فصل: تفسير الآية رقم (76):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (76):

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)}
{وَضَرَبَ الله مَثَلًا} أي مثلا آخر يدل على ما يدل عليه المثل السابق على وجه أظهر وأوضح، وأبهم ثم بين بقوله تعالى: {رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا} لما تقدم والبكم الخرس المقارن للخلقة ويلزمه الصمم فصاحبه لا يفهم لعدم السمع ولا يفهم غيره لعدم النطق، والإشارة لا يعتد بها لعدم تفهيمها حق التفهيم لكل أحد فكأنه قيل: أحدهما أخرس أصم لا يفهم ولا يفهم {مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَيْء} من الأشياء المتعلقة بنفسه أو غيره بحدس أو فراسة لسوء فهمه وإدراكه {وَهُوَ كَلٌّ} ثقيل وعيال {على مَوْلاهُ} على من يعوله ويلي أمره، وهذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصاله نفسه بعد ذكر عدم قدرته مطلقًا، وقوله سبحانه: {أَيْنَمَا يُوَجّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} أي حيثما برسله مولاه في أمر لا يأت بنجح وكفاية مهم، بيان لعدم قدرته على مصالح مولاه. وقرأ عبد الله في رواية {توجهه} على الخطاب، وقرأ علقمة. وابن وئاب. ومجاهد. وطلحة وهي رواية أخرى عن عبد الله {يوجه} بالبناء للفاعل والجزم، وخرج على أن الفاعل يعود على المولى والمفعول محذوف وهو ضمير الا بكم أي يوجهه، ويجوز أن يكون ضمير الفاعل عائدًا على الا بكم ويكون الفعل لازم وجه عنى توجه، وعلى ذلك جاء قول الاضبط بن قريع السعدي:
أينما أوجه ألق سعدا

وعن علقمة. وطلحة. وابن وثاب أيضًا {يوجه} بالجزم والبناء للمفعول، وفي رواية أخرى عن علقمة. وطلحة أنهما قرءا {يوجه} بكسر الجيم وضم الهاء، قال صاحب اللوامح. فإن صح ذلك فالهاء التي هي لام الفعل محذوفة فرارًا من التضعيف أو لم يرد بأينما الشرط، والمراد أينما هو يوجه وقد حذف منه ضمير المفعول به فيكون حذف الياء من آخر {لَمْ يَأْتِ} للتخفيف، وتعقبه أبو حيان بأن أين لا تخرج عن الشرط أو الاستفهام. ونقل عن أبي حاتم أن هذه القراءة ضعيفة لأن الجزم لازم، ثم قال: والذي توجه به هذه القراءة أن {أَيْنَمَا} شرط حملت على إذا بجامع ما اشتركا فيه من الشرط ثم حذفت ياء {يَأْتِ} تخفيفًا أو جزم على توهم أنه جيء بأينما جازمة كقراءة من قرأ {إنه من يتقي ويصبر} [يوسف: 90] في أحد الوجهين، ويكون معنى يوجه يتوجه كما مر آنفًا {هَلْ يَسْتَوِى هُوَ} أي ذلك الأبكم الموصوف بتلك الصفات المذكورة {وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} ومن هو منطيق فهم ذو رأي ورشد يكفي الناس في مهماتهم وينفعهم بحثهم على العدل الجامع لمجامع الفضائل {وَهُوَ} في نفسه مع ما ذكر من نفعه الخاص والعام {على صراط مُّسْتَقِيمٍ} لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي، فالجملة حالية مبينة لكماله في نفسه ولما كان ذلك مقدمًا على تكميل الغير أتى بها اسمية فإنها تشعر بذلك مع الثبوت إلى مقارنة ذي الحال، فلا يقال.
