فصل: تفسير الآية رقم (22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (22):

{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)}
{لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته على حد إياك أعني فاسمعي يا جارة أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب على حد {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ} [الأنعام: 27] {فَتَقْعُدَ} بالنصب على النهي، والقعود قيل عنى المكث كما تقول هو قاعد في أسوأ حال أي ماكث ومقيم سواء كان قائمًا أم جالسًا، وقيل عنى العجز والعرب تقول: ما أقعدك عن المكارم أي ما أعجزك عنها، وقيل: عنى الصيرورة من قولهم: شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة أي صارت. وتعقب هذا أبو حيان بأن مجيء قعد عنى صار مقصور عند الأصحاب على ذا المثل ولا يطرد، وقال بعضهم: إن اطرد فإنما يطرد في مثل الموضع الذي استعملته العرب فيه أولًا يعني القول المذكور فلا يقال: قعد كاتبًا عنى صار بل قعد كأنه سلطان لكونه مثل قعدت كأنها حربة، ولعل من فسر القعود هنا عنى الصيرورة ذهب مذهب الفراء فإنه كما قال أبو حيان وغيره يقول باطراد ذلك وجعل منه قول الراجز المذكور في «البحر والحواشي الشهابية» ولا حجة فيه.
وحكى الكسائي قعد لا يسأل حاجة إلا قاها واستعمال البغداديين على هذا، ثم أنهم اختلفوا في القعود عنى العجز فقيل هو مجاز من القعود ضد القيام كالمقعد عنى العاجز عن القيام ثم تجوز به عن مطلق العجز، وقيل هو كناية عن العجز فإن من أراد أخذ شيء يقوم له ومن عجز قعد وأما القعود عنى الزمانة فحقيقة والإقعاد مجاز كأن مرضه أقعده وجعل هذا القعود عنى المكث حقيقة. وتعقب بأن فيه نظرًا إلا أن يريد حقيقة عرفية لا لغوية لأنه ضد القيام وإذا جعل القعود هنا عنى العجز فالفعل لازم ومتعلقه محذوف أي فتعجز عن الفوز بالمقصود مثلًا و{مَذْمُومًا مَّخْذُولًا} إما خبر ان لتقعد على القول الأخير وإما حالان مترادفان أي فتقعد جامعًا على نفسك الخذلان من الله تعالى والذم من الملائكة والمؤمنين أو من ذوي العقول حيث اتخذت محتاجًا مفتقرًا مثلك لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا إلهًا ونسبت إليه ما لا يصلح له وجعلته شريكًا لمن له الكمال الذاتي وهو الذي خلقك ورزقك وأنعم عليك على ما داه، وجوز أبو حيان أن يراد بالقعود حقيقته لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائرًا متفكرًا وهو من باب التعبير بالحال الغالبة، وفي الآية إشعار بأن الموحد جامع بين المدح والنصرة.

.تفسير الآية رقم (23):

