فصل: تفسير الآية رقم (82):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (82):

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)}
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} فعل ماض على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة وتوجيه الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسلية له عليه الصلاة والسلام أي فإن داموا على التولي والإعراض وعدم قبول ما ألقي إليهم من البينات {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين} أي فلا يضرك لأن وظيفتك هي البلاغ الموضح أو الواضح وقد فعلته بما لا مزيد عليه فهو من باب وضع السبب موضع المسبب، وقال ابن عطية: تقدير المعنى إن أعرضوا فلست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم فإنما عليك البلاغ لا خلق الإيمان، وجوز أن يكون {تَوَلَّوْاْ} مضارعًا حذفت إحدى تاءيه وأصله تتولوا فلا التفات لكن قيل عليه: إنه لا يظهر حينئذ ارتباط الجزاء بالشرط إلا بتكلف ولذا لم يلتفت إليه بعض المحققين، وفي التعبير بصيغة التفعيل إشارة كما قيل إلى أن الفطرة الأولى داعية إلى الإقبال على الله تعالى والإعراض لا يكون إلا بنوع تكلف ومعالجة.

.تفسير الآية رقم (83):

{يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)}
{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله} استئناف لبيان أن تولي المشركين وإعراضهم عن الإسلام ليس لعدم معرفتهم نعمة الله سبحانه أصلًا فإنهم يعرفونها أن من الله تعالى: {ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} بأفعالهم حيث لم يفردوا منعمها بالعبادة فكأنهم لم يعبدوه سبحانه أصلًا وذلك كفران منزل منزلة الإنكار.
وأخرج ابن جرير. وغيره عن مجاهد أنه قال: إنكارهم إياها قولهم: ورثناها من آبائنا، وأخرج هو وغيره أيضًا عن عون بن عبد الله أنه قال: إنكارهم إياها أن يقول الرجل: لولا فلان أصابني كذا وكذا ولولا فلان لم أصب كذا وكذا وفي لفظ إنكارها إضافتها إلى الأسباب، وقيل: قولهم هي بشفاعة آلهتهم عند الله تعالى، وحكى صاحب الغنيان يعرفونها في الشدة ثم ينكرونها في الرخاء، وقيل: يعرفونها بقلوبهم ثم ينكرونها بألسنتهم.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن السدي أنه قال النعمة هنا محمد صلى الله عليه وسلم ورجح ذلك الطبري أي يعرفون أنه عليه الصلاة والسلام نبي بالمعجزات ثم ينكروه ذلك ويجحدونه عنادًا، وفي لفظ ابن أبي حاتم أنه قال هذا في حديث أبي جهل والأخنس حين سأل الأخنس أبا جهل عن محمد صلى الله عليه وسلم فقال: هو نبي.
ومعنى {ثُمَّ} الاستبعاد الإنكار بعد المعرفة لأن حق من عرف النعمة الاعتراف بها وأداء حقها لا إنكارها، وإسناد المعرفة والإنكار المتفرع عليها إلى ضمير المشركين على الإطلاق من باب حال البعض إلى الكل فإن بعضهم ليسوا كذلك كما هو ظاهر قوله سبحانه: {وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون} أي المنكرون بقلوبهم غير المعترفين بما ذكر، والحكم عليهم طلق الكفر المئذن بالكمال من حيث الكمية لا ينافي كمال الفرقة الأولى من حيث الكيفية كذا قيل، وجوز أن يكون الإسناد السالف على ظاهره والمراد أن أكثرهم المصرون الثابتون على كفرهم إلى يوم يلقونه فالتعبير بالأكثر لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن، وقيل: المعنى وأكثرهم الجاحدون عنادًا، والتعبير بالأكثر إما لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان عقله وعدم اهتدائه إليه أو لعدم نظره في الأدلة نظرًا يؤدي إلى المطلوب أو لأنه لم يقم عليه الحجة لكونه لم يصل إلى حد المكلفين لصغر ونحوه وإما لأنه يقام مقام الكل فتأمل.