الأنسب تقديمها في النظم الكريم، ومقابلة تلك الصفات الأربع بهذين الوصفين لأنهما كمال ما يقابلها ونهايته فاختير آخر صفات الكامل المستدعية لما ذكر وأزيد حيث جعل هاديًا مهديًا، وتغيير الأسلوب حيث لم يقل: والآخر يأمر بالعدل الآية لمراعاة الملاءمة بينه وبين ما هو المقصود من بيان التباين بين الفريقين، ويقال هنا كما قيل في المثل السابق: إنه حيث لم يستو الفريقان في الفضل والشرف مع استوائهما في الماهية والصورة فلأن يحكم بأن الصنم الذي لا ينطق ولا يسمع وهو عاجز لا يقدر على شيء كل على عابده يحتاج إلى أن يحمله ويضعه ويمسح عنه الأذى إذا وقع عليه ويخدمه وإن وجهه إلى أي مهم من مهماته لا ينفعه ولا يأت له به لا يساوي رب العالمين وهو هو في استحقاق المعبودية أحرى وأولى، وقيل: هذا تمثيل للمؤمن والكافر فالأبكم هو الكافر ومن يأمر بالعدل هو المؤمن، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإيامًا كان فليس المراد برجلين رجلان متصفان بما ذكر من الصفات مطلقاف، وما روي من أن الأبكم أبو جهل والآمر بالعدل عمار أو الأبكم أبي ابن خلف والآمر عثمان بن مظعون فقال أبو حيان: لا يصح إسناده، وما أخرج ابن جرير. وابن عساكر. وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الآية {وَضَرَبَ الله مَثَلًا رَّجُلَيْنِ} إلخ في عثمان بن عفان ومولى له كافر وهو أسيد بن أبي العيص كان يكره الإسلام وكان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المؤنة وكان الآخر ينهاه عن الصدقة والمعروف فنزلت فيهما فبعد تحقق صحته لا يضرنا في إرادة الموصوفين مطلقًا بحيث يدخل فيهما من ذكر. فقد صرحوا بأن خصوص السبب لا ينافي العمون.
هذا وقد اقتصر شيخ الإسلام على كون الغرض من التمثيلين نفي المساواة بينه جل جلاله وبين ما يشركون، وهو دليل على أنه مختاره ثم قال: اعلم أن كلا الفعلين ليس المراد بهما حكاية الضرب الماضي بل المراد انشاؤه بما ذكر عقيبه، ولا يبعد أن يقال: إن الله تعالى ضرب مثلا بخلق الفريقين على ما هما عليه فكان خلقهما كذلك للاستدلال بعدم تساويهما على امتناع التساوي بينه سبحانه وتعالى وبين ما يشركون فيكون كل من الفعلين حكاية للضرب الماضي اه، ولا يخفى أنه لا كلام في حسن اختياره لكن في النفس من قوله لا يبعد شيء.

.تفسير الآية رقم (77):

{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)}
{وَللَّهِ} تعالى خاصة لا لأحد غيره استقلال ولا اشتركا {غَيْبَ السموات والأرض} أي جميع الأمور الغائبة عن علوم المخلوقين بحيث لا سبيل لهم إلى إدراكها حساولًا إلى فهمها عقلًا، ومعنى الإضافة إليهما التعلق بهما إما باعتبار الوقوع فيهما حالا أو مآلا واما باعتبار الغيبة عن أهلهما، ولا حاجة إلى تقدير هذا المضاف، والمراد بيان الاختصاص به تعالى من حيث المعلومية حسا ينبئ عنه عنوان الغيبة لا من حيث المخلوقية والمملوكية وإن كان الأمر كذلك في نفس الأمر، وفيه كما في إرشاد العقل السليم اشعار بأن علمه تعالى حضوري وأن تحقق الغيوب في نفسها بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ولذلك لم يقل تعالى: ولله علم غيب السموات والأرض، وقيل: المراد بغيب السموات والأرض ما في قوله سبحانه: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزّلُ الغيث} [لقمان: 34] الآية، وقيل: يوم القيامة، ولا يخفى أن القول بالعموم أولى.