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)}
{وقضى رَبُّكَ} أخرج ابن جرير. وابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: أي أمر {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} أي بأن لا تعبدوا إلخ على أن مصدرية والجار قبلها مقدر ولا نافية والمراد النهي، ويجوز أن تكون ناهية كما مر ولا ينافيه التأويل بالمصدر كما أسلفناه أو أي لا تعبدوا إلخ على أن أن مفسرة لتقدم ما تضمن معنى القوى دون حروفه ولا ناهية لا غير، وجوز بعضهم أن تكون أن مخففة واسمها ضمير شأن محذوف ولا ناهية أيضًا وهو كما ترى وجوز أبو البقاء أن تكون أن مصدرية ولا زائدة والمعنى الزم ربك عبادته وفيه أن الاستثناء يأبى ذلك. وفي الكشاف تفسير قضى بأمر أمرًا مقطوعًا به وجعل ذلك غير واحد من باب التضمين وجعل المضمن أصلًا والمتضمن قيدًا وقال بعضهم: أراد أن القضاء مجاز عن الأمر المبتوت الذي لا يحتمل النسخ ولو كان ذلك من التضمين لكان متعلق القضاء الأمر دون المأمور به وإلا لزم أن لا يعبد أحد غير الله تعالى فيحتاج إلى تخصيص الخطاب بالمؤمنين فيرد عليه بأن جميع أوامر الله تعالى بقضائه فلا وجه للتخصيص. وتعقب بأن ما ذكر متوجه لو أريد بالقضاء أخو القدر أما لو أريد به معناه اللغوي الذي هو البت والقطع المشار إليه فلا يرد ما ذكره، ثم إن لزوم أن لا يعبد أحد غير الله تعالى ادعاه ابن عباس فيما يروى للقضاء من غير تفصيل، فقد أخرج أبو عبيد. وابن منيع، وابن المنذر. وابن مروديه من طريق ميمون بن مهران عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: أنزل الله تعالى هذا الحرف على لسان نبيكم {ووصى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه} فلصقت إحدى الواوين بالصاد فقرأ الناس {وقضى رَبُّكَ} ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد، وأخرج مثل ذلك عنه جماعة من طريق سعيد بن جبير. وابن أبي حاتم من طريق الضحاك ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود. وأبي بن كعب رضي الله تعالى عنهما أيضًا وهذا إن صح عجيب من ابن عباس لاندفاع المحذور حمل القضاء على الأمر ولا أقل كما هو مروي عنه أيضًا نعم قيل إن ذلك معنى مجازي للقضاء وقيل إنه حقيقي. وفي مفردات الراغب القضاء فصل الأمر قولًا كان أو فعلًا وكل منهما إلهي وبشري فمن القول الإلهي قوله تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه} أي أمر ربك إلى آخر ما قال، ثم إن هذا الأمر عند البعض عنى مطلق الطلب ليتناول طلب ترك العبادة لغيره تعالى، ويغني عن هذا التجوز كما قيل إن معنى لا تعبدوا غيره اعبدوه وحده فهو أمر باعتبار لازمه، وإنما اختير ذلك للإشارة إلى أن التخلية بترك ما سواه مقدمة مهمة هنا، وأمر سبحانه أن لا يعبدوا غيره تعالى لأن العبادة غاية التعظيم وهي لا تليق إلا لمن كان في غاية العظمة منعمًا بالنعم العظام وما غير الله تعالى كذلك، وهذا وما عطف عليه من الأعمال الحسنة كالتفصيل للسعي للآخرة.
{وبالوالدين إحسانا} أي وبأن تحسنوا بهما أو أحسنوا بهما إحسانًا، ولعله إذا نظر إلى توحيد الخطاب فيما بعد قدر وأحسن بالتوحيد أيضًا، والجار والمجرور متعلق بالفعل المقدر وهو الذي ذهب إليه الزمخشري ومنع تعلقه بالمصدر لأن صلته لا تتقدم عليه، وعلقه الواحدي به فقال الحلبي: إن كان المصدر منحلًا بأن والفعل فالوجه ما ذهب إليه الزمخشري وإن جعل نائبًا عن الفعل المحذوف فالوجه ما قاله الواحدي، ومذهب الكثير من النحاة جواز تقديم معموله إذا كان ظرفًا مطلقًا لتوسعهم فيه والجار والمجرور أخوه.
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} إما مركبة من إن الشرطية وما المزيدة لتأكيدها.
قال الزمخشري: ولذا صح لحوق النون المؤكدة للفعل ولو أفردت إن لم يصح لحوقها واختلف في لحاقها بعد الزيادة فقال أبو إسحق بوجوبه، وعن سيبويه القول بعدم الوجوب ويستشهد له بقول أبي حية النميري:
فأما ترى لمتي هكذا ** فقد أدرك الفتيات الخفارا

وعليه قول ابن دريد:
أما ترى رأسي حاكي لونه ** طرة صبح تحت أذيال الدجى

ومعنى {عِندَكَ} في كنفك وكفالتك، وتقديمه على المفعول مع أن حقه التأخير عنه للتشويق إلى وروده فإنه مدار تضاعف الرعاية والإحسان، و{أَحَدُهُمَا} فاعل للفعل، وتأخيره عن الظرف والمفعول لئلا يطول الكلام به وا عطف عليه و{كِلاَهُمَا} معطوف عليه.
وقرأ حمزة. والكسائي {أَمَّا} فأحدهما على ما في الكشاف بدل من ألف الضمير لا فاعل والألف علامة التثنية على لغة أكلوني البرغيث فإنه رد بأن ذلك مشروط بأن يسند الفعل للمثنى نحو قاما أخواك أو لمفرق بالعطف بالواو خاصة على خلاف فيه نحو قاما زيد وعمرو وما هنا ليس كذلك. واستشكلت البدلية بأن {رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا} على ذلك بدل بعض من كل لأكل من كل لأنه ليس عينه و{كِلاَهُمَا} معطوف عليه فيكون بدل كل من كل لكنه خال عن الفائدة على أن عطف بدل الكل على غيره مما لم نجده. وأجيب بأنا نسلم أنه لم يفد البدل زيادة على المبدل منه لكنه لا يضر لأنه شأن التأكيد ولو سلم أنه لابد من ذلك ففيه فائدة لأنه بدل مقسم كما قاله ابن عطية فهو كقوله:
فكنت كذي رجلين رجل صحيحة ** وأخرى رمى فيها الزمان فشلت