.تفسير الآية رقم (84):

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)}
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمَّةٍ} جماعة من الناس {شَهِيدًا} يثشهد لهم بالإيمان والطاعة وعليهم بالكفر والعصيان، والمراد به كما روى ابن المنذر. وغيره عن قتادة نبي تلك الأمة {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي في الاعتذار كما قال سبحانه: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35، 36] والظاهر أنهم يستأذنون في ذلك فلا يؤذن لهم، ويحتمل أنهم لا استئذان منهم ولاإذن إلا لا حجة لهم حتى تذكر ولا عذر حتى يعتذر، وقال أبو مسلم: المعنى لا يسمع كلامهم بعد شهادة الشهداء ولا يلتفت إليه كما في قول عدي بن زيد:
في سماع يأذن الشيخ له ** وحديث مثل ماذي مشار

وقيل: لا يؤذن لهم في الرجوع إلى دار الدنيا، والأول مروي عن ابن عباس وأبي العالية وثم للدلالة على أن ابتلاءهم بعدم الإذن المنبئ عن الاقناط الكلي وذلك عندما يقال لهم: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108] أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم السلام فهي للتراخي الرتبي {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي لا يطلب منهم أن يزيلوا عتب ربهم أي غضبه بالتوبة والعمل الصالح إذ الآخرة دار الجزاء لا دار العمل والرجوع إلى الدنيا مما لا يكون، وقول الزمخشري: أي لا يقال لهم ارضوا ربكم تفسير باللازم، وقيل: المعنى ولا يطلب رضاهم في أنفسهم بالتلطف بهم من استعتبه كأعتبه إذا أعطاه العتبي وهي الرضا وأيًا ما كان فالمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، وانتصاب الظرف على ما قال الحوفي. وغيره حذوف تقديره اذكر وقدره بعضهم خوفهم وهو في ذلك مفعول به، وقيل: وهو نصب على الظرفية حذوف أي يوم نبعث يحيث بهم ما يحيق، وقال الطبري: هو معطوف على ظرف محذوف العالم فيه ينكرونها أي ثم ينكرونها اليوم ويوم نبعث من كل أمة شهيدًا فيشهد عليهم ويكذبهم وليس بشيء وتجري هذه الاحتمالات في قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (85):

{وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)}
{وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب} أي الذين يستوجبونه بظلمهم وهو عذاب جهنم، والمراد من الذين ظلموا الذين كفروا وكان الظاهر الضمير إلا أنه أقيم المظهر مقامه للنعي عليهم بما ذكر في حيز الصلة وتعليق الرؤية بالعذاب للمبالغة، وقيل: المراد به جهنم نفسها مجازًا، ويراد بضميره في قوله تعالى: {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ} معناه الحقيقي على سبيل الاستخدام وليس بذاك وهذه الجملة قيل: مستأنفة، وقيل: جواب إذا بتقدير فهو لا يخفف لأن المضارع مثبتًا كان أو منفيًا إذا وقع جواب إذا لا يقترن بالفاء، واستظهره ذلك أبو حيان ونقل عن الحوفي القول بأنه جواب وأنه العامل في {إِذَا} ثم قال: وقد تقدم لنا أن ما تقدم فاء الجواب في الجواب في غير أما لا يعمل فيما قبله وبينا أن العامل في {إِذَا} ثم قال: وقد تقدم لنا أن ما تقدم فاء الجواب في غير أما لا يعمل فيما قبله وبينا أن العامل في {إِذَا} الفعل الذي يليلها كسائر أدوات الشرط وإن كان ليس قول الجمهور تعقب الخفاجي القول بالجوابية بأنه محتاج إلى ما سمعت من التقدير وهو مع كونه خلاف الأصل مناف للغرض في تغاير الجملتين في النظم يعني قوله تعالى: {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب} وقوله سبحانه: {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي يمهلون وهو أن عدم التخفيف واقع بعد رؤية العذاب فلذا لم يؤت بجملة اسمية بخلاف عدم الإمهال فإنه ثابت لهم في تلك الحالة اه.
