فصل: تفسير الآية رقم (94):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (94):

{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)}
{قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الاخرة} رد لدعوى أخرى لهم بعد رد دعوى الإيمان بما أنزل عليهم ولاختلاف الغرض لم يعطف أحدهما على الآخر مع ظهور المناسبة المصححة للذكر، والآية نزلت فيما حكاه ابن الجوزي عندما قالت اليهود: إن الله تعالى لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وبنيه. وقال أبو العالية والربيع: سبب نزولها قولهم: {لَن يَدْخُلَ الجنة} [البقرة: 111] إلخ و{نَحْنُ أَبْنَاء الله} [المائدة: 18] إلخ و{لَن تَمَسَّنَا النار} [البقرة: 80] إلخ، وروي مثله عن قتادة. والضمير في {قُلْ} إما للنبي صلى الله عليه وسلم أو لمن يبغي إقامة الحجة عليهم، والمراد من {الدار الآخرة} الجنة وهو الشائع واستحسن في البحر تقدير مضاف أي: نعيم الدار الآخرة.
{عَندَ الله} أي في حكمه، وقيل: المراد بالعندية المكانة والمرتبة والشرف، وحملها على عندية المكان كما قيل به احتمالًا بعيد {خَالِصَةً مّن دُونِ الناس} أي مخصوصة بكم كما تزعمون والخالص الذي لا يشوبه شيء، أو ما زال عنه شوبه، ونصب {خالصة} على الحال من الدار الذي هو اسم {كان} و{لكم} خبرها قدم للاهتمام أو لإفادة الحصر وما بعده للتأكيد، هذا إن جوّز مجيء الحال من اسم {كان} وهو الأصح، ومن لم يجوّز بناءً على أنه ليس بفاعل جعلها حالًا من الضمير المستكن في الخبر، وقيل: {خالصة} هو الخبر و{لكم} ظرف لغو لكان أو لخالصة ولا يخفى بعده فإنه تقييد للحكم قبل مجيئه ولا وجه لتقديم متعلق الخبر على الاسم مع لزوم توسط الظرف بين الاسم والخبر، وأبعد المهدوي وابن عطية أيضًا فجعلا {خالصة} حالًا و{عند الله} هو الخبر، مع أن الكلام لا يستقل به وحده. و{دون} هنا للاختصاص وقطع الشركة، يقال: هذا لي دونك، وأنت تريد لا حق لك فيه معي ولا نصيب، وهو متعلق بخالصة والمراد بالناس الجنس وهو الظاهر، وقيل: المراد بهم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وقيل: النبي صلى الله عليه وسلم وحده قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قالوا: ويطلق الناس ويراد به الرجل الواحد، ولعله لا يكون إلا مجازًا بتنزيل الواحد منزلة الجماعة.
{فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صادقين} في أن الجنة خالصة لكم، فإن من أيقن أنه من أهل الجنة اختار أن ينتقل إلى دار القرار، وأحب أن يخلص من المقام في دار الأكدار، كما روي عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أنه كان يطوف بين الصفين في غلالة، فقال له الحسن: ما هذا بزي المحاربين، فقال: يا بني لا يبالي أبوك سقط على الموت، أم سقط عليه الموت وكان عبد الله بن رواحة ينشد وهو يقاتل الروم:
يا حبذا الجنة واقترابها