وتعقب بأنه ليس من البدل المذكور لأنه شرطه العفط بالواو وأن لا يصدق المبدل منه على أحد قسميه وهنا قد صدق على أحهدما، وبالجملة هذا الوجه لا يخلو عن القيل والقال، وعن أبي علي الفارسي أن {أَحَدُهُمَا} بدل من ضمير التثنية و{كِلاَهُمَا} تأكيد للضمير، وتعقب بأن التأكيد لا يعطف على البدل كما لا يعطف على غيره وبأن أحدهما لا يصلح تأكيدًا للمثنى ولا غيره فكذا ما عطف عليه وبأن بين إبدال بدل البعض منه وتوكيده تدافعًا لأن التأكيد يدفع إرادة البعض منه، ومن هنا قال في الدر المصون لابد من إصلاحه بأن يجعل أحدهما بدل بعض من كل ويضمر بعده فعل رافع لضمير تثنية و{كِلاَهُمَا} توكيد له والتقدير أو يبلغان كلاهما وهو من عطف الجمل حينئذ لكن فيه حذف المؤكد وأبقاء تأكيده وقد منعه بعض النحاة وفيه كلام في مفصلات العربية، ولعل المختار إضمار فعل لم يتصل به ضمير التثنية وجعل {كِلاَهُمَا} فاعلًا له فإنه سالم عماسمعت في غيره ولذا اختاره في البحر، وتوحيد ضمير الخطاب في {عِندَكَ} وفيما بعده مع أن ما صرح به فيما سبق على الجمع للاحتراز عن التباس المراد وهو نهي كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما فإنه لو قوبل الجمع بالجمع أو التثنية بالتثنية لم يحصل ذلك، وذكر أنه وحد الخطاب في {لاَ تَجْعَلْ} [الإسراء: 22] للمبالغة وجمع في {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه} لأنه أوفق لتعظيم أمر القضاء {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا} أي لواحد منهما حخالتي الانفراد والاجتماع {أُفّ} هو اسم صوت ينبئ عن التضجر أو اسم فعل هو أتضجر واسم الفعل عنى المضارع وكذا عنى الماضي قليل والكثير عنى الأمر وفيه نحو من أربعين لغة والوارد من ذلك في القراآت سبع ثلاث متواترة وأربع شاذة. فقرأ نافع. وحفص بالكسر والتنوين وهو للتنكير فالمعنى أتضجر تضجرا ما وإذا لم ينون دل على تضجر مخصوص. وقرأ ابن كثير. وابن عامر بالفتح دون تنوين، والباقون بالكسر دون تنوين وهو على أصل التقاء الساكنين والفتح للخفة ولا خلاف بينهم في تشديد الفاء. وقرأ نافع في رواية عنه بالرفع والتنوين، وأبو السمال بالضم للاتباع من غير تنوين، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنه بالنصب والتنوين، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالسكون، ومحصل المعنى لا تتضجر مما يستقذر منهما وتستثقل من مؤنهما، والنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياسًا جليًا لأنه يفهم بطريق الأولى ويسمى مفهوم الموافقة ودلالة النص وفحوى الخطاب، وقيل يدل على ذلك حقيقة ومنطوقًا في عرف اللغة كقولك: فلان لا يملك النقير والقطمير فإنه يدل كذلك على أنه لا يملك شيئًا قليلًا أو كثيرًا، وخص بعض أنواع الإيذاء بالذكر في قوله تعالى: {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} للاعتناء بشأنه، والنهر كما قال الراغب الزجر بأغلاظ، وفي الكشاف النهي والنهر والنهم أخوات أي لا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك.
وقال الإمام: المراد من قوله تعالى: {وَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ} المنع من إظهار الضجر القليل والكثير والمراد من قوله سبحانه: {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما ولذا روعي هذا الترتيب وإلا فالمنع من التأفيف يدل على المنع من النهر بطريق الأولى فيكون ذكره بعده عبثًا فتأمل.
{وَقُل لَّهُمَا} بدل التأفيف والنهر {قَوْلًا كَرِيمًا} أي جميلًا لا شراسة فيه، قال الراغب: كل شيء يشرف في بابه فإنه يوصف بالكرم، وجعل ذلك بعض المحققين من وصف الشيء باسم صاحبه أي قولًا صادرًا عن كرم ولطف ويعود بالآخرة إلى القول الجميل الذي يقتضيه حسن الأدب ويستدعيه النزول على المروءة مثل أن يقول يا أبتاه ويا أماه ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوء الأدب، وليس القول الكريم مخصوصًا بذلك كما يوهمه اقتصار الحسن فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم عليه فإنه من باب التمثيل، وكذا ما أخرج عن زهير بن محمد أنه قال فيه: إذا دعواك فل لبيكما وسعديكم.
وأخرج هو وابن جرير. وابن المنذر عن أبي الهداج أنه قال: قلت لسعيد بن المسيب كل ما ذكر الله تعالى في القرآن من الوالدين فقد عرفته إلا قوله سبحانه: {وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} ما هذا القول الكريم، فقال ابن المسيب قول العبد المذنب للسيد الفظ.