وفي كلام الزمخشري كما في الكشف إشعار بأن الناصب المحذوف لإذا بغتهم وإنه هو الجواب حيث قال بعد أن بين وجه انتصاب اليوم وكذلك إذا رأوا العذاب بغتهم وثقل عليهم فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون كقوله تعالى: {بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ} [الأنبياء: 40] الآية، وفيه إشعار أيضًا بأن عدم التخفيف والأنظار يدل على أثقاله ومباغتته كما صرح به الآية الأخرى حيث أبت الإتيان بغتة والبهت هو الأثقال وزيادة ورتب عليه {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} [الأنبياء: 40] ومثل هذه الفاء فصيحة عندهم فافهم، وفي «التفسير الكبير» قال المتكلمون إن العذاب يجب أن يكون خالصًا عن شوائب النفع وهو المراد بقوله تعالى: {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ} ويجب أن يكون دائميًا وهو المراد من قوله سبحانه: {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} وفيه نظر.

.تفسير الآية رقم (86):

{وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)}
{وَإِذَا رَءا الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءهُمْ} الذين كانوا يزعمونهم شركاء لله سبحانه وتعالى ويعبدونهم معه عز وجل؛ والمراد بهم كل من اتخذوه شريكًا له جل وعلا من صنم ووثن وشيطان وآدمي وملك وإضافتهم إلى ضمير المشركين لهذا الاتخاذ، وقيل: أريد بهم معبوداتهم الباطلة كما تقدم، والإضافة إليهم لأنهم جعلوا لهم نصيبًا من أموالهم وأنعامهم، واقتصر بعضهم على الأصنام ولعل التعميم أولى، وقال الحسن: شركاؤهم الشياطين شركوهم في الأموال والأولاد، وقيل: شركوهم في الكفر أي كفروا مثل كفرهم، وقيل: شركوهم في وبال ذلك حيث حملوهم عليه {قَالُواْ} أي بألسنتهم وقيل: ختم الله تعالى على أفواههم وأنطق جوارحهم فقالت عنهم {رَبَّنَا هَؤُلآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ} أي نعبدهم ونطيعهم ولعلهم قالوا ذلك طمعًا في توزيع العذاب بينهم. واعترض بأنه لا يناسب تفسير الشركاء بالأصنام وفيه أنها تجيء على حالة يعقل معها عذابها فلا بأس في ذلك سواء فسرت الشركاء بالأصنام فقط أو بما يعمها وغيرها، وقال أبو مسلم: مقصودهم من ذلك إحالة الذنب على الشركاء طنًا منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب الله تعالى أو ينقص من عذابهم شيئًا.
وتعقبه القاضي بأنه بعيد لأن الكفار يعلمون علمًا ضروريًا في الآخرة أن العذاب سينزل بهم ولا نصرة ولا فدية ولا شفاعة، وأورد نحوه على ما ذكرنا بناء على أنهم يعلمون علمًا ضروريًا أيضًا أنه لا يحمل أحد من عذابهم شيئًا.
