجرها زوجها فانشدت:
ما لأبي الذلقاء لا يأتينا ** يظل في البيت الذي يلينا

يحرد أن لا نلد البنينا ** وإنما نأخذ ما يعطينا

والفقير قد رأيت من طلق زوجته لأن ولدت أنثى، والجملة في موضع الحال من الضمير في {ظِلّ} وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من وجه، وجوز غيره أيضًا حاليته من ضمير {مُسْوَدّا}.

.تفسير الآية رقم (59):

{يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)}
{يتوارى مِنَ القوم} يستخفي من قومه {مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ} عرفًا وهو الأنثى، والتعبير عنها بما لإسقاطها بزعمهم عن درجة العقلاء، والجملة مستأنفة أو حال على الأوجه السابقة في {وهو كظيم} [النحل: 58] إلا كونه من وجهه، والجاران متعلقان بيتوارى و{مِنْ} الأولى ابتدائية، والثانية تعليلية أي يتوارى من أجل ذلك، ويروى أن بعض الجاهلية يتوارى في حال الطلق فإن أخبر بذكر ابتهج أو بأنثى حزن وبقي متواريًا أيًا ما يدبر فيها ما صنع {أَيُمْسِكُهُ} أيتركه ويربيه {على هُونٍ} أي ذل، والجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل ولذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: معناه أيمسكه مع رضاه بهوان نفسه وعلى رغم أنفه، وقيل: حال من المفعول به أي أيمسك المبشر به وهو الأنثى مهانًا ذليلًا، وجملة {أَيُمْسِكُهُ} معمولة لمحذوف معلق بالاستفهام عنها وقع حالًا من فاعل {يتوارى} أي محدثًا نفسه متفكرًا في أن يتركه {أَمْ يَدُسُّهُ} يخفيه {فِى التراب} والمراد يئده ويدفنه حيًا حتى يموت وإلى هذا ذهب السدي. وقتادة. وابن جريج وغيرهم، وقيل: المراد إهلاكه سواء كان بالدفن حيًا أم بأمر آخر فقد كان بعضهم يلقى الأنثى من شاهق. روي أن رجلًا قال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت، وقد كانت لي في الجاهلية بنت وأمرت امرأتي أن تزينها وأخرجتها فلما انتهيت إلى واد بعيد القعر ألقيتها فقالت يا أبت قتلتني فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء فقال صلى الله عليه وسلم: «ما في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما في الإسلام يهدمه الاستغفار» وكان بعضهم يغرقها، وبعضهم يذبحها إلى غير ذلك، ولما كان الكل إماتة تفضي إلى الدفن في التراب قيل: {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب} وقيل: المراد إخفاؤه عن الناس حتى لا يعرف كالمدسوس في التراب، وتذكير الضميرين للفظ {مَا}. وقرأ الجحدري بالتأنيث فيهما عودًا على قوله سبحانه: {بالانثى} أو على معنى {مَا}. وقرئ بتذكير الأول وتأنيث الثاني، وقرأ الجحدري أيضًا، وعيسى {هوان} بفتح الهاء وألف بعد الواو، وقرئ {أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ} بفتح الهاء وإسكان الواو وهو عنى الذل أيضًا، ويكون عنى الرفق واللين وليس راد، وقرأ الأعمش {على سُوء} وهي عند أبي حيان تفسير لا قراءة لمخالفتها السواد {أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ} حيث يجعلون لمن تنزه عن الصاحبة والولد ما هذا شأنه عندهم والحال أنهم يتحاشون عنه ويختارون لأنفسهم البنين، فمدار الخطأ جعلهم ذلك لله تعالى شأنه مع إبائهم إياه لا جعلهم البنين لأنفسهم ولا عدم جعلهم له سبحانه، وجوز أن يكون مداره التعكيس كقوله تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضيزى} [النجم: 22]، وقال ابن عطية: هذا استقباح منه تعالى شأنه لسوء فعلهم وحكمهم في بناتهم بالإمساك على هون أو الوأد مع أن رزق الجميع على الله سبحانه فكأنه قيل: الا ساء ما يحكمون في بناتهم وهو خلاف الظاهر جدًا، وروى الأول عن السدي وعليه الجمهور. والآية ظاهرة في ذم من يحزن إذا بشر بالأنثى حيث أخبرت أن ذلك فعل الكفرة، وقد أخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أنه قال في قوله سبحانه: {وَإِذَا بُشّرَ} إلخ هذا صنيع مشركي العرب أخبركم الله تعالى بخبثه فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله تعالى له وقضاء الله تعالى خير من قضاء المرء لنفسه، ولعمري ما ندري أي خير لرب جارية خير لأهلها من غلام، وإنما أخبركم الله عز وجل بصنيعهم لتجتنبوه ولتنتهوا عنه. واستدل القاضي بالآية على بطلان مذهب القائلين بنسبة أفعال العباد إليه تعالى لأن في ذلك إضافة فواحش لو أضيفت إلى أحدهم أجهد نفسه في البراءة منها والتباعد عنها قال: فحكم هؤلاء القائلين مشابه لحكم هؤلاء المشركين بل أعظم لأن إضافة البنات إليه سبحاهه إضافة لقبيح واحد وهو أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إليه عز وجل. وأجيب عن ذلك أنه بما ثبت بالدليل استحالة الصاحبة والولد عليه سبحانه أردفه عز وجل بذكر هذا الوجه الإقناعي وإلا فليس كل ما قبح منا في العرف قبح منه تعالى، ألا ترى أن رجلًا لو زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهم وصورهن ثم بالغ في تقوية الشهوة فيهم وفيهن ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع وبقي ينظر ما يحدث بينهم من الوقاع وغيره عد من أسفه السفهاء وعد صنيعه أقبح كل صنيع مع أن ذلك لا يقبح منه تعالى بل قد صنعه جل جلاله فعلم أن التعويل على مثل هذه الوجوه المبنية على العرف إنما يحسن إذا كانت مسبوقة بالدلائلة القطعية، وقد ثبت بها امتناع الولد عليه سبحانه فلا جرم حسنت تقويتها لهذه الوجوه الإقناعية، وأما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل القاطعة أن خالقها هو الله تعالى فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر لولا سوء التعصب.