.تفسير الآية رقم (24):

{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)}
{واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل} أي تواضع لهما وتذلل وفيه وجهان. الأول: أن يكون على معنى جناحك الذليل ويكون {جَنَاحَ الذل} بل خفض الجناح تمثيلًا في التواضع وجاز أن يكون استعارة في المفرد وهو الجناح ويكون الخفض ترشيحًا تبعيًا أو مستقلًا، الثاني أن يكون من قبيل قول لبيد:
وغداة ريح قد كشفت وقرة ** إذ أصبحت بيد الشمال زمامها

فيكون في الكلام استعارة مكنية وتخييلية بأن يشبه الذل بطائر منحط من علو تشبيهًا مضمرًا ويثبت له الجناح تخييلًا والخفض ترشيحًا فإن الطائر إذا أراد الطيران والعلو نشر جناحيه ورفعهما ليرتفع فإذا ترك ذلك خفضهما، وأيضًا هو إذا رأى جارحًا يخافه لصق بالأرض وألصق جناحيه وهي غاية خوفه وتذلله، وقيل المراد بخفضهما ما يفعله إذا ضم فراخه للتربية وأنه أنسب بالمقام، وفي الكشف أن في الكلام استعارة بالكناية ناشئة من جعل الجناح الذل ثم المجموع كما هو مثل في غاية التواضع ولما أثبت لذله جناحه أمره بخفضه تكميلًا وماعسى يختلج في بعض الخواطر من أنه لما أثبت لذله جناحًا فالأمر برفع ذلك الجناح أبلغ في تقوية الذل من خفضه لأن كمال الطائر عند رفعه فهو ظاهر السقوط إذا جعل المجموع تمثيلًا لأن الغرض تصوير الذل كأنه مشاهد محسوس، وأما على الترشيح فهو وهم لأن جعل الجناح المخفوض للذل يدل على التواضع وأما جعل الجناح وحده فليس بشيء ولهذا جعل تمثيلًا فيما سلف.
وقرأ سعيد بن جبير {مَّنَ الذل} بكسر الذال وهو الانقياد وأصله في الدواب والنعت منه ذلول وأما الذل بالضم فأصله في الإنسان وهو ضد العز والنعت منه ذليلًا {مِنَ الرحمة} أي من فرط رحمتك عليهما فمن ابتدائية على سبيل التعليل، قال في الكشف ولا يحتمل البيان حتى يقال لو كان كذا لرجعت الاستعارة إلى التشبيه إذ جناح الذل ليس من الرحمة أبدًا بل خفض جناح الذل جاز أن يقال إنه رحمة وهذا بين، واستفادة المبالغة من جعل جنس الرحمة مبدأ للتذلل فإنه لا ينشأ إلا من رحمة تامة، وقيل من كون التعريف للاستغراق وليس بذاك، وإنما احتاجا إلى ذلك لافتقارهما إلى من كان أفقر الخلق إليهما واحتياج المرء إلى من كان محتاجًا إليه غاية الضراعة والمسكنة فيحتاج إلى أشد رحمة، ولله تعالى در الخفاجي حيث يقول:
يا من أتى يسأل عن فاقتي ** ما حال من يسأل من سائله