وأجيب بأنه على تقدير تسليم حصول العلم الضروري لهم بذلك إذ ذاك يجوز أن يدهشوا فيغفلوا عن ذلك فيقولوا ما يقولون طامعين فيما ذكر وهو نظير قولهم: {يخفف عنا يومًا من العذاب} [غافر: 49] {يا مالك ليقض علينا ربك} [الزخرف: 77] {ربنا أخرجنا نعمل صالحًا} [فاطر: 37] إلى غير ذلك مما لهم علم ضروري عند بعضهم بأنه لا يكون. وقيل: إن القوم مع علمهم بأن ما يرجونه ويطمعون فيه لا يحصل لهم أصلًاوعدم غفلتهم عن ذلك تغلبهم أنفسهم قتضى الطبيعة لشدة ما هم فيه والعياذ بالله تعالى حتى تعلق آمالها بالمحال، وقيل: قالوا ذلك اعترافًا بأنهم كانوا مخطئين في عبادتهم. وتعقب بأنه لا يناسب قوله تعالى: {مِن دُونِكَ} وفيه تأمل. نعم قوله تعالى: {فَأَلْقَوُاْ} أي شركاؤهم {إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لكاذبون} أظهر ملاءمة للأول فإن تكذيبهم إياهم فيما قالوا ظاهر في كونه للمدافعة والتخلص عن غائلة مضمونه والظاهر أن التكذيب راجع إلى دعوى أنهم كانوا يعبدونهم أو يطيعونهم من دون الله تعالى ومرادهم على ما قيل: إنكم ما عبدتمونتا حقيقة وإنما عبدتم أشياء تصورتموها بأذهانكم الفاسدة وزعمتم أنا هاتيك الأشياء وهيهات هيهات ليس بيننا وبينها جهة جامعة ولا علاقة نافعة، وقيل: إنما كذبوهم وقد كانوا يعبدونهم لأن الأوثان ما كانوا راضين بعبادتهم لهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة لهم كما قالت الملائكة عليهم السلام: {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} [سبأ: 41] يعنون أن الجن هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لا نحن، والشياطين وإن كانوا راضين بعبادتهم لهم لكنهم لم يكونوا حاملين لهم على وجه القسر والالجاء كما قال إبليس: {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى} [إبراهيم: 22] فكأنهم قالوا: ما عبدتمونا حقيقة وإنما عبدتم أهواءكم، وقيل: يجوز أن يكون الشياطين كاذبين في أخبارهم بكذب من عبدهم كما كذب إبليس عليه اللعنة في قوله: {إِنّى كَفَرْتُ بما أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} [إبراهيم: 22] وجوز أن يكون التكذيب راجعًا إلى أنهم شركاء لله سبحانه لا إلى أنهم كانوا يعبدونهم ومرادهم تنزيه الله جل وعلا عن الشريك في ذلك الموقف، وخص هذا بعضهم بتقدير إرادة الشياطين من الشركاء فافهم، والظاهر أن قائل هذا جميع الشركاء ولا يمنع من ذلك تفسيره بما يعم الأصنام إذ لا بعد في أن ينطقها الله تعالى الذي أنطق كل شيء بذلك، وجوز على التعميم أن يكون القائل بعضهم وهو من يعقل منهم؛ وكان الظاهر فقالوا لهم أنكم لكاذبون إلا أنه عدل إلى ما في «النظم الكريم» للإشارة إلى أنهم قالوا ذلك لهم على وجه الإفصاح بحيث يدرك ويمتاز عن غيره، وفيه من الإشعار بالحرص على تكذيبهم ما فيه، ويؤيد ذلك تأكيدهم الجملة الدالة على تكذيبهم أتم تأكيد، وهي في موضع البدل من القول كما قال الإمام أي ألقوا إليهم أنكم لكاذبون.