{وَمَا أَمْرُ الساعة} التي هي أعظم ما وقع فيه المماراة من الغيوب المتعلقة بالسموات والأرض من حيث الغيبة عن أهلهما أو ظهور آثارها فيهما عند وقوعها أي وما شأنها في سرعة المجيء، {إِلاَّ كَلَمْحِ البصر} أي كرجع الطرف من أعلا الحدقة إلى أسفلها. وفي البحر اللمح النظر بسرعة يقال: لمحه لمحا ولمحانا إذا نظره بسرعة {أَوْ هُوَ} أي أمرها {أَقْرَبُ} أي من ذلك وأسرع بأن يقع في بعض أجزاء زمانه فإن رجع الطرف من أعلا الحدقة إلى أسفلها وإن قصر حركة أينية لها هوية اتصالية منطبقة على زمان له هو كذلك قابل للانقسام إلى أبعاض هي أزمنة أيضًا بل بأن يقع فيما يقال به آن وهو جزء غير منقسم من أجزاء الزمان كآن ابتداء الحركة، و{أَوْ} قال الفراء: عنى بل. ورده في البحر بأن بل للإضراب وهو لا يصح هنا بقسيمه، أما الإبطال فلأنه يؤل إلى أن الحكم السابق غير مطابق فيكون الأخبار به كذبًا والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك، وأما الانتقال فلأنه يلزمه التنافي بين الأخبار بكونه مثل لمح البصر وكونه أقرب فلا يمكن صدقهما معا ويلزم الكذب المحال أيضًا. وأجيب باختيار الثاني ولا تنافي بين تشبيهه في السرعة بما هو غاية ما يتعارفه الناس في بابه وبين كونه في الواقع أقرب من ذلك، وهذا بناء على أن الغرض من التشبيه بيان سرعته لا بيان مقدار زمان وفوعه وتحديده. وأجيب أيضًا بما يصححه بشقيه وهو أنه ورد على عادة الناس يعني أن أمرها إذا سئلتم عنها أن يقال فيه: هو كلمح البصر ثم يضرب عنه إلى ما هو أقرب.
وقيل: هي للتخيير. ورده في البحر أيضًا بأنه إنما يكون في المحظورات كخذ من مالي دينارًا أو درهمًا أو في التكليفات كآية الكفارات. وأجيب بأن هذا مبني على مذهب ابن مالك من أن {أَوْ} تأتي للتخيير وأنه غير مختص بالوقوع بعد الطلب بل يقع في الخبر ويكثر في التشبيه حتى خصه بعضهم به. وفي شرح الهادي اعلم أن التخيير والإباحة مختصان بالأمر إذ لا معنى لهما في الخبر كما أن الشك والإبهام مختصان بالخبر. وقد جاءت الإباحة في غير الأمر كقوله تعالى: {كَمَثَلِ الذي استوقد نَارًا} إلى قوله سبحانه: {أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السماء} [البقرة: 19] أي بأي هذين شبهت فأنت مصيب وكذا ان شبهت بهما جميعًا، ومثله في الشعر كثير، وقيل: إن المراد تخيير المخاطب بعد فرض الطلب والسؤال فلا حاجة إلى البناء على ما ذكر، وهو كما ترى، وزعم بعضهم أن التخيير مشكل من جهة أخرى وهي أن أحد الأمرين من كونه كلمح البصر أو أقرب غير مطابق للواقع فكيف يخير الله تعالى بين ما لا يطابقه، وفيه أن المراد التخيير في التشبيه وأي ضرر في عدم وقوع المشبه به بل قد يستحسن فيه عدم الوقوع كما في قوله:
أعلام ياقوت نشر ** ن على رماح من زبرجد