ما ذلة السلطان إلا إذا ** أصبح محتاجًا إلى عامله

{وَقُل رَّبّ ارحمهما} وادع الله تعالى أن يرحمهما برحمته الباقية وهي رحمة الآخرة ولا تكتف برحمتك الفانية وهي ما تضمنها الأمر والنهي السالفان، وخصت الرحمة الأخروية بالإرادة لأنها الأعظم المناسب طلبه من العظيم ولأن الرحمة الدنيوية حاصلة عمومًا لكل أحد؛ وجوز أن يراد ما يعم الرحمتين، وأيًا ما كان فهذه الرحمة التي في الدعاء قيل إنها مخصوصة بالأبوين المسلمين، وقيل عامة منسوخة بآية النهي عن الاستغفار، وقيل عامة ولا نسخ لأن تلك الآية بعد الموت وهذه قبله ومن رحمة الله تعالى لهما أن يهديهما للإيمان فالدعاء بها مستلزم للدعاء به ولا ضير فيه، والقول بالنسخ أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
وأبو داود. وابن جرير. وابن المنذر من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما {كَمَا رَبَّيَانِى} الكاف للتشبيه، والجار والمجرور صفة مصدر مقدر أي رحمة مثل تربيتهما لي أو مثل رحمتهما لي على أن التربية رحمة، وجوز أن يكون لهما الرحمة والتربية معًا وقد ذكر أحدهما في أحد الجانبين والآخر في الآخر كما يلوح به التعرض لعنوان الربوبية في مطلع الدعاء كأنه قيل: رب ارحمهما وربهما كما رحماني وربياني {صَغِيرًا} وفيه بعد.
وجوز أن تكون الكاف للتعليل أي لأجل تربيتهما لي وتعقب بأنه مخالف لمعناها المشهور مع إفادة التشبيه ما أفاده التعليل، وقال الطيبي: إن الكاف لتأكيد الوجود كأنه قيل رب ارحمهما رحمة محققة مكشوفة لا ريب فيها كقوله تعالى: {مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 23] قال في الكشف وهو وجه حسن وأما الحمل على أن ما المصدرية جعلت حينًا أي ارحمهما في وقت أحوج ما يكونان إلى الرحمة كوقت رحمتهما عليّ في حال الصغر وأنا كلحم علي وضم وليس ذلك إلا في القيامة والرحمة هي الجنة والبت بأن هذا هو التحقيق فليت شعري الاستقامة وجهه في العربية ارتضاه أم لطباقه للمقام وفخامة معناه اه، وهو كما أشار إليه ليس بشيء يعول عليه، والظاهر أن الأمر للوجوب فيجب على الولد أن يدعو لوالديه بالرحمة، ومقتضى عدم إفادة الأمر التكرار أنه يكفي في الامتثال مرة واحدة، وقد سئل سفيان كم يدعو الإنسان لوالديه في اليوم مرة أو في الشهر أو في السنة؟ فقال: نرجو أن يجزيه إذا دعا لهما في آخر التشهدات كما أن الله تعالى قال: {ياأيها الذين ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] فكانوا يرون التشهد يكفي في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكما قال سبحانه: {واذكروا الله فِي أَيَّامٍ معدودات} [البقرة: 203] ثم يكبرون في ادبار الصلاة، هذا وقد بالغ عز وجل في التوصية بهما من وجوه لا تخفى ولو لم يكن سوى أن شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه ونظمهما في سلك القضاء بهما معًا لكفى، وقد روى ابن حبان. والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رضا الله تعالى في رضا الوالدين وسخط الله تعالى في سخط الوالدين».
وصح أن رجلًا جاء يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد معه فقال: أحي والداك؟ قال: نعم قال: ففيهما فجاهد وجاء أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لو علم الله تعالى شيئًا أدنى من الأف لنهى عنه فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة وليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار». ورأى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رجلًا يطوف بالكعبة حاملًا أمه على رقبته فقال: يا ابن عمر أتراني جزيتها؟ قال: لا ولا بطلقة واحدة ولكنك أحسنت والله تعالى يثيبك على القليل كثيرًا.
وروى مسلم وغيره «لا يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه» وروى البيهقي في الدلائل. والطبراني في الأوسط والصغير بسند فيه من لا يعرف عن جابر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي أخذ مالي فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «فاذهب فأتني بأبيك فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول: إذا جاءك الشيخ فسله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه فلما جاء الشيخ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بال ابنك يشكوك تريد أن تأخذ ماله؟ قال: سله يا رسول الله هل أنفقته إلا على عماته وخالاته أو على نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ايه دعنا من هذا أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك فقال الشيخ: والله يا رسول الله ما يزال الله تعالى يزيدنا بك يقينًا لقد قلت في نفسي شيئًا ما سمعته أذناي فقال: قل وأنا أسمع فقال: قلت:
غذوتك مولودًا ومنتك يافعا ** تعل بما أجني عليك وتنهل

إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت ** لسقمك إلا ساهرًا أتملل

كأني أنا المطروق دونك بالذي ** طرقت به دوني فعيني تهمل

تخاف الردى نفسي عليك ** وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل

فلما بلغت السن والغاية التي ** إليها مدى ما كنت فيها أؤمل

جعلت جزائي غلظة وفظاظة ** كأنك أنت المنعم المتفضل

فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ** فعلت كما الجار المجاور يفعل