طيبة وبارد شرابها

والروم روم قد دنا عذابها

وقال عمار بصفين:
غدًا نلقي الأحبة ** محمدًا وصحبه

وروي عن حذيفة أنه كان يتمنى الموت، فلما احتضر قال: حبيب جاء على فاقة. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه لما بلغه قتل من قتل ببئر معونة قال: «يا ليتني غودرت معهم في لحف الجبل» ويعلم من ذلك أن تمني الموت لأجل الاشتياق إلى دار النعيم ولقاء الكريم غير منهي عنه، إنما المنهي عنه تمنيه لأجل ضر أصابه فإنه أثر الجزع وعدم الرضا بالقضاء وفي الخبر: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، وإن كان ولابد فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وأمتني ما كانت الوفاة خيرًا لي» والمراد بالتمني قول الشخص: ليت كذا، وليت من أعمال القلب أو الاشتهاء بالقلب ومحبة الحصول مع القول، فمعنى الآية سلوا الموت باللسان قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو اشتهوه بقلوبكم وسلوه بألسنتكم قاله قوم وعلى التقديرين الأمر بالتمني حقيقة، واحتمال أن يكون المراد تعرضوا للموت ولا تحترزوا عنه كالمتمني فحاربوا من يخالفكم ولا تكونوا من أهل الجزية والصغار، أو كونوا على وجه يكون المتمنون للموت المشتهون للجنة عليه من العمل الصالح مما لا تساعده الآثار، فقد أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما موقوفًا: «لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه» وأخرج البيهقي عنه مرفوعًا «لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه» والبخاري مرفوعًا عنه أيضًا: «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا» وقرأ ابن أبي إسحاق: {فَتَمَنَّوُاْ الموت} بكسر الواو وحكى الحسن بن إبراهيم عن أبي عمرو فتحها وروي عنه أيضًا اختلاس ضمتها.

.تفسير الآية رقم (95):

{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)}
{وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} الظاهر أنه جملة مستأنفة معترضة غير داخلة تحت الأمر سيقت من جهته تعالى لبيان ما يكون منهم من الإحجام الدال على كذبهم في دعواهم، والمراد لن يتمنوه ما عاشوا، وهذا خاص بالمعاصرين له صلى الله عليه وسلم على ما روي عن نافع رضي الله تعالى عنه قال: خاصمنا يهودي وقال: إن في كتابكم {فَتَمَنَّوُاْ الموت} إلخ، فأنا أتمنى الموت، فمالي لا أموت، فسمع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فغضب، فدخل بيته وسل سيفه وخرج، فلما رآه اليهودي فرّ منه، وقال ابن عمر: أما والله لو أدركته لضربت عنقه، توهم هذا الكلب اللعين الجاهل أن هذا لكل يهودي أو لليهود في كل وقت لا إنما هو لأولئك الذين كانوا يعاندون ويجحدون نبوّة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عرفوا، وكانت المحاجة معهم باللسان دون السيف. ويؤيد هذا ما أخرج ابن جرير عن ابن عباس موقوفًا: «لو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات» وهذه الجملة إخبار بالغيب ومعجزة له صلى الله عليه وسلم، وفيها دليل على اعترافهم بنبوّته صلى الله عليه وسلم لأنهم لو لم يتيقنوا ذلك ما امتنعوا من التمني، وقيل: لا دليل، بل الامتناع كان بصرف الصرفة كما قيل في عدم معارضة القرآن، والقول بأنه كيف يكون ذلك معجزة مع أنه لا يمكن أن يعلم أنه لم يتمن أحد، والتمني أمر قلبي لا يطلع عليه، مجاب عنه بأنا لا نسلم أن المراد بالتمني هنا الأمر القلبي، بل هو أن يقول: ليت كذا ونحوه كما مر آنفًا، ولو سلم أنه أمر قلبي فهذا مذكور على طريق المحاجة وإظهار المعجزة فلا يدفع إلا بالإظهار والتلفظ كما إذا قال رجل لامرأته: أنت طالق إن شئتِ أو أحببت، فإنه يعلق بالإخبار لا بالإضمار، فحيث ثبت عدم تلفظهم بالإخبار، وبأنه لو وقع لنقل واشتهر لتوفر الدواعي إلى نقله لأنه أمر عظيم يدور عليه أمر عظيم يدور عليه أمر النبوّة، فإنه بتقدير عدمه يظهر صدقه، وبتقدير حصوله يبطل القول بنبوته ثبت كونه معجزة أيده بها ربه، ومن حمل التمني على المجاز لا يرد عنده هذا السؤال، ولا يحتاج إلى هذا الجواب، وقد علمت ما فيه. وذهب جمهور المفسرين إلى عموم حكم الآية لجميع اليهود في جميع الأعصار، ولست ممن يقول بذلك وإن ارتضاه الجم الغفير، وقالوا: إنه المشهور الموافق لظاهر النظم الكريم، اللهم إلا أن يكون ذلك بالنسبة إلى جميع اليهود المعتقدين نبوّته صلى الله عليه وسلم الجاحدين لها في جميع الأعصار لا بالنسبة إلى اليهود مطلقًا في جميعها ومع هذا لي فيه نظر بَعدُ.
{ا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي بسبب ما عملوا من المعاصي الموجبة للنار كالكفر حمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وقتل الأنبياء، وما موصولة، والعائد محذوف أو مصدرية ولا حذف، واليد كناية عن نفس الشخص، ويكنى بها عن القدرة أيضًا لما أنها من بين جوارح الإنسان مناط عامة صنائعه ومدار أكثر منافعه، ولا يجعل الإسناد مجازيًا؛ واليد على حقيقتها فيكون المعنى بما قدموا بأيديهم كتحريف التوراة ليشمل ما قدموا بسائر الأعضاء، وهو أبلغ في الذم.
{والله عَلِيمٌ بالظالمين} تذييل للتهديد والتنبيه على أنهم ظالمون في ادعاء ما ليس لهم ونفيه عن غيرهم، والمراد بالعلم إما ظاهر معناه، أو أنه كنى به عن المجازاة، وأل إما للعهد وإيثار الإظهار على الإضمار للذم، وإما للجنس فيدخل المعهودون فيه على طرز ما تقدم.