.تفسير الآية رقم (87):

{وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)}
{وَأَلْقَوْاْ} أي الذين أشركوا، وقيل: هم وشركاؤهم جميعًا، والأكثرون على الأول {إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم} الاستسلام الانقياد لحكمه تعالى العزيز الغالب بعد الإباء والاستكبار في الدنيا فلم يكن لهم إذا ذاك حيلة ولا دفع. وروى يعقوب عن أبي عمرو أنه قرأ {السلام} بإسكان اللام، قرأ مجاهد السلم بضم السين واللام {وَضَلَّ عَنْهُم} ضاع وبطل {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من أن لله سبحانه شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين سمعوا ما سمعوا.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 54] بنسبة ذلك إلى غيره سبحانه ورؤيته منه {لِيَكْفُرُواْ بما ءاتيناهم} من النعمة بالغفلة عن منعها {فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 55] وبال ذلك أو فسوف تعلمون بظهور التوحيد أن لا تأثير لغيره تعالى في شيء {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} فيعتقدون فيه من الجهالات ما يعتقدون وهو السوي {نَصِيبًا مّمَّا رزقناهم} [النحل: 56] فيقولون هو أعطاني كذا ولو لم يعطني لكان كذا {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الانعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] الإشارة فيه على ما في أسرار القرآن إلى ما تشربه الأرواح مما يحصل في العقول الصافية بين النفس والقلب من زلال بحر المشاهدة وهناك منازل اعتبار المعتبرين، والإشارة في قوله تعالى: {وَمِن ثمرات النخيل والاعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] على ما فيه أيضًا إلى ما تتخذه الأرواح والأسرار من ثمرات نخيل القلوب وأعناب العقول من خمر المحبة والانس الآخذة بها إلى حضيرة القدس:
ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت ** لعادت إليه الروح وانتعش الجسم

{وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} قيل أي نحل الأرواح {أَنِ اتخذى مِنَ الجبال} أي جبال أنوار الذات {بُيُوتًا} مقار لتسكنين فيها {وَمِنَ الشجر} أي ومن أشجار أنوار الصفات {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68] أنوار عروش الأفعال {ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثمرات} أي من ثمرات تلك الأشجار الصفاتية ونور بهاء الأنوار الذاتية وأزهار الأنوار الأفعالية {فاسلكى سُبُلَ رَبّكِ} وهي صحارى قدسه تعالى وبراري جلاله جل شأنه {ذُلُلًا} منقادة لما أمرت به {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ} وهو شراب معرفته تعالى بقدم جلاله وعز بقائه وتقدس ذاته سبحانه: {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} باختلاف الثمرات {فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ} [النحل: 69] لكل مريض المحبة وسقيم الألفة ولديغ الشوق، وقيل: الإشارة بالنحل إلى الذين هم في مبادئ السلوك من أرباب الاستعداد، ومن هنا قال الشيخ الأكبر قدس سره في مولانا ابن الفارض قدس سره حين سئل عنه: نحلة تدندن حول الحمى أمرهم الله تعالى أولًا أن يتخذوا مقار من العقائد الدينية التي هي كالجبال في الرسوخ والثبات ومن العبادات الشرعية التي هي كالشجر في التشعب ومن المعاملات المرضية التي هي كالعروض في الارتفاع ثم يسلكوا سبله سبحانه وطرقه الموصلة إليه جل شأنه من تهذيب الباطن والمراقبة والفكر ونحو ذلك متذللين خاضعين غير معجبين، وفي ذلك إشارة إلى أن السلوك إنما يصح بعد تصحيح العقائد ومعرفة الأحكام الشرعية ليكون السالك على بصيرة في أمره وإلا فهو كمن ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء، ومتى سلك على ذلك الوجه حصل له الفوز بالمطلوب وتفجرت ينابيع الحكمة من قلبه وصار ما يقذف به قلبه كالعسل شفاء من علل الشهوات وأمراض النفس لاسيما مرض التثبط والتكاسل عن العبادة وهو المرض البلغمي.
