فصل: تفسير الآية رقم (64):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (64):

{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)}
{وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ} شديد الملائمة على هذا الوجه لقوله سبحانه هنالك: {لِيُبَيّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [النحل: 39]، ولقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وفيه أن من استبان له الهدى بهذا البيان استغنى عن ذلك البيان حيث لا ينفعه إلا العلم بكذبه وهذا أنسب لتأليف النظم اه.
وأنت تعلم أن احتمال العطف بعيد، والمراد بالكتاب القرآن فإنه الحقيق بهذا الاسم، والاستثناء مفرغ من أعم العلل أي ما أنزلناه عليك لعلة من العلل إلا لتبين لهم ما اختلفوا فيه من البعث وقد كان فيهم من يؤمن به وأشياء من التحليل والتحريم والإقرار والإنكار ومقتضى رجوع الضمائر السابقة إلى الأمم السالفة أن يرجع ضمير {إِلَيْهِمُ} و{اختلفوا} إليهم أيضًا لكن منع عنه عدم تأتي تبيين الذين اختلفوا فيه لهم فمنهم من جعله راجعًا إلى قريش لأن البحث فيهم ومنهم من جعله راجعًا إلى الناس مطلقًا لعدم اختصاص ذلك بقريش ويدخلون فيه دخولًا أوليًا.
{وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} عظيمين {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} خصهم بالذكر لكونهم المغتنمين آثاره. والإسمان قال أبو حيان: في موضع نصب على أنهما مفعول من أجله والناصب {أَنزَلْنَا} ولما اتحد الفاعل في العلة والمعلول وصل الفعل لهما بنفسه، ولما لم يتحد في {لِتُبَيّنَ} لأن فاعل الإنزال هو الله تعالى لا الرسول عليه الصلاة والسلام وصلت العلة بالحرف.
وقال الزمخشري: هما معطوفان على محل {لِتُبَيّنَ} وهو ليس بصحيح لأن محله ليس نصبًا فيعطف منصوب عليه، ألا ترى أنه لو نصب لم يجز لاختلاف الفاعل اه. وتعقب بأن معنى كونه في محل نصب أنه في محل لو خلا من الموانع ظهر نصبه وهو هنا كذلك لمن تأمل فقوله: ليس بصحيح لأن محله ليس نصبًا ليس على ما ينبغي.
وقال الحلبي: إن ذلك ممنوع إذ لا خلاف في أن محل الجار والمجرور النصب ولذا أجازوا مررت بزيد وعمرًا بالعطف على المحل، وللخفاجي هاهنا كلام إن أردته فارجع إليه وراجع، ولعله إنما قدمت علة التبيين على علتي الهدى والرحمة لتقدمه في الوجود عليهما.

.تفسير الآية رقم (65):