.تفسير الآية رقم (96):

{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ زَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بما يَعْمَلُونَ (96)}
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتجد من وجد بعقله عنى علم المتعدية إلى مفعولين، والضمير مفعول أول، و{أحرص} مفعول ثان، واحتمال أنها من وجد عنى لقي وأصاب فتتعدى إلى واحد، و{أحرص} حال لا يتأتى على مذهب من يقول إن إضافة أفعل محضة كما سيأتي، والضمير عائد على اليهود الذين أخبر عنهم بأنهم لا يتمنون الموت، وقيل: على جميعهم، وقيل: على علماء بني إسرائيل وأل في الناس للجنس، وهو الظاهر، وقيل: للعهد، والمراد جماعة عرفوا بغلبة الحرص عليهم، وتنكير {حياة} لأنه أريد بها فرد نوعي، وهي الحياة المتطاولة، فالتنوين للتعظيم، ويجوز أن يكون للتحقير فإن الحياة الحقيقية هي الأخروية و{إنٍ الدار الاخرة لَهِىَ الحيوان} [العنكبوت: 64] ويجوز أن يكون التنكير للإبهام، بل قيل: إن الأوجه أي على حياة مبهمة غير معلومة المقدار، ومنه يعلم حرصهم على الحياة المتطاولة من باب الأولى وجوز أبو حيان أن يكون الكلام على حذف مضاف أو صفة أي طول حياة أو حياة طويلة، وأنت تعلم أنه لا يحتاج إلى ذلك، والجملة إما حال من فاعل {قل} [البقرة: 94] وعليه الزجاج وإما معترضة لتأكيد عدم تمنيهم الموت، وقرأ أبيّ {على الحياة} بالألف واللام.
{وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} هم المجوس ووصفوا بالإشراك لأنهم يقولون بالنور والظلمة وكانت تحيتهم إذا عطس العاطس عش ألف سنة، وقيل: مشركو العرب الذين عبدوا الأصنام وهذا من الحمل على المعنى كأنه قال: أحرص من الناس ومن الذين إلخ. بناءً على ما ذهب إليه ابن السراج وعبد القاهر والجزولي وأبو علي من أن إضافة أفعل المضاف إذا أريد الزيادة على ما أضيف إليه لفظية لأن المعنى على إثبات من الابتدائية، والجار والمجرور في محل نصب مفعوله، وسيبويه يجعلها معنوية بتقدير اللام، والمرد بالناس على هذا التقدير ما عدا اليهود لما تقرر أن المجرور بمن مفضول عليه بجميع أجزائه أو الأعم ولا يلزم تفضيل الشيء على نفسه لأن أفعل ذو جهتين ثبوت أصل المعنى والزيادة فكونه من جملتهم بالجهة الأولى دون الثانية وجيء بمن في الثانية لأن من شرط أفعل المراد به الزيادة على المضاف إليه أن يضاف إلى ما هو بعضه لأنه موضوع لأن يكون جزءًا من جملة معينة بعده مجتمعة منه ومن أمثاله، ولا شك أن اليهود غير داخلين في الذين أشركوا فإن الشائع في القرآن ذكرهما متقابلين، ويجوز أن يكون ذلك من باب الحذف أي وأحرص من الذين وهو قول مقاتل؛ ووجه الآية على مذهب سيبويه، وعلى التقديرين ذكر المشركين تخصيص بعد التعميم على الوجه الظاهر في اللام لإفادة المبالغة في حرصهم والزيادة في توبيخهم وتقريعهم حيث كانوا مع كونهم أهل كتاب يرجون ثوابًا ويخافون عقابًا، أحرص ممن لا يرجو ذلك، ولا يؤمن بعث ولا يعرف إلا الحياة العاجلة، وإنما كان حرصهم أبلغ لعلمهم بأنهم صائرون إلى العذاب، ومن توقع شرًا كان أنفر الناس عنه، وأحرصهم على أسباب التباعد منه.
ومن الناس من جوّز كون {من الذين} صفة لمحذوف معطوف على الضمير المنصوب في {لتجدنهم} والكلام على التقديم والتأخير، أي: لتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس ولا أظن يقدم على مثل ذلك في كتاب الله تعالى من له أدنى ذوق، لأنه وإن كان معنى صحيحًا في نفسه إلا أن التركيب ينبو عنه، والفصاحة تأباه، ولا ضرورة تدعو إليه لاسيما على قول من يخص التقديم والتأخير بالضرورة، نعم يحتمل أن يكون هناك محذوف هو مبتدأ والمذكور صفته، أو المذكور خبر مبتدأ محذوف صفته.
{أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} وحذف موصوف الجملة فيما إذا كان بعضًا من سابقه المجرور بمن أو في جائز في السعة، وفي غيره مختص بالضرورة نحو:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