وقال ابن عطية: هي للشك على بابها على معنى أنه لو اتفق أن يقف على أمرها شخص من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هو كلمح البصر أو أقرب. وتعقبه في البحر أيضًا بأن الشك بعيد لأن هذا اختبار من الله تعالى عن أمر الساعة والشك مستحيل عليه سبحانه أي فلابد أن يكون ذلك بالنسبة إلى غير المتكلم، وفي ارتكابه بعد، ويدل على أن هذا مراده تعليله البعد بالاستحالة فليس اعتراضه مما يقضي منه العجب كما توهم، وقال الزجاج: هي للإبهام وتعقب بأنه لا فائدة في إبهام أمرها في السرعة وإنما الفائدة في إبهام وقت مجيئها. وأجيب بأن المراد أنه يستبهم على ما يشاهد سرعتها هل هي كلمح البصر أو أقل فتدبر. والمأثور عن ابن جريج أنها عنى بل وعليه كثيرون، والمراد تمثيل سرعة مجيئها واستقرابه على وجه المبالغة، وقد كثر في النظم مثل هذه المبالغة، ومنه قول الشاعر:
قالت له البرق وقالت له الـ ** ـريح جميعا وهما ما هما

أأنت تجري معنا قال إن ** نشطت أضحكتكما منكما

ان ارتداد الطرف قد فته ** إلى المدى سبقا فمن أنتما

وقيل: المعنى وما أمر إقامة الساعة المختص علمها به سبحانه وهي اماتة الاحياء واحياء الأموات من الأولين والآخرين وتبديل صور الأكوان أجمعين وقد أنكرها المنكرون وجعلوها من قبيل ما لا يدخل تحت دائرة الإمكان في سرعة الوقوع وسهولة التأتي إلا كلمح البصر أو هو أقرب على ما مر من الأقوال في {أَوْ} {إِنَّ الله على شَيْء قَدِيرٌ} ومن جملة الأشياء أن يجيء بها في أسرع ما يكون فهو قادر على ذلك، وتقول على الثاني: ومن جملة ذلك أمر إقامتها فهو سبحانه قادر عليه فالجملة في موضع التعليل.
وفي الكشف على تقدير عموم الغيب وشموله لجميع ما غاب في السموات والأرض ان قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ الساعة} كالمستفاد من الأول وهو اكلتمهيد له أي يختص به علم كل غيب الساعة وغيرها فهو الآتي بها للعلم والقدرة، ولهذا عقب بقوله سبحانه: {إِنَّ الله} إلخ، وأما إذا أريد بالغيب الساعة فهو ظاهر اه. ولا يخفي الحال على القول بأن المراد بالغيب ما في قوله تعالى: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزّلُ الغيث} [لقمان: 34] الآية، وعلى القول الأخير في الغيب يكون ذكر الساعة من وضع الظاهر موضع الضمير لتقوية مضمون الجملة.

.تفسير الآية رقم (78):

{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)}
{والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم} عطف على قوله تعالى: {والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: 72] منتظم معه في سلك أدلة التوحيد، ويفهم من قول العلامة الطيبي أنه تعالى عقب قوله سبحانه: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ} [النحل: 77] بقوله جل وعلا: {والله أَخْرَجَكُم} إلخ معطوفًا بالواو إيذانًا بأن مقدوراته تعالى لا نهاية لها والمذكور بعض منها أن العطف على قوله سبحلنه: {إِنَّ الله} إلخ، والذي تنبسط له النفس هو الأول.
والأمهات بضم الهمزة وفتح الهمزة جمع أم والهاء فيه مزيدة وكثر زيادتها فيه وورد بدونها، والمعنى في الحالين واحد، وقيل: ذو الزيادة للإناسي والعاري عنها للبهائم، ووزن المفرد فعل لقولهم الأمومة، وجاء بالهاء كقول قصى بن كلاب عليهما الرحمة:
أمهتي خندف والياس أبى

وهو قليل، وأقل من ذلك زيادة الهاء في الفعل كما قيل في إهراق، وفيه بحث فارجع إلى الصحاح وغيره.