تراه معدًا للخلاف كأنه ** برد على أهل الصواب موكل

قال: فحينئذٍ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه وقال: «أنت ومالك لأبيك» والأم مقدمة في البر على الأب فقد روى الشيخان يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أبوك».
ولا يختص البر بالحياة بل يكون بعد الموت أيضًا. فقد روى ابن ماجه «يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإيفاء عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما» ورواه ابن حبان في صحيحه بزيادة «قال الرجل: ما أكثر هذا يا رسول الله وأطيبه قال: فاعمل به».
وأخرج البيهقي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليموت والداه أو أحدهما وإنه لهما لعاق فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله تعالى بارًا. وأخرج عن الأوزاعي قال: بلغني أن من عق والديه في حياتهما ثم قضى دينًا إن كان عليهما واستغفر لهما ولم يستسب لهما كتب بارًا ومن بر والديه في حياتهما ثم لم يقض دينًا إن كان عليهما ولم يستغفر لهما واستسب لهما كتب عاقًا» وأخرج هو أيضًا وابن أبي الدنيا عن محمد بن النعمان يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة غفر له وكتب برًا».
وروى مسلم أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لقيه رجل بطريق مكة فسلم عليه ابن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه فقال ابن دينار فقلت له: أصلحك الله تعالى إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير فقال: إن أبا هذا كان ودًا لعمر بن الخطاب وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه». وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي بردة رضي الله تعالى عنه قال: قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر فقال: أتدري لم أتيتك؟ قال: قلت لا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أحب أني صل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده» وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاء وود فأحببت أن أصل ذلك. وقد ورد في فضل البر ما لا يحصى كثرة من الأحاديث، وصح عد العقوق من أكبر الكبائر وكونه منها هو ما اتفقوا عليه وظاهر كلام الأكثرين بل صريحه أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الوالدان كافرين وإن يكونا مسلمين، والتقييد بالمسلمين في الحديث الحسن أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر فقال: تسع أعظمهن الإشراك وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار من الزحف وقذف المحصنة والسحر وأكل مال اليتيم وأكل الربا وعقوق الوالدين المسلمين، إما لأن عقوقهما أقبح والكلام هناك في ذكر الأعظم على أحد التقديرين في عطف وقتل المؤمن وما بعده وإما لأنهما ذكرًا للغالب كما في نظائر أخر.
وللحليمي هاهنا تفصيل مبني على رأي له ضعيف وهو أن العقوق كبيرة فإن كان معه نحو سب ففاحشة وإن كان عقوقه هو استثقاله لأمرهما ونهيهما والعبوس في وجوههما والتبرم بهما مع بذل الطاعة ولزوم الصمت فصغيرة فإن كان ما يأتيه من ذلك يلجئهما إلى أن ينقبضا فيتركا أمره ونهيه ويلحقهما من ذلك ضرر فكبيرة.
وبينهم في حد العقوق خلاف ففي فتاوى البلقيني مسألة قد ابتلى الناس بها واحتيج إلى بسط الكلام عليها وإلى تفاريعها ليحصل المقصود في ضمن ذلك وهي السؤال عن ضابط الحد الذي يعرف به عقوق الوالدين إذ الإحالة على العرف من غير مثال لا يحصل المقصود إذ الناس تحملهم أغراضهم على أن يجعلوا ما ليس بعرف عرفًا فلابد من مثال ينسج على منواله وهو أنه مثلًا لو كان له على أبيه حق شرعي فاختار أن يرفعه إلى الحاكم ليأخذ حقه منه ولو حبسه فهل يكون ذلك عقوقًا أولًا؟ أجاب هذا الموضع قال فيه بعض الأكابر: إنه يعسر ضبطه وقد فتح الله تعالى بضابط أرجو من فضل الفتاح العليم أن يكون حسنًا فأقول: العقوق لأحد الوالدين هو أن يؤذيه بما لو فعله مع غيره كان محرمًا من جملة الصغائر فينتقل بالنسبة إليه إلى الكبائر أو أن يخالف أمره أو نهيه فيما يدخل منه الخوف على الولد من فوت نفسه أو عضو من أعضائه ما لم يتهم الوالد في ذلك أو أن يخالفه في سفر يشق على الوالد وليس بفرض على الولد أو في غيبة طويلة فيما ليس بعلم نافع ولا كسب فيه أو فيه وقيعة في العرض لها وقع.
وبيان هذا الضابط أن قولنا: أن يؤذي الولد أحد والديه بما لو فعله مع غير والديه كان محرمًا فمثاله لو شتم غير أحد والديه أو ضربه بحيث لا ينتهي الشتم أو الضرب إلى الكبيرة فإنه يكون المحرم المذكور إذا فعله الولد مع أحد والديه كبيرة، وخرج بقولنا: أن يؤذي ما لو أخذ فلسًا أو شيئًا يسيرًا من مال أحد والديه لا يتأذى ثل ذلك لما عنده من الشفقة والحنو فإن أخذ مالًا كثيرًا بحيث يتأذى المأخوذ منه من الوالدين بذلك فإنه يكون كبيرة في حق الأجنبي فكذلك هنا لكن الضابط فيما يكون حرامًا صغيرة بالنسبة إلى غير الوالدين، وخرج بقولنا: ما لو فعله مع غير أحد الوالدين كان محرمًا نحو ما إذا طالب بدين فإن هذا لا يكون عقوقًا لأنه إذا فعله مع غير الوالدين لا يكون محرمًا فافهم ذلك فإنه من النفائس، وأما الحبس فإن فرعناه على جواز حبس الوالد بدين الولد كما صححه جماعة فقد طلب ما هو جائز فلا عقوق وإن فرعنا على منع حبسه المصحح عند آخرين فالحاكم إذا كان معتقده ذلك لا يجيب إليه ولا يكون الولد بطلب ذلك عاقًا