{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)}
{والله أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء} تقدم الكلام في مثله، وهذا على ما قيل تكرير لما سبق تأكيدًا لمضمونه وتوحيدًا لما يعقبه من أدلة التوحيد {فَأَحْيَا بِهِ الأرض} بما أنبت به فيها من أنواع النباتات {بَعْدَ مَوْتِهَا} بعد يبسها فالإحياء والموت استعارة للإنبات واليبس، وليس المراد إعادة اليابس بل إنبات مثله، والفاء للتعقيب العادي فلا ينافيه ما بين المتعاطفين من المهلة، ونظير ذلك تزوج فولد له ولد، والآية دليل لمن قال: إن المسببات بالأسباب لا عندها ومن قال به أول {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض الميتة {لآيَةً} وأية آية دالة على وحدته سبحانه وعلمه وقدرته وحكمته جل شأنه، والإشارة بما يدل على البعد إما لتعظيم المشار إليه أو لعدم ذكره صريحًا {لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} قال المولى ابن الكمال: أريد بالسمع القبول كما في سمع الله لمن حمده أي لقوم يتأملون فيها ويعقلون وجه دلالتها ويقبلون مدلولها، وإنما خص كونها آية لهم لأن غيرهم لا ينتفع بها وهذا كالتخصيص في قوله تعالى: {هُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64] وا قررناه تبين وجه العدول عن يبصرون إلى {يَسْمَعُونَ} انتهى، وقال الخفاجي: اللائق بالمقام ما ذكره الشيخان وبيانه أنه تعالى لما ذكر أنه أرسل إلى الأمم السالفة رسلًا وكتبًا فكفروا بها فكان لهم خزي في الدنيا والآخر عقبه بأنه أرسله صلى الله عليه وسلم بسيد الكتب فكان عين الهدى والرحمن لمن أرسل إليه إشارة إلى أن مخالفة أمته لمن قبلهم تقربهم من سعادة الدارين وتبشيرًا له عليه الصلاة والسلام بكثرة متابعيه وقلة مناويه وأنهم سيدخلون في دينه أفواجًا أفواجًا ثم أتبع ذلك على سبيل التمثيل لإنزاله تلك الرحمة التي أحيت من موتة الضلال إنزال الأمطار التي أحيت موات الأرض {وهو الذي ينزل الغيث من بعدما قنطوا} [الشورى: 28] ولولا هذا لكان قوله تعالى: {والله أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء} كالأجنبي عما قبله وبعده، وقوله سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} إلخ تتميم لقوله تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا} [النحل: 64] إلخ وللمقصود بالذات منه فالمناسب {يَسْمَعُونَ} لا يبصرون ولو كان تتميمًا لملاصقه من الإنبات لم يكن ليسمعون عنى يقبلون مناسبة أيضًا، ثم قال: ومن لم يقف على محط نظرهم قال في جوابه: يمكن أن يحمل على يسمعون قولي والله أنزل إلخ فإنه مذكر وحامل على تأمل مدلوله انتهى، وفي قوله عقبه: بأنه أرسله صلى الله عليه وسلم بسيد الكتب فكان عين الهدى والرحمة إشارة إلخ خفاءً كما لا يخفى، ومتى كان تتميمًا لقوله تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا} [النحل: 64] إلخ لم يظهر جعل المشار إليه ما سمعت وهو الظاهر، وفي البحر أنه تعالى لما ذكر إنزال الكتاب للتبيين كان القرآن حياة للأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد ولذلك ختم بقوله سبحانه:{لقوم يؤمنون} [النحل: 64] أي يصدقون والتصديق محله القلب ذكر سبحانه إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسبب بقائها ثم أشار سبحانه بإحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن كما قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه} [الأنعام: 122] فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتًا بالجهل ولذلك ختم تعالى بقوله سبحانه: {يَسْمَعُونَ} أي يسمعون هذا التشبيه المشار إليه والمعنى سماع إنصاف وتدبر، ولملاحظة هذا المعنى والله تعالى أعلم لم يختم سبحانه بلقوم يبصرون وإن كان إنزال المطر مما يبصر ويشاهد انتهى.
وفيه أيضًا من التكلف ما فيه، وأقول: لعل الأظهر أن المشار إليه ما ذكر من الإنزال والإحياء والسماع على ظاهره والكلام تتميم لملاصقه والعدول عن يبصرون إلى {يَسْمَعُونَ} للإشارة إلى ظهور هذا المعتبر فيه وأنه لا يحتاج إلى نظر ولا تفكر وإنما يحتاج المنبه إلى أن يسمع القول فقط، ويكفي في ربط الآية بما قبلها تشارك الكتاب والمطر في الإحياء لكن في ذاك إحياء القلوب وفي هذا إحياء الأرض الجدوب فتأمل.

.تفسير الآية رقم (66):