وقرأ حمزة بكسر الهمزة والميمي هنا، وفي الزمر، والنجم. والورم، والكسائي بكسر الميم فيهن؛ والأعمش بحذف الهمزة وكسر الميم، وابن أبي ليلى بحذفها وفتح الميم، قال أبو حاتم: حذف الهمة رديء ولكن قراءة ابن أبي ليلى أصوب، وكانت كذلك على ما في البحر لأن كسر الميم إنما هو لإتباعها حركة الهمزة فإذا كانت الهمزة محذوفة زال الإتباع بخلاف قراءة ابن أبي ليلى فإنه أقر الميم على حركتها {لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} في موضع الحال و{شَيْئًا} منصوب على المصدرية أو مفعول {تَعْلَمُونَ}، والنفي منصب عليه، والعلم عنى المعرفة أي غير عارفين شيئًا أصلًا من حق المنعم وغيره، وقيل: شيئًا من منافعكم، وقيل: مما قضى عليكم من السعادة أو الشقاوة، وقيل: مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم، والظاهر العموم ولا داعي إلى التخصيص. وعن وهب يولد المولود خدرًا إلى سبعة أيام لا يدرك راحة ولا ألمًا.
وادعى بعضهم أن النفس لا تخلو في مبدأ الفطرة عن العلم الحضوري وهو علمها بنفسها إذ المجرد لا يغيب عن ذاته أصلًا، فقد قال الشيخ في بعض تعليقاته عند إثبات تجرد النفس: إنك لا تغفل عن ذاتك أصلًا في حال من الأحوال ولو في حال النوم والسكر، ولو جوز مجوز أن يغفل عن ذاته في بعض الأحوال حتى لا يكون بينه وبين الجماد في هذه الحالة فرق فلا يجدي هذا البرهان معه، وقال بهمنيار في التحصيل في فصل العقل والمعقول: ثم إن النفس الإنسانية تشعر بذاتها فيجب أن يكون وجودها عقليًا فيكون نفس وجودها نفس إدراكًا ولهذا لا تعزب عن ذاتها البتة، ومثله في الشفاء، وأنت تعلم أن عدم الخلو مبني على مقدمات خفية كتجرد النفس الذي أنكره الطبيعيون عن آخرهم وأن كل مجرد عالم ولا يتم البرهان عليه، وأيضًا ما نقل من أن علم النفس بذاتها عين ذاتها لا ينافي أن يكون لكون الذات علمًا بها شرط فما لم يتحقق ذلك الشرط لم تكن الذات علمًا بها كما أن لكون المبتدأ الفياض خزانة لمعقولات زيد مثلًا شرطًا إذا تحقق تحقق وإلا فلا، ويؤيد ذلك أن علم النفس بصفاتها أيضًا نفس صفاتها عندهم؛ ومع ذلك يجوز الغفلة عن الصفة في بعض الأحيان كما لا يخفى.
وأيضًا إذا قلنا: إن حقيقة الذات غير غائبة عنها، وقلنا: إن ذلك علم بها يلزم أن يكون حقيقة النفس المجردة معلومة لكل أحد؛ ومن البين أنه ليس كذلك، على أن المحقق الطوسي قد منع قولهم: إنك لا تغفل عن ذاتك أبدًا، وقال: إن المغمى عليه را غفل عن ذاته في وقت الإغماء، ومثله كثير من الأمراض النفسانية، ومن العجائب أن بعض الأجلة ذكر أن المراد بخلوها في مبدأ الفطرة خلوها حال تعلقها بالبدن، وقال: إنه لا ينافي ذلك ما قاله الشيخ من أن الطفل يتعلق بالثدي حال التولد بإلهام فطري لأن حال التعلق سابق على ذلك، وذلك بعد أن ذكر أن الخلو في مبدأ الفطرة إنما يظهر لذوي الحدس لاحظة حال الطفل وتجارب أحواله ووجه العجب ظاهر فافهم ولا تغفل.