وقال أبو بكر الوراق: النحلة لما اتبعت الأمر وسلكت سبل ربها على ما أمرت به جعل لعابها شفاءً للناس كذلك المؤمن إذا اتبع الأمر وحفظ السر وأقبل على ربه عز وجل جعل رؤيته وكلامه ومجالسته شفاءً للخلق فمن نظر إليه اعتبر ومن سمع كلامه اتعظ ومن جالسه سعد انتهى. وفي الآية إشارة أيضًا إلى أنه تعالى قد يودع الشخص الحقير الشيء العزيز فإنه سبحانه أودع النحل وهي من أحقر الحيوانات وأضعفها العسل وهو من ألذ المذوقات وأحلاها فلا ينبغي التقيد بالصور والاحتجاب بالهيآت، وفي الحديث: «رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله تعالى لأبره» وعن يعسوب المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال: {والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق} [النحل: 71] قيل: الإشارة فيه إلى تفاوت أرزاق السالكين فرزق بعضهم طاعات، وبعض آخر مقامات وبعض حالات وبعض مكاشفات وبعض مشاهدات وبعض معرفة وبعض محبة وبعض توحيد إلى غير ذلك، وذكروا أن رزق الأشباح العبودية ورزق الأرواح رؤية أنوار الربوبية ورزق العقول الأفكار ورزق القلوب الأذكار ورزق الأسرار حقائق العلوم الغيبية المكشوفة لها في مجالس القرب ومشاهدة الغيب {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الامثال} لتقدسه تعالى عن الأوهام والإشارات والعبارات وتنزهه سبحانه عن درك الخليقة فإن الخلق لا يدرك إلا خلقًا، ولذا قال علي كرم الله تعالى وجهه: إنما تحد الأدوات أنفسها وتشير الآلات إلى نظائرها فلا يعرف الله تعالى إلا الله عز وجل وعل النهي بقوله تعالى: {إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 74] {ضَرَبَ الله مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا} محبًا لغير الله تعالى ولا شك أن المحب أسير بيد المحبوب لا يقدر على شيء لأنه مقيد بوثاق المحبة {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} فجعلناه محبًا لنا مقبلًا بقلبه علينا متجردًا عما سوانا وآتيناه من لدنا علمًا {فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّا} وذلك من النعم الباطنة {وَجَهْرًا} [النحل: 75] وذلك من النعم الظاهرة {وَضَرَبَ الله مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} لا استعداد فيه للنطق وهو مثل المشرك {لاَّ يَقْدِرُ على شَيْء} لعدم استطاعته وقصور قوته للنقص اللازم لاستعداده {وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ} لعجزه بالطبع عن تحصيل حاجة {أَيْنَمَا يُوَجّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} لعدم استعداده وشرارته بالطبع فلا يناسب إلا الشر الذي هو العدم {هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} وهو الموحد القائم بالله تعالى الفاني عن غيره، والعدل على ما قيل: ظل الوحدة في عالم الكثرة {وَهُوَ على صراط مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 76] صراط العزيز الحميد الذي عليه خاصته تعالى من أهل البقاء بعد الفناء الممدود على نار الطبيعة لأهل الحقيقة يمرون عليه كالبرق اللامع {وَللَّهِ غَيْبُ السموات والأرض} علم مراتب الغيوب أو ما غاب من حقيقتهما أو ما خفي فيهما من أمر القيامة الكبرى {وَمَا أَمْرُ الساعة} أي القيامة الكبرى بالقياس إلى الأمور الزمانية {إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} وهو بناءً على التمثيل وإلا فقد قيل: إن أمر الساعة ليس بزماني وما كان كذلك يدركه من يدركه لا في الزمان {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ} [النحل: 77] ومن ذلك أمر الساعة {والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] الآية، قال في أسرار القرآن: أخبر سبحانه أنه أخرجهم من بطون الأقدار وأرحام العدم وأصلاب المشيئة على نعت الجهل لا يعلمون شيئًا من أحكام الربوبية وأمور العبودية وأوصاف الأزل فألبسهم أسماعًا من نور سمعه وكساهم أبصارًا من نور بصره وأودع في قلوبهم علوم لعلهم يشكرونه انتهى. وهو ظاهر في أن المراد بالأفئدة القلوب.