{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)}
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الانعام لَعِبْرَةً} أي معبرًا يعبر به من الجهل إلى العلم، وأصل معنى العبر والعبور التجاوز من المحل إلى آخر، وقال الراغب: العبور مختص بتجاوز الماء بسباحة ونحوها، والمشهور عمومه فإطلاق العبرة على ما يعتبر به لما ذكر لكنه صار حقيقة في عرف اللغة؟ والتنكير للتفخيم أي لعبرة عظيمة {نُّسْقِيكُمْ} ومنهم من قدر هنا مبتدأ وهو هي نسقيكم ولا حاجة إليه، وضمير {بُطُونِهِ} للإنعام وهو اسم جمع واسم الجمع يجوز تذكيره وإفراده باعتبار لفظه وتأنيثه وجمعه باعتبار معناه، ولذا جاء بالوجهين في القرآن وكلام العرب كذا قيل.
ونقل عن سيبويه أنه عد الأنعام مفردًا وكلامه رحمه الله تعالى متناقض ظاهرًا فإنه قال في باب ما كان على مثال مفاعل ومفاعيل ما نصه: وأما أجمال وفلوس فإنها تنصرف وما أشبهها لأنها ضارعت الواحد، ألا ترى أنك تقول: أقوال وأقاويل وأعراب وأعاريب وأيد وإياد فهذه الأحرف تخرج إلى مفاعل ومفاعيل كما يخرج الواحد إليه إذا فسر للجمع، وأما مفاعل ومفاعيل فلا يكسر فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا لأن هذا هو الغاية فلما ضارعت الواحد صرفت، ثم قال: وكذلك الفعول لو كسرت مثل الفلوس فإنك تخرجه إلى فعائل كما تقول جدود وجدائد وركوب وركائب. ولو فعلت ذلك فاعل ومفاعيل لم يجاوز هذا البناء، ويقوي ذلك أن بعض العرب تقول: أتى للواحد فيضم الألف، وأما أفعال فقد يقع للواحد ومن العرب من يقول هو الأنعام قال جل ثناؤه: {نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِي بُطُونِهِ} وقال أبو الخطاب. سمعت العرب تقول: هذا ثوب أكياس انتهى.
وقال رحمه الله تعالى في باب ما لحقته الزوائد من بنات الثلاثة وليس في الكلام أفعيل ولا أفعول ولا أفعال ولا أفعل ولا أفعال إلا أن تكسر عليه أسماء للجمع انتهى، وقد اضطرب الناس في التوفيق بين كلاميه فذهب أبو حيان إلى تأويل الأول وإبقاء الثاني على ظاهره من أن أفعالًا لا يكون من أبنيته المفرد فحمل قوله أولًا وأما أفعال فقد يقع للواحد إلخ: على أن بعض العرب قد يستعمله فيه مجازًا كالأنعام عنى النعم كما قال الشاعر:
تركنا الخيل والنعم المفدي ** وقلنا للنساء بها أقيمي

وليس مراده أنه مفرد صيغة ووضعًا بدليل ما صرح به في الموضع الآخر من أنه لا يكون إلا جمعًا. واعترض عليه بأن مقصود سيبويه بما ذكره أولًا الفرق بين صيغتي منتهى الجموع وأفعال وفعول حيث منع الصرف للأول دون الثاني بوجوه. منها أن الأولين لا يقعان على الواحد بخلاف الآخيرين كما أوضحه فلو لم يكن وقوع أفعال على الواحد بالوضع لم يحصل الفرق فلا يتم المقصود.
نعم لا كلام في تدافع كلاميه، وأيضًا لو كان كذلك لم يختص ببعضهم؛ وأيضًا أن التجوز بالجمع عن الواحد يصح في كل جمع حتى صيغتي منتهى الجموع. وتعقبه الخفاجي بقوله: والحق أنه لا تدافع بين كلاميه فإنه فرق بين صيغتي منتهى الجموع والصيغتين الأخيرتين بأن الأولتين لا تجمعان والأخيرتان تجمعان فاشبهتا الآحاد ثم قوي ذلك بأن قومًا من العرب استعملت أتى وهو على وزن فعول مفردًا حقيقة، ومنهم من استعمل الأنعام وهو على وزن أفعال كذلك، وقد أشار إلى أن ذلك لغة نادرة ببعض، ومن وما ذكره بعد بناء على اللغة المتداولة، وقوله: إن مقصوده أولًا الفرق بوجوه لا وجه له كما يعرفه حملة الكتاب انتهى، ويعلم منه أن رجوع الضمير المفرد المذكور إلى الأنعام عند سيبويه باعتبار أنه مفرد على لغة بعض العرب ومن قال: إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض أما المقدر أي بعض الأنعام أو المفهوم منها أو للأنعام باعتبار بعضها وهو الإناث التي يكون اللبن منها أو لواحدة كما في قول ابن الحاجب: المرفوعات هو ما اشتمل على علم الفاعلية أو له على المعنى لأن أل الجنسية تسوي بين المفرد والجمع في المعنى فيجوز عود ضمير كل منهما على الآخر. وفي البحر أعاد الضمير مذكرًا مراعاة الجنس لأنه إذا صح وقوع المفرد الدال على الجنس مقام جمعه جاز عوده علهي مذكرًا كقولهم هو أحسن الفتيان وأبتله لأنه يصح هو أحسن فتى وإن كان هذا لا ينقاس عند سيبويه؛ وقيل جمع التكثير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة ومعاملة الجمع فيعود الضمير عليه مفردًا كقوله:
مثل الفراخ نتفت حواصله