وتفسير العلم بالمعرفة مما ذهب إليه غير واحد، وفي أمالي العز لا يجوز أن يجعل باقيًا على بابا ويكون {شَيْئًا} مصدرًا أي لا تعلمون علمًا لوجهين. الأول: الأول أنه يلزم حذف المفعولين وهو خلاف الأصل. الثاني: أنه لو كان باقيًا على بابه لكان الناس يعلمون المبتدأ الذي هو أحد المفعولين قبل الخروج من البطون وهو محال لاستحالة العلم على من لم يولد، بيان ذلك أنا إذا قلنا: علمت زيدًا مقيمًا يجب أن يكون العلم بزيد متقدمًا قبل هذا العلم وهذا العلم إنما يتعلق بإقامته، وكذلك إذا قلت: ما علمت زيدًا مقيمًا فالذي لم يعلم هو إقامة زيد وأما هو فمعلوم وذلك مستفاد من جهة الوضع فحيث أثبت العلم أو نفى فلابد أن يكون الأول معلومًا فيتعين حمل العلم على المعرفة اه.
ويعلم منه عدم استقامة جعل العلم على بابه، و{شَيْئًا} مفعوله الأول والمفعول الثاني محذوف. وقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار والافئدة} يحتمل أن يكون جملة ابتدائية ويحتمل أن يكون معطوفًا على الجملة الواقعة خبرًا والواو لا تقتضي الترتيب، ونكتة تأخيره أن السمع ونحوه من آلات الإدراك إنما يعتد به إذا أحس وأدرك وذلك بعد الإخراج، وجعل إن تعدى لواحد بأن كان عنى خلق فلكم متعلق به وإن تعدى لاثنين بأن كان عنى صير فهو مفعوله الثاني، وتقديم الجار والمجرور على المنصوبات لما مر غير مرة.
والمعنى جعل لكم هذه الأشياء آلات تحصلون بها العلم والمعرفة بأن تحسوا شاعركم جزئيات الأشياء وتدركوها بأفئدتكم وتنتبهوا لما بينها من المشاركات والمباينات بتكرير الإحساس فيحصل لكم علوم بديهية تتمكنون بالنظر فيها من تحصيل العلوم الكسبية، وهذا خلاصة ما ذكره الإمام في هذا المقام ومستمد ما ذهب إليه الكثير من الحكماء من أن النفس في أول أمرها خالية عن العلوم فإذا استعملت الحواس الظاهرة أدركت بالقوة الوهمية أمورًا جزئية شاركات ومباينات جزئية بينها فاستعدت لأن يفيض عليها المبدأ الفياض المشاركات الكلية، ويثبتون للنفس أربع مراتب. مرتبة العقل الهيولاني. ومرتبة العقل بالملكة. ومرتبة العقل بالفعل. ومرتبة العقل المستفاد، ويزعمون أن النفس لا تدرك الجزئي المادي، ولهم في هذا المقام كلام طويل وبحث عريض.
وأهل السنة يقولون: إن النفس تدرك الكلي والجزئي مطلقًا باستعمال المشاعر وبدونه كما فصل في محله، وتحقيق هذا المطلب اله وما عليه يحتاج إلى بسط كثير، وقد عرض والمستعان بالحي القيوم جل جلاله وعم نواله من الحوادث الموجبة لاختلال أمر الخاصة والعامة ما شوش ذهني وحال بين تحقيق ذلك وبيني، أسأل الله سبحانه أن يمن علينا بما يسر الفؤاد وييسر لنا ما يكون عونًا على تحصيل المراد وبالجملة المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في هذه الآية أنه قال: يريد سبحانه أنه جعل لكم ذلك لتسمعوا مواعظ الله تعالى وتبصروا ما أنعم الله تعالى به عليكم من إخراجكم من بطون أمهاتكم إلى أن صرتم رجالًا وتعقلوا عظمته سبحانه. وقيل: المعنى جعل لكم السمع لتسمعوا به نصوص الكتاب والسنة التي هي دلائل سمعية لتستدلوا بها على ما يصلحكم في أمر دينكم والأبصار لتبصروا بها عجائب مصنوعاته تعالى وغرائب مخلوقاته سبحانه فتستدلوا بها على وحدانيته جل وعلا. والأفئدة لتعقلوا بها معاني الأشياء التي جعلها سبحانه دلائل لكم، والسمع والأبصار على هذين القولين على ظاهرهما ولم نر من جوز إخراجهما عن ذلك.