وذكر بعض من أدركناه من المرتاضين في كتابه «الفوائد» وشرحه أن مشاعر الإنسان الصدر، والمراد به الخيال والنفس الكلية التي هي محل الصور العلمية كلية أو جزئية فهو محل العلم المقابل للجهل، والقلب وهو محل المعاني واليقين بالنسب الحكمية ويقابله الشك والريب، والفؤاد وهو محل المعارف الإلهية المجرد عن جميع الصور والنسب والأوضاع والإشارات والجهات والأوقات ويقابلها الإنكار وهو أعلى المشاعر، ونور الله تعالى المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى» وهو الوجود لأنه الجهة العليا من الإنسان أعني وجهه من جهة ربه وبه يعرف الله تعالى وهو في الإنسان نزلة الملك في المدينة والقلب نزلة الوزير له انتهى، وله أيضًا كلام في الأم وكذا في الأب غير ما ذكر، وذلك أنه يطلق الأب على المادة والأم على الصورة، وزعم أن قول الصادق رضي الله تعالى عنه: إن الله تعالى خلق المؤمنين من نوره وصبغهم في رحمته فالمؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه أبوه النور وأمه الرحمة إشارة إلى ذلك وأن ما اصطلح عليه المتقدمون والحكماء من أن الأب هو الصورة والأم هي المادة وأن الصورة إذا نكحت المادة تولد عنهما الشيء توهمًا منهم أن النشور والخلق في بطن المادة بعيد من جهة المناسبة إلى آخر ما قال فتفطن وإياك أن تعدل عن الطريق السوي {أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مسخرات فِي جَوّ السمآء} فيه إشارة إلى تسخير طير القوى الروحانية والنفسانية من الفكر والعقل النظري والعملي بل الوهم والتخيل في فضاء عالم الأرواح {مَا يُمْسِكُهُنَّ} من غير تعلق ادة ولا اعتماد على جسم ثقيل{إِلاَّ الله} [النحل: 79] عز وجل: {والله جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظلالا} وهو ما يستظل به من وهج نار الحاجة فالماء ظل للعطشان والطعام ظل للجيعان وكل ما يقوم بحاجة شخص ظل له، وفي الخبر «السلطان ظل الله تعالى في الأرض يأوي إليه كل مظلوم»، وقيل: الظلال الأولياء يستظل بهم المريدون من شدة حر الهجران ويأوون إليهم من قهر الطغيان، وقد يؤل قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الجبال أكنانا} بنحو هذا فما أشبه الأولياء بالجبال {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} فيه إشارة إلى ما جعل للعارفين من سرابيل روح الأنس لئلا يحترقوا بنيران القدس وأشار تعالى بقوله جل جلاله: {وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} إلى ما من به من المعرفة والمحبة ليدفع بذلك كيد الشياطين والنفوس {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81] تنقادون لأمره سبحانه في العبودية وتخضعون لعز الربوية، قال ابن عطاء: تمام النعمة السكون إلى المنعم، وقال حمدون: تمامها في الدنيا المعرفة وفي الآخرة الرؤية، وقال أبو محمد الحريري: تمامها خلو القلب من الشرك الخفي وسلامة النفس من الرياء والسمعة {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله} وهي هداية النبي أو وجوده بقوة الفطرة {ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} لعنادهم وغلبة صفات نفوسهم {وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون} [النحل: 83] لشهادة فطرهم بحقيته {وَيَوْمَ نَبْعَثُ كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} في الاعتذار عن التخلف عن دعوته إذ لا عذر لهم {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [النحل: 84] لأنهم قد حق عليهم القول قتضى استعدادهم نسأل الله تعالى العفو والعافية {وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم} [النحل: 87] قيل: هذا في الموقف الثاني حين تضعف غواشي أنفسهم المظلمة وترق حجبها الكثيفة وأما في الموقف الأول حين قوة هيآت الرذائل وشدة شكيمة النفس في الشيطنة فلا يستسلمون كما يشير إليه قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة: 18] وقيل: المستسلمون بعض والحالفون بعض فافهم والله تعالى أعلم.