إذا كان معتقدًا الوجه الأول فإن اعتقد المنع وأقدم عليه كان كما لو طلب حبس من لا يجوز حبسه من الأجانب لإعسار ونحوه فإذا حبسه الولد واعتقاده المنع كان عاقًا لأنه لو فعله مع غير والده حيث لا يجوز كان حرامًا، وأما مجرد الشكوى الجائزة والطلب الجائز فليس من العقوق في شيء، وقد شكا بعض ولد الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينهه عليه الصلاة والسلام وهو الذي لا يقر على باطل، وأما إذا نهر أحد والديه فإنه إذا فعل ذلك مع غير الوالدين وكان محرمًا كان في حق أحد الوالدين كبيرة وإن لم يكن محرمًا، وكذا أف فإن ذلك يكون صغيرة في حق أحد الوالدين ولا يلزم من النهي عنهما والحال ما ذكر أن يكونا من الكبائر؛ وقولنا أو أن يخالف أمره ونهيه فيما يدخل منه الخوف إلخ أردنا به السفر للجهاد ونحوه من الأسفار الخطرة لما يخاف من فوات نفس الولد أو عضو من أعضائه لشدة تفجع الوالدين على ذلك، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو في الرجل الذي جاء يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم للجهاد أنه عليه الصلاة والسلام قال له: أحي والداك؟ قال: نعم قال: ففيهما فجاهد، وفي رواية ارجع إليهما ففيهما المجاهدة، وفي أخرى جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال: ارجع فاضحكهما كما أبكيتهما، وفي إسناده عطاء بن السائب لكن من رواية سفيان عنه.
وروى أبو سعيد الخدري أن رجلًا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل لك أحد باليمن؟ قال: أبواي قال: أذنا لك قال: لا قال: فارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما. ورواه أبو داود وفي إسناده من اختلف في توثيقه، وقولنا: ما لم يتهم الوالد في ذلك أخرجنا به ما لو كان الوالد كافرًا فإنه لا يحتاج الولد إلى إذنه في الجهاد ونحوه، وحيث اعتبرنا إذن الوالد فلا فرق بين أن يكون حرًا أو عبدًا، وقولنا: أو أن يخالفه في سفر إلخ أردنا به السفر لحج التطوع حيث كان فيه مشقة وأخرجنا بذلك حج الفرض وإذا كان فيه ركوب البحر يجب ركوبه عند غلبة السلامة فظاهر الفقه أنه لا يجب الاستئذان ولو قيل بوجوبه لما عند الوالد من الخوف في ركوب البحر وإن غلبت السلامة لم يكن بعيدًا، وأما سفره للعلم المتعين أو لفرض الكفاية فلا منع منه وإن كان يمكنه التعلم في بلده خلافًا لمن اشترط ذلك لأنه قد يتوقع في السفر فراغ قلب وإرشاد أستاذ ونحو ذلك فإن لم يتوقع شيئًا من ذلك احتاج إلى الاستئذان وحيث وجبت النفقة للوالد على الولد وكان في سفره تضييع للواجب فللوالد المنع، وأما إذا كان الولد بسفره يحصل وقيعة في العرض لها وقع بأن يكون أمرد ويخاف من سفره تهمة فإنه يمنع من ذلك وذل في الأنثى أولى، وأما مخالفة أمره ونهيه فيما لا يدخل على الولد فيه ضرر بالكلية وإنما هو مجرد إشارة للولد فلا تكون عقوقًا وعدم المخالفة أولى اه كلام البلقيني وذكر بعض المحققين: أن العقوق فعل ما يحصل منه لهما أو لأحدهما إيذاءً ليس بالهين عرفاف.
ويحتمل أن العبرة بالمتأذي لكن لو كان الوالد مثلًا في غاية الحمق أو سفاهة العقل فأمر أو نهى ولده بما لا يعد مخالفته فيه في العرف عقوقًا لا يفسق ولده خالفته حينئذٍ لعذره وعليه فلو كان متزوجًا بمن يحبها فأمره بطلاقها ولو لعدم عفتها فلم يمتثل لأمره لا إثم عليه، نعم الأفضل طلاقها امتثالًا لأمر والده، فقد روى ابن حبان في صحيحيه أن رجلًا أتى أبا الدرداء فقال: إن أبي لم يزل بي حتى زوجني امرأة وإنه الآن يأمرني بفراقها قال: ما أنا بالذي آمرك أن تعق والديك ولا بالذي آمرك أن تطلق زوجتك غير أنك إن شئت حدثتك بما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: «الوالد أوسط أبواب الجنة» فحافظ على ذلك إن شئت أو دع. وروى أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حديث حسن صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال كان تحتي امرأة أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي طلقها فأبيت فآتى عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طلقها، وكذا سائر أوامره التي لا حامل لها إلا ضعف عقله وسفاهة رأيه ولو عرضت على أرباب العقول لعدوها متساهلًا فيها ولرأوا أنه لا إيذاء خالفتها ثم قال: هذا هو الذي يتجه في تقرير الحد. وتعقب ما نقل عن البقيني بأن تخصيصه العقوق بفعل المحرم الصغيرة بالنسبة للغير فيه وقفة بل ينبغي أن المدار على ما ذكر من أنه لو فعل معه ما يتأذى به تأذيًا ليس بالهين عرفًا كان كبيرة وإن لم يكن محرمًا لو فعله مع الغير كأن يلقاه فيقطب في وجهه أو يقدم عليه في ملأ فلا يقوم إليه ولا يعبأ به ونحو ذلك مما يقضي أهل العقل والمروءة من أهل العرف بأنه مؤذ إيذاءً عظيمًا فتأمل.
ثم إن السبب في تعظيم أمر الوالدين أنهما السبب الظاهري في إيجاده وتعيشه ولا يكاد تكون نعمة أحد من الخلق على الولد كنعمة الوالدين عليه، لا يقال عليه: إن الوالدين إنما طلبا تحصيل اللذة لأنفسهما فلزم منه دخول الولد في الوجود ودخوله في عالم الآفات والمخافات فأي إنعام لهما عليه، وقد حكى أن واحدًا من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول: هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للموت والفقر والعمى والزمانة، وقيل لأبي العلاء المعري ولم يكن ذا ولد: ما نكتب على قبرك فقال: اكتبوا عليه:
هذا جناه أبي علي ** وما جنيت على أحد