وجوزأن يراد بهما الحواس الظاهرة على الأول، والأفئدة جمع فؤاد وهو وسط القلب وهو من اقللب كالقلب من الصدر، وهذا الجمع على ما في الكشاف من جموع القلة الجارية مجرى جموع الكثرة والقلة إذا لم يرد في السماع غيرها كما جاء شسوع في جمع شسع لا غير فجرى ذلك المجرى، وقال الزجاج: لم يجمع فؤاد على أكثر العدد ورا قيل: أفئدة وفئدان كما قيل: أغربة وغربان في جمع غراب، وفي «التفسير الكبير» لعل الفؤاد إنما جمع على بناء القلة تنبيها على أن السمع والبصر كثر وأما الفؤاد فقليل لأنه إنما خلق للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية وأكثر الخلق ليس لهم ذلك بل يكونون مشتغلين بالأفعال البهيمية والصفات السبعية فكأن فؤادهم ليس بفؤاد فلذا ذكر في جمعه جمع القلة اه، ويرد عليه الأبصار فإنه جمع قلة أيضًا.
وفي البحر بعد نقله أنه قول هذياني ولولا جلالة قائله لم نسطره في الكتب وإنما يقال في هذا ما قاله الزمخشري مما ذكر سابقًا إلا أن قوله: لم يجء في جمع شسع إلا شسوع لس بصحيح بل جاء فيه إشساع جمع قلة على قلة اه فاحفظ ولا تغفل.
وزعم بعضهم أن الفؤاد إنما يدرك ما ليس حدود بنحو أين وكيف وكم وغير ذلك وإن لكل مدرك قوة مدركة له تناسبه لا يمكن أن يدرك بغيرها على نحو المحسوسات الظاهرة من الأصوات والألوان والطعوم ونحوها والحواس الظاهرة من السمع والبصر والذوق إلى غير ذلك وهو كما ترى.
وإفراد السمع باعتبار أنه مصدر في الأصل، وقيل: إنما أفرد وجمع الأبصار للإشارة إلى أن من مدركاته نوع واحد ومدركات البصر أكثر من ذلك وتقديمه لما أنه طريق تلقي الوحي أو لأن إدراكه من إدراك البصر، وقيل: لأن مدركاته أقل من مدركاته، والخلاف في الأفضل منهما شهير وقد مر، وتقديمها على الأفئدة المشار بها إلى العقل لتقدم الظاهر على الباطن أو لأن لهما مدخلًا في إدراكه في الجملة بل هما من خدمه والخدم تتقدم بين يدي السادة، وكثير من السنن أمر بتقديمه على فروض العبادة أو لأن مدركاتهما أقل قليل بالنبة إلى مدركاته كيف لا ومدركاته لا تكاد تحصى وإن قيل: إن للعقل حدًا ينتهي إليه كما أن للبصر حدًا كذلك، واستأنس بعضهم بذكر ما يشير إليه فقط دون ضم ما يشير إلى سائر المشاعر الباطنة إليه لنفي الحواس الخمس الباطنة التي أثبتها الحكماء بما لا يخلو عن كدر، وتفصيل الكلام في محله {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} كي تعرفوا ما أنعم سبحانه به عليكم طورًا غب طور فتشكروه، وقيل: المعنى جعل ذلك كي تشكروه تعالى باستعمال ما ذكر فيما خلق لأجله.