وحينئذٍ يراد بالذين أشركوا اليهود لأنهم قالوا عزير ابن الله ووضع المظهر موضع المضمر نعيًا عليهم بالشرك، وجوّز بعضهم أن يراد بذلك الجنس، ويراد بمن يود أحدهم اليهود، والمراد كل واحد منهم وهو بعيد وجملة {يَوَدُّ} إلخ، على الوجهين الأولين مستأنفة، كأنه قيل: ما شدة حرصهم، وقيل: حال من {الذين} أو من ضمير {أشركوا} أو من الضمير المنصوب في {لتجدنهم}.
{أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} جواب {لَوْ} محذوف أي لسر بذلك وكذا مفعول {يَوَدُّ} أي طول الحياة، وحذف لدلالة {لَوْ يُعَمَّرُ} عليه كما حذف الجواب لدلالة {يَوَدُّ} عليه، وهذا هو الجاري على قواعد البصريين في مثل هذا المكان، وذهب بعض الكوفيين في مثل ذلك إلى أن {لَوْ} مصدرية عنى أن فلا يكون لها جواب، وينسبك منها مصدر هو مفعول {يَوَدُّ} كأنه قال: يود أحدهم تعمير ألف سنة، وقيل: {لَوْ} عنى ليت ولا يحتاج إلى جواب والجملة محكية بيود في موضع المفعول، وهو وإن لم يكن قولًا ولا في معناه لكنه فعل قلبي يصدر عنه الأقوال فعومل معاملتها، وكان أصله لو أعمر إلا أنه أورد بلفظ الغيبة لأجل مناسبة {يَوَدُّ} فإنه غائب، كما يقال: حلف ليفعلن مقام لأفعلن وهذا بخلاف ما لو أتى بصريح القول، فإنه لا يجوز قال: ليفعلن، وإذا قلنا: إن لو التي للتمني مصدرية لا يحتاج إلى اعتبار الحكاية، وابن مالك رضي الله تعالى عنه يقول: إن لو في أمثال ذلك مصدرية لا غير، لكنها أشبهت ليت في الإشعار بالتمني، وليست حرفًا موضوعًا له كليت ونحو لو تأتيني فتحدثني بالنصب أصله وددت لو تأتيني إلخ، فحذف فعل التمني لدلالة لو عليه، وقيل: هي لو الشرطية أشربت معنى التمني، ومعنى {أَلْفَ سَنَةٍ} الكثرة ليشمل من {يود} أن لا يموت أبدًا، ويحتمل أن يراد ألف سنة حقيقة والألف العدد المعلوم من الألفة، إذ هو مؤلف من أنواع الأعداد بناءً على متعارف الناس، وإن كان الصحيح أن العدد مركب من الوحدات التي تحته لا الأعداد وأصل {سنة} سنوة، لقولهم: سنوات، وقيل: سنهة كجبهة لقولهم: سانهته، وتسنهت النخلة إذا أتت عليها السنون، وسمع أيضًا في الجمع سنهات.