وقال الكسائي: أفرد وذكر على تقدير المذكور كما يفرد اسم الإشارة بعد الجمع كقوله:
فيها خطوط من سواد وباق ** كأنه في الجلد توليع البهق

وهو في القرآن سائغ ومنه قوله تعالى: {إِنها تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ} [المدثر: 54، 55] {فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً االَ هذا رَبّى} [الأنعام: 78] ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازي فلا يجوز جاريتك ذهب. واعترض بأنه كيف جمع نعم وهي تختص الإبل والأنعام تقال للبقر والإبل والغنم مع أنه لو اختص كان مساويًا. وأجيب بأن من يراه جمعًا له يخص الأنعام أو يعمم النعم ويجعل التفرقة ناشئة من الاستعمال ويجعل الجمع للدلالة على تعدد الأنواع.
وقرأ ابن مسعود بخلاف عنه. والحسن. وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. وابن عامر. ونافع. وأبوبكر. وأهل المدينة {نُّسْقِيكُمْ} بفتح النون هنا وفي المؤمنين (21) على أنه مضارع سقي وهو لغة في أسقى عند جمع وأنشدوا قول لبيد:
سقى قومي بني مجد وأسقى ** نميرًا والقبائل من هلال

وقال بعض: يقال سقيته لشفته وأسقيته لماشيته وأرضه، وقيل: سقاه عنى رواه بالماء وأسقاه عنى جعله شرابًا معدًا له، وفيه كلام بعد فتذكر.
وقرأ أبو رحاء {يسقيكم} بالياء مضمومة والضمير عائد على الله تعالى.
وقال صاحب اللوامح ويجوز أن يكون عائدًا على النعم وذكر لأن النعم مما يذكر ويؤنث، والمعنى وإن لكم في الأنعام نعمًا يسقيكم أي يجعل لكم سقيًا، وهو كما ترى. وقرأت فرقة منهم أبو جعفر {تسقيكم} بالتاء الفوقية مفتوحة قال ابن عطية: وهي قراءة ضعيفة انتهى، ولم يبين وجه ضعفها، وكأنه والله تعالى أعلم عنى به اجتماع التأنيث والتذكير باعتبار وجهين.
{بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا} افرق على ما في الصحاح السرجين ما دام في الكرش والجمع فروث. وفي البحر كثيف ما يبقى من المأكول في الكرش أو المعي، و{بَيْنَ} تقتضي متعددًا وهو هنا الفرق والدم فيكون مقتضى ظاهر النظم توسط اللبن بنيهما، وروى ذلك الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن البهيمة إذا عتلفت وأنضج العلف في كرشها كان أسفله فرثًا وأوسطه لبنًا وأعلاه دمًا.
وروى نحوه عن ابن جبير فالبينية على حقيقتها وظاهرها وتعقب ذلك الإمام الرازي بقوله: ولقائل أن يقول: اللبن والدم لا يتولدان في الكرش والدليل عليه الحسن فإن الحيوانات تذبح دائمًا ولا يرى في كرشها شيء من ذلك ولو كان تولد ما ذكر فيه لوجب أن يشاهد في بعض الأحوال والشيء الذي دلت المشاهدة على فساده لم يجز المصير إليه بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء وصل إلى معدته وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافيًا انجذب إلى الكبد وما كان كثيفًا نزل إلى الأمعاء ثم ذلك الذي يحصل في الكبد ينضج ويصير دمًا وذلك هو الهضم الثاني ويكون ذلك مخلوصًا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية، أما الصفراء فتذهب إلى المرارة والسوداء إلى الطحال والماء إلى الكلية ومنها إلى المثانة، وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة والعروق النابتة من الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث، وبين الكبد والضرع عروق كثيرة فينصب الدم من تلك العروق إلى الضرع، والضرع لحم غددي رخو أبيض فيقلب الله تعالى الدم فيه إلى صورة اللبن، لا يقال: إن هذه المعنى حاصلة في الحيوان الذكر فلم لم يحصل منه اللبن لأنا نقول: الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته فأوجبت أن يكون مزاج الذكر حارًا يابسًا مزاج الأنثى باردًا رطبًا فإن الولد إنما يتولد في داخل بدن الأنثى فكان اللائق بها اختصاصها بالرطوبة لتصير مادة للتولد وسببًا لقبول التمدد فتتسع للولد، ثم إن تلك الرطوبة بعد انفصال الجنين تنصب إلى الضرع فتصير مادة لغذائه كما كانت كذلك قبل في الرحم، ومن تدبر في بدائع صنع الله تعالى فيما ذكر من الأخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها والأسباب المولدة لها وتسخير القوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق به اضطر إلى الاعتراف بكمال علمه سبحانه وقدرته وحكمته وتناهي رأفته ورحمته.
حكم حارت البرية فيها ** وحقيق بأنها تحتار