وقال في ترك التزوج وعدم الولد:
وتركت فيهم نعمة العدم التي ** سبقت وصدت عن نعيم العاجل

ولو أنهم ولدوا لنالوا شدة ** ترمى بهم في موبقات الآجل

وقال ابن رشيق:
قبح الله لذة لشقانا ** نالها الأمهات والآباء

نحن لولا الوجود لم نألم الفقـ ** ـد فإيجادنا علينا بلاء

وقيل للإسكندر: أستاذك أعظم منة عليك أم والدك؟ فقال: الأستاذ أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي حتى أوقفني على نور العلم وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى عالم الكون والفساد لأنا نقول: هب أنه في أول الأمر كان المطلوب لذة الواقع إلا أن الاهتمام بإيصال الخيرات ودفع الآفات من أول دخول الولد في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات، وقد يقال: لو كان الإدخال في عالم الكون والفساد والتعريض للأكدار والأنكاد دافعًا لحق الوالدين لزم أن يكون دافعًا لحق الله تعالى لأنه سبحانه الفاعل الحقيقي، وأيضًا يعارض ذلك التعريض التعريض للنعيم المقيم والثواب العظيم كما لا يخفى على ذي العقل السليم، ولعمري أن إنكار حقهما إنكار لأجلى الأمور ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.