{وَمَا هُوَ زَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ} {مَا} حجازية أو تميمية، وهو ضمير عائد إلى {أَحَدِهِمْ} اسمها أو مبتدأ و{زَحْزِحِهِ} خبرها أو خبره والباء زائدة، و{أَن يُعَمَّرَ} فاعل {مزحزحه} والمعنى ما أحدهم يزحزحه من العذاب تعميره وفيه إشارة إلى ثبوت من يزحزحه التعمير وهو {من آمن وعمل صالحًا} ولا يجوز عند المحققين أن يكون الضمير المرفوع للشأن لأن مفسره جملة، ولا تدخل الباء في خبر {مَا} وليس إلا إذا كان مفردًا عند غير الفراء، وأجاز ذلك أبو علي، وهو ميل منه إلى مذهب الكوفيين من أن مفسر ضمير الشأن يجوز أن يكون غير جملة إذا انتظم إسنادًا معنويًا نحو ما هو بقائم زيد؛ نعم جوّزوا أن يكون لما دل عليه {يُعَمَّرُ} و{أَن يُعَمَّرَ} بدل منه، أي: ما تعميره زحزحه من العذاب واعترض بأن فيه ضعفًا للفصل بين البدل والمبدل منه، وللإبدال من غير حاجة إليه، وأجاب بعض المحققين أنه لما كان لفظ التعمير غير مذكور، بل ضميره حسن الإبدال؛ ولو كان التعمير مذكورًا بلفظه لكان الثاني تأكيدًا لا بدلًا ولكونه في الحقيقة تكريرًا يفيد فائدته من تقرير المحكوم عليه اعتناءً بشأن الحكم بناءً على شدة حرصه على التعمير ووداده إياه جاز الفصل بينه وبين المبدل منه بالخبر، كما في التأكيد في قوله تعالى: {وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون} [هود: 19] وقيل: هو ضمير مبهم يفسره البدل فهو راجع إليه لا إلى شيء متقدم مفهوم من الفعل، والتفسير بعد الإبهام ليكون أوقع في نفس السامع، ويستقر في ذهنه كونه محكومًا عليه بذلك الحكم والفصل بالظرف بينه وبين مفسره جائز كما يفهمه كلام الرضي في بحث أفعال المدح والذم واحتمال أن يكون هو ضمير فصل قدم مع الخبر بعيد والزحزحة التبعيد، وهو مضاعف من زح يزح زحًا، ككبكب من كب وفيه مبالغة لكنها متوجهة إلى النفي على حد ما قيل: {وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] فيؤول إلى أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير التعمير، وصح ذلك مع أن التعمير يفيد رفع العذاب مدة البقاء، لأن الإمهال بحسب الزمان وإن حصل، لكنهم لاقترافهم المعاصي بالتعمير زاد عليهم من حيث الشدة فلم يؤثر في إزالته أدنى تأثير بل زاد فيه حيث استوجبوا قابلة أيام معدودة عذاب الأبد.
{والله بَصِيرٌ بما يَعْمَلُونَ} أي عالم بخفيات أعمالهم فهو مجازيهم لا محالة وحمل البصر على العلم هنا وإن كان عنى الرؤية صفة لله تعالى أيضًا لأن بعض الأعمال لا يصح أن يرى على ما ذهب إليه بعض المحققين وفي هذه الجملة من التهديد والوعيد ما هو ظاهر، وما إما موصولة أو مصدرية، وأتى بصيغة المضارع لتواخي الفواصل، وقرأ الحسن وقتادة والأعرج ويعقوب {تَعْمَلُونَ} بالتاء على سبيل الالتفات.