وحاصل ما ذكروه أنه إذا ورد الغذاء الكرش انطبخ فيه وتميزت منه أجزاء لطيفة تنجذب إلى الكبد فينطبخ فيها فيحصل الدم فتسري أجزاء منه إلى الضرع ويستحيل لبنًا بتدبير الحكيم العليم، وحينئذ فالمراد أن اللبن إنما يحصل من بين أجزاء الفرث ثم من بين أجزاء الدم فالبينية على هذا مجازية وفي إرشاد العقل السليم وغيره لعل المراد بما روى عن ابن عباس أن أوسطه يكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم الذي يعذو البدن فإن عدم تكونهما في العكرش مما لا ريب فيه والداعي إلى ذلك مخالفة ما يقتضيه الظاهر للحس ولما ذكره الحكماء أهل التشريح. ويؤيد ما ذكروه ما أخبرني به من أثق به من أنه قد شاهد خروج الدم من الضرع بعد اللبن عند المبالغة في الحلب والله تعالى أعلم، و{مِنْ} الأولى تبعيضية لما أن اللبن بعض ما في بطون الأنعام لأنه مخلوق من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث حسا سمعت، وهي متعلقة بنسقيكم و{مِنْ} الثانية ابتدائية وهي أيضًا متعلقة بنسقيكم فإن بين الدم والفرث المحل الذي يبتدأ منه الإسقاء وتعلقهما بعامل واحد لاختلاف مدلوليهما و{لَّبَنًا} مفعول ثان لنسقيكم وتقديم ذلك عليه لما مر مرارًا من أن تقديم ما حقه التأخير يبعث للنفس شوقًا إلى المؤخر موجبًا لفضل تمكنه عند وروده عليها لاسيما إذا كان المقدم متضمنًا لوصف مناف لوصف المؤخر كالذي نحن فيه، فإن بين وصفي المقدم والمؤخر تنافيًا وتنائيًا بحيث لا يتراآى ناراهما فإن ذلك مما يزيد الشوق والاستشراف إلى المؤخر، وجوز أن يكون {مِن بَيْنِ} حالًا من {لَّبَنًا} قدم عليه لتنكيره وللتنبيه على أنه موضع العبرة.
وجوز أن تكون {مِنْ} الأولى ابتدائية كالثانية فيكون {مِن بَيْنِ} بدل اشتمال مما تقدم {خَالِصًا} مصفى عما يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه أوصافيًا لا يستصحبه لون الدم ولا رائحة الفرث {سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} سهل المرور في حلقهم لدهنيته. أخرج ابن مردويه عن يحيى بن عبد الرحمن ابن أبي لبيبة عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أشرب أحد لبنًا فشرق إن الله تعالى يقول: {لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين}».
وقرأت فرقة {سيغًا} بتشديد الياء. وقرأ عيسى بن عمر {سيغًا} مخففًا من سيغ كهين المخفف من هين. واستدل بالآية على طهارة لبن المأكول وإباحة شربه، وقد احتج بعض من يرى على أن المني طاهر على من جعله نجسًا لجريه في مسالك البول بها أيضًا وأنه ليس ستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر كما خرج اللبن من بين فرث ودم طاهرًا وفي التفسير الكبير قال أهل التحقيق: اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار يدل على إمكان الحشر والنشر، وذلك لأن هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض فخالق العالم دبر تدبيرًا انقلب به لبنًا ثم دبر تدبيرًا آخر حدث من ذلك البلن الدهن والجبن، وهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة؛ فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضًا أن يكون قادرًا على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك فهذا الاعتبار يدل من هذا الوجه على أن البعث والقيامة أمر ممكن غير